وذلك أن النبي - عليه السلام - أقام الرماة من وراء جيشه وقال لهم: «قوموا على مصافكم هذه فاحموا ظهورنا، فإن رأيتمونا قد انتصرنا فلا تشركونا، وإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا.» فلما ولى المشركون منهزمين وتبعهم المسلمون مغتنمين، خالفت كثرة الرماة وصاية النبي وتصايحوا بينهم: «ما مقامنا هاهنا وقد انهزم المشركون»، فكانت هي الغرة التي اهتبلها خالد، ولم تذهله عنها الهزيمة المطبقة بقومه، فكر بالخيل وتبعه عكرمة بن أبي جهل صاحب الميسرة وداروا من وراء جيش المسلمين، فحملوا على من بقي من الرماة، فقتلوهم وقتلوا أميرهم عبد الله بن جبير، وانتقضت صفوف المسلمين، واستدارت رحاهم، واختلطوا، فصاروا يقتتلون على غير شعار ويضرب بعضهم بعضا من العجلة والدهش، وشاع أن النبي - عليه السلام - قتل في المعركة، وقتل فيها حمزة وسبعون من الأنصار، وأرجف المرجفون بكبار الصحابة حتى ظن أبو سفيان أن أبا بكر وعمر من القتلى، وصاح بين الصفوف: «يوم بيوم بدر والحرب سجال.» •••
واشترك خالد في وقعة أخرى هي وقعة الأحزاب، أو الخندق، فكانت هي أيضا من أهول الغزوات على المسلمين وأوشكت أن تحيق بهم دوائرها ، لولا يقظة علي ابن أبي طالب ووقيعة بعض الدهاة بين أحزاب قريش وهبوب الريح التي عصفت ببيوتهم وقدورهم وزادتهم يأسا من اقتحام الخندق الذي حفره المسلمون حول المدينة، وفي هذه الغزوة يقول القرآن الكريم:
يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا * إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا * هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا (الأحزاب: 9-11).
وقد كان خالد في هذه الغزوة يطوف بخيله حول الخندق يلتمس مضيقا يقحم منه الخيل، فأعياه، وفشل عمرو بن ود حين حاول العبور من إحدى نواحيه. فلما حبطت حملة عمرو وقتله علي بن أبي طالب. بات المشركون ليلتهم يقسمون كتائبهم لكل فريق من المسلمين كتيبة تدهمه مع الصباح، فكان خالد هو الموكل بالنبي - عليه السلام - في كتيبة غليظة من خيل قريش والأحزاب، فاندفع يقاتل سحابة النهار وهويا من الليل، إلى أن تحاجز الفريقان ورجع المشركون وانصرف المسلمون إلى قبة النبي، فارتد خالد بعد هنيهة يطلب الغرة، وكاد أن يظفر بها لولا حرس من المسلمين بقيادة أسيد بن حضير تنبه له وفوت عليه غرضه. ثم انقطع القتال وهو لا يزال على الطلب والطواف، وكان آخر من ترك الحومة بعد يأس الأحزاب من عبور الخندق ودخول المدينة، فلبث هو وعمرو بن العاص على ساقة الجيش في مائتي فارس ردءا للجيش كله، مخافة أن يتعقبه المسلمون. •••
وتصدى خالد مرة أخرى للنبي - عليه السلام - في سنة الحديبية وهو في طريقه إلى مكة، وكان النبي قد خرج إليها معتمرا في نحو ألف وخمسمائة من المسلمين لا يحملون سلاحا غير السيوف في القرب، فأوجس المشركون خيفة أن يكون قدومه إلى البيت الحرام للقتال لا للعمرة، وندبوا خالدا في مائتي فارس للقائه قبل بلوغ مكة. فدنا خالد حتى نظر إلى أصحاب رسول الله، وأمر رسول الله عباد ابن بشر فتقدم في خيله وأقام بإزائه وصف من ورائهم رجاله ، ثم حانت صلاة الظهر فصلى رسول الله بأصحابه صلاة الخوف، وهم خالد أن يغير عليه لولا نخوة من الفروسية أبت له العدوان على المسالم وقمعت فيه طمع الرئيس المغيظ على مكانته وعروض دنياه، فعلت هنا كفة الفارس النبيل على كفة الرئيس الموتور، وقال خالد يصف ذلك بعد إسلامه: «هممنا أن نغير عليه ثم لم يعزم لنا، وكان فيه خيرة، فاطلع على ما في أنفسنا من الهجوم به فصلى بأصحابه العصر صلاة الخوف، فوقع ذلك مني موقعا، وقلت الرجل ممنوع.»
إلا أنه مع هذا بقي على لدده في خصومة الإسلام ومعاندة نفسه دون الإصغاء له والنظر إليه. فلما صالح النبي قريشا ودخل مكة في عمرة القضية كره خالد أن يشهد دخوله، وتغيب من جوار البيت ريثما يعتمر المسلمون ويرجعون من حيث أتوا، وهو معفي النظر من رؤية شيء لا يستحبه ولا يخلي بينه وبين حربه.
كذلك كانت كراهة خالد للإسلام بعد كراهة أبيه.
ومن وثباته هذه، ولجاجه ذاك، يغلب على الظن أن كراهته كانت من نوع تلك الكراهة التي هي أقرب إلى المبارزة والمناجزة منها إلى المقت والضغينة؛ لأنها لا تعني صاحبها بالبعد من موضوعها كما تعنيه بالاشتغال به والعكوف عليه، كأنه زميل المبارزة اللازم لإتمام الصراع وإذكاء حرارته وامتحان قدرة النفس عليه.
وهذه الحرارة حركة جياشة في النفس وليست كذلك الموات الذي تنقبض عليه النفس في الشيخوخة الفانية، وكذلك الضغن الذي يتغذى بقبحه المخزون في طبيعة منغولة معدومة الخير والنجدة.
مثل هذه الحركة الجياشة في النفس الحية الفتية كالسيل المتدفع الآتي في واديه المحيط بجانبيه، يظل متدفعا آتيا ما بقي في الوادي وما انهمر عليه الغيث من ضفتيه، ولكنه إلى أمد لا محالة؛ لأنه سينتهي إلى مفترق الوادي فلا يجيش ولا يتدفع، وسيقصر عنه الغيث فلا يربو ولا يترع، وسيكون طريقه مع الوادي المفترق غير طريقه مع الوادي المحصور.
अज्ञात पृष्ठ