وهنالك انكمش الأمير وصاحباه بانتظار ما يأتي اللص، ولكنه كان قد توارى واستتر، ففتشوا عن مكانه فلم يظهروا له على عيان ولم يقفوا على أثر، فتقدموا حينئذ يطوفون بالحجر ويجعلون آذانهم على كل باب، لعلهم يعرفون صاحبهم بأنينه، وقد كان، واهتدوا للحجرة التي هو فيها، فناداه الأمير: «شاين» «شاين»، اجمع إليك قواك وساعدنا على كسر هذا الباب، فإننا نحن الأحرار، قد جئنا ننقذك، إلا أن الكاهن لم يستطع الإجابة من ألم العذاب وفقدان القوى، وأدرك أصحابه ذلك فعالجوا الباب فاستعصى عليهم، فوقفوا حائرين لا يستطيعون عملا، وقد أخذ منهم اليأس وتمثلت لهم الخيبة شائهة الوجوه، وعندئذ شعر الأمير كأن جسما صلبا سقط بالقرب منه فتناوله، فإذا هو مبرد كبير حديد الأسنان ففرح بذلك وبشر صاحبيه ثم تواكل الثلاثة بالباب، فلم يزالوا به حتى كسروه فدخلوا فوجدوا صاحبهم «شاين» ملقى على بطنه مشدود اليدين والرجلين على هيئة صليب إلى الأرض بأوتاد من حديد مسمرة فيها، وعليه من السلاسل ما يثقل الجبال حمله، فكيف بالإنسان الضعيف؟ فحملوا بالمبرد على كل تلك الحدائد حتى كسروها وأنهضوا صاحبهم، فنهض واهن الجسم واهي القوى.
وكان في زاوية من الحجرة عقاب كاسر في سلسة وبين يديه لحم مشوي وماء، فأخذ الأمير ذلك كله وقدمه لصاحبه «شاين» قائلا: أنت يا عزيزي أولى به من هذا المؤذي الضار. فلما طعم «شاين» وشرب بدأ يسترد قواه قليلا حتى ملك الكلام، فقال: هذا يا مولاي، وأشار للعقاب هو قاتلي المنتظر، يدخره القوم ليوم يصدر الحكم، فيشق يومئذ بطني فيأكل هذا الكاسر من أحشائي، فأجابه الأمير ملاطفا، ولكن ها أنت ماض وتاركه، بلا غذاء ولا ماء، وربما نسي فهلك ظمأ وجوعا، فينقلب الأمر؛ إذ تصير أنت القاتل له، قال: «شاين»، ولكن إننا لا ندري كيف دخلنا باطن المعبد، ولكن لهذا حديثا عجيبا يضيق الوقت عن إيراده، فالآن دبر لنا أمر الخروج فذلك شأنك. قال: أمر ممكن فاتبعوني وحاذروا أن تصدر من أحدكم حركة تنبه الشياطين النائمة، ثم مشى أمامهم فاتبعوه، حتى جاء بهم إحدى الحجر التي في القاعة، وكان بابها من خشب، وكان مفتوحا. فقال لأصحابه همسا: داخل هذه الحجرة ثلاث أخر، في الثالثة منها الكاهن الموكل بتعذيب المسجونين، وهو لا شك نائم الساعة، فليدخل أحدكم فيقتله، ثم يأتي بأربعة أطقم كاملة مما يجده في صندوقه.
وكان للأمير عبد أسود يدعى «شقشاق» وكان عزيزا عليه فقتله الكهنة يوما وهو سائر بالبريد إلى بعض الجهات، ثم تركوا جثته بعدما أخذوا ما كان عليه من الأوراق، فحلف الأمير يومئذ لا أقتل به أقل من عشرة من القوم، وإذ تذكره في تلك اللحظة قال في نفسه: هذا أول العشرة يا «شقشاق»، ثم استل خنجرا ودخل، وما هي إلا هنيهة حتى عاد والأطقم الأربعة على كتفيه والخنجر في يده يقطر من دم الكاهن، فأخذ «شاين» أحدهما فلبسه، وأشار إلى أصحابه أن يتردوا الثلاثة الباقية، ففعلوا ثم مشى بهم حتى جاء باب السلاسل الذي كان اللص قلع عتبته، فلما وجدها بهاته الحال، دنا من الحارسين كأنه يريد أن يسألهما عن السبب، فإذا هما مسحوران لا يريان ولا يسمعان، فالتفت إلى أصحابه مندهشا فابتدره الأمير قائلا: هذا شيء حصل من أجلنا ولنصل إليك. قال: الآن اطمأن قلبي فانزلوا ورائي. ثم اندفع في بئر كانت هنالك عن يمين العتبة وأصحابه خلفه، يزحفون زحفه، حتى انتهوا إلى سرداب مستو طويل معلق في سقفه بين مسافة وأخرى قنديل.
فهنالك قال «شاين» لأصحابه: عند القنديل الثالث وإلى اليمين، حجرة خاصة لثلاثة من الكهنة، عليهم ملاحظة الحراس بالليل، ولكنهم من السكيرين فلا يؤدون وظيفتهم إلا نادرا وسنجدهم إما في السكر وإما نائمين من السكر، ولكن الحزم يقضي بقتلهم على كل حال. فوافقه الأمير على ذلك، وهو يقول في نفسه: صاروا أربعة يا «شقشاق»، وبخنجر واحد في ليلة واحدة، ثم أسرع فدخل على الكهنة الحجرة فوجدهم كوصف «شاين» لهم هالكين من السكر أو كهالكين، وقد أخذ اثنين منهما والثالث مستمر، ما ينتهي فرغت الزجاجات ولم يفرغ من الشرب، فبدأ الأمير به فقتله، ولوى بعد ذلك على صاحبيه فألحقهما به، ثم خرج والخنجر في يده حديدة حمراء من كثرة الدماء، فلقيه «شاين» فسأله: هل قضي الأمر؟ قال: لا تسألني وسل هذا الخنجر، قال الآن: فانتظروني لحظة فإن لي عملا في الحجرة آتيه، ودخل مسرعا، وفي الحقيقة ما هي إلا لحظة حتى عاد وفي يده مخلاة صغيرة، فناولها أحد الضابطين قائلا: خذ هذه فأخفها في ثيابك، وليستحضر كل منا حرف الراء على لسانه؛ إذ هو إشارة الليلة نلقيها على الحراس إذا جئنا الأبواب فنجتازها بسلام آمنين.
واستمر الأربعة يمشون و«شاين» يحصي القناديل حتى إذا عد السابع منها وكان الأخير، نبه أصحابه فاستعدوا فدق بابا صغيرا كان خاتمة ذلك السرداب مرددا إشارة الليلة فانفتح لهم الباب فاجتازوه فحازهم الفناء الثاني، وهكذا حتى جاءوا الباب الأخير للمعبد أو المدخل، وكان لا يفتح ولا يقفل، ولكن كان يقوم بحراسته ليلا، مائة رجل من جنود الديانة.
وهنالك لم يشعر الأحرار الأربعة إلا هؤلاء الحراس يموج بعضهم في بعض، متهافتين على السلاح يأخذونه وهم يصيحون: الفارين الفارين ... اقبضوا عليهم ... اقتلوهم ... فتفزع الأحرار لأول وهلة، ثم استحضروا ثيابهم واستجمعوا للمقاومة فكانوا كلما حملت هاتيك الجنود دفعوها بمثل ثبات الأسود، حتى إذا ضاق الشرك واستحكم المعترك، وتناهى الموقف ودنت الساعة، وآن للكثرة أن تظهر على الشجاعة، وقع الفشل على بغتة في صفوف العدو، وتلاه سيف خفي يخطف الهام ويطير الأعناق، فما هي إلا هنيهة حتى هلك فريق، وهرب فريق، ولم يبق على أبواب المعبد إلا الأمير وأصحابه، فالتفت «شاين» حينئذ إلى الأمير، قائلا: أتدري يا مولاي من أين جاءنا البلاء؟ قال: لا. قال: من هذه الغرفة، وأشار لها، وكانت على الباب؛ فإن فيها كاهنا ساحرا، وهو الذي نبه القوم لخروجنا. قال: وهل يكره أن يلحق بأصحابه؟ ثم ابتدر باب الغرفة فكسره ودخل، فقتل الكاهن وخرج بعد ذلك، فمشي في رفقائه، حتى إذا صاروا بعيدا عن المعبد وبمأمن من غوائل جواره، رأوا ذلك اللص بعينه، وقد انتصب أمامهم كأنما يعرفهم من هو، ثم اختفى من حيث ظهر، وتركهم مبهوتين مبغوتين يتساءلون: هل انشقت له الأرض فنزل؟ أم ملك جناحا فطار للسماء؟
ثم إنهم استمروا سائرين إلى أن وصلوا الخمارة ففتح لهم فدخلوا وكان المجلس منعقدا لا يزال، فلما رآهم الأحرار، وقد آبوا ب «شاين» حيا سالما قابلوهم بضجة تعجب واستحسان، ثم لاقوهم بصيحة وامتنان، ونظرت الجمعية بعد ذلك في أمر من الخطارة بمكان، وهو السعي في إبعاد قائد الفرق الاستعمارية عن منفيس واستبداله بغيره من القواد المحالفين، فأخذ الأمير نجاز ذلك على همته وتدبيره، وختمت الجلسة بتسجيل هذا الوعد، ثم تفرق الأحرار، وليس بما دار في تلك الدار قط دار.
الفصل السابع
حادث باغت
كان قد مضى على نزول عذراء الهند في قصر النزهة بالضواحي نحو شهر والأميرة متقلبة في صنوف الكرامة، موفورة الخفارة والحراسة، يحمي قصرها وساحاته نحو ألفين من الجند، عليهم ضابط عظيم، وكانوا متوزعين بين جهات القصر وبين معسكره الناهض دونه كالسور، يحيط به ويدور ويعصمه من طوارق الأمور.
अज्ञात पृष्ठ