وما لم يكن عزل العمال لسبب من أسباب السياسة العليا التي من هذا القبيل، فلا جزاء إلا بقسطاس دقيق محيط، ولا سيما في الشئون المالية؛ لأنه يعتمد في محاسبتهم على وسائل متفرقة يستدرك بعضها نقص بعض، فلا تكاد تخفى عليه خافية مما يريد الوقوف عليه.
فمن هذه الوسائل أنه كان يحصي أموالهم قبل الولاية ليحاسبهم بها على ما زادوه بعد الولاية مما يدخل في عداد الزيادة المعقولة، ومن تعلل منهم بالتجارة لم يقبل منه دعواه؛ لأنه كان يقول لهم: إنما بعثناكم ولاة ولم نبعثكم تجارا.
ومنها أنه كان يرصد لهم الرقباء والعيون من حولهم ليبلغوه ما ظهر وما خفي من أمرهم، حتى كان الوالي من كبار الولاة وصغارهم يخشى من أقرب الناس إليه أن يرفع نبأه إلى الخليفة.
ومنها أنه كان يندب لهم وكيلا خاصا يجمع شكايات الشاكين منهم، ويتولى التحقيق والمراجعة فيها، ليستوفي البحث فيما ينقله الرقباء والعيون.
ومنها أنه كان يأمر الولاة والعمال أن يدخلوا بلادهم نهارا إذا قفلوا
37
إليها من ولاياتهم ليظهر معهم ما حملوه في عودتهم، ويتصل نبؤه بالحراس والأرصاد الذين يقيمهم على ملاقي الطريق.
ومنها أنه كان يستقدمهم في كل موسم من مواسم الحج ليحاسبهم ويسمع ما يقولون وما يقال فيهم، وعليهم شهود ممن يشاء أن يحضر الموسم من أهل البلاد، ونوى في أواخر أيامه أن يستكمل الرقابة بالسير في البلاد «فيقيم شهرين شهرين في الشام ومصر والبحرين والكوفة والبصرة وغيرها»، فإنه ليعلم «أن للناس حوائج تقطع عنه، أما هم فلا يصلون إليه، وأما عمالهم فلا يرفعونها إليه.»
وكان لا يكتفي بوسائله تلك إذا استراب، فيعمد إلى الحيلة للكشف عن الخبايا التي تريبه، ومن ذلك أنه سمع بعودة أبي سفيان من عند ولده معاوية والي الشام، فوقع في نفسه أن ولده قد زوده في عودته بمال، وجاءه أبو سفيان مسلما، فقال له: أجزنا
38
अज्ञात पृष्ठ