28
ولا عليه بعد ذلك أنه لم يفكر على نمط الفلاسفة، وأقطاب العلم، وأساطين المنطق والرياضة، فإن الدنيا لم تخرج لنا عمر ليزيدنا أفلاطون آخر أو إقليدس ثانيا أو «فاراداي» سابقا في الزمن القديم، بل أخرجته للناس ليكون مؤسس عهد ومحول تاريخ. فإذا تأدى به عقله إلى تلك الغاية، فهو العقل الصائب، يفكر على النحو الذي خلق له ويبلغ القصد الذي رمى إليه. وعلينا نحن أن نعرف كيف كان تفكيره وأن نسلكه بين قرنائه وأنداده.
إنما طرأت شبهة العقل المحدود على المستشرقين الذين ظنوا به هذا الظن من ناحية واحدة، وهي ناحية العدل الذي لا يلتفت ذات اليمين وذات الشمال، والقضاء الذي يكيل الجزاء دقة بدقة، ولا يبالي بالنقائض والمفارقات.
ونظروا إلى جملة آرائه في المسائل الجلى فإذا هي من الآراء التي يغلب عليها القطع والجزم والانطلاق إلى غرض ماثل، لا تنحرف عنه قيد شعرة، كأنه قد جهل ما في الدنيا من نقائض وخفايا ومن عوج وتعريج، أو كأنه السهم الثاقب ينفذ فيما أمامه إلى هدفه المحدود، ولا يلتفت إلى شيء في نفاذه، أو يعوقه عائق دونه.
فخطر لهم أن فطنته إنما كانت فطنة فراسة فطرية، كالغريزة التي تهتدي على استقامة واحدة، ولكنها لا تنحرف ولا تتصرف ولا تخالف ما جبلت عليه، وأنها فطنة العقل المحدود والبصر الموكل بجانب واحد ينفذ فيه، ولا يحيط به أو يتشعب في نواحيه. والفكر المحدود هنا هو فكر أولئك المستشرقين، لا فكر عمر بن الخطاب.
فالرجل الذي يستقيم على وجه واحد، لا يحيد عنه، هو واحد من رجلين: فإما رجل يستقيم على هذا الوجه؛ لأنه لا يرى غيره، ولا يحيط بما حوله.
وإما رجل يستقيم على هذا الوجه؛ لأنه قادر على اختراق العقبات، عالم أنها تنثني إليه حيث كان دون أن ينثني إليها حيث كانت.
واستقامة عمر بن الخطاب على وجهه من هذا القبيل، وليست من ذلك القبيل؛ هي استقامة قدرة، وليست باستقامة عجز، وهي استقامة تصرف سريع، وليست باستقامة محجور مقيد، يأبى أن يدور؛ لأنه قد أعياه أن يدور.
هي استقامة حياة غلابة، وليست باستقامة أداة كالموازين تسوي بين التبر والتراب؛ لأنها لا تميز بين التبر والتراب.
فالرجل الذي يجتنب التصرف في العدل عجزا عن الفهم والتزاما للحرف المكتوب، ونزولا إلى مرتبة الموازين التي لا تعي ولا تغضب ولا تغار، إنما هو آلة فقيرة في مادة الحياة.
अज्ञात पृष्ठ