كان الليل في أخرياته، وكان سكون الجو عند غاياته، والوجود لم ينتبه بعد من عميق سباته، وكانت منفيس لم تزل في أسر الليل وتحت رق أحكامه، ساهرة المحارس والمخافر، مغلقة المداخل والأبواب، لا يخرج منها خارج ولا يدخلها داخل إلا بإذن، وهي كأنها الهالة المستقلة المنيرة الأهلة، أضواء ولا ضوضاء، وسنا للناظر وسناء، وسكون في الأرض وسكينة في السماء، وكانت الطرق إليها شتى وقد أخذت مع ذلك تزدحم بناقلي الأقدام، الآتين من أقاصي القرى تحت مدارع الظلام، وفي كلاءة الحي الذي لا ينام، ينهالون على المدينة من فوق الجسور وتحتها وعابري الأنهار، ومن بين المزارع والديار وحوالي المحارس والأسوار، متنافسين في الرزق متسابقين إلى الكسب مسارعين إلى المغنم، كما ينبغي للأمم في أيام حياتها وأزمنة مجدها وتمدنها.
فكانت هاته الجماعات والزمر تموج وتزحف سيرا نحو منفيس، وبين أيديها ما لا يعلم عدده إلا الله من محصولات القرى ومتاجر البلاد، وعلى الأخص الدواب حيث كان لأسواقها الشأن الأعظم في المدينة، وكانت هي زخرف أغنيائها والزينة، وهم قد ملئوا الدروب وملكوا جميع الطرق، إلا واحدة كان يقال لها طريق الخفاء، وكان الأهالي يجتنبونها لأجل ذلك، ويذكرونها فيتفزعون لذكرى المهالك، وقد أكثروا في أمرها الكلام، وذهبوا المذاهب مع الأوهام.
وكان يجتاز طريق الخفاء في تلك الساعة شرذمة من الفرسان لهم زي غير مألوف، وكانوا ملتثمين متدارين في السلاح، متمكنين من صهوات الجياد وأعنتها المستوصية الشداد، وقد جعلوا فيما بينهم هودجا محجبا محمولا لا يعلم إلا الله بما فيه، وهو يسير حيث يسيرون، وهم به دائرون، حتى إذا صاروا في آخر الطريق من جهة المدينة، انفصل عنهم أربعة فظهروا للوجود، وخرجوا إلى العالم المشهود، تاركين رفاقهم والهودج ومن أقل في الطريق الخفاء، ينتظرون.
ثم ساروا يقصدون منفيس وكأنما عرف الأهالي من هم، فغضوا الطرف عنهم لا يدنون منهم ولا ينظرون، وكانوا كلما مروا على محرس ميزهم خفراء النقطة بزيهم فلا يتعرضون لهم ولا يسألون، إلى أن بلغوا باب الشمس (أكبر أبواب المدينة يومئذ) وهنالك أخرج أحدهم جرسا فضرب به ثلاثا فلم يكد صدى الضربات ينقطع حتى انفتح لهم الباب فدخلوا، وكان الحراس قد عرفوهم بجرسهم فلبثوا في مراكزهم لا يتعرضون لهم ولا يسألون.
واستمر الفرسان الأربعة كذلك سائرين، لا يخشون من تعويق ولا يقف لهم واقف في طريق، حتى لاحت لهم دار الأمير وجهتهم التي كانوا يقصدون.
وكان الفجر قد لاحت تباشيره تهز الوجود، كما هز من والديه المولود، وهي الساعة التي يكاد صالحو الملوك والأمراء أن يسبقوا بها إلى العمل النساك والعلماء. فخرج الأمير إلى حديقته الخاصة يلتمس لنفسه كعادتها نزهة الصبح، ويتمتع من رؤية الطبيعة وروائها، في خير ساعات انجلائها، وأطيب أوقات بهجتها وازدهائها.
أما الحديقة فكانت مثالا لصنعة الصانع أجل مثال، طرازا بديعا فردا في البهاء والرونق والجمال. ظل، وماء، وطبيعة سمحاء، وسكينة في السماء، كما تحب الطير ويهوى العاشقون والشعراء.
وكان مع الأمير فيها ساعتئذ الأستاذ «بنتؤر» شاعر البيت حكيم المملكة ومؤدب ولي العهد في الصغر، ومشيره الأمين في الكبر، والبطل «رادريس» الملقب بعفريت الحبشة حارسه الأول، وأمين سلاحه الذي عليه المعول، ثم العالم الكبير تيحو طبيبه الخاص. وهؤلاء الثلاثة من أصحاب «رمسيس» الثاني وكانوا في معيته، فلما استعمل ابنه الأمير على منفيس والأقاليم الوسطى، سيرهم في ركابه حاشية جديرا بها ولي عهد المملكة الرمسيسية فكان الأمير يتمشى متريضا، وليس البدر بين نجومه بأجل منه بين رجاله، وقد جعل يده في يد «بنتؤر» وهو يقول له: كتبت إلي سيبا تنبئني أن ضغط الكهنة على الملك غير، وأن الحملة على تزويج أخي ب «آرا»، وأن كبير الحرس قد استمال إليه المؤثرين من رجال الحاشية حتى أصبحوا يجدون مع الكهنة في إتمام أمله الذي يحاول أن يرفع بنته إلى مقام تحسدها عليه كريمات الملوك والخواقين، وأن الملك أوشك أن يتأثر بمساعي القوم، وأن أختي «آثرت»، وهي كما تعلم لسان الكهنة في القصر، متكلفة لهم ولصاحبتها «آرا» باجتذاب والدتنا العزيزة. فكيف العمل الآن يا «بنتؤر»؟ وما الحيلة في الخلاص إذا الملك والوالدة انقادا بقوة ذلك التيار فأصبحا علينا مع جماعة المتحالفين؟ قال: نعم يا مولاي، ضغط الجنادل والقبور، ولا ضغط الوالدين في أمثال هذه الأمور. وإن الذي أعلم أنا من الأمر لأعظم. قال: وما ذلك؟ قال: إن أبويك الفخيمين لم يوشكا فقط أن يذعنا لاقتراح الكهنة، بل هما من بضعة أيام نصال تلك السهام، وساعد الأقوام، والمساعد على تحقيق ذاك المرام، فإن كنت في ريب مما أقول فهذا كتاب من أبيك الملك إلي فاقرأه ففيه الكفاية، ثم دفع إليه كتابا من قلم «رمسيس» يقول فيه ما معناه:
عزيزي الأستاذ، لقد آن ل «آشيم» أن يعدل عن غرامه الهوسي بعذراء الهند، لا سيما بعد ما ثبت لديه من أخبار رسلي ورسله العديدين من اختفاء الفتاة واستحالة بقائها على قيد الحياة. هذا والأمير اليوم يناهز الثلاثين، وأنا شيخ ضعيف وقد مر لي في الملك خمسون عاما، فلا أحب أن أفارقه قبل أن أرى ولي عهد أبا، وهذا أمل حلال، طاهر الخلال، لا أحسبك إلا موافقي عليه، فإن امتثل «آشيم» إرادتي زوجته بربيبتي وبنت كبير حرسي السيدة «آرا» التي لم يقع اختياري، ولن يقع إلا عليها، وإلا عددت الإباء منه عقوقا بينا، وربما أفضى ذلك إلى انتقال العهد عنه إلى أخته البارة «آثرت»، والآن فانظر في مصلحة أميرك واختر لتلميذك ما يحلو. والسلام.
كتبه «رمسيس» الثاني
अज्ञात पृष्ठ