بنت الملك «دهنش» ملك ملوك الهندين أوقعها الشقاء في قبضة عبدك، فاستكثرتها لنفسي، ولم أجدها تصلح لسواك، أو تليق إلا لعلاك، فآثرتك بها على نفسي وأولادي، مع علمي علما حقيقيا أنها أجمل كريمات الملوك، بل أفتن نساء الأرض، في الطول والعرض، وأن أربعين ملكا من ملوك آسيا ماتوا بوجدهم في سبيلها، كما يموت عشاق الدنيا بهم اليأس من تحصيلها. ولكن لعذراء الهند هذه يا مولاي سرا يختص بحياتها، ويتعلق بأيامها، وإني أستودعك إياه، وأسأل آلهتك أن يجعلوك منه أبدا على ذكر، وما ذاك إلا أن الفتاة محرم عليها أن تركب البحر في عمرها مرتين لا متتاليتين ولا متعاقبتين، وقد فعلت فصارت عرضة للغرق، بحكم نجمها النحيس، وإلا يسهر مولاي عليها يكن وحده المسئول عن حياتها النفيسة أمام فؤاده الطيب الرحيم.
كتبه «طوس»
وقد كان الأمير وأصحابه يصيخون لمدهش ما يتلو عليهم «بنتؤر»، وهم يشهدون أحوالا أعجب، ويبصرون أدهى مما يسمعون وأغرب. وذلك أن الفرسان الأربعة كانت أشخاصهم ترق وتنطوي، وتضمحل وتتلاشى، متوارية ثم تتوارى متلاشية. وهذا كله بدون أن تتحرك الأقدام أو تخرج عن مراكزها الأجسام إلى أن زالت تماما، وعندئذ سمع من جوف الحديقة صوت يقول: لتخل الطريق إلى قصر النزهة بالضواحي، وليخل القصر أيضا إلا من الأمير؛ حيث يقيم وحده في انتظار عذراء الهند، فإنها ستحمل إليه في منتصف الليل تماما.
الفصل الثاني
الأمير «آشيم»
عرف القارئ من «آشيم» وابن من في ملوك الزمن، وما ألقابه وشأنه وكيف منزلته، من باذخ المجد ومكانه، ولكن ربما تسرع فعامله كما أصبحنا نعامل المتوجين الجالسين، وسائر أبناء المالكين، فلا نعد وجودهم إلا ضربا من لعب السعادة، لا ينيل التفضيل الحقيقي، ولا يوجب السيادة، فنحن ندعوك أيها القارئ لتستثني معنا الملك وابنه. أما «رمسيس» الثاني؛ فلأنه «رمسيس» الثاني، وكفى، وأما ابنه الأمير فإن منفيس تشهد مزكاة بالذكر والأحاديث أنه كان فتى ولا كالفتيان، كامل أدوات الإمارة والسيادة، أهلا لما ترشحه له السعادة وزيادة، مخالطا للأمة سريعا إلى حاجاتها، آخذا بنصيب من جميع حالاتها يحبها وتحبه، ويتألف على الهوى قلبها وقلبه، حتى لكانت تكاد تتمنى أن تراه اليوم قبل الغد على العرش، عرش والده الذي أقام جدها، وأنشأ مجدها، وصير الوجود بأسره عبدها.
هنا يستغرب الأمر من لا يعرف السبب، ويعجب القارئ بحق، كيف أن ملكا كهلا خدم الأمة نحو نصف قرن لم يألها صبرا حتى أنالها أزمة الوجود برا وبحرا، وخلد لها في العالمين ذكرا، يفضله مع ذلك في اعتبارها، ويقدم عليه في اختيارها، أمير شاب لا يزال في ولاية العهد، وعلى أبواب العمل لم تر له البلاد خيرا ولا شرا، ولم تبل من ثمره حلوا ولا مرا. فالجواب أن للأمة ما دامت في الحياة، كرامة من الخلقة، وإباء من الوجدان، يذكرانها على الدوام حق المساواة، ويورثانها أبدا كراهية الطاعة لكل حكومة ينتفع بها فريق، من الشعب دون فريق، وتكون نعماء أيامها لطبقة من الأفراد دون طبقة، وتلك الكرامة وهذا الإباء لم يرعهما الفراعنة في دولة من دولهم، ولم يلقوا لهما بالا في زمن من الأزمان، فلما ولي «آشيم» الحكم على منفيس والأقاليم الوسطى، كان طرازا وحده في الفراعنة وأبنائهم، من حيث العناية بمصالح العامة، والسهر على حقوقها، وتسوية الرعاية بينها وبين الخاصة، وقد سار سيرته هذه من أول يوم حتى فزع الطبقات العليا من الشعب، وعلى الأخص الكهنة فباءوا له بالعداوة، وباتوا يرقبون من أمر فرعون الغد ما سيكون.
هذا ولم يكن «رمسيس» الثاني كغيره من محبي العظائم بين ملوك الأنام الذين يكاد حب الذات لا يجوزهم، وقسوة القلب أن لا تتعداهم، ويتولد من الطمع عندهم الحسد في غاية شدته، فتعم شروره البلاد والعباد، وتتناول غوائله حتى الأهل والأولاد؛ بل كان يرى في اهتمامه للمملكة بصاحب عهدها والسهر على عظيم مستقبله، الذي هو مستقبلها، تتويجا لحياته العالية الكبيرة، وإتماما لنعمته على الأمة والبلاد؛ حيث رباه التربية اللائقة بنسبته العالية، وبما له من الشأن المستقبل في سياسة دول الوجود، وكان كثيرا ما يستصحبه معه صغيرا في أسفاره المتعددة المتوالية إلى أفريقيا وآسيا، وفي هذه القارة اجتمع والد الفتى بوالد الفتاة على أثر صلح بعد قتال، كما تقدم لنا ذكره، وكان الولدان يومئذ ناعمين صغيرين يستقبلان الحياة، فكان أول ما وقعت عينهما من أشيائها على الحب.
فبينما الأمير ذات يوم مطمئن بالولاية في منفيس يسوس الأمور، وينظر في شئون الجمهور، وردت عليه أوامر والده الملك بتوليته قيادة الأسطول، الخارج إلى تأديب الهند الثائرة، وإعادة السكون إليها، وأن يتخذ له نائبا من مواضع ثقته يكل إليه حكومة منفيس إلى حين أوبته، فوقع اختيار الأمير على أخيه لأمه وأبيه، وكان في طيبة فاستقدمه منها وألقى إليه مقاليد الولاية، ثم برح منفيس إلى السواحل؛ حيث الأسطول بانتظار قائده الهمام، وكانت الأوامر قد صدرت له بالقيام، فقام إلى بلد فيه العدو والحبيب كلاهما، هذا ثائر العداوة والبغضاء، وهذا ثائر الوجد والغرام. (1) قصر النزهة بالضواحي
تركنا الأمير وأصحابه مأخوذين متأثرين بالمشهد السحري الذي جرى أمامهم، وكان موضوعه الفرسان الأربعة رسل «طوس»، وإن يكن السحر وعمله ومشاهده مما كان المصريون الأولون، يعرفون تمام المعرفة ويألفون.
अज्ञात पृष्ठ