فقالت: «لا صبر لي يا مولاي على الانتظار، دعني أدخل إليه وأخاطبه فإن الأمر الذي جئت من أجله يقتضي العجلة، وهب أنني أسأت الأدب في استعجاله فإنه سيعذرني متى عرف السبب، دعني أدخل الحجرة.»
فأجابها بصوت خافت: «تمهل يا صاح لنثق من دخوله إليها.» ومشيا الهوينى وهما حافيان لا يسمع لمشيهما وقع حتى انتهيا إلى الحجرة من باب صغير، وهي بناء مربع واطئ في وسطه ضريح السيدة فاطمة. فدخلا الحجرة والرجل ممسك بيد أسماء وقد ساد السكوت والظلام ذلك المكان المهيب، فوقفا لحظة لعلهما يسمعان حركة أو نطقا أو يريان شبحا فلم يسمعا شيئا ولم يريا شيئا، فهالهما الموقف ولم يتجرأ أحد منهما على الكلام ولكنهما تفاهما بالإشارة على الرجوع. وفيما هما يسيران سمعا صوتا عميقا كأنه خارج من القبر فاقشعر بدنهما ووقف شعر رأسيهما والرجل لا يزال قابضا على أنامل أسماء، فلما سمعا الصوت شعر بارتعاش تلك الأنامل شعورا امتد إلى كل جوارحه، فأومأ إليها أن تنصت فأنصتا فإذا الصوت خارج من حجرة الرسول بالقرب من حجرة فاطمة وبينهما حائط، وأصغيا فإذا هو صوت علي بن أبي طالب يناجي الرسول بصوت يتخلله تحرق وزفير، فوقفا وقلباهما يخفقان وهما يمسكان أنفاسهما كأنما يخافان أن يختلط زفيرهما بما يسمعان. وإليك ما سمعاه:
قم يا رسول الله تعهد أمتك وانظر إلى ما آلت إليه حالها من بعدك، لقد بعثك الله نذيرا للعالمين وأمينا على التنزيل، وليس أحد من العرب يقرأ كتابا ولا يدعي نبوة، وقد كانوا على شر دين في شر دار، يشربون الكدر ويأكلون العشب، ويعبدون الأصنام، ويسفكون الدماء، ويقطعون الأرحام. فسقت الناس حتى بوأتهم محلتهم، وبلغتهم منجاتهم، فاستقامت قناتهم، واطمأنت صفاتهم، وجعل الله الإسلام أمنا لمن علقه، وسلما لمن دخله، وبرهانا لمن تكلم به، وشاهدا لمن خاصم به، ونورا لمن استضاء به، وفهما لمن عقل، ولبا لمن تدبر، وعبرة لمن اتعظ، ونجاة لمن صدق، وثقة لمن توكل. فقام بنصرته قوم دعوا إلى الإسلام فلبوه، وقرءوا القرآن فأحكموه، قوم لا يبشرون بالأحياء ولا يعزون بالموتى. مره العيون من البكاء، خمص البطون من الصيام، ذبل الشفاه من الدعاء، صفر الألوان من السهر، على وجوههم غبرة الخاشعين. قد كنت يا رسول الله تأكل على الأرض، وتجلس جلسة العبيد، وتخصف نعلك بيدك، وترقع ثوبك بيدك، وتركب الحمار العاري. ولقد يكون الستر على بابك عليه التصاوير فتقول لإحدى أزواجك: «غيبيه عني، فإني إذا نظرت إليه ذكرت الدنيا وزخارفها.» وكنت يا رسول الله إذا احمر البأس وأحجم الناس، تقدم أهلك فتقي بهم أصحابك حتى قتل عبيدة بن الحارث يوم بدر، وقتل حمزة يوم أحد، وقتل جعفر يوم مؤتة. هذه هي سنتك وتلك هي قدوتك. فلما فارقتنا خلفك شيخ (أبو بكر) حارب المرتدين، وأيد الدين القويم، وخلفه رجل فتح الأمصار ودون الدواوين، وشاد للعدل منارا، فاعتز به الإسلام، وامتدت رايته على العراق وفارس ومصر والشام، وفر من وجهه كسرى وقيصر، والناس يومئذ مجتمعون حول الدعوة آخذون بناصرها بقلب واحد. حتى تولاهم عثمان وهو شيخ صادق الإسلام، ولكنه استأثر بالسلطة وآثر أهله على سائر المسلمين، فقاموا عليه قومة رجل واحد، وتجمعوا على نبذ طاعته وأقروا على خلعه، لا ترهبهم خلافته ولا يخشون سطوته. كأن الناس إنما أذعنوا لأهل السابقة من الصحابة لما كانوا فيه من الذهول والدهشة لأمر النبوة وتردد الوحي وتنزل الملائكة، فلما انحسر ذلك العباب وتنوسي الحال واستفحل الملك أنفت نفوس المسلمين من غير قريش وهان عليهم نبذ طاعة الصحابة حتى بلغ من جرأتهم التمرد على الخليفة. فعظمت الفتنة وخفت ما خوفتنيه يوم سألتك عن الفتنة فقلت لي: «يا علي، إن القوم سيفتنون بعدي بأموالهم ويمنون بدينهم على ربهم، ويتمنون رحمته ويأمنون لسطوته، ويستحلون حرامه بالشبهات الكاذبة والأهواء الساهية.» آه يا رسول الله! لقد طالما نصحت لهذا الخليفة ألا يكون إمام هذه الأمة المقتول، فإنه كان يقال: يقتل في هذه الأمة إمام يفتح عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة، ويلبس أمرها عليها ويثبت الفتن فيها. ولكنه انصاع إلى شاب من أهل قريته (مروان بن الحكم) يسوقه حيث شاء بعد جلال السنين وتقضي العمر.
ولما بلغ علي إلى هذا القول زفر زفرة سمعتها أسماء وصاحبها، كما سمعاه يبكي بكاء تقطع له قلباهما، وهما لا يكادان يصدقان أنهما يسمعان عليا يبكي، فبهتا وهما يحسبانه يهم بالنهوض، ثم سمعاه يقول:
هذه هي حال أمتك يا رسول الله. فإني أشكو إليك قوما افترقوا بعد ألفتهم، وتشتتوا عن أصلهم، فكل منهم آخذ بغصن أينما مال مال معه، حتى أصبحت الأحوال مضطربة، والأيدي مختلفة، والكثرة متفرقة. أما أنبأتك صفيتك (فاطمة) النازلة بجوارك بتضافر أمتك على هضمها؟ وإني أخاف أن ألحق بكما والحال على ما وصفت، فأستحيي أن أحمل إليك خبر هذه الفتنة التي أخافها أن تفرق كلمة الإسلام. فادع لنا ربك أن يجمع كلمتنا ويلم شعثنا ويأخذ بناصرنا فنعلم مكان الخلافة منا. والسلام عليك حتى نلتقي.
وسمعت أسماء وصاحبها عليا وهو يقرأ الفاتحة فعلما أنه يتأهب للنهوض، فأسرعا في التقهقر حتى خرجا من الحجرة إلى المسجد وخرجا منه إلى البطحاء وقد خف الازدحام لتفرق الناس إلى منازلهم، فوقفا ينتظران عليا فقال الرجل: «أظنه لا يخرج من هذا الباب، فلنقف له بالباب الآخر.» فناديا الغلام قائد الفرس فتبعهما ومشيا وقد نفد صبر أسماء وأنهكها الملل، ولم يمشيا قليلا حتى لقيا عليا خارجا من باب الجامع ومنديله لا يزال في يده يمسح به عينيه، ثم جعل يصلح عمامته ويسرح لحيته بأنامله ويمشي الهوينى كأنه عائد من سفر طويل.
فتقدم الرجل إليه وحياه فقال علي: «مرحبا بابن أبي بكر، أهلا بك يا محمد. ما الذي جاء بك؟» فعلمت أسماء أنه محمد بن أبي بكر وكانت تسمع به. قال: «لقد جئتك بقادم غريب قد أنهكه البحث.» قال: «لماذا لم تنزله في دار الأضياف؟ أين هو؟»
فتقدمت أسماء وألقت التحية وهي لا تزال ملثمة وقد التفت بالعباءة، فنظر علي إليها فعلم أنها متنكرة لأمر ذي بال فقال لها: «ما غرضك يا أخا العرب؟»
قالت: «لقد جئت أدعوك لغوث امرأة مريضة في خطر شديد، تلتمس أن تراك لتبث لك سرا ضنت به علينا جميعا.»
فقال: «ومن تكون هذه المرأة؟» قالت: «هي أمي، وأما زوجها فهو من بني أمية. وقد جئنا بها من دمشق فتحملت مشاق السفر والمرض على أمل أن تبلغ المدينة فتطلعك على ذلك السر، فاشتد عليها المرض حتى لم تعد تستطيع الوصول.»
अज्ञात पृष्ठ