مقدمة
1 - نسمات الأصيل
2 - الحديث ذو شجون
3 - بين الحمام والحمام
4 - شهيد سرسنا
5 - في قصر الدوبارة
6 - بين الهلباوي وضميره
7 - بعد المعركة
8 - المحكمة المخصوصة
9 - القتل أنفى للقتل
अज्ञात पृष्ठ
10 - التنفيذ
مقدمة
1 - نسمات الأصيل
2 - الحديث ذو شجون
3 - بين الحمام والحمام
4 - شهيد سرسنا
5 - في قصر الدوبارة
6 - بين الهلباوي وضميره
7 - بعد المعركة
8 - المحكمة المخصوصة
अज्ञात पृष्ठ
9 - القتل أنفى للقتل
10 - التنفيذ
عذراء دنشواي
عذراء دنشواي
تأليف
محمود طاهر حقي
مقدمة
اللهم باسمك القاهر الرحيم أفتتح كتابي، وأسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة، وأن تعصمني من زلة القلم؛ لئلا تودي بي إلى عثرة القدم.
وبعد، فالكل يعلم ما هي مسألة دنشواي المشئومة، وما جرت على البلاد والعباد من المصائب والبلايا، وماذا كانت نتيجتها السيئة على المصريين أجمعين.
ويقيني أن المسألة كلها بنيت على أساس من سوء التفاهم الذي جعل للموضوع شكلا وأهمية، وزيادة على شكله وأهميته الحقيقيتين اللتين لبستهما، وكانت العاقبة المادية قصاص ما يربو على العشرين شخصا بين معدم ومجلود وسجين وطريد، وكانت العاقبة الأدبية تلك التهم الشنيعة التي ألصقت بنا ظلما وبهتانا، والتي نسبها إلينا في تصريحه المشهور أكبر ممثل لحكومة جلالة إدوارد السابع.
अज्ञात पृष्ठ
فالحادثة بشكلها، والأقوال باختلافها، والمحكمة المخصوصة بصبغتها، والعقاب بقسوته، والتنفيذ بفظاعته، كل ذلك حرك في نفسي وضع رواية تكون تاريخا لهذه الحادثة السيئة، وتكملة لما نقص من فظائع ديوان التفتيش أو أحكام نيرون.
وأظن أن القارئ أدرك - لأول وهلة - صعوبة الكتابة في هذا الموضوع بالشكل الذي كتبت به روايتي «عذراء دنشواي» وذلك لأسباب كثيرة: أولها وأهمها أن الأقوال ما زالت للآن مختلفة في كل شيء، في الحادثة وكيفيتها، والتحقيق وأسلوبه، والعقاب وتوقيعه، وأقول الحق: إن هذا السبب قد شوش على فكري، وكاد يكون عثرة في سبيل مشروعي، إلا أنني تغلبت على ذلك، ورأيت أن الاعتماد على أقوال الحكومة خير منفذ لي من هذا المضيق الوعر، فاتخذتها لي نبراسا وأنا غير راض عن نفسي.
وثاني الأسباب: أن الموضوع محفوف بالمخاطر، فقد تكون كلمة في غير موضعها تجني على نفسي ما أنا غني عنه، فعمدت إلى التلطف ما أمكنني، والتقهقر إلى خط الرجعة (دائما) ما وسعني، حتى لا أصير في صف الآثمين، ولا أكون آخر المنكوبين، أو تكملة لمعاقبي دنشواي.
وثالثا: أن الموضوع ضيق المنافذ؛ فلا يسع إلا النسيم العليل يدخل إليه بسكون، فرأيت أني لو أدخلت فيها شيئا من الغرام وقليلا من الفكاهات فلربما أرضيت القارئ الكريم، فاستعنت بالله فأعانني، وتوكلت عليه وكتبتها، ثم قدمتها إلى إدارة جريدة «المنبر» الغراء، فتقبلها صاحباها صديقاي العزيزان قبولا حسنا، وأوسعا لها بين أعمدة صحيفتهما مكانا فسيحا.
فالرواية خيالية أكثر من أن تكون حقيقية، والموضوع نفسه ألزمني التوسع في الكتابة، فابتكرت المحادثات المذكورة فيها، والغرام الذي جعلته أساسا لها، وإني أبرأ إلى الله من أن أخدع نفسي والقارئ وأتجاسر بالقول: إن المحادثات المذكورة حقيقية، وأظن أن ذلك ما فطن إليه القارئ اللبيب من قبل هذا التصريح.
ولدى ظهور أول جزء منها على صفحات «المنبر» أخذ العجب جماعة ممن يحسنون الظن بالناس، فدفعهم ذلك إلى تشجيع هذا الضعيف. وما أنا ممن يرتضي لنفسه التقريظ والإطراء لولا ثقتي بحسن نواياهم وشرف مقاصدهم، ولقد كان من بينهم من تفضل فانتقد لغة الرواية؛ لأنه مضيع - على زعمه - للغة «القرآن الشريف»، وغاب عن حضراتهم أني تعمدت الكتابة باللغة «العامية الريفية» لتكون أوقع في النفس، وعبارة «طبق الأصل» لمحادثة سكان القرى.
كتبت الرواية في «المنبر» - المتصل إن شاء الله بالجوزاء - وليس في نيتي أن أجمعها فيما يخلدها، ولكن إلحاح أصدقائي علي في طبعها على حدة لتكون أسهل في التناول، وأقصر للمطالعة، أرغمني على قبول حسن ظنهم بالشكر الجزيل؛ فلبيت طلبهم شاكرا فضلهم مثنيا على همتهم.
ومن جهة أخرى، رأيت أن قصدي من تأليف هذه الرواية كان العظة البالغة والتذكار المؤلم لهذه الحادثة، فشجعني طلبهم وطبعتها لتكون محفوظة في المكاتب يتناولها الابن عن الأب، وتحدث بها الأم ابنتها، وفي الحقيقة تكون قصاصا ممثلا أمام نظر الإنسان في كل وقت وزمان تفكرنا دائما بمركزنا الذي نحن فيه، وتكون أكبر رادع لنا وعبرة بالغة لأولادنا، فلا يقدمون على أمر يبكون من نتائج عقابه الفظيع.
ولقد خدمت - في الحقيقة - القابضين على أزمة أحكام البلاد بيد من حديد، فنقشت عقابهم الصارم على صفحات القرطاس، ودونته في بطون التاريخ حتى يغني عن كل عقوبة قد يجنها
1
अज्ञात पृष्ठ
ضمير المستقبل.
وقدمت أيضا خدمة لأبناء بلادي، فمثلت لهم شدة أحكام الحكام وقساوتهم في التنفيذ، حتى لا يقوم غر جاهل يجني على البلاد بمثل ما جنت أهالي دنشواي.
وجرم جره سفهاء قوم
فحل بغير جانيه العقاب
ط. حقي
السيدة زينب في 15 يوليو سنة 1906
الفصل الأول
نسمات الأصيل
ألقت الشمس بسكون أشعتها الذهبية في أصيل يوم يونيو سنة 1906 على «قفة» دقيق كانت فوق رأس فتاة تناهز العشرين من عمرها، طويلة القامة، ممتلئة الجسم، مفتولة الساعدين، مقرونة الحاجبين، يميل لون بشرتها إلى الصفرة أكثر منها إلى السمرة، وكان في أسفل شفتها السفلى شجرة صغيرة مرسومة بالوشم الأخضر مما زادها جمالا! ولقد راعت الشمس عواطف القرويين، وهي أمهم التي يقدرون مقامها، ويكادون يعبدونها؛ لأنها سر حياتهم، وسبب من أكبر أسباب معاشهم، فأبت أم الكون أن تفارق سماء «دنشواي» بدون أن تودع وتحيي أرق وأطهر فتاة تحتها، فعمدت إلى أشعتها فألقتها على وجه العذراء في سيرها كما يلقي المحب يده على وجنة محبوبته في مداعبتها!
وبعد غروب الشمس تماما ظهرت سماء الغرب بلون العاشق المفارق، فجلست الفتاة بردائها الأسود القذر وبقلبها الأبيض النقي على أكمة من التراب، بعد أن وضعت قفتها بجانبها، وصارت تلعب بيديها في قليل من الحصى وبعض «كوالح الذرة» ... وكان منظر جلوسها وهيئتها وسكونها يدل على أنها في انتظار إنسان، وبعد لحظة رأت عن بعد شبحا يقوم يقعد، فلما تأملته جيدا أفتر ثغرها عن لؤلؤ منظوم تمنت ابنة الذوات أن تكون هي المتحلية به، ثم قالت: آه ... هو هو محمد العبد بيصلي المغرب.
अज्ञात पृष्ठ
ولم يخب ظنها، فإن الشبح تقدم بعد هنيهة منها حتى ظهر لها تماما أنه محمد العبد بعينه. وكان شابا طويل القامة، قوي البنية، نحيف الجسم، أسمر اللون، يناهز السابعة عشرة من عمره، خفيف الروح رغما عن جحاظة عينيه!
ولما صار منها مثل قيد الرمح، خفق فؤادها بشدة وأسلبت جفونها حياء، أما الشاب فقال لها: ازيك يا ست الدار؟ - الله يسلمك يا محمد. - فين مدللة؟ - رجعت قبلي من البابور. - كنت ناوي آجي البابور بعد صلاة المغرب. - يا سلام يا محمد! يخلصك قعادي بعد المغرب في البابور؟ - ليه؟ - إنت موش عارف إيه اللي بيحصل هناك من الحاجات المسخرة بين النسوان والطحان؟ وزيادة على كده جه أحمد زايد وقعد يناكف فينا طول النهار. - أحمد زايد كلمك؟ - لأ، ولكن كان بيحدف علي الكلام، وقال لست أبوها إنه رايح يتجوزني غصب عن أبويه وعنك! - إزاي رايح يتجوزك وأنا مكتوب كتابي عليك! - شوف بقه! - طيب وانت ماقلتيش حاجه؟ - لأ. - قومي بقى يا اختي روحي أحسن يتمسى عليك الوقت. - حاضر.
ثم قامت وأخذت القفة بين يديها فساعدها خطيبها على وضعها فوق رأسها، ثم قالت له: اتمسه بالخير يا محمد. - يسعد مساك يا ست الدار.
وبعد هذه المحادثة سارت الفتاة إلى بيتها فرأت محمدا عبد النبي وزوجته يضعان النورج فوق الجرن، فسلمت عليهما فردا عليها السلام، وقال لها محمد عبد النبي أن أباها حسن علي محفوظ ذهب إلى بابور الطحين للبحث عنها، فتركتهما ودخلت بيتها تمني النفس بقرب اجتماع شملها بخطيبها وحبيبها.
الفصل الثاني
الحديث ذو شجون
من عادة القرويين أن يقضوا شطرا من ساعات لياليهم في المسامرة مع بعضهم، وفي تلك البرهة يتباحثون في المسائل الزراعية، ويتناقشون في الموضوعات التي تعنيهم، وفي بعض الأحيان يتسلون بقصص عنترة وأبي زيد الهلالي، ويتفكهون بنكات (عم) أبي نواس و(الحاج) جحا، وإن كان لأحدهم ظلامة أو شكاية رفعها إلى هذا المجلس فيصلحون ما بينهم، وإذا تعذر عليهم الحل رفعوها إلى العمدة، إلى غير ذلك مما يسمح لنا القارئ بأن نسمي مجلسهم «بالنادي» بكل معانيه، إذ أعضاؤه من طبقة واحدة، ومن فكر واحد، وفي بلدة واحدة، ويشتغلون بمهنة واحدة. وللقرويين حرية في الفكر والمناقشة، فللابن أن يحاج أباه، وللأخ أن يناقش أخاه، وليس بعيب إذا جادل الولد الشيخ، وللمرأة حظ الاجتماع والمناقشة كالرجل سواء بسواء كما يتمنى سعادة صاحب «تحرير المرأة» ويود!
فعلى هذه العادة المحمودة اجتمع أهالي دنشواي في ليلة 7 يونيو تحت أشعة القمر الفضية بجانب جرن هناك لمحمد زهران، وأخذوا يتحدثون في أمور شتى، وكان بين المجتمعين حسن علي محفوظ وابنته - موضوع روايتنا - ست الدار، وخطيبها محمد العبد، وأخته مدللة، ومحمد زهران صاحب الجرن، وامرأته مباركة بنت حسن، ومحمد أحمد السيسي، وسليمان الفرماوي، والسيد العوفي، ومحمد علي سمك، وأحمد زايد، وغيرهم، وبعد حديث طويل، قال محمد أحمد السيسي: إنت يا حسن يا محفوظ حوش الحمام بتاعك من أجران الناس. - ليه يا ابني؟ - أحسن بينزل يلقط الحب. - يعني ما فيش حمام في البلد غير حمامي بينزل على جرنك؟ - موش شغلي. - طيب واشمعنى بتقول لي وما بتقولش لمحمد زهران اللي حمامه جنب جرنك؟ - أنا بقول لك وباسمع غيرك.
فشد محمد زهران من لفافة تبغه نفسا ثم رماها بقوة، وقال، بعد أن تنهد: هو محمد زهران بقى عنده حمام من السنة اللي فاتت؟ مصطادوه الإنجليز كله!
فقالت مدللة: من حق يا عم زهران؛ عملت إيه مع العمدة محمد الشادلي على شان الحمام؟ - ولا حاجة يا بنتي، أنا لما رحت عند محمد الشادلي، وقلت له إني رايح أروح مصر، واشتكي عند باشة الإنجليز عمل الخواجات في الحمام وتخريب الأبراج، قال لي إنه رايح هو يشتكي للمديرية ... وحلف لي بمقام السيد البدوي إنه يجيب لي منهم تعويض. - وبعدين؟ - وبعدين راحت نومة.
अज्ञात पृष्ठ
فقال محمد علي سمك: أهو طبع الشادلي كده ما يسألش في أهل بلده.
فقالت مباركة: يا ترى رايحين ييجو السنادي؟
فسكت الجميع لهذه الجملة؛ لأنها نزلت عليهم نزول الصاعقة، وبعد سكوت طويل قال زهران: اللي عنده حمام يخاف عليه!
فقال محمد العبد: وإن جم رايحين نعمل لهم ايه؟
فقال حسن محفوظ: نعمل إيه يا محمد؟! نفوض أمرنا لله. - ليه ما نحوشوهمش؟ - وحد يقدر يحوشهم وهم لهم البر والساحل؟ - خليهم يموتوا حتى فينا، فالأمر لله. - يعني ما نقدرش نقدم بلاغ من دلوقتي؟ - نقدم لمين؟ ومين يقدر يقول لهم تلت التلاتة كام؟
فقال أحمد زايد: أهو نسيبوهم زي كل سنة يعرفم شغلهم. فانتبه حسن محفوظ لصوت المتكلم وقال: يعني يا أحمد يا زايد كنت في وابور الطحين بتعمل إيه النهاردة؟ - وانت شغلك إيه يا عم محفوظ، إنت مالكش كلام عندي. - شغلي إيه ازاي؟ بلاش مسخرة، وأوعى تاني مرة تخطي البابور أحسن أكسر رجلك. - الله يسامحك يا عم محفوظ.
فقال زهران: إيه اللي حصل يا عم محفوظ؟ - حصل إيه؟ فيه كام واد هنا مالهمش شغلة غير البابور، يروحم يهارشو البنات ويعملو مسخرة.
فقال زايد: مين قال لك كده يا عم محفوظ؟ موش بنتك ست الدار؟ - أيوه هي اللي قالت لي. - بنتك تهماني بالزور. - طيب ومتختشيش تقول إنك رايح تتجوزها غصب عني وعنها؟ - وحياة ربنا والسيد البدوي إنه كدب.
فقالت ست الدار: يا باي! يا باي!
ثم التفتت إلى مدللة وقالت: وحياة أخوكي وشبابك وإلا تفقدي عينيكي، هو موش قال كده؟ - فقالت مدللة: إيوه يا عم محفوظ، إيوه يا عم محفوظ، بالحق قال كده قدام كل اللي كانوا هناك.
अज्ञात पृष्ठ
فقال محفوظ: بقا إيه.
ثم التفت وقال لزايد: إذا كانت البنت مكتوب كتابها على محمد العبد، إزاي رايح تتجوزها؟ - طيب ومحمد العبد أحسن مني في إيه حتى تجوزها له؟ - أهو اللي كان كان، ودي قسمة.
فعض أحمد زايد بأسنانه على شفتيه الغليظتين، ونظر إلى العبد نظرة وعيد وتهديد.
وبعد هذه المناقشة قام كل إلى بيته.
الفصل الثالث
بين الحمام والحمام
- أف كورس! يمكننا أن نلهو بالصيد في الحقول، خصوصا صيد الحمام مما يقصر علينا مشقة السفر. - ول! ولكن هل صيد الحمام مباح؟ - نعم؛ لأنه بري وسبق أن صدته هناك.
جرت هذه المحادثة بين رجلين من أبناء التاميز جالسين في ردهة من ردهات فندق «شبرد» الفخيمة، متحليين بالملابس السوداء الرسمية الملكية، وكان في يد كل منهما كأس «وسكي بالصودا!»
قال الأول - واسمه الميجر بن كوفين - بعد أن حسا بقية كأسه: إني أؤكد لك كل سرور في هذه الرحلة الجميلة.
فأجابه الثاني - وكان اسمه اللفتننت سميث ويك - ألا يلزم أن نأخذ تصريحا من الجنرال؟ - كلا، لا لزوم للتصريح وغيره؛ لأننا سنجد هناك مساعدات فوق العادة، وإكراما من الأعيان كبيرا! - يظهر أن المصريين يحبون الإنجليز؟ - المصريون يخافون من الإنجليز خوف الجبان من بأس الشجاع، ولم أر في حياتي شعبا متملقا كهذا الشعب الغريب الأخلاق. - يقال إنهم لينو العريكة، وديعو الأخلاق. - إن ما تسميه لينا ووداعة هما في الحقيقة ضعف وجبن؛ ولذلك فإننا لا نحترم هذا الشعب المتملق أبدا ولا نحفل بآرائه المتطرفة! - إذن الحال هنا كما في الهند؟ - وكما في كل الشرق!
अज्ञात पृष्ठ
فضحك اللفتننت وقال: أظنك تستثني اليابان من هذه الأوصاف اللطيفة؟ - وهل عندك شك في إجلالي لقدر هذا الشعب الحي الباسل؟!
وعند آخر هذه الجملة قاما وركبا عربة سارت بهما إلى حيث لا ندري! •••
أشرقت شمس يوم 13 يونيو المشئوم، فألقت أشعتها الذهبية الجميلة على خيام متفرقة هنا وهناك عسكرت فيها فصيلة الدراجون
Dragon
من جيش الاحتلال، فأنفذت أشعتها إليهم لتحيي أبناءها البررة الذين بذلوا النفس والنفيس حتى لا تغيب عن بلادهم. فنادى الميجر بن كوفن عبد العال صقر (المترجم) وأمره بأن يخبر الأونباشي أحمد حسن زقزوق بأنهم سيذهبون للصيد عند ناحية دنشواي في الساعة الأولى، فرفع المترجم يده اليمنى ووضعها لحظة بجانب جبهته، وبهذه الحركة أدى التحية العسكرية وخرج. وكان الميجر جالسا على كرسي هزاز أمام مائدة، وكان بالقرب منه شاب جميل الطلعة بهي المنظر اسمه المستر بورتر، يحادث شابا آخر، يشابهه في الهيئة والقوام، اسمه اللفتننت سميث ويك، وكان بعيدا عنهم رجل يناهز الثلاثين من عمره، ويظهر على ملامحه الضعف، ومن عينيه تلوح البساطة، اسمه الكبتن بول، وكان هذا الكابتن ينظف بندقية صيد، وفي أثناء عمله كان يصفر بشفتيه أنشودة غرام، وكان بالقرب من الكبتن بول رجل قصير القامة جالسا فوق كرسي، وواضعا رجله على كرسي آخر، وهو يقرأ في كتاب باهتمام كبير واسمه الكبتن بوستك، وبالقرب منه جلس رجل قصير اسمه اللفتننت هارجريفس ساكنا .
وكانوا جالسين تحت خيمة جميلة، وبعد أن خرج المترجم التفت الميجر إلى الكبتن بول وقال له: ألم تنته للآن من عملك يا كبتن؟ - نو. - كان يمكنك أن تكلف جنديا بأداء هذه المهمة التي أشغلتك عن محادثتنا. - أجد في عملي هذا أكبر لذة يا قومنداني العزيز. - وأنت يا بوستك ... أتجد في روايتك لذة بول في تنظيف بندقيته؟ - كلا يا قومنداني الصغير، فلا لذة أكبر من محادثتكم.
ثم طوى الكتاب واعتدل أمامهم.
فقال اللفتننت: وهل في الجهة التي سنذهب إليها حمام كثير؟ وهل سيكون معنا هارجريفس؟
فقال الميجر: نعم يوجد حمام كثير، أما هارجريفس فسيحرم من هذه الفسحة الجميلة ليكون هنا في المعسكر. - وكيف يكون ذهابنا يا سيدي الميجر؟ - هذا من اختصاص الحكومة المصرية، وليس من شأني أن أفكر في ذلك! وسترى الآن الاستعداد الهائل والولائم الفاخرة التي تقام لنا كما رأيت قبل اليوم!
فقال الكبتن بول: سنرى ...
अज्ञात पृष्ठ
وقضى هؤلاء الضباط وقتهم إلى الساعة الأولى بعد ظهر ذلك اليوم في محادثة ولعب ورق وغير ذلك مما يقطع الوقت.
وفي الساعة الأولى تماما نادى الميجر عبد العال (المترجم) وقال له: هل قلت للأومباشي؟ - نعم يا سيدي، وقال لي: إنه أخبر ملاحظ بوليس نقطة الشهداء بذلك، فأمره بأن يذهب معكم ويترك العسكري هنا، ويحضر لنا ركائب من عند كبير من كبراء الأعيان، اسمه عبد المجيد بك سلطان.
فقال الميجر: ولكن هذا لا يكفي، فقل للأومباشي أن يذهب فيسبقنا هو ويخبر العمدة بمجيئنا.
فوضع عبد العال يده على جبهته وخرج.
وبعد ربع ساعة ناداه ثانية وقال: ألم تحضر العربات للآن؟ - لا يا سيدي. - إذن فاستعد؛ لأننا نسير على الأقدام حتى نقابلها.
فأدى «المترجم» حركة السلام وخرج وهو يلعن الساعة التي جاء فيها دليلا لهؤلاء الجن، الذين يريدون السير على الأقدام في ذلك الحر الشديد.
وبينما كان عبد العال في أشد همومه، إذ رأى فجأة الضباط واقفين أمامه وسمع صوتا جهوريا يصرخ: «أبدا لآل»، فجرى المسكين حتى وقف أمام الميجر الذي كان يناديه، وأدى السلام «العسكري » فقال له الميجر: هيا بنا وأمسك هذا الحصان ...
فسار الخمسة ضباط يتكلمون ويضحكون ويمنون النفس بأكلة حمام لذيذة وشرب قزازة وسكي بالصودا معها، بعد رجوعهم من تلك الرياضة البدنية! أما صديقنا عبد العال فقد كان سائرا خلفهم على مهل، يلعن هذا المزاج الإنجليزي الذي يخرج للعب والصيد في حر شمس يكاد يقتل الجمل.
وبعد مسير برهة لاح لهم خيال أسود، فتنفس «الدليل» الصعداء، وحمد الله وشكره؛ لأنه تأكد بأن هذا الخيال هو خيال العربات، وحقيقة فإن ما ظهر لهم كانت العربات التي طلبها الأومباشي، وبعد هنيهة ركب الميجر بن كوفين وعن يساره الكبتن بوستك في عربة، وركب في أخرى الكبتن بول، وعن يمينه المستر بورتر. أما اللفتننت سميث ويك فامتطى جواده وسار بجانب العربة الأولى. •••
وبعد مسير ساعة وقفت العربات أمام دنشواي، فنزل عبد العال ووقف أمام عربة الميجر، وأدى السلام العسكري في حالة نزوله.
अज्ञात पृष्ठ
فقال الميجر: أين الأومباشي؟ - هو هنا يا سيدي. - انظر، انظر خلفك، فإني أرى رجلا يتقدم، وأظنه العمدة، فاسأل لنا منه الإذن.
فسار عبد العال حتى صادف شيخا في حدود السبعين شيبت السنون شعره، وكان اسمه حسن محفوظ يسير في طريقه، فأوقفه وقال له: يا عم، يا عم، السلام عليكم.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. - يا ترى ممنوع الصيد هنا والا لأ؟ - ممنوع الصيد بين المساكن والأجران، وإنما إذا كانوا عاوزين يصطادوا يبعدوا حبة. - طيب احنا شيعنا لكم الأومباشي، جه والا لأ؟ - مانيش عارف.
ثم سار الشيخ في طريقه حتى صادف ابنته ست الدار فقال لها: فين محمد العبد؟ - في الغيط؟ - طيب وانت واقفة هنا ليه؟ - جيت أشوف مين دول. - واحنا مالنا يا بنتي؟ احنا مسلمين أمرنا لله! روحي روحي يا ست الدار في البيت. - وانت رايح فين يا أبويه؟ - أنا يا بنتي رايح الغيط. - أبقه أجيب لك الغدا هناك؟ - أيوه يا بنتي في صلاة العصر هاتيه لي هناك. - طيب والإنجليز دول رايحين يعملم زي كل سنة؟ - واحنا ملنا يا ست الدار، اللي يعجبهم يعملوه. - طيب ما تقول لهم إنهم مايصطادوش هنا. - اخرصي يا بنت الكلب عاوزة توديني في داهية؟ دول لو سلموا علي أنا ماردش عليهم السلام لحسن يتهموني بأني أشتمهم، وبعدين أروح في نايبة.
وبعد هذه المحادثة القصيرة سار حسن محفوظ إلى غيطه وسارت ست الدار إلى بيتها.
وفي أثناء هذه المحادثة كان عبد العال سائرا مع الضباط حتى ابتعدوا عن البلدة قليلا، فقال القومندان: لننقسم فرقتين، فاذهب يا مستر بورتر مع اللفتننت سميث جهة الشمال، وأنا سأكون مع الكبتن بول والكبتن بوستك هنا.
فسار الشابان إلى الجهة التي عينها الميجر لهما.
وفي أثناء سيرهما قال بورتر لزميله: هل تراهنني يا صديقي على أني سأصيد أكثر منك؟ - نعم أراهن بزجاجة وسكي. - ولقد قبلت. - إذن فاستعد.
وكانا قد بلغا المكان المعين.
فأطلق اللفتننت الخرطوش، فأصيبت حمامة كانت تطير فنزلت إلى الأرض تهوي، فصرخ: بورتر انظر ... ترك ... ها هي حمامة أخرى. - نحن متساويان الآن، فهيا. - ... ترك ... ترك. - ... ترك ... ترك. - كف، كف يا لفتننت عن الطلق، فإن الأهالي مقتربون منا وأخاف أن يصاب إنسان بضرر.
अज्ञात पृष्ठ
فهز اللفتننت كتفيه وأطلق طلقة، وفي الحال لاح لهما عن بعد دخان ونار مشتعلة.
فصرخ بورتر وقال: لقد حرقت شيئا بنار بندقيتك يا لفتننت، انظر إلى الدخان، كف، كف عن الطلق. - ... ترك ... ترك. - كف كف فإن الأهالي قد اجتمعوا عند النار. - وماذا يهمني؟ وكيف أترك هذه الحمامة الطائرة تفر مني؟ ثم أطلق بندقيته مرة ثالثة.
فنظر بورتر فرأى أن بعض الأهالي اجتمع حول النار يطفئونها والبعض جاء إليهما! •••
نترك هذين الصيادين قليلا، ونذهب بالقارئ إلى المكان الثاني حيث القومندان ورفيقاه يصيدون هناك، ونبدأ بقصة صيدهم.
قال الكبتن بول: سنرى يا قومنداني العزيز من منا يصيد أكثر.
أتظن أن تنظيفك لبندقيتك سيكون سبب ذلك يا كبتن؟ - أظن، اسمع ... ترك ...! ها قد اصطدت حمامة. - ... ترك ... وأنا أيضا يا بول. - لقد أخطأت يا قومنداني! - ... ترك ... ترك ... لم أخطئ هذه المرة! - ... ترك ... ترك ... تمب ... - ... ترك ... ترك ... تمب ... - ... ترك ... ترك ... تمب ... - ... ترك ... ترك ... تمب ... - ما هذا الحمام الكثير يا قومندان؟ - ألم أعدك بذلك يا بول؟! - إذن فعشاؤنا هذه الليلة لذيذ. - جدا! جدا.
كم أنا جوعان وأتمنى أن يأتي الليل لنذهب إلى المعسكر فنتمتع بهذه الأكلة اللذيذة. - ... ترك ... ترك ... تمب ... - ... ترك ... ترك. - لقد أخطأت. - ... ترك ... ترك ... تمب. - ولكنني لم أخطئ هذه المرة. - انظر! يا قومندان ما هذه النار المشتعلة أمامنا؟ - لا أدري، وأخاف أن تكون نتيجة نارنا. - بالحق إني خائف من ذلك. - إني أؤكد يا قومندان بأنها من نار أحد رفقائنا الذين هما في الجهة الثانية. - وأظن ذلك. - انظر، كيف اجتمع الأهالي لإطفاء الحريق؟ - هيا، ولنسرع لنعلم الخبر.
فجرى بسرعة الميجر ومن معه خلف عبد العال نحو اللفتننت ورفيقه بورتر. •••
نظر الأهالي فرأوا الإنجليز قادمين عليهم بخيلهم ورجلهم ليصطادوا حمامهم الذي يقتاتون منه، فسكتوا وسلموا أمرهم لله، وكمش كل إنسان في مكانه بدون أن ينبس ببنت شفة.
وكان محمد عبد النبي وامرأته مبروكة في جرنهما ينظران إلى عمل النار في حمامهما ويتحسران، وبينما هما في حسرتهما إذ جاءت رصاصة فأصابت مبروكة فوقعت من على النورج تتخبط في دمها، وسرى هذا الدم الأحمر القاني إلى القش الأبيض الناصع فكان المنظر مؤثرا، فقام محمد عبد النبي وأكب على وجهها وهو يبكي بكاء مرا، وفي أثناء بكائه نظر فإذا النار مشتعلة في جرنه، فازدادت مصيبته وصرخ بأعلى صوته على الصيادين: يا ناس حرام عليكم، يا ناس موش كده، موتوا مراتي وحرقتم جرني.
अज्ञात पृष्ठ
وفي أثناء صياحه وقعت حمامة مقتولة على رأسه فاستولى على قلبه الحزين الرعب «فنط» من الجرن وأخذ يعدو من الخوف، وترك امرأته مضرجة بدمائها.
فالتف حول جرنه الأهالي، وأخذوا يطفئون النار، أما هو فسار مسرعا جهة الصيادين باضطراب عظيم وصرخ فيهما: حرام يا ناس.
فانتهره اللفتننت وقال غاضبا: جود ديمن بلاد فول!
ثم أراد أن يهجم عليه ويضربه، فخاف محمد عبد النبي من الإنجليزي لئلا يقتله، فمسك منه البندقية بقوة شديدة، فاستاء اللفتننت من ذلك وأخذ يضربه بجزمته بقوة على قصبة رجله.
والرجل يصرخ ويستغيث، فجاء على صياحه بعض الأهالي وفي مقدمتهم شيخ الخفر وخفيران، فظن المستر بورتر أنهم جاءوا لقتالهما، فضرب بندقيته وأطلقها عليهم فأصابت ثلاثة أشخاص منهم.
فهاج لذلك الأهالي وهجموا على الضابطين ليأخذوا منهما سلاحهما، فضرب الضابطان الأهالي بأرجلهما. وفي تلك اللحظة قدم الميجر ومن معه فرأى الخطب جسيما والمصاب كبيرا، فجاء إلى اللفتننت - وعلامة الغضب بادية على وجهه - وقال له: سلم لهم البندقية، ثم حانت منه التفاتة؛ فرأى الكبتن بول محاطا بكثير من الأهالي قابضين على بندقيته، فصاح عليه بأن يسلم هو أيضا.
ولما رأى أن الأهالي لم تكتف بذلك، عمد إلى تسليم بندقيته، وأمر الباقي بذلك، فسلم الضباط سلاحهم العسكري ورفعت الراية البيضاء علامة التسليم، ثم قبض الميجر بيده اليمنى على يد بورتر وباليسرى على يد اللفتننت إتماما للحيلة؛ تظاهرا بأنهما سجناء، ثم ساروا جهة العربات فسارت الأهالي من خلفهم، وكان الكبتن بول متخلفا عن رفقائه قليلا.
فنظر الميجر يمنة ويسرة يبحث عن الأومباشي فلم يجده إلا على بعد خمسين ياردة، واقفا ينظر إليهم من على جواده، ولما رأى الضباط ينظرون إليه عمل «حازطور» وهو بعيد عنهم على ظهر الحصان! فعض الميجر على شفتيه من الغيظ.
ثم التفت إلى عبد العال فلم يجده، ولكن رأى الكبتن بول يصرخ في الأهالي ويتوعدهم بكل مصيبة، ولم يكتف بذلك بل ضرب أحدهم على وجهه، فأراد الميجر أن يجري إليه ليمنعه، ولكن رأى على فجأة الضباط يضربون الأهالي والأهالي تضرب الضباط.
فجرى حتى دخل وسط المعمعة، وأراد أن يفصل بينهم، ولكن لم يشعر إلا وقد وقعت على رأسه ضربة أذهلته فغاب عن صوابه، فرجع الضباط القهقرى، ولكن الأهالي لم تمهلهم، فتقدموا إليهم وضرب كل واحد منهم واحدا فتشتت شملهم، فصرخ الكبتن بول: آه يا قومندان ... لماذا سلمنا سلاحنا؟ فلم يجبه إنسان على سؤاله! فأخذ المسكين يعدو والأهالي من خلفه تقذفه بالحجارة والطوب، فأراد اللفتننت أن يساعده فأخذ يجري خلفه حتى رأى طوبة صدمت رأس الكبتن بول فشجتها وسال الدم، فرجع هاجما على الأهالي ليضربهم، ولكن أحدهم ضربه بطوبة على أنفه، ثم رأى الميجر يضرب أحد الفلاحين ويرفسه برجله فجرى ليساعده، ولكن وقف بغتة على أثر رؤية ضربة من أحد الفلاحين كسرت ذراع الميجر، فاصطكت أسنانه من الرعب، خصوصا عندما رأى القومندان على الأرض مغشيا عليه.
अज्ञात पृष्ठ
الفصل الرابع
شهيد سرسنا
ثم صرخ الكبتن بوستك بأعلى صوته: الهرب، الهرب، يا بول! أين الأومباشي؟ أين عبد العال؟ - لا أدري أين هذا العسكري الجبان! اذهب يا بوستك جهة الشمال إلى أقرب نقطة وأخبر الخفر بهذه الواقعة.
فدار بوستك حول نفسه دورتين وقال: إلى أين أذهب؟ - إلى الشمال! إلى الشمال! - وأنت؟ - إلى اليمين!
فجرى الكبتن بوستك جهة الشمال بهيئة مضحكة؛ لأن ملابسه كانت كلها ممزقة، وعلاوة على ذلك فإن حمالة البنطالون كانت قطعت فنزل (البنطالون) إلى ركبتيه - مما أعاقه عن العدو قليلا - فوقف وشده إلى بطنه والتفت فلم ير الكبتن بول، فقوى نشاطه وجرى مسرعا، ولكن نزول بنطالونه ثانية إلى ركبتيه أعاقه؛ فخلع البنطالون بسرعة ووقف حائرا لا يدري أين يذهب، ولكن خطر في فكره الذهاب إلى المعسكر، فرجع ثانية يعدو جهة اليمين بهيئة مضحكة، فإنه كان مرتديا ملابسه العسكرية الجميلة، ونياشينه اللامعة، ولكن بدون بنطالون! وكان جسمه ظاهرا؛ لأن من عادة الإنجليز عدم لبس السروال! وفي منتصف الطريق رأى الكبتن بول مطروحا على الأرض فجس نبضه، ثم وضع يده على قلبه فرآه في حالة خطرة، فنسي الرجل خطورة موقفه، فركع على ركبتيه، وضم يديه على صدره، وصلى صلاة صغيرة، وطلب من السماء أن تنجي صديقه من الموت، ففتح بول عينيه، فقال بوستك: تجلد يا صديقي!
فتمتم بول: إلى أين ذاهب؟ - إلى الأمام، إلى المعسكر.
ثم تركه وجرى حتى وقف على شاطئ الباجورية وتأمل في النهر قليلا، ولكنه تشجع وقذف بنفسه في الماء، وسبح حتى وصل الشاطئ الثاني، وتابع العدو وهو بهيئته المضحكة، وفوق ذلك كان الماء يقطر من الجاكتة!
أما الكبتن بول فنظر جهة اليمين والشمال بصعوبة زائدة وهو مطروح على الأرض، ولما لم ير إنسانا قال: آه ... أين أنا؟ إني ظمآن أريد قليلا من الماء، أريد قليلا من الوسكي! لا أريد أن أموت ظمآنا! أنا إنجليزي لا أموت ظمآنا.
ثم أبصر عن بعد فلاحا يقصده فخفق فؤاده، وضم يديه على صدره يصلي على نفسه صلاة الموت!
أما هذا الفلاح التعيس - وكان اسمه سيد أحمد سعيد - فاقترب من الكبتن، ولما رأى حالته المحزنة قال: لا حول ولا قوة إلا بالله العظيم، إنا لله وإنا إليه راجعون، أنت من السابقين ونحن من اللاحقين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله!
अज्ञात पृष्ठ
ففتح الكبتن عينيه لأنه كان أغمضهما لئلا يرى بهما عصاة الفلاحين تأخذ بقية حياته، ولما شعر بتأثر الفلاح قال له: أيها الإنسان، إني أناشدك بالشفقة أن ترحمني وتسقيني قليلا من الماء، فلم يفهم الفلاح قوله بل ظل يردد: إنا لله وإنا إليه راجعون.
ففطن بول إلى جهل الفلاح بلغته، فأشار له بأنه يريد أن يشرب، فأسرع الفلاح إلى قناة وأخذ في راحتيه قليلا من الماء ثم وضعه في فمه، فقال الكبتن في نفسه: يا ربي، إن الماء قذر ويديه قذرتان فكيف أشرب؟ ألا يوجد عندهم (فلتر) مرشح؟
ولكنه أحس بانتعاش فأشار بأن يعطيه أيضا قليلا من الماء، فهرول الفلاح يلبي الطلب.
ولكن كان الكبتن وصل إلى نقطة الموت، فأخرج من جيبه صليبا صغيرا وضمه إلى صدره ثم قال: آه يا أمي العزيزة، إلى اللقاء في السماء! إلى اللقاء هناك.
ثم اغرورقت عيناه بالدمع وقال: يا إلهي كيف أموت هذه الميتة الشنيعة؟ وفاضت روحه وهو قابض على الصليب وشفتاه تتحركان باسم أمه العزيزة.
أما الفلاح فأخذ يقلب كفيه ويردد دائما: إنا لله وإنا إليه راجعون، أنت من السابقين ونحن من اللاحقين!
وبعد لحظة رأى غبارا يتعالى، فوقف على رأس الجثة ينظر هذا الغبار، ثم تبينه؛ فإذا هو جنود الاحتلال قادمين بسرعة البرق.
فارتبك المسكين في نفسه، وخاف أن يتهموه بقتله، ففر إلى مغارة أخفته عن العيون، إلا أن أحد الجنود شاهده وهو يلجها فاقتفى أثره، ولما رآه ضربه بقبضة البندقية ضربة هائلة على رأسه، ولم يكتف بذلك بل جرد «السنكة» وطعنه بها طعنات كثيرة، فمات الرجل شهيد مروءته وهو يصيح: مظلوم يا مسلمين والنبي مظلوم. أما باقي الجند فقد كانوا وصلوا إلى مكان الكبتن بول بقيادة الكبتن بوستك وهو بهيئته المتقدمة المضحكة، ولما رأوه ميتا رفعوا قبعاتهم باحترام، وركعوا على ركبهم بخشوع، وصلوا بحرقة صلاة طويلة. ثم ترك بوستك جنديين لحراسة الجثة، وواصل السير حتى جمع الضباط وهم في أسوأ حالة وعاد بهم وبالجثة إلى المعسكر.
الفصل الخامس
في قصر الدوبارة
अज्ञात पृष्ठ
دخل خادم إنجليزي إلى مكتب اللورد كرومر وقال له: مولاي اللورد، إن المستر متشل يريد مقابلتك حالا.
فانقبض فؤاد اللورد من هذه المفاجأة، وقال له: أدخله هنا.
وكان اللورد جالسا يقرأ في كتاب.
وبعد لحظة دخل المستر متشل بهيئة مريعة، ووجهه أصفر بلون الموتى، فارتاع من منظره وسأله: ماذا جد يا سيدي؟ - مصيبة يا مولاي. - تقول مصيبة؟! أخبرني بسرعة. - لقد أهين شرفنا العسكري؛ لأن الأهالي هجمت على ضباط الدراجون فقتلوا الكبتن بول وجرحوا بقية الضباط بجروح بليغة. - وماذا فعلت؟ - جئت أستشيرك يا مولاي.
فقطب اللورد حاجبيه وقال: الويل لهم! أرسل يا مستر المضخات في الحال واملأها غازا إلى هذه البلدة، فأحرقها بأهلها ومواشيها، أو أرسل البطريات المدفعية فدك البلدة دكا! ولكن أين هذه البلدة؟ - في مديرية المنوفية واسمها دنشواي. - من مديرها؟ - محمد باشا شكري. - اذكر لي المسألة بالتفصيل.
فأخذ المستر متشل يسرد له وقائع الواقعة، وبعد أن انتهى منها قرب اللورد كرسيه منه، وأخذا يتحدثان مقدار ساعتين، ولم نعلم ما دار بينهما من الحديث ... ولكن عند الوداع ضغط اللورد على يد المستر «متشل»، وقال له بغيظ: لا تنس أن تضرب الأمة المصرية بهاتين الضربتين: ضربة تعيين الهلباوي في وظيفة المدعي العمومي، وشدة الحكم حتى تقشعر منه الأبدان، وسآمر حالا نظار الحكومة المصرية بتشكيل المحكمة المخصوصة.
وبعد خروج المستر متشل تمتم اللورد: أريد ألا يراق دم إنجليزي بسهولة وبساطة!
الفصل السادس
بين الهلباوي وضميره
لم هذا التردد يا هلباوي وأنت قادر على كل شيء؟! وما هذا الضعف؟! بل ما هذا الجنون؟ أتترك هذه الفرصة تفوتك وتدوس المستقبل إكراما للماضي؟ إن هذا هو البله بعينه! إن أبواب المستقبل الزاهر مفتوحة أمامي، وبخطوة واحدة ألجها، فهل أوصدها بيدي؟ كلا، كلا، فلن يكون ذلك أبدا.
अज्ञात पृष्ठ
نطق هذه الجملة الطويلة إبراهيم بك الهلباوي على أثر وصول كتاب إليه من الحكومة المصرية بتعيينه مدعيا عموميا أمام المحكمة المخصوصة التي تقرر انعقادها لمحاكمة الدنشاويين.
ولكنه أعاد تلاوة الكتاب مرة ثانية فاقشعر بدنه وصرخ: يا لهول موقفي! ماذا أفعل يا إلهي؟ كلا، كلا، فإن للوطن حقوقا مقدسة يجب أن تراعى، وللضمير صوتا لا بد وأن يسمع، وللشرف طريقا لا بد وأن يسلك فيه، فمن الجبن أن أدوس على كل ذلك بقدمي حبا في الفخفخة والظهور! ألأجل وظيفة أطمع في نيلها أجني على نفسي جناية تسود تاريخ حياتي، وتكون إكليل عار وشنار لأولادي؟ كلا ... فأنا بحمد الله، غني، فلم هذه الدناءة والتطوح في وهدة الموت الأدبي؟! أأكون خائنا؟! أأغير مبدئي؟! ألم أكن أنا عدو سياسة الإنجليز الألد؟! ألم أكن أنا صاحب مقالات «إلى أي طريق نحن مسوقون»؟! أأقف في الغد أطلب إراقة دماء أبناء وطني المهضومي الحقوق المظلومين؟! أأطلب سحقهم؟! أأستخدم قوتي وما آتانيه الله من المواهب العقلية لسحق أبناء بلادي؟! إن موقفي يحتم علي وصفهم أمام أعدائهم بأقبح الصفات، فهل أفعل ذلك؟! أأنسى لمجرد أملي في الحصول على وظيفة سامية واجبات وطني؟ كلا، كلا! فماذا كنت يا هلباوي وماذا أنت اليوم؟! ألم أكن فقيرا معدما؟! ألم أكن فلاحا من صميم الأرياف؟! ألم أصل إلى ما أنا فيه من الاحترام واليسار إلا بأبناء وطني؟! أأكافئهم على ذلك بأن أخرج عليهم؟! أأكون سهما داميا في أحشائهم؟! إن ذلك لن يكون أبدا.
وبينما كانت الحرب قائمة بين الهلباوي وضميره بمثل ما قدمنا، إذ دخل عليه خادم وأعطاه كتابا، فتناوله وفض غلافه، فألفاه من عظيم من عظماء الإنجليز، فقرأ ما تعريبه:
صديقي الأستاذ هلباوي بك
أهنئك على الثقة الكبيرة التي نلتها بانتدابك لموقف المدعي العمومي، فكتبت إليك هذه التهنئة ليكون لي شرف أول مهنئ لك، وأتعشم بأن أهنئك ... قريبا بغير ذلك.
الإمضاء (...)
وبعد أن أتم الهلباوي قراءة الجواب وضعه على مكتبته وجلس خلفها ساكنا يفكر في موقفه، وبعد ذلك تبسم وقال: إن من العقل أن يلبس الإنسان لكل موقف لبوسه؛ فلا أدع هذه الفرصة تفوتني لمجرد وهم تجسم حتى خلته حقيقة، فسأقبل هذه الوظيفة بانشراح تام، وماذا علي لو صممت عن سماع كلام الناس وضربت بما سيكتبونه عرض الحائط.
وبهذا التعليل تغلبت المطامع على الضمير. قبل الهلباوي الوظيفة، ثم أخذ يسهر الليل ويشتغل النهار منقبا في القوانين ومشاهدا آثار الحادثة، حتى استنتج ما أراده وفاه به في الجلسة كما سيجيء.
الفصل السابع
بعد المعركة
अज्ञात पृष्ठ
وبعد المعركة تماما قفلت أهالي دنشواي راجعة إلى بلدتهم فجسلوا بجانب جرن هناك منهوكي القوى، وكانت علامات الغيظ بادية على وجوههم السمراء.
وبعد أن جلسوا قليلا، قال محمد يوسف: أعوذ بالله، دا شيء يطلع الإنسان من دينه، ده غلب إيه ده؟!
فأجاب محمد زهران قائلا: دي إيه المصايب دي؟ إحنا كنا فين والإنجليز فين؟!
فقال محمد أحمد السيسي: وعلي الطلاق بالتلاتة ما انا إلا دابح كل الحمام اللي عندي وستين سنة.
فلطم حسين سليم بيديه وقال: إحنا موش في كده، قطع الحمام وأصحابه، إحنا دي الوقت في مسألة ضرب الإنجليز.
فقال السيد عيسى سالم: تفتكر إنه ما فيش عدل في البلد ...؟ ده كلام إيه ده، هي البلد سايبة من غير حاكم؟! - عدل مين يا عم؟ هو فيه عدل في البلد؟ كل شيء ماشي اليوم بالعافية والدراع، وبكرة تشوف رايحين يعملوا إيه فينا.
فقال السيد العوفي: يعملوا إيه بس يا مسلمين يا خلق هوه، بقه ييجوا يهجموا على حمامنا اللي بنتعيش منه، ويصطادوه، ويقتلوا نسوانا، ويحرقوا زرعنا، وبرضه نسكت لهم؟ يا هوه، اتكلم، ما تتكلم يا أحمد يا عبد العال. - أتكلم إيه وأقول إيه ومين يقرأ ومين يسمع؟
فقال محمد يوسف: بلاش لخمة يا جماعة ومتطببوش قلبنا بالكدب وقولوا نعمل إيه؟
قال محمد الغباشي: ما فيش حاجة، يالله نهرب ونسيب البلد مدعوءة على اللي فيها. - وفاكر إنهم ما يظبطناشي وتبقى داهيتنا كبيرة؟ - لأ، يالله نهرب في مديرية الجيزة، وفين على ما يحصلونا ويضورم علينا. - يا شيخ ما تقولشي الكلام ده. - أمال نعمل إيه؟ - أحسن شيء إننا نجتهد في أن نقول لهم الحقيقة، ونقول: إننا كنا بندافع عن حمامنا، والدفاع عن الحق واجب. - ما حدش يسمع لنا كلام. - أمال نعمل إيه؟ - نرمي تكالنا على الله وهو اللي يدبرها. - يا شيخ تكالنا مين؟
فقال حسن محفوظ: إذا كنتم خايفين كده، بتعملوا العملة دي ليه؟ - أهو يا محفوظ المقدر كده. - ما كنش عندكم عقل ساعتها؟!
अज्ञात पृष्ठ
فأجابه عبد النبي سليم قائلا: أنهي عقل بس اللي عاوزه؟ حد يكون في غيظه ويكون عنده عقل؟ إيه الكلام ده؟
فقال محمد يوسف: يا جماعة قولوا لي بس كنا يا ترى نسيبوهم يعملوا زي ما هم عاوزين والا إيه؟ ما ندافعوشي عن حاجتنا؟
فرفع محمد زهران لبدته من على رأسه، ونظر إلى السماء بعينين ملء جفونهما الدمع وصرخ: الله يخرب بيتك يا محمد يا شادلي، وييتم أولادك، ولا توعى تقوم من مطرحك، لإنك السبب في ده كله.
ثم خبأ وجهه في كفيه، وأخذ يبكي كالأطفال.
وفي هذه اللحظة أدرك الفلاحون خطورة موقفهم.
فقال محمد عبد النبي: آه ... يا خراب بيتي! مراتي بتطالع في الروح يا جماعة اعذروني ... يا ناس اعذروني.
فخرج من صدر كل من كان حاضرا تنهد عميق وسكتوا كأن على رءوسهم الطير.
فقال - بعد هنيهة - حسن محفوظ: يا جماعة دبرونا رايحين نعمل إيه؟ - نعمل إيه يا عم محفوظ؟ عملنا أسود على راسنا، بكرة يودونا في داهية.
فاقشعر بدن الجميع لهذه الجملة.
وكان بين المجتمعين شيخ في حدود التسعين من عمره مقعد، فقال لهم: اسمعوا يا ولادي كلامي واقبلوا نصايحي.
अज्ञात पृष्ठ
فصرخ الجميع: اتكلم يا عم الحاج عمران.
فاعتدل الشيخ وتربع جيدا ثم قال: اللي فات مات، وأنتم معذورين قدام الدنيا كلها، ولكن لو خدوا رأيي لكنت أول شيء أحكم على محمد الشادلي بالحرق؛ لأنه هو السبب، على شان لو كان قال للمديرية من السنة اللي فاتت عن شكوتكم ما كنش حصل اللي حصل النهاردة، ولكن كل شيء مقدر واللي مكتوب على الجبين تراه العيون، فأحسن حاجة تنقوا عشر تنفار منكم يسافروا بكرة في المديرية، ويقولوا على المسألة من طأطأ لسلامو عليكم.
وما كاد الشيخ ينتهي من كلامه؛ حتى قدم رجل وقال لهم: يا ويلنا ... يا ويلنا ... إنتم ما سمعتوش الخبر؟
فارتجفت أعضاء المجلس وتطاولت أعناقهم وقالوا كلهم: لأ، خير خير، قول قول! - واحد من الإنجليز اللي ضربناهم مات.
ولما سمعوا كلامه نزلت أعناقهم على صدورهم وسكتوا. فقال عم الحاج عمران: لا حول ولا قوة إلا بالله! لا حول ولا قوة إلا بالله! كل شيء بإرادته، كل شيء بحكمه.
فصرخ محمد زهران وقال: اتكلم يا حاج عمران، نعمل إيه، قول لنا العمل إيه؟ - المسألة أكبر من الأول، والمصيبة رايحة تنزل على دماغنا كلنا.
وكان لعم الحاج عمران منزلة كبيرة عند أهل بلده؛ فهم يحترمونه ويعتمدون على أفكاره وآرائه، فلما قال جملته الأخيرة اسودت الدنيا في أعينهم، فبكت الرجال، وولولت النساء، وحكموا على أنفسهم بأنهم كانوا غلطانين، وتندموا على ذلك كثيرا، وأعقب هذا الانفعال النفساني سكوت كبير.
وبعد هنيهة تحرك الحاج عمران من مجلسه قليلا ثم تنهد وقال لهم: مافتكرتوشي يا ولادي في النتيجة؟ ليه تعملوا كده ليه؟
فقال محمد المؤذن: نعمل إيه يا عم عمران إزاي؟ بقى لهم خمس سنين بييجو يقتلوا الحمام ويحملوه في زكايب وبعدين نعيش منين؟ أنه عدل يقول كده؟ هم حكام مصر ما فيش في عينهم نظر؟ بكرة لما يسمعوا حكايتنا يرأفوا بحالنا ويبرءوا ساحتنا.
فضحك عم الحاج عمران وقال: اللي بتقوله ده في المنام يا محمد، فين العدل اللي في مصر! إذا كان فيه عدل - زي ما بتقول - كان تهجم على بلدك الإنجليز ويصطادوا حمامكم، ويموتوا نسوانكم، ويحرقوا جرنكم، كان العدل زمان يا ابني زمان. - وتفتكر إيه اللي يعملوه فينا؟ - يعملوا كل شيء يقدروا عليه. - مين هم؟ - الإنجليز. - طيب وحكامنا رايحين يسيبوهم يعملوا فينا اللي عاوزينه؟
अज्ञात पृष्ठ