وكان يسكن هذه الجزيرة مائة فتاة وفتاة، كلهن ملك كريم، ومثال عال غال لنعيم الجمال، وجمال النعيم.
وكن كلهن أبكارا، بين الرابعة عشرة والخامسة عشرة أعمارا، إذا رأيتهن حسبتهن أقمارا، طالعة ليلا ونهارا، تملأ المكان والزمان أنوارا، وكن يأوين جمعاء إلى قصر هنالك مشيد على الماء، يضمهن مثلما ضمت نجومها الجوزاء، وذاك القصر مبني بالبلور والمرمر، مفرش بصنوف الجوهر، مترب بالند والعنبر، وكان يحمل مفاتيحه ويحرس أشياءه رجل شيخ كاهن، لا عمل له إلا تطبيب البنات، إن مرضت واحدة منهن، والصلاة بهن في الميقات، وتعليمهن ما تجب معرفته من أصول العبادات.
وكان الزاد يحمل إلى البنات في كل ثلاثة أشهر مرة، فتأتي سفينة كبيرة مملوءة من الذخيرة، فتودع ذلك كله في الجزيرة، بدون أن ينزل أحد من رجالها إلى البر، ثم تنثني آخذة عريض البحر.
أما حراسة الجزيرة شرقها وغربها وشمالها وجنوبها، فكان يقوم بها مائة نمر ونمر، من أندر ما أخرجت هاتيك الأصقاع، من هذا النوع من السباع، كلها من حجم واحد، وشكل واحد، كأنما دفعها رحم واحد، صفر الأحداق بازرقاق، صفر الجلود بيسير بياض، فيما دون الأطواق، مخططة الظهور بمخطاط قدرة الخلاق، خفاف رشاق، مطلقة الوثاق، لها هنالك على سائر الحيوان الحكم ذو الإطلاق.
وكان في عنق كل واحد منها طوق من الذهب، منقوش عليه بالمينا اسم الفتاة التي هو لها خاصة دون سائر البنات.
وكان بين هاته النمورة واحد، وكان أبيض نقي البياض، ياقوتي الحدقتين، عقيقي حواشي الفكين، دقيق الرأس مستديره، غليظ العنق قصيره، رشيق القامة النضيرة، له سيقان الغزال، وأخفاف الجمال، وإلى مجموع خلقته ينتهي الجلال والجمال، وكانت في عنقه قلادة من الياقوت الأحمر بقفل من ذهب منقوش عليه بالجواهر هذه العبارة، وهي: «ذو الفك العقيقي، خادم عذراء الهند.»
وعذراء الهند هذه، هي إحدى الفتيات، ولكنها في الحقيقة مولاتهن، والسبب في وجودهن في الجزيرة على تلك الحال، وهي بنت الملك «دهنش» ملك ملوك الهند الشرقية، جعلها أبوها هنالك في مائة عذراء من أترابها كريمات الملوك والأمراء، وبنات الوزراء والكبراء. وضرب لإقامة الجميع بالجزيرة أجلا سبع سنوات كوامل، مضى منها ست وبقيت السابعة التي نحن بصدد حوادثها الآن، وكان فعل الملك هذا صادرا عن نصيحة أحد كبار المنجمين له وإشارته عليه؛ ولذلك حديث عجيب نسوقه للقارئ مجملا في هذا الفصل، ليعلم أسباب الغرام المبنية عليه الرواية؛ كيف نشأت وأسرار حوادثه، كيف بدأت فنقول: كان ل «دهنش» ملك الهندين يسوسه وينهض به جميعا، وكانت أعلام سيادته منشورة على ملوك القطرين أجمعين، إلى أن ارتاح «رمسيس الثاني سيزوستريس» ملك مصر، فيما كانت ترتاح إليه همته العلية من كبار المشروعات الفتحية إلى الاستيلاء على هاتيك الأقاليم، واتخاذها أسواقا لتجارات وطنه الفخيم، ومستعمرة جسيمة يعز بها آية ملكه الجسيم، فغشيها بالجحافل برا والأساطيل بحرا، حتى تملكها قسرا، وأخذ «دهنش» في جملة الأسرى.
غير أن فرعون لم يلبث أن شاور في الأمر عقله، ونظر في العواقب نظر حكمته، فرأى أن ملكا كملك الهندين محتاج إلى ملك يتفرغ لتدبيره، أو يكون سريره على الأقل قريبا من سريره، وأن بقاء الهندين في قبضة مصر واستمرار تبعيتهما لملوكها العالين أمران لا يمكن أن يكونا إلا إلى حين؛ فانتهج تلقاء هذه التأملات سياسة حسنة، بأن جعل الهند الغربية التي هي أقرب إلى البلاد المصرية، وأيسر منالا على سفنها حربية كانت أو تجارية، ممالك شتى صغيرة من نظام واحد، بملوك مستقلين بعضهم بإزاء بعض، ومستظلين تحت لوائه، يقدمون له الجزية، ويمهدون السبيل لمتاجر النيل، ثم أنعم على «دهنش» بالهند الشرقية جمعاء، يستقل بملكها ويحكم بلادها كيف شاء.
وكان «رمسيس» قد استصحب معه في تلك الحملة الكبرى ابنه وولي عهده الأمير «آشيم»، وكان في بداية صباه، وكانت مع «دهنش» فتاته عذراء الهند، وكانت طفلة كذلك، فلما رد فرعون عليه ملكه، وأعاد إليه بلاده، دخل عليه في آله ورجاله يؤدون شكر إحسانه الذي لا يؤدى. فكان أول من ابتدر لثم نعاله، عذراء الهند على صغر سنها، وقصور إدراكها؛ فأعجبه ذلك منها واستلطف روحها ومنظرها، فطلب إلى والدها أن تبقى مع «آشيم» تؤنسه ويؤنسها مدة إقامته القصيرة بالهند.
فكان من عواقب هذا الاجتماع، أن الطفلين انجذب أحدهما إلى الآخر انجذابا شديدا، وصادف الهوى فؤادين ناشئين خاليين، فدب، فدرج، فتمكن. فلما افترقا لم يفترق؛ بل وجد حافظا من مزاج الفتى والفتاة، فراح ينمو في فؤاديهما مع الحياة، وهكذا الحب بعضه من المهد إلى اللحد، ومنه ما يلبث يوما أو بعض يوم (الخفيف):
अज्ञात पृष्ठ