وقد اتفقت كلمة الصحابة على حرب فارس والروم، وسيف الله بوادي الوبر في اليمامة لم يطل استقراره في غمده بعد وقعة عقرباء.
وهناك حلقات من الحوادث تسوغ لنا أن نعتبر حرب فارس الثانية امتدادا للوقعة الأولى بذي قار، أو استئنافا لتلك الوقعة بعد فترة لا تحسب طويلة في تواريخ النزاع بين الأمم، وهي نيف وعشرون سنة، فالقبائل التي ارتدت بالبحرين وقبائل تغلب التي انحدرت مع سجاح من الجزيرة كانت كلها من أتباع الدولة الفارسية على صورة من صور التبعية في ذلك الزمان، وكانت تعيش كلها في ظل تلك الدولة من أيام المناذرة إلى زوال ملكهم بعد وقعة ذي قار.
والبطلان اللذان تعودا ضرب الفرس والإغارة على دهاقينهم في تلك الأصقاع كانا من بني بكر الذين نهضوا بالعبء الأكبر في وقعة ذي قار، وما برح العداء بينهم وبين الفرس والقبائل التي تواليهم على أشد ما يكون: وهما المثنى بن حارثة الشيباني وسويد ابن قطبة العجلي، وكلاهما على ذكر من هزيمة الفرس وعلى خبرة بقتالهم في أطراف العراق، وقد صحب المثنى النهر في غاراته حتى بلغ القطيف وهجر ولم يقف له أحد في طريقه، فهذا مع عجز الفرس عن تأديب رعاياهم في اليمن لدخولهم في الإسلام قضيا على تردد الخليفة في أمر البعثة الفارسية، فصحت عزيمته وعزيمة أصحابه على تجريدها بعد الفراغ من حروب الردة بأسابيع معدودات. •••
وقد علمنا من دأب الخليفة الصديق أنه كان لا يبرم أمرا إلا أحكم تدبيره مرحلة مرحلة من طريقه إلى منتهاه ...
وهكذا كان شأنه في البعثة الفارسية: فإنه ندب لها قائدين هما خالد بن الوليد، وعياض بن غنم، وأمر خالدا أن يتجه إلى الأبلة ثغر الهند كما سماها، وأمر عياضا أن يتجه إلى المصيخ بشمال العراق، فأيهما بلغ الحيرة قبل الآخر كان هو قائد الجيشين معا ووجبت طاعته على زميله، وقال لهما: «إذا اجتمعتما بالحيرة وقد فضضتما مسالح فارس أمنتما أن يؤتى المسلمون من خلفهم فليكن أحدكما ردءا للمسلمين ولصاحبه وليقتحم الآخر على عدو الله وعدوكم من أهل فارس دارهم.»
خطة محكمة يبلغ بها الخليفة مقاصد شتى في وقت واحد ... ففيها ذكاء المنافسة بين القائدين، وفيها تشتيت جهود الفرس في الدفاع عن بلادهم، وفيها تدبير النجاة سلفا لمن يحتاج إليها من الجيشين، وفيها تيسير أمر الماء والكلأ في الطريق للجيشين معا؛ لأن أمواه الطريق ومراعيه تضيق بالجيشين المجتمعين إذا سارا في طريق واحد.
وكان الصديق وإخوانه يعلمون أن المسألة في هذه الحرب مسألة يقين وعزيمة وليست مسألة كثرة وهيئة ...
فحرص لهذا على أن يجنب الجيوش الإسلامية مخاوف المرتدين ونكساتهم، وأوصى القائدين بألا يقبلا أحدا منهم، وألا يكرها أحدا من غير المرتدين على المسير في جيشهما ما لم يقبل على الحرب برضا منه ورغبة، ولما نظر خالد إلى من حوله يرفض كثيرهم ويبقى قليلهم كتب إلى الخليفة يستمده، فأمده بفارس واحد هو القعقاع بن عمرو التميمي ... فعجب أصحابه وقالوا له: أتمده برجل واحد؟ قال: نعم؟ لا يهزم جيش فيهم مثل هذا؟
ولم تمض أيام حتى ظهر للمسلمين أنه مدد كاف وأي كفاية، فإن ثقة الناس بجيش يكون القعقاع فيه ويتولى قيادته خالد بن الوليد قد جاءت بالمتطوعين للقتال من كل صوب وحدب. فبلغ جيش خالد يوم شارف ميدان القتال قرابة عشرة آلاف عدا جيش المثنى بن حارثة وهو يبلغ ثمانية آلاف، ولم يتقدم المسلمون خطوة في ميدان القتال حتى كانت للقعقاع وقفة لعلها أنقذت الجيش كله وأنقذت البعثة كلها من بدايتها، ولم يكن أحد ليعلم ماذا تكون العاقبة لولا تلك الوقفة التي تعلق بها الكثير من مصير جيش الفرس ومصير جيش المسلمين.
ففي الوقعة الأولى، دعا القائد الفارسي - هرمز - خالدا للمبارزة قبل التحام الجيشين، وأضمر نية الغدر به حين يخرج منفردا بين الصفين، فوكل به شرذمة من فرسانه ينقضون عليه وهو مشغول بمبارزته فيراع الجيش العربي بمقتل قائده كما سبق إلى وهمه، ويطبق الجيش الفارسي بعدده الكبير على الجيش العربي بعدده القليل، فتكون الغلبة لأكبر الجيشين وأكمل العدتين.
अज्ञात पृष्ठ