सुधार और शिक्षा की प्रतिभा: इमाम मुहम्मद अब्दुह
عبقري الإصلاح والتعليم: الإمام محمد عبده
शैलियों
تمهيد
1 - العصر
2 - القرية
3 - الأزهر
4 - محلة نصر
5 - محمد بن عبده بن حسن خير الله
6 - محور حياة
7 - مع جمال الدين
8 - مع الثورة العرابية
9 - القضية القومية
अज्ञात पृष्ठ
10 - في الأزهر
11 - مع عباس الثاني
12 - المحسن المعلم
13 - المصلح الفيلسوف
14 - شخصية ولا شخصية
15 - سنوات في تاريخ الأستاذ الإمام
تمهيد
1 - العصر
2 - القرية
3 - الأزهر
अज्ञात पृष्ठ
4 - محلة نصر
5 - محمد بن عبده بن حسن خير الله
6 - محور حياة
7 - مع جمال الدين
8 - مع الثورة العرابية
9 - القضية القومية
10 - في الأزهر
11 - مع عباس الثاني
12 - المحسن المعلم
13 - المصلح الفيلسوف
अज्ञात पृष्ठ
14 - شخصية ولا شخصية
15 - سنوات في تاريخ الأستاذ الإمام
عبقري الإصلاح والتعليم
عبقري الإصلاح والتعليم
الإمام محمد عبده
تأليف
عباس محمود العقاد
تمهيد
نبدأ هذا الكتاب بفصل عن عصر اليقظة، يليه فصل عن حياة القرية المصرية في ذلك العصر، يليه فصل عن الجامع الأزهر فيما اتصلت به حياة القرية من رسالته الفكرية والاجتماعية؛ لأننا نفضي من كل تاريخ من هذه التواريخ الثلاثة إلى تاريخ صاحب السيرة، أعظم من أنجبته القرية ونهض برسالة الأزهر في عصره، عبقري الإصلاح والهداية محمد عبده، قدس الله روحه وأعاننا على التعريف بفضله والتعريف بواجبنا من بعده.
تمهيد نفتتح به هذه السيرة العطرة، لنبسطها على ما نتحراه في سير العظماء جميعا، صورة نفسية تعنينا منها حوادث الزمن ومواقع الأمكنة وأرقام السنين بمقدار ما تمثله لنا من ملامح الصورة ومعالم الحياة التي تصورها، وكل ما في هذه الصفحات من أحاديث التاريخ والرواية عن محمد عبده في نشأته وأسرته وصحبته وعوارض أوقاته من مولده إلى وفاته، فالذي نتحراه منه أن يكون عضوا من أعضاء قوة حية، قبل أن نتحراه جزءا من فترات التاريخ وجزءا من الخريطة الجغرافية، ويملى لنا في مقصدنا أن صاحب هذه السيرة - خاصة - ينبوع قوة روحانية تطوي عوارض الزمن وصغائر الدنيا فيما تفيض به من حياة إنسانية، يخلص لنا منها بعد تمحيص الجوهر عن نفايات الأوشاب والأخلاط، أشرف ما تتحلى به نفس الإنسان، في العالم الخالد الذي يذهب بالزبد ويبقى ما ينفع الناس.
अज्ञात पृष्ठ
وسنبلغ مقصدنا من هذه الصفحات إذا جلونا بها صورة يلتفت إليها طلاب القدوة الحسنة من أبناء هذا الجيل، فيجدون أمام أعينهم - محمد عبده - إماما هو أولى أئمة العصر أن يأتم به المقتدي فيما اضطلع به من أمانة العقيدة، وأمانة الفكر، وأمانة الخير، وأمانة الحق، وأمانة الإخلاص للخلق والخالق، في كل ما يتولاه الإنسان - الجدير باسم الإنسان - من نية وعمل، ومن سر وعلانية.
عباس محمود العقاد
الفصل الأول
العصر
قيل: إن أحلك ساعات الظلام هي ساعة الهزيع الأخير من الليل قبل مطلع الفجر الصادق بلحظات.
ويصدق ذلك على أوقات الظلام في عصور التاريخ، فإن أظلم أوقاته لهو الوقت الذي يسبق فجر اليقظة بقليل من السنوات، ثم تأتي اليقظة في حينها؛ فإذا هي بصيص النور الأول قبل تباشير الصباح.
وعلى هذه الوتيرة كان القرن الثامن عشر في الشرق العربي أحلك ساعات ليله الطويل؛ ليل الجهالة والجمود، ولم تكن بين العصور نسبة متصاعدة في ترتيب الزمن كتصاعد الأرقام في حساب القرون، فلم يكن القرن الثامن عشر - مثلا - أعرق في النكسة و«الرجعية» من القرون التي تليه إلى أواخر القرن السابع عشر الذي بدأت به نهضة العالم العربي في العصر الحديث، بل كان القرن الثامن عشر أسوأ - ولا ريب - من أسوأ القرون التي تقدمته في أيام الجهالة والجمود؛ لأنه القرن الذي انبعثت فيه المسألة الشرقية من بقايا الحروب الصليبية، فكان نذير الخطر الأكبر؛ إذ كان الخطر قد تفاقهم وتراكم، وتجمع وتوسع، حتى لا مزيد.
وكانت المسألة الشرقية قد تمخضت عن دور آخر وراء دور الحروب الصليبية؛ وهو دور التفاهم بين دول الاستعمار على تركة الرجل المريض، فبعد أن كان الغرض من المسألة الشرقية انتزاع الأقطار المسيحية من أملاك الدولة العثمانية، أصبح هذا الغرض - كما قلنا في كتاب ضرب الإسكندرية - «هو تقسيم أقطارها جميعا من مسيحية وإسلامية، وتنازل الأعضاء عن كل نصيب متفق عليه يقع في قبضة الطامعين فيه من المتنازعين على التركة وصاحبها بقيد الحياة».
غير أن المسألة الشرقية صنعت من المعجزات في إيقاظ الشرق ما لم تصنعه الحروب الصليبية.
لأن الشرق العربي انتصر على الغرب في تلك الحروب ورد عادية الدول الأوروبية عن ذماره، فقنع بما انتهى إليه وبقي على حاله التي هو فيها، وهبط من بعدها دركة تحت دركة، حتى أصبحت أممه بين موروث بقيد الحياة، وبين ميراث كأسلاب الغنيمة مقسم فيمن يقدرون على السلب والاقتسام.
अज्ञात पृष्ठ
لكن المسألة الشرقية جاءت في أوانها هذا فصنعت من المعجزات ما لم تصنعه تلك الحروب، وكان سر هذه المعجزة أنها فتحت أعين الشرق على مواطن عجزه ونقصه، وعلمته قهرا ما كان يأبى أن يتعلمه باختياره، فأدرك حاجته إلى التغيير العاجل، وأدرك ما هو ألزم له من ذلك، وهو حاجته إلى علم يجهله، واعتقاده أن أمم الغرب قد انتصرت بذلك العلم عليه، وأنه لا غنى له عن ذلك العلم ليستعيد القوة التي انتصر بها على أعدائه، قبل أن ينتصروا عليه ويأخذوا عليه كل طريق غير الفناء أو التغيير، ومن لم يطلب التغيير بعلم يتعلمه من المنتصرين عليه، فقد آمن بأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وآمن بأن قومه غيروا دينهم فتخاذلوا وانخذلوا، فلا نجاة لهم بغير الرجوع إلى الدين الصحيح، مبرأ من لوثة البدعة والخرافة، سليما من شبهة الدجل والغفلة.
فإذا كانت قارة الاستعمار قد حصرت خطتها حيال الشرق في سياسة واحدة تريدها وتتعمدها، فهناك كما قلنا في كتابنا عن الكواكبي «سياسة أخرى لم تردها ولم تتعمدها تلقاها الشرق منها فهب لمقاومتها، وتيقظ لمطامعها، ونزل معها في ميدانها الذي استفزته له باختيارها وبغير اختيارها ... ونقصر القول على الشرق العربي كما كان في أواسط القرن التاسع عشر ... ففي تلك الفترة كانت مصر قد ظفرت بحصة كبيرة من الحكومة الذاتية، وكان لبنان قد خرج بعد الفتن والأزمات بنصيبه المقرر من الامتيازات الداخلية، وكادت جزيرة العرب أن تنعزل بالعودة الوهابية وتوشك أن تمتد منها إلى العراق، وكان العراق في صراعه مع حكم المماليك يتقدم في خطى سراع إلى الخلاص من ذلك الحكم المضطرب بين الكساد والوباء ... ولعلنا ندرك حقيقة الحال ونعلم أن وعود الإصلاح كانت ضرورة لازمة ولم تكن إنعاما ولا إحسانا من ولاة الأمور، إذا نظرنا إلى بقاع العالم العربي فلم نجد فيه بقعة راضية بما هي فيه، ولم ينهض أهلها للمطالبة بنوع من الإصلاح على نحو من الأنحاء، فتحرك السودان وتحركت الصحراء وتحركت قبائل المغرب في ثورتها، بل في ثوراتها التي تكررت ولا تزال إلى اليوم، وصدق على العالم العربي بين أطرافه المترامية قول القائلين في الغرب: «إنه مارد خرج من القمقم ولن يعود إليه.» وكان في الحق ماردا هائلا يتململ في الأسر ليخرج من قمقمه المظلم المحصور، ولكنه لم يكن ماردا معصوب العينين كما صوره أولئك الراصدون للقمقم، أو كما أرادوا أن يتصوروه؛ إذ كان للمارد زمامه في أيدي الهداة من القادة الملهمين ومن رواد الثقافة الأولين، وكان لهذه الهداية بين المسلمين وغير المسلمين طابع الشرق الخالد منذ الأزل، طابع العقيدة والإيمان. وربما قال الجامدون قبل المجددين: «إن الأوروبيين عملوا بأدب الإسلام، فأعدوا العدة ونظروا إلى حكمة الله في خلقه، فتقدموا وتأخر المسلمون.» •••
ونحن الآن نغتبط بالمصير الذي انتهت إليه المسألة الشرقية بعد منتصف القرن العشرين، ولكن واجب العظة الصادقة يتقاضانا أن نذكر في كل حين أن الشرق لم يكن سريع الخطى في انتقاله من دور الجمود إلى الخلاص؛ لأنه قضى نحو قرن كامل يجاذب بعضه بعضا عن الطريق القويم بين من يحسبون أن الخلاص كله في اتباع الجديد على علاته، ومن يحسبون أن هذا الخلاص مطلب بعيد المنال علينا، إذا نحن لم ننبذ الجديد بقضه وقضيضه، وكأنما خرج المارد من القمقم إلى فضاء الأرض والسماء، ولكنه خرج إليه مكبلا بالأغلال والأعباء التي تثقل الرءوس قبل أن تثقل الأقدام، ولبثت كل أمة من أمم الشرق الأدنى تنتظر القارعة التي تخصها بالعظة بين جاراتها وأخواتها التي تشبهها في المصاب وتشبهها في المصير، فلم تتعظ أمة من هذه الأمم بمصاب غيرها على النحو الرشيد الذي يعفيها من تكرار الجهود وابتداء المسير من جديد، وكأنما أثقال الماضي أكبر وأخطر من دواعي اليقظة والحركة في الحاضر والمستقبل، فبقيت هذه الأمم المتيقظة تجرجر وراءها تلك الأثقال شوطا بعيدا بعد استقامتها على منهج الإصلاح المحتوم.
وفي مصر كانت حملة نابليون هي الصدمة الكبرى التي خصتها بدروسها العاجلة، وكانت دروسا محتومة لا تمهل المتعلم أن يتردد بين الجمود والحركة.
وربما كانت الغلبة العسكرية أضعف تلك الدروس أثرا؛ لأن هزيمة المماليك لم تقع من الأمة موقع الدهشة، ولم يصعب على الذين كلفوا أنفسهم تدبر عواقبها وأسبابها أن يردوها إلى غضب الله، وأن يعتبروا بعبرتها عقابا للقوم على الظلم والطمع وسوء السيرة، وغلبة الترف والنعومة في الكثيرين منهم على صفات البأس والنخوة، كما قال شاعر الجبرتي:
إنما هذه البلاد لأقوا
م حموها بالصارم المسلول
وأرى دولة المماليك مالت
لشروب اللذات (كل مميل)
واغتنوا عن تجريد سيف ورمح
अज्ञात पृष्ठ
بقوام لدن وطرف كحيل
ولكنهم علموا أن ظلم المماليك قد يسوق إليهم من يغلبهم ويقهرهم، ولكنه لا يضع في يد الغالب القاهر سلاحه الذي يصول به على عدوه فيقهره ويستذله، وإن لم يكن أحمد منه سيرة وأقل منه فسادا، كما شهدوا بعد ذلك من سيرة «الفرنساوية» في هذه الديار، ثم نظروا فعلموا أن نابليون لم يزحف على المماليك بجيش واحد بل بجيشين؛ جيش يحمل السلاح، وجيش آخر من جماعة العلوم والفنون يحمل الكتب والأوراق، وهو الجيش الذي حشده «الفرنساوية» في المدينة. «وأفردوا للمدبرين منهم، والفلكيين، وأهل المعرفة والعلوم الرياضية كالهندسة والهيئة والنقوشات والرسومات، والمصورين، والكتبة والحساب والمنشئين حارة الناصرية، حيث الدرب الجديد وما به من البيوت، وفيه جملة كبيرة من كتبهم وعليها خزان ومباشرون يحفظونها ويحضرونها للطلبة ومن يريد المراجعة، وكان في تلك المكتبة زيادة عن الكتب العلمية والتاريخية أطالس فيها صور من سلف، وصور الأماكن التاريخية، وخرط البلاد والمدن، والحيوانات والطيور والنباتات، وتواريخ القدماء وسير الأمم وقصص الأنبياء بتصاويرهم وآياتهم ومعجزاتهم وحوادث أممهم، وعند توت الفلكي وتلامذته في مكانه المختص بعلم الآلات الفلكية، وأفردوا لجماعة منهم بيت إبراهيم كتخدا السفاري وهم المصورون لكل شيء، ومنهم أريجو الذي أبدع تصوير المشايخ المعينين بالمجلس، وفريق منهم يحنطون الحيوانات والأسماك، وأفردوا أماكن للمهندسين، وسكن الحكيم «رويا» ببيت ذي الفقار كتخدا، ونظم دار الأدوية به ومعه عدة من الأطباء والجراحين، وأفردوا مكانا في بيت حسن كاشف شركس لعمل التحليلات الكيميائية والظواهر الطبيعية، وأفردوا أيضا مكانا للنجارين وصناع الآلات والأخشاب».
وربما كان من بواعث إحياء الثقة بعد موتها، ومن بواعث الإقبال على هذه العلوم الغربية بعد النفور منها والإعراض عنها، أن أذكياء البلد فهموا أنها «بضاعتنا ردت إلينا»، وأن الفرنسيين إنما أخذوا من علومنا في المشرق ما أهملناه وضيعناه، فبلغوا به من القوة حديثا مثلما بلغناه قديما، ولا يزالون يبحثون عن المزيد ليبلغوا فوق ما بلغوه، ومكن لأذكياء البلد من هذا الاعتقاد أنهم نظروا إلى الجلة المختارة من علماء القوة، فرأوهم يجدون في البحث ولا يترفعون عن التمرغ بالأتربة والخرائب، ليكشفوا بين ودائعها عن أسرار الكيمياء والفلك وأخبار الري والزراعة، ولم يتورعوا عند سفرهم عن حمل ودائع المساجد وخزائن الكتب بما اشتملت عليه من المخطوطات المطلوبة والنسخ النادرة، تنفيذا للمادة الحادية عشرة من شروط الصلح الأخير التي تنص على: «أن أرباب العلوم والصنائع يأخذون معهم جميع الأوراق والكتب مما لا يخصهم فقط، بل كل ما يرونه نافعا لهم.» •••
وقد فارقت الحملة الفرنسية مصر ولم تفارقها فكرة التقدم العصري الذي سبق إليه القوم بعلوم ابتكروها أو بعلوم اقتبسوها منا، وآن لنا أن نردها إلينا.
ولكنها كانت فكرة تحوم بين بعض الرءوس ولا يظهر لها أثر في الحياة العامة؛ لاختلاف النظر بين طلاب الجديد على علاته وأعداء الجديد بحذافيره، ولأن التجديد في الحياة العامة مطلب تتولاه الهيئات المنظمة والحكومات المطاعة، ولا يستقل به الأفراد في جهود مبعثرة وآراء متضاربة، فلما قامت في مصر أول حكومة ذاتية بعد حملة نابليون، لم تلبث أن أحست وطأة الضرورات العملية وإلحاح المطالب الموقوتة، ولم تكن هذه الضرورات مما يحتمل التسويف بين الآراء المتشعبة والوجهات المتعارضة، ووجب على ولاة الأمر أن يوطنوا أنفسهم على مصير كمصير المماليك، أو يبتدروا الزمن إلى الانتفاع العاجل بتجديد التعليم والتصنيع، فأخذوا في بناء المدارس، وإرسال البعوث، وإنشاء المصانع، وتنظيم الدواوين، وضبط موارد الثروة، وعملت المطبعة عملها في نقل المؤلفات النافعة وإحياء الذخائر السلفية، وتداولت أيدي المثقفين القلائل كتب الأجانب في علوم التاريخ والفلك والجغرافية والطبيعة والكيمياء وشئون الحكم والاجتماع، كما تداولت كتب الأدب والثقافة من آثار السلف المهجورة، واتجهت الهمم إلى جمع هذه الآثار من مظانها في المساجد والزوايا وخزائن القصور، فلم يمض جيل واحد بعد الحملة الفرنسية حتى ظهر «الرجل المثقف» في البيئة المصرية، ولم تخل منه بيئة من بيئات التقليد والرجعة إلى القديم، وهي على عادتها في الأزمنة المختلفة أعدى أعداء التحول والتجديد.
وشرط الرجل المثقف في كل عصر أنه «ابن عصره»، وأن طابع عصره يلازمه في تفكيره وعمله كما يلازمه في نظرته إلى العالم من حوله، فلا يعيش في الزمن الحاضر بعقل الزمن الماضي، ولا يترجم الواقع والحقيقة بلغة الوهم والخرافة. وقد وجد هذا الرجل المثقف في كل بيئة من بيئات التقليد والتجديد، فثبت طابع العصر على أبناء القرن التاسع عشر قبل انتصافه، ولا نعني بثبوت طابع العصر في تلك الفترة أنها أخذت كل ما يعطيه العصر من علومه وفنونه وأفكاره وخواطره، ولا أن المثقفين في الأمة غلبوا على أفكارها وخواطرها، أو غلبوا على كل ما بقي في رءوسهم وصدورهم من ميراث ماضيهم، لكن ما نعني أنهم استطاعوا أن يفتحوا أعينهم على النور بعد الظلمة، فأبصروا غاية ما تمتد إليه تلك الأعين من منظور معروض بين أيديهم تحت أضواء النهار، ولم يزل فيهم بعد ذلك حديد النظر وكليله، بل لم يزل فيهم من هو طويل النظر ينظر إلى البعيد ولا ينظر إلى القريب بين يديه، أو ينظر إلى القريب اللاصق به ولا يعدوه إلى ما وراءه.
كان القرن الثامن عشر أحلك ساعات الليل قبل مطلع الفجر، فلما طلع الفجر وأشرق من بعده النهار تيسرت الرؤية لمن يستطيعها كما تستطيع عيناه، وهذا هو الفارق بين المثقف ابن عصره في منتصف القرن التاسع عشر، وبين الجامد على قديمه قبل ذلك بخمسين أو ستين سنة، فارق بين من ينظر بعينه، وبين من يتخبط في الظلمة أو يقاد.
من هؤلاء الناظرين بأعينهم إلى النور بعد منتصف القرن التاسع عشر، بل في الطليعة من أولئك الناظرين البصراء إلى حقائق زمانهم، نابغتنا الريفي الأزهري الذي علم علم اليقين، بل آمن إيمان الدين المتين، أن «التقدم العصري» رهين بعلوم - لنا - أهملناه وهجرناها، وعلوم للمعتدين علينا سبقونا إليها ولم نلحقهم في غير القليل منها، وهي حقيقة من «بديهيات» أيامنا هذه بعد منتصف القرن العشرين، ولكن نابغتنا الريفي الأزهري - محمد عبده - كان يقررها بعد منتصف القرن التاسع عشر، فيجد أمامه من يخاطبهم بمثل ذلك المقال الذي كتبه في صحيفة الأهرام الأسبوعية، وتحرى فيه أن يكتبه بأسلوبه المخضرم بين القديم والحديث، فقال:
ليت شعري إذا كان هذا حالنا بالنسبة إلى علوم قد أرضعت ثدي الإسلام، وغذيت بلبانه، وتربت في حجره، وتقلدت في إيوانه منذ زمن يزيد على ألف سنة ... فما حالنا بالنسبة إلى علوم جديدة مفيدة هي من لوازم حياتنا في هذه الأزمان ... لا بد لنا من اكتسابها وبذل المجهود في طلابها؟ ... كنا نؤمل أن المبنج يفيق بشم روح النوشادر ... في زمان جرى فيه سيل العلوم حتى عم أنحاء الكرة على العموم ... وظهر فيه التوازن بينها وبين أحوالنا المهجنة؛ كثروتهم وفاقتنا، وعزتهم وذلتنا، وقوتهم وضعفنا، وقدرتهم وعجزنا، وصولتهم وانهزامنا، وغير ذلك من المزايا والرزايا التي لا تعد ... لكن صمت الآذان وعميت الأبصار، ختم الله على قلوبهم وسمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم.
وقد كان الشاب محمد عبده يدعو هذه الدعوة وهو في الطليعة من أبناء جيله، ولكنه سجل بها طابع العصر كله من منتصف القرن الثامن عشر إلى منتصف القرن التاسع عشر، ومن هزيع الليل الأخير، إلى مطلع النهار.
अज्ञात पृष्ठ
الفصل الثاني
القرية
إذا أحاطت ألفاف الظلام ببقعة من الأرض خفيت معالمها ولم يتبين منها موضع من موضع، وخيل إلى الناظر إليها على البعد أنها خلاء بلقع، أو أنها مسكن مهجور لا يأوي إليه ديار، ولا ينبعث منه بصيص نور.
ويقترب السالك إليه فلا ينمحي أمام عينيه آية الظلام، ولكنه يرى معها شيئا غير الظلمات التي أطبق بعضها على بعض، شيئا من النور هنا وهناك؛ بين سراج ضئيل على باب دار، أو فتيلة خافتة عند زاوية جدار، أو نار تشب للهداية، أو موقد يضرم للطعام، شيئا آخر من بصيص النور غير ألفاف الظلام.
على حالة مثل هذه الحالة كانت صورة القرية المصرية في العصر المخضرم بين أواسط القرن الثامن عشر وأواسط القرن التاسع عشر: صورتها من خلال التاريخ العام ظلام وموات، وصورتها من قريب تتجلى عن شيء غير الظلام والموات، بصيص من النور ورمق من الحياة.
ينظر القارئ في صفحات التاريخ العام منذ قرون ترجع إلى ما قبل الميلاد، فلا يفرغ من قصة دولة طاغية إلا ليبدأ في قصة دولة باغية، ولا ينتهي من حكم دخيل إلا لينتقل إلى حكم أصيل، يضطرب بين الضعف والشقاق وبين العسف والجمود، وينطمس في أثناء ذلك كل ما تخلله من بريق هنا ووميض هناك، فلا تنطبق الصفحات آخر الأمر إلا على ألفاف من الظلمات، كتلك الألفاف التي تحيط بالسالك في غياهب الليل، فلا يبصر وراءها غير ظلام مطبق على ظلام.
وينتقل قارئ التاريخ العام من تاريخ القرية على حدة، فيرى شيئا آخر إلى جانب الطغيان والمذلة، شيئا من العزة هنا ومن السخط هناك، وشيئا من الشعور بغير التسليم وراء كل تسليم، ولكنه متفرق متقطع يراه الناظر إذا تبينه وفتش عنه، ولا يكاد ينكشف له من النظرة الأولى في نطاق أوسع من نطاق الآحاد منفردين متفرقين.
ومن الحق ألا يعجب قارئ التاريخ العام من هذه الصورة المختلفة للقرية المصرية في تلك الفترة، فإنه كان أحرى أن يعجب لتلك القرية أن تبقى فيها بقية من التربة المخصبة بعد جوائح القحط والجدب والاغتصاب والانتهاب، وعوارض الجفاف من سوء الزرع وسوء الري أو سوء توزيع المياه إن فاضت به مجار، فإذا كان هذا كله لم يستنفذ ذخيرة الخصب في هذه الأرض العتيقة، فلا عجب أن تبقى للنفس البشرية ذخيرة من قوة الحياة بعد أن أصابها من غوائل الزمن ما أصاب أرضها من خراب وجدب واغتصاب.
وواقع التاريخ العام - عند التأمل فيه - أنه لم يخل قط من دلائل القوة الكامنة وراء ظواهر التسليم والجمود، وإن طال الكمون والجمود أحيانا إلى أجيال وراء أجيال.
فالتاريخ العام لم يخل من ثورة المقاومة بعد مظالم بناة الأهرام، ولم يخل منها في إبان دولة الرومان، وربما كانت المسيحية المصرية شعلة من شعل هذه الثورة بما شرعته لأهلها من عقيدة تنكر عقيدة الدولة الحاكمة، وربما ساقت إليه العازفين عن الطاعة العمياء من عزلة الدير ووحدة الرهبانية ... ومن أبى تلك الطاعة العمياء من غير أهل الخير والتقوى، فلعله لم يحمل سلاح العصيان ولم يذهب مع العصب والمناسر إلا استباحة لعصيان الحاكم الظالم قبل استباحته للحرام من الأنفس والأموال.
अज्ञात पृष्ठ
وينبغي أن نذكر أن الحاكم الظالم لم يكن في وسعه أن يستأصل جذور الحياة في القرية لو أراد، وأنه لم يكن له مأرب في استئصالها، ولم تكن له خبرة بوسائل استئصالها لو كان له من بعد النظر ما يخيفه من عواقبها في الزمن البعيد، فأما مأربه منها في حاضر وقته فكل همه منه محصول الزرع الذي يحمل إليه وهو قابع في قصور المدينة، ومن حمله إليه من أعوانه فهو في تسخيره للحارثين والكادحين لا يستغني عن مسألة فريق منهم ومداراة آخرين، بل عن بذل الرشوة لمن يعرفون في القرية من العاملين والمتمردين.
وكان ملتزم الزرع والضريبة لأصحاب السلطان في دولة المماليك أحوج ما يكون إلى تلك المداراة، سواء في القرى التي يملكها أبناؤها أو في القرى التي تزرع على «الروك» كما كانوا يسمون الزرع المشاع بعد أيام الأيوبيين.
فالمالكون لأرضهم على قلتهم كانوا في بلادهم أرسخ قدما وأعصى مقادا على الملتزم، من أن يسوقهم بعصا الإكراه والتسخير، وقد يرضي فريقا منهم بالتزامات صغيرة إلى جانب التزامه الكبير.
والزارعون في أرض «الروك» غرباء عن الملتزم في كل قرية غير قريته التي ولد فيها إن كان من أهل القرى، أو هم غرباء عن مدينته إن كان من أهل العواصم البعيدين عن الريف، فسبيله إليهم أن يرضي من يعرفهم وأن يحسب لهؤلاء حسابهم؛ لأنهم إن كانوا أضعف بأسا من أن يقدروا عليه، فهو أقصر يدا وأعجز وسيلة من أن يقدر عليهم أجمعين، وأن يستفيد من قدرته عليهم كارهين مضربين.
وقد كانت لموارد القطر كله حصيلة يحسبونها بالقراريط أربعة وعشرين قيراطا، موزعة بين الأمراء والجند ومرافق الدواوين وأعمال القناطر والجسور والأحواض، وكانت من هذه القراريط حصة محجوزة لأولئك الرؤساء المقدمين بين أبناء الريف، يسمونهم في سجلات الدولة بالعلماء أو مشايخ العربان، ويسمون «بأبناء العرب» كل من لم يكن من أبناء الترك والجراكسة وأعاجم الجند من كل قبيل، فلم يكن «مشايخ العربان» كلهم بدوا يعيشون في مضارب الخيام، بل كان أكثرهم من الفلاحين والقرويين. •••
إن منفذ الحرية، أو منفذ المقاومة، أو منفذ الشكاية الذي بقي لأبناء القرى في أواخر عهد المماليك، قد يتمثل لنا في حادث من حوادث كثيرة رواها المؤرخون لتلك الفترة، ولكن هذا الحادث قد جمع من مراجع السلطة وأساليب المقاومة، واشترك فيه الأمراء والعلماء وجمهرة الشعب على مثال يستحق أن نفرده بالذكر في هذا المقام.
روى الجبرتي في الجزء الثاني أن الفلاحين في قرية من قرى مركز بلبيس شكوا في شهر ذي الحجة سنة 1209 هجرية/1795 ميلادية، إلى الشيخ عبد الله الشرقاوي كبير علماء الأزهر، ظلما لحق بهم من أتباع محمد بك الألفي أمير المماليك المشهور، فأبلغ الشيخ شكواهم إلى كل من مراد بك وإبراهيم بك، ليخاطبا الألفي بك في هذه الشكوى ويطلبا إليه أن يكف أتباعه عما يوجبها، وانقضى زمن على هذا البلاغ بغير جدوى، فجمع الشيخ الشرقاوي علماء الأزهر وتشاوروا في الأمر مليا، فانتهوا إلى إنذار الأمراء جهرة بالمقاومة، واتفقوا على إغلاق أبواب الجامع ودعوة التجار وأصحاب الأعمال إلى إغلاق الدكاكين وحوانيت التجارة، وإعلان ما نسميه اليوم بالإضراب العام، ثم ركب الشيخ الشرقاوي والعلماء في اليوم التالي وتبعتهم جماهير الشعب إلى منزل الشيخ السادات، لإشراكه وإشراك أتباعه معهم في مقاومة الأمراء حتى يستجيبوا إلى مطالبهم، وكان لإبراهيم بك قصر بجوار بيت السادات، فرأى هذه الجموع التي لا يكف عنها المدد مما حوله، وهالته كثرتها، فأرسل من يسأل عن سبب اجتماعها، ثم علم بالسبب، فلم يجسر على الذهاب بنفسه إلى مكان الاجتماع، وأناب عنه الدفتردار أيوب بك لاستماع أقوال العلماء والسعي في تحقيق ما طلبوه، فعلم منهم أنهم يريدون كف المظالم وصيانة الأموال والأرواح ورفع المكوس والضرائب إلا ما يرتضيه الرعية، فخاطبهم أيوب بك في تخفيف بعض هذه المطالب، والاكتفاء بتعجيل بعضها مما يستطاع إنجازه لوقته، وقال: إن رفع المكوس والضرائب دفعة واحدة متعذر، وإنه قد يرفع شيئا فشيئا، وإلا «ضاقت علينا المعايش والأرزاق». فصارحه العلماء قائلين: إن الأمراء ينفقون الأموال فيما لا حاجة به ولا خير فيه، وما الحاجة إلى إنفاق المال في البذخ والترف والاستكثار من الجواري والمماليك؟ إن الأمير يعطي ولا يأخذ ما في أيدي الناس، وإن الإنفاق على اللذات وضروب الزينة الخاوية إسراف وفضول.
ولم يستمع العلماء جوابا شافيا في ذلك المجلس، فباتوا ليلتهم في حرم المسجد على أن يخرجوا في الصباح إلى الميادين والساحات العامة، معلنين الأمراء بخلع الطاعة والاستجابة إلى أحكام الشريعة، فبادر إبراهيم بك إلى طلب المعذرة منهم، وأحال التبعة في رفض مطالبهم إلى إصرار المخالفين له من أمراء المماليك، وعلى رأسهم صاحبه مراد بك، وأبلغهم أنه يؤيدهم ويحارب في صفوفهم إذا أصر المخالفون على الرفض والمراوغة، وكاشف مراد بك في الأمر مستحثا له على عمل شيء عاجل لتهدئة المدينة قبل انفجار الشعب كله بالعصيان.
وكان الوالي الأكبر يرقب الحالة لينظر ما يصنعه أمراء المماليك لتدارك الخطر قبل استفحاله، فلما كان اليوم الثالث ولم يصنعوا شيئا، قصد إلى قصر إبراهيم بك وجمع هناك كبار الجند وأصحاب الكلمة النافذة في عساكر المماليك، وأرسلوا إلى العلماء والرؤساء يدعونهم للمشاورة ويعدونهم بإبرام الأمر على ما يحبون، فحضر من رؤسائهم كل من الشيخ الشرقاوي، والشيخ الأمير، والشيخ السادات، والسيد عمر مكرم، والشيخ البكري، وهم نواب الأمة المختارون لهذه الملمات، وانفض الاجتماع بعد طول الأخذ والرد بقبول ما طلبه العلماء، وكتابة موثق بذلك على الأمراء أن يتبعوه ولا يخالفوه، ووقعوا جميعا على الحجة الشرعية التي تسجل هذا الموثق وخلاصتها: أن يدين الأمراء بقضاء المحاكم في قضايا الحقوق، وأن تفرض الضرائب بموافقة الرعية على حسب الأحكام الشرعية، وأن يمتنع عدوان الحاكم بغير جريرة من المحكومين. وسميت هذه الوثيقة بالحجة الشرعية على عادة قضاة الشريعة في تسمية هذه العقود، ولو أنها كتبت في بعض البلاد الأوروبية لجاءنا خبرها مع كتب القوم في علوم السياسة الحديثة، بعنوان من تلك العناوين الكثيرة عن حقوق الشعب، أو الدستور الأكبر، أو «الماجنا كارتا»، وما إليها من مصطلحاتهم التاريخية، ولكن العلماء الذين دعوا أمراء العصر إلى توقيع ذلك العهد، لم يحسبوا أنهم جاءوا إلى الناس بعهد جديد غير التذكير بعهد كتاب الله وسنة رسول الله التي نسبها أولئك الأمراء، وكتب الموثق «حجة» عليهم بشهادة الرعية وشهادة «الأمة» التي تأمر بالمعروف من عباده العلماء. •••
وقد بقيت للقرية هذه البقية الصالحة من القدرة على المطالبة والشكوى من الظالم إلى ما بعد عهد المماليك بزمن طويل، ولم تكن في كثير من الأوقات كافية لرفع المظالم وكف يد الظالم، ولكنها كانت في أحلك الأوقات كافية لتحريك القوة الكامنة في قلب إنسان مؤمن بالعدل والخير، متحفز للجهر بما يؤمن به حيث يجدي الجهر بالإيمان، أو يجد له مستمعا من القلوب والآذان.
अज्ञात पृष्ठ
وقد أرخ إمامنا صاحب هذه السيرة لهذه الظاهرة الاجتماعية في تلك الفترة بعينها، فقال رحمه الله في مقاله عن محمد علي رأس الأسرة الخديوية: إن الأمراء «اضطروا أن يخففوا من ظلمهم، وأن يتخذوا لهم من الأهلين أنصارا يؤازرونهم عند قيام الحرب بينهم وبين خصومهم، فلما أحس الأهلون بحاجة الأمراء إليهم، زادوا في الدولة واضطروهم إلى قبول مطالبهم، فعظمت قوة الإرادة الشعبية عند أولئك الذين كانوا عبيدا بمقتضى الحكومة، وانتهى بهم الأمر أن قيدوا الأمراء والملوك معا ... نعم كانت الحكومة في مصر على نوع تخالف به الحكومات الشرقية، وكانت البلاد موزعة بين أمراء كل منهم يستغل قسما منها ويتصرف فيه كما يهوى، وكان كل منهم يطلب من القوة ما يسمح له بمد يده إلى ما في يد الآخر أو يدفع به صولته، فالخصام كان دأبهم والحرب كانت أهم عملهم؛ لذلك كان كل منهم يستكثر من المماليك ما استطاع ليعد منهم جنده، وكانت تعوزهم مؤنتهم إذا كثروا فاضطروا إلى اتخاذ أعوان من أهالي البلاد، فوجدوا من العرب أحزابا كما وجدوا منهم خصوما، ثم رجعوا إلى سكان القرى فوجدوا فيهم ما يحتاجون إليه، فاتخذوا بيوتا منها أنصارا لهم عند الحاجة، وعرف هؤلاء حاجة الأمراء إليهم فارتفعوا في أعينهم وصار لهم من الأمر مثل ما لهم أو ما يقرب من ذلك؛ لهذا كنت ترى في البيوت المصرية بيوتا كبيرة لها رؤساء يعظم نفوذهم ويعلو جاههم ... وذلك كان يقضي على كل أمير من أولئك الأمراء أن يصرف زمنه في التدبير واستجلاب النصير، وإعداد ما يستطيع من قوة لحفظ ما في يده والتمكن من إخضاع غيره، وكان أنصاره من الأهالي يجارونه في ذلك خوفا من تعدي أعوان خصمه عليهم ... وهذا يحدث بطبعه في النفوس شمما وفي العزائم قوة، ويكسب القوى البدنية والمعنوية حياة حقيقية مهما احتقرت نوعها، فكانت العناصر جميعها في استعداد لأن يتكون منها جسم حي واحد يحفظ كونه ويعرف العالم مكانته».
ثم انتقل إلى عصر محمد علي، فقال ما فحواه إنه خاف على سلطانه من أبناء البلاد، «فوجه عنايته إلى رؤساء البيوت الرفيعة، فلم يدع منها رأسا يستتر فيه ضمير (أنا)، واتخذ من المحافظة على الأمن سبيلا لجمع السلاح من الأهلين، وتكرر ذلك منه مرارا حتى فسد بأس الأهالي وزالت ملكة الشجاعة منهم، وأجهز على ما بقي في البلاد من حياة في أنفس بعض أفرادها، فلم يبق في البلاد رأسا يعرف نفسه حتى خلعه من بدنه، أو نفاه مع بقية بلده إلى السودان فهلك فيه. وأخذ يرفع الأسافل ويعليهم في البلاد والقرى، كأنه كان يحن لشبه فيه ورثه عن أصله الكريم حتى انحط الكرام وساد اللئام، ولم يبق في البلاد إلا آلات له يستعملها في جباية الأموال وجمع العساكر بأية طريقة وعلى أي وجه ... فمحق بذلك جميع عناصر الحياة الطيبة من رأي وعزيمة واستقلال نفسي، ليصير البلاد جميعها إقطاعا واحدا له ولأولاده، على إثر إقطاعات كثيرة كانت لأمراء عدة».
ثم قال: «أين البيوت المصرية التي أقيمت في عهده على قواعد التربية الحسنة؟ أين البيوت المصرية التي كانت لها القدم السابقة في إدارة حكومة أو سياساتها أو سياسة جندها مع كثرة ما كان في مصر من البيوت الرفيعة العماد، الثابتة الأوتاد؟ ... إنه أرسل جماعة من طلاب العلم إلى أوروبا ليتعلموا فيها، فهل أطلق لهم الحرية أن يبثوا في البلاد ما استفادوا؟ كلا، ولكنه اتخذهم آلات تصنع له ما يريد ... وظهر بعض الأطباء الممتازين وهم قليل، وظهر بعض المهندسين الماهرين وهم ليسوا بكثير، والسبب في ذلك أن محمد علي ومن معه لم يكن فيهم طبيب ولا مهندس، فاحتاجوا إلى بعض المصريين، ولم يكن أحد من الأعوان مسلطا على المهندس عند رسم ما يلزم له من الأعمال، ولا على الطبيب عند تركيب أجزاء العلاج، فظهر أثر استقلال الإرادة في الصناعة عند أولئك النفر القليل من النابغين، وكان ذلك مما لا تخشى عاقبته على المستبدين.» •••
ومن المحقق أن الخطة التي نسبها الأستاذ الإمام إلى محمد علي إنما كانت إحدى خططه المرسومة في سياسته العامة، التي أراد بها أن يحصر الأمر كله بين يديه، وأن يجرد البلد من كل قوة تحدث نفسها بمقاومته، أو الانتقاض على حكمه، أو منازعته في شأن من شئون الدولة، سواء بدرت هذه المنازعة من جانب أبناء الترك كما كانوا يسمون المماليك عامة، أو من جانب أبناء العرب كما كانوا يسمون الفلاحين عامة، بغير تفرقة بين أبناء البادية وأبناء الريف، وكان همه الأكبر أن يتخلص من أولئك السادة الذين رشحوه للولاية وتقدموا مرة بعد مرة لمحاسبة الأمراء من قبله؛ لأنه علم أنهم قادرون على ترشيح غيره كما رشحوه، وعلى محاسبته كما حاسبوا غيره، وخشي من جانب الريف أن يدين أبناؤه لصاحب جاه أو صاحب «عزوة» من أهله، وبخاصة بعد التحالف بين بعض أبناء الريف وبعض خصومه الذين هجروا العاصمة فرارا من القتل والغيلة. ولم ينس محمد علي أن قبائل الأطراف ربما استقلت بالحكم زمنا، وامتنعت عن أداء الخراج لولاة الأمر في القاهرة كلما اتهمهم بالمروق من سلطان الدولة أو بالجور على حقوق الرعية، فلم يكفه أن يجرد أصحاب الجاه من قدرتهم على العصيان والانشقاق، بل حرص على تجريدهم من كل جاه لا يستمدونه منه ولا يرجعون به إليه.
غير أن الحاكم المستبد قد يستطيع أن يستأصل الغروس النامية، ولكنه لا يستطيع - مهما بلغ من طغيانه وحرصه - أن يستأصل الجذور الكامنة في أعماق أرضها، ولا البذور المدفونة في انتظار نبع يسري إليها أو سحابة تهطل عليها، وتتركها لما قسم لها من الحياة في تربتها.
ويظهر من سياسة الولاة بعد محمد علي أن سياسة التجريد والاستئصال لم تجرد الريف من تلك العناصر التي يحسب الوالي حسابها، ويشفق من عواقب إهمالها كما يشفق من عواقب استئصالها؛ فإن الوالي محمد سعيد لم يلبث أن شعر بسوء المغبة من هذا الإهمال، وأدرك ضرورة الاستعانة في حكم الريف، فكتب إلى الأقاليم قبل انقضاء جيل محمد علي مراسيمه التي يقول في أحدها بعد تمهيد وجيز: «وقد سنح لخاطرنا أن أجعل الحكام ممن يوثق باعتمادهم في الأمور الدينية والمدنية من عمد أبناء العرب بنواحي المديريات مع أبناء الترك، على سبيل التجربة وإبراز ما انطووا عليه من الثمرات المقصودة بالذات أو ضدها، وهناك يكون الإقدام على تقدمهم أو بتعيين تأخرهم عن برهان واضح، فابتدأنا بتنصيب اثنين من عمد نواحي مديرية المنيا وبني مزار نظار أقسام، وجعلناهما موقعا للتجربة، وأمرنا مدير الجهة المذكورة بتنصيب جانب من العمد حكام أخطاط. والآن تعلقت إرادتنا أن يكون حصول ذلك بسائر الأقاليم، فأصدرنا أوامرنا إلى المديرين عموما وهذا إليكم لتنتخبوا من عمد أبناء العرب المجربين الأطوار المتصفين بحسن الاستقامة والسياسة، من يليق بالتقدم لمناصب الحكومة ، وترتبوا نظار أقسام مديريتكم على الثلث منهم، بأن يكون اثنان - هكذا - نظار أقسام من أبناء الترك وواحد من أبناء العرب، كما أن حكام الأخطاط يكون منهم ثلاثة من أبناء الترك وواحد من أبناء العرب، وقبل أن ترتبوهم اعرضوا علينا بيان أسمائهم وأسماء بلادهم وأقسامهم وأخطاطهم ...»
وازداد شعور الولاة بضرورة المعاونة بينهم وبين أبناء القرى على حكمها وولاية شئونها، فشاعت الدعوة إلى الحكم النيابي في عهد إسماعيل، وكان من أغراض إسماعيل في مجاراته لهذه الدعوة أن يستخلص بعض السلطة من الرقابة الأجنبية باسم الأمة، ليتصرف به ما استطاع على أيدي أعوانه وأوليائه من الوجهاء وعمد الأقاليم، ولكنه - ولا ريب - كان يعمد إلى هذه الحيلة؛ لأنه يدرك أن مشاركة هؤلاء الريفيين في حصة من الحكم وسيلة لا غنى عنها لتوطيد سلطان الحاكم وضمان البقاء لصاحب الولاية الكبرى في العاصمة، ولم تكن ثورة عرابي في عصر خليفته توفيق إلا أثرا من آثار التهاون في اتباع هذه السياسة، أو أثرا من آثار العدول عنها لتغليب عنصر «أبناء الترك» على عنصر «أبناء العرب» في وظائف الجيش والحكومة.
على أن ودائع الخير في القرية لم تكن في عصر من العصور محصورة في أبناء «البيوتات» التي تتميز بالجاه والمال وسعة الثراء من الأرض والعتاد، فإن هذه البيوت نفسها لم تكن لتستقر في مكانها لو لم يكن قرارها على أساس آخر مكين ... هو أساس الأسرة أو أساس «البيت» على الإجمال، وليس بالنادر أن يكون البيت الصغير دعامة للبيوتات العالية تعزها وتعتز بها، وتتصل جميعا بوشيجة جامعة من النسب والمصاهرة، وربما تعرضت البيوتات العالية لسطوة الحاكم المستبد إذا وقفت منه موقف المناجزة، أو وقف منها موقف الحذر والريبة؛ لأنه أقوى من كل بيت منها على حدة، وأقدر على أن يأخذها متفرقة واحدة بعد واحدة قبل أن تأخذه دفعة واحدة وهي متفقة عليه. أما البيوت الصغيرة التي تتوارى عن بصر الحاكم الكبير وتغلب الظلم بالكثرة، فهي الذخيرة الخالدة التي لا تفنى مواردها، ولا يتأتى للطغيان أن يجردها من مروءة العرف التي تتوشج مع الشعور بحقوق القرابة والمصاهرة، وحياء النسيب من النسيب، ودالة الصغيرة على الكبيرة، وكرامة الكبير على الصغير، وليس من شأن القروي الذي ينتمي إلى قرابة واسعة موفورة العدد من هذه القرابات المعروفة في بلاد الريف أن يستكين إلى حاكمه الصغير في القرية إلى غير نهاية، وليس من شأنه أن يعجز عن النجاة بنفسه من جوار إلى جوار بين عشرته وذوي قرباه، كلما ضاقت به الحال وبلغ به الجور والنكاية غاية الاحتمال.
والأسرة على أوضاعها العريقة هي عصمة القروي من جور حكامه وعوارض زمانه، سواء منها ما يتوطد بالجاه والعصبة القوية، وما يتوطد بالعدد الكثير والنسب المتشعب والصهر المتجدد والعرف الموروث، متلاحقا متمكنا على مدى الأسلاف والأعقاب.
وقد صادفتنا هذه الحقيقة في ترجمتنا لسعد زغلول كما تصادفنا الآن في ترجمتنا لأستاذه وزميله محمد عبده، فقلنا في فصولها الأولى: «إن الآصرة عظيمة الشأن في آداب المصريين من أقدم عصور التاريخ، ولم يتجرد المصري من عواطف الأرحام بين أبوة وأمومة وبنوة وقرابة وآصرة دانية أو قاصية.» وذلك هو قوام العرف الاجتماعي في أخلاقه وعلاقاته، وهو أيضا قوام المحافظة المصرية التي تحب الألفة وتعرض عن البدع والخوارق. والوصايا باتخاذ الأسرة معروفة في الأدب المصري منذ آلاف السنين، ففي وصايا بتاح حوتب التي كتبت قبل أكثر من ستة وأربعين قرنا يقول الوزير لتلميذه: «إذا كنت رجلا ذا منزلة، فاتخذ لك منزلا وأحبب قرينتك الحب الجميل، وأطعمها واكسها، وطيب أوصالها، وأدخل السرور على قلبها طول حياتك ...» ولم تنس الوصية بتوقير الأسرة وصلة الأرحام بعد ذلك كلما كتبت الوصايا في العهد القديم، ففي نسخة من وصية عاني محفوظة في مخطوطات الأسرة الثانية والعشرين يقول الحكيم: «اتخذ لك زوجة في شبابك لتنجب لك ولدا تربيه وأنت في صباك، وتعيش حتى تراه في عداد الرجال، وما أسعد الرجل الذي له عشيرة كبيرة، إن الناس يوقرونه من أجل بنيه.»
अज्ञात पृष्ठ
وفي هذه الوصايا يقول الحكيم: «ضاعف لأمك خبزها، واحملها كما حملتك، لقد أثقلتها وما نبذتك، وظلت تحملك حول عنقها بعد ميلادك، وظل ثديها ثلاث سنوات في فمك، ولم تأنف من تنظيفك، ولم تقل قط: ماذا أصنع بهذا؟ وأرسلتك إلى المدرسة تتعلم الكتابة، ووقفت لك بالخبز والشراب كل يوم تنتظرك. واذكر إذا تزوجت وانفردت بمنزلك كيف ولدتك أمك، وكيف ربتك وتعهدتك بكل ما عندها من وسيلة عسى ألا تصيبك بضرر، ولا ترفع يديها إلى الله بالدعاء عليك، ولا يستمع الله منها إلى شكاية.»
فهذه الرحمة البيتية قديمة لم تتغير في الزمن الحديث، ومن عظم الرأفة بالبنين أن يمتد زمن الرضاع لهم إلى ثلاث سنوات كما يفهم من هذه الوصية، وأن الرأفة في تلك الأجيال السحيقة الغريبة ولو كانت رأفة الآباء بالبنين ... فالمصري اجتماعي من ناحية الأسرة وعراقة المعيشة الحضرية، أو اجتماعي من ناحية انتظام العادات والعلاقات منذ أجيال مديدة على نظام الأسر والبيوت، وهذا هو أقوى ما يربطه بالمجتمع أو يربطه بالأمة والحياة القومية. •••
إن العصور المتطاولة قد استنزفت من ثروة القرية - أنفسا وأموالا - غاية ما استطاعت أن تسلبه أو تقنيه مما لا يحصره الإحصاء، وقد نحصره بتقدير الحساب فيكفينا أن نعلم أن تعداد أبناء مصر هبط إلى ما دون الملايين الثلاثة في أخريات عهد المماليك، بعد أن أربى على الثلاثين في بعض عصور الفراعنة على تقدير بعض المؤرخين!
وربما هبط سكان القرى إلى نحو الثلثين على الأكثر من هذه الملايين الثلاثة التي بقيت في القرن السابع عشر بعد الهجرة إلى المدن والفرار على غير قرار.
وجاء عصر الإقطاع بعد الدولة الأيوبية، فصفى هذا العدد تصفيته الأخيرة حين قسم أبناء القرى إلى فريق ملازم للقرية وسماهم بالقراريين، وفريق متردد بين القرى لا ينتسب إلى مكان معلوم منها سماهم بالفراريين، ومن ذلك الحين أصبحت صفة «القراري» عنوانا على العمل المتقن والصنعة المحكمة، وقيل عن كل صانع يحسن عمله ولا يبالي أن يحمد عليه إنه قراري في هذه الصناعة، حتى بلغ من سوء استخدام هذه الكلمة في غير موضعها أن وصف بها «اللص القراري» والمحتال القراري، بعد أن كانت وصفا للزارع الخبير بشئون السقي والبذر والحرث والحصاد، لاستقراره في القرية وعلمه بطبيعة الأرض والجو وتقلبات الأهوية وعوارض الآفات، خلافا للزارع الفراري الذي لا يعرف من كل قرية غير موسمه فيها وأجرته من محصولها.
هؤلاء الفلاحون «القراريون» حملوا أوزار المظالم من قديمها، ولكنهم احتفظوا كذلك بذخيرة العرف وشريعة من الحياء من أصولها، وحسبهم من هذه الذخيرة أن يأنف أحدهم أن يخزى هذا القريب أو ذاك النسيب بالعار الموروث، وكل عار في القرى موروث إلى الأعقاب وأبناء الأعقاب ... أو حسبهم أن يقف بهم الاحتمال عند الحد الذي لا يحمد بعده احتمال، ثم ينقلب بعد ذلك من الصبر إلى الثأر، أو يتحول من هذا الجوار إلى ذلك الجوار، فإن عم البلاء كل جوار حوله في حقبة من الزمن، فهو البلاء الذي يعم عاره ولا تلصق وصمته بهذا الجبين دون ذلك الجبين، بين آلاف ومئين.
وفي هذا القرار من القرية نشأ في القرن التاسع عشر رفاعة الطهطاوي، وعلي مبارك، وعبد الله فكري، وحسن الطويل، وأحمد عرابي، ومحمد عبده ... وكلهم بعثت به القرية إلى الجامع الأزهر، وبعث به الجامع الأزهر إلى ميدان الكفاح والإصلاح.
الفصل الثالث
الأزهر
في منتصف القرن الثامن عشر (1748) أسندت ولاية مصر إلى الوزير العالم أحمد باشا كور، وكان من المشتغلين بعلوم الهيئة والرياضة، فرغب في مذاكرة علماء الأزهر الذين يدرسون تلك العلوم في حلقاتهم بالمسجد الجامع، وخاطب مقدم العلماء الشيخ عبد الله الشبراوي في ذلك ومعه عالمان من كبار علماء العصر هما الشيخ سالم النفراوي والشيخ سليمان المنصوري، فسكتوا ثم صارحوه بأنهم يجهلون تلك العلوم ولا يشتغلون بتدريسها، وانصرفوا بعد أول لقاء بينهم وبين الوالي وهم يحسبون أنها مسألة فرغ الحديث منها، ولكن الوالي عاد إلى الحديث مع الشيخ الشبراوي في جلسة من جلساته معه بعد صلاة الجمعة بمسجد القلعة، وكانت الخطبة في ذلك المسجد من عمل الشيخ الشبراوي، يؤم المصلين ومنهم الوالي، ويتناول الغداء على مائدته بعد الصلاة، ويجري الحديث بينهما أحيانا على شئون الأزهر وشئون الدين على العموم، ثم ينصرف إلى موعده من الأسبوع الذي يليه.
अज्ञात पृष्ठ
قال الوالي ذات مرة ما فحواه: كنت أحسب مصر كما نسمع في بلادنا منبع العلوم والفضائل، فلما جئتها أخلفت ظني وذكرت المثل القائل: «تسمع بالمعيدي خير من أن تراه!»
قال الشيخ الشبراوي: بل هي كما سمعتم معدن العلوم والمعارف.
قال الوالي: وكيف؟ وأنتم أعظم علمائها ولم أجد عندكم شيئا من العلوم التي سألت عنها، وغاية تحصيلكم المنطق والتوحيد، ونبذتم علوم المقاصد من هيئة ورياضة.
قال الشيخ: نحن لسنا أعظم علمائنا، وإنما نحن المتصدرون لخدمتهم وقضاء حوائجهم، وغالب أهل الأزهر لا يشتغلون بشيء من العلوم الرياضية إلا بقدر الحاجة الموصلة إلى علم الفرائض والمواريث.
فعاد الباشا يقول: وعلم الوقت كذلك من العلوم الشرعية، بل هو من شروط صحة العبادة كالعلم بدخول الوقت، وتحرير القبلة، ومواعيد الأهلة، وعدد السنين.
فأجابه الشيخ موافقا، ولكنه قال: إن معرفة ذلك من فروض الكفاية، إذا قام به البعض سقط عن الآخرين، وهذه العلوم تحتاج إلى لوازم وشروط وآلات وصناعات وأمور ذوقية؛ كرقة الطبع، وحسن الوضع والخط والرسم والتشكيل، والأمور العطاردية، وأهل الأزهر بخلاف ذلك، أخلاط من القرى والآفاق.
فسأل الوالي: وأين البعض القائم بهذه الفريضة؟
فقال الشيخ: إنهم موجودون في بيوتهم يسعى إليهم. ودله على الشيخ حسن الجبرتي والد الشيخ عبد الرحمن المؤرخ المشهور، مطنبا في تزكية علمه وفضله.
فسألهم الوالي أن يدعوه إلى لقائه، فقال الشيخ: إنه أعظم قدرا من أن يستدعيه مثلي، ولكنكم تكتبون إليه مع بعض خواصكم فيحضر إليكم، فكتب إليه الوالي واحتفى بلقائه عند حضوره، ووجده على ما وصف من الدراية بتلك العلوم التي يدرسها الباشا، فأكثر من الاجتماع به بعد ذلك للمذاكرة فيها.
ونحن نعرف هذه القصة من رواية الجبرتي في تاريخه، كما نعرف من قصص التاريخ الأخرى شيئا كثيرا عن حقيقة العلوم الفلكية التي تلقى بعضها عن أبيه، فإذا هي على صحتها واشتمالها على أدق المعارف الفلكية التي حصلها علماء الحضارة الإسلامية، تجمع بين العلم الرياضي الصحيح وأخلاط من التنجيم وقراءة الطوالع وأرصاد السعود والنحوس ، ومن ذاك قول الشيخ عبد الرحمن في مقدمة كتابه عن الحملة الفرنسية: «إن وقائع الأيام وخطوبها، وحوادث الحادثات وكروبها ... داخلة في حين الإبداع والاختراع بما أودعه الله من الخصائص في الآثار العلوية عند اقتران بعضها ببعض، وارتباط المناسبات الخفية بينها وبين ما على وجه الأرض، وذلك بحسب جري العادة الإلهية له مسببات وحوادث يستدل عليها بتلك القرانات والمناظرات، وقد أودع الله في بعض خالصي النفوس البشرية والأرواح المجردة عن العلائق الجسمية والشهوات النفسية معرفة بعض تلك الحوادث، إما بإلهام أو باكتساب ونظر في علم الأحكام، فبالنجم هم يهتدون، وبالنظر في ملكوت السماوات والأرض يستدلون فيعرفون، من غير أن ينسب لتلك الآثار تأثيرات، وإنما هي أسباب عادية وعلامات، وإن من أعظم الدلائل على ما رميت به مصر، وحل به لأهلها تنوع البؤس والإصر، بحلول كفرة الفرنسيس، ووقوع هذا العذاب البئيس، حصول الكسوف الكلي في شهر ذي الحجة بطالع مشرق الجوزاء المنسوب إليه إقليم مصر ...»
अज्ञात पृष्ठ
ولكن هذا الخلط بين علم الهيئة والتنجيم لم يكن وقفا على الفلكيين بالمشرق أو البلاد العربية، بل كان النظر في الكواكب لاستطلاع السعود والنحوس دراسة مقررة في الجامعات الأوروبية، وكان أكبر الفلكيين في عصره - جوهان كبلر - المتوفى قبل منتصف القرن السابع عشر يدرس الفلك والرياضة بجامعة جراز، ويصدر بأمر الجامعة تقويمها السنوي مشتملا على أرصاد العالم كله، منبئا بطوالع البروج التي تشرف على مواليد الأمراء والملوك وتقبض على أعنة الحوادث من سلم وحرب، وخصب وقحط، ورواج وكساد، وكان العالم الكبير يؤمن بأسرار تلك الطوالع والأرصاد، ويعزو مخالفة النبوءات أحيانا إلى خطأ الحساب، أو إلى شوائب النفوس التي تتولى الرصد وتتلقى منه النبوءة، كما قال المؤرخ العربي فيما تقدم. وقد كان إسحاق نيوتن يضبط حركات الأفلاك بقانون الجاذبية وهو يدون مئات الصفحات في مباحث الطوالع والأرصاد وطلاسم السحر والزايرجة السوداء. •••
ونمضي مع الجبرتي في حديثه عن نذير النجوم ببلاء الفرنسيس، فنقول: إن هذا المؤرخ الأمين قد شهد حلول البلاء في القاهرة، ووصف أعمال المقاومة في خارجها وداخلها بين كفاح المحاربين ودعاء المسالمين، فقال: إنه «لم تكن إلا ساعة وانهزم مراد بك ومن معه، ولم يقع قتال صحيح وإنما هي مناوشة من طلائع العسكرين بحيث لم يقتل إلا القليل جدا من الفريقين، واحترقت مركب مراد بك بما فيها من الجبخانة والآلات الحربية، واحترق بها رئيس الطبجية خليل الجردلي، وكان قد قاتل في البحر قتالا عجيبا هو ومن انضم إليه من الغليونجية وبقية العسكر والمشاة الذين في المراكب مع مراكب الفرنسيس، وأقدم إقدام الأسد، فقدر الله أن علقت نار بالقلع، فنزل البعض منها إلى البارود الذي في المركب فاحترقت ومات هو ومن بالمركب من المحاربين، فلما عاين ذلك مراد بك ولى منهزما وترك الأثقال والمدافع وتبعته عساكره، والمشاة نزلت في المراكب وانفصل الفريقان بدون طائل.»
قال: «وقد كانت العلماء عند توجه مراد بك للقتال تجتمع في الأزهر كل يوم لقراءة البخاري وغيره من الدعوات، وكذلك مشايخ فقراء الأحمدية والسعدية والرفاعية وغيرهم من طوائف الفقراء وأرباب الأشاير، كل يوم يذهبون للأزهر فيجلسون للأذكار، وتجتمع أطفال الكتاتيب للدعاء وتلاوة اسمه تعالى لطيف، وكل هذا حصل بسببه النفع العظيم، فهو وإن لم يدفع دخول الفرنسيس مصر لكونه أمرا مقضيا محتما لا يرد بالدعاء، لكن وقع اللطف بسبب هذه الدعوات، واجتماع القلوب بمجالس الذكر والاستغفار، وآثار اللطف التي حصلت مشاهدة ولا تنكر ولله الحمد.»
ثم قال: «ولما أصبح يوم الأحد المذكور، والمقيمون لا يدرون ما يفعل بهم ويتوقعون حلول الفرنسيس ووقوع المكروه، ورجع الكثيرون من الفارين وهم بأسوأ حال من العري والفزع، فتبين أن الفرنج لم يعدوا إلى البر الشرقي، وأن الحريق كان في المراكب المتقدم ذكرها، فاجتمع في الأزهر بعض العلماء والمشايخ وتشاوروا، فاتفق رأيهم على أن يرسلوا مراسلة إلى الفرنج وينظروا ما يكون من جوابهم، ففعلوا ذلك وأرسلوها صحبة شخص مغربي يعرف لغتهم وآخر صحبته، فغابا وعادا وأخبرا أنهما قابلا كبير القوم وأعطياه الرسالة فقرأها عليه ترجمانه، ومضمونها الاستفهام عن قصدهم، فقال على لسان الترجمان: وأين عظماؤكم ومشايخكم؟ لم تأخروا عن الحضور إلينا لنرتب لهم ما يكون فيه الراحة؟ وطمنهم وبش في وجوههم ... ثم قال لهم: لازم المشايخ والشرباجية يأتون إلينا لنرتب منهم ديوانا ننتخبه من سبعة أشخاص عقلاء يدبرون الأمور. ولما رجع الجواب بذلك اطمأن الناس، وركب الشيخ مصطفى الصاوي والشيخ سليمان الفيومي وآخرون إلى الجيزة، فتلقاهم وضحك لهم وقال: أنتم المشايخ الكبار؟ فأعلموه أن المشايخ الكبار خافوا وهربوا، فقال: لأي شيء يخافون؟ اكتبوا لهم بالحضور ونعمل لكم ديوانا لأجل الراحة ...»
ولا بد أن نذكر ونحن بصدد الأزهر والحملة الفرنسية أن دعوات الأذكار كانت في حينها «قوة عملية» من جانب واحد على الأقل، وهو جانب اليقين بنفاذها في عقيدة الرعاة والرعية، لا يشكون في أثرها إذا خلصت النية وصدقت الشكوى، ولا يأمن الحاكم الظالم أن تستجاب من المظلوم في شدة البلاء وانقطاع الرجاء في غير الله. وقد مضى على حملة نابليون نحو مائة وسبعين سنة، ونشبت الحرب بين مصر والحبشة، وتوالت الهزيمة بعد الهزيمة، فاعتصم الخديو إسماعيل يومئذ بتلك القوة - قوة التلاوة في البخاري والتماس الدعوات من العلماء - فلم يخامره الشك في أثرها، ولكنه قال للعلماء بعد اتصال الهزيمة: إما أنكم لا تقرءون البخاري، وإما أنكم لستم بعلماء. فردها إليه عالم جريء وذكره بالحديث النبوي؛ إذ يقول عليه السلام: «لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليسلطن الله عليكم شراركم، فيدعو خياركم فلا يستجاب لكم ...»
وقد ركب الفرنسيون رءوسهم بمصر، واقتحموا الجامع الأزهر ودنسوا محاريبه وربطوا فيه الخيل والدواب، فلم ينتقض غير قليل حتى خرجوا من مصر مدحورين، بعد أن خيل إليهم وإلى الناس أنهم لن يرحلوا عنها مكرهين، ولم ينس أبناء البلد أن يربطوا بين جلائهم السريع وبين عدوانهم على ذلك الحرم المقدس ودعوات علمائه عليهم بالخذلان والنكال. •••
هذه نبذة موجزة من تاريخ الأزهر خلال فترة من فترات ذلك العهد، الذي كان كما تقدم أحلك ساعات الظلام قبل مطلع النهار، ويكفي تاريخ كل فترة من حياة هذا المعهد الخالد للتعريف بوظيفته التي استقر عليها، وبيان مكانته التي تبوأها من الأمة في أيام خضوعها لسلطان الدخلاء الواغلين عليها؛ فقد تقرر بحكم العرف والتقليد وحكم العقيدة والسمعة أنه صوت الأمة الذي يسمعه الحاكم الدخيل من المحكومين، وأنه ملاذ القوة الروحية في نفوس أبناء الأمة وفي نفوس الحاكمين الذين يدينون بعقيدتها، ومن لم يكن من أهل تلك العقيدة فقد يحسب لها حسابها الذي ينساه إخوانها في الدين مع الجهالة المطبقة أو مع هوى الساعة، وقد حسب له الفرنسيون هذا الحساب ونسيه أناس من أمراء المسلمين، ولكنه لم يضع قط كل الضياع في وقت من الأوقات.
ومن فهم الواقع على جليته أن نذكر أن أهل البلد قد حددوا وظيفة الأزهر ووظائف علمائه تحديدا يعز أحيانا على الدستور المكتوب، فكان منهم من يتولى الصدارة في شئون السياسة ومخاطبة الحكام؛ لأنه أقدر على هذا العمل وأصلح له من زملائه، وإن كان فيهم من هو أوسع علما وأشهر بالتقوى، وكان منهم من يثق الناس بتقواه ويطمئنون إلى نزاهته في أمور الدين والرئاسة، وهكذا كان منهم من يفاوض الوالي التركي وليس هو بأعظم علماء البلد، وكان منهم من يفاوض القائد الفرنسي وليس هو بمكان الرئاسة العلمية، ولكنهم كانوا مرشحين لوظيفة السفارة بين الأمة والحكومة بما لهم من خبرة في سياسة الناس وأساليب الإقناع وعلاج المشكلات، ولغيرهم سمعته في هداية القلوب والبصائر والتماس الوسيلة عند الله إذا خابت الوسائل عند العباد.
ولم تنقطع الصلة زمنا طويلا بين هذه الرئاسة القوية الروحية وبين القرية المصرية من قرى الريف أو قرى الصعيد، وقد يغنينا عرض أسماء الشيوخ والرؤساء الذين اختارهم نابليون وألف منهم الديوان الكبير للعلم بمبلغ هذه الصلة بين الأزهر والقرية، فقد تألف هذا الديوان من عشرة ندر منهم من لم ينسب إلى قرية يعرف بنسبته إليها كما يعرف باسمه ولقبه، وهم: عبد الله الشرقاوي، والشيخ خليل البكري، والشيخ مصطفى الصاوي، والشيخ سليمان الفيومي، والشيخ محمد المهدي، والشيخ موسى الرسي، والشيخ مصطفى الدمنهوري، والشيخ أحمد الويشي، والشيخ يوسف الشبراخيتي والشيخ محمد الدواخلي. وقبل ذلك كان الشيخ «الشبراوي» يقول للوالي العثماني: إن الغالب على أبناء الأزهر أنهم أبناء القرية والريف.
وقد تقدم في الكلام على القرية خبر الثورة التي أثارتها شكاية أهل بلبيس لابن إقليمهم الشيخ الشرقاوي الكبير، فلا يفوتنا أن نذكر أن شكاية الأقاليم كانت تصل إلى قادة الأزهر من كل طائفة معتدى عليها، ولو وقع العدوان عليها في رحلة الطريق. وحدث أن سليمان بك أغا نهب سفينة لبعض أبناء الصعيد تحمل التمر والميرة وشيئا من الأزواد والأطعمة، وزعم الأغا أنه استخلص بما نهبه ديونا له على أولاد وافي من أهل الصعيد، فغضب المجاورون من الصعايدة وأبلغوا مشايخ الأزهر أن السفينة إنما كانت تحمل رزقا مرسلا إليهم من عشائرهم في قراهم، فركب الشيخ الدردير والشيخ العروسي والشيخ المصيلحي إلى الأمير إبراهيم بك، وواجهوا سليمان أغا في حضرته بكلام شديد، ولم يرجعوا إلا على وعد برد ما استلبه كله، مع البقية التي فضلت عنده مما استولى عليه. •••
अज्ञात पृष्ठ
ومن الواضح أن الجامع الأزهر إنما استقرت له هذه المكانة في العالم كله؛ لأنه المدرسة الجامعة في الرقعة الوسطى من العالم الإسلامي الفسيح من المشرق إلى المغرب، بين مدارس بغداد في المشرق ومدارس قرطبة في المغرب، وقد أفلت هذه المدارس حينا مع أفول الدولة العباسية وأفول الدولة الأموية وسائر الدول الأندلسية، وورثت الجامعة الأزهرية شهرتها جميعا، كما ورثت القاهرة شهرة مصر القديمة بالعلوم والمعارف التي حسبت من السحر المباح زمنا عند كثير من حكماء الإسلام، وتلك هي العلوم والمعارف التي كان «ذو النون» المصري يبحث عنها في نقوش البرابي وتحت ركام الكنوز المدفونة في الرغام، وإنما كان الوزير العثماني «أحمد باشا» يقول عن مصر إنها اشتهرت في العالم كله بأنها «معدن العلوم والمعارف»، وهو يعني تلك الشهرة العريقة التي ذاعت عنها قديما، ثم اتصلت بها بعد الإسلام شهرة الجامع العتيق، ثم شهرة الأزهر بعد انفراده بأمانة العلم في بلاد الإسلام.
والمأثور عن الفاطميين أنهم كانوا يشتغلون بالنجوم والكيمياء والعلوم الكونية التي نسميها اليوم بالعلوم الطبيعية أو العلوم الحديثة، وكان الإمام جعفر الصادق - وهو إمام رفيع القدر بين علماء الإسلام من جميع المذاهب - حجة في علوم الدين والدنيا، يعلم أبا حنيفة الفقه ويعلم جابر بن حيان الكيمياء، وكان علماء الفاطميين ودعاتهم يقتدون به في الجمع بين هذه العلوم، ويستعينون بالمنطق والفلسفة على نشر دعوتهم بين أهلها من طلاب الدنيا والدين. وليس في أوراق المحفوظات الباقية سجل ثابت لتدوين أسماء العلماء وأسماء الكتب التي درسوها بالأزهر من هذه العلوم، ولكن إجازات العلماء بعد إنشاء الأزهر بأكثر من ثمانية قرون كانت تحتوي أسماء العلوم التي أجيز لهم أن يلقنوها الطلاب في حلقاتهم، ومنها سند العالم الكبير الشيخ أحمد عبد المنعم الدمنهوري المتوفى قبل نهاية القرن الثاني عشر للهجرة (1192ه)، وفيها بيان الدروس التي حضرها وأجادها وألف فيها، وهي عدا علوم الفقه واللغة دروس «الحساب والميقات والجبر والمقابلة والمنحرفات، وأسباب الأمراض وعلاماتها، وعلم الأسطرلاب والزيج والهندسة والهيئة، وعلم الأرثماطيقي، وعلم المزاول، وعلم الأعمال الرصدية، وعلم المواليد الثلاثة وهي الحيوان والنبات والمعادن، وعلم استنباط المياه، وعلاج البواسير، وعلم التشريح، وعلاج لسع العقرب، وتاريخ العرب والعجم ...»
وهذه العلوم المتفرقة تجمع في ذلك العصر صفوة المعارف الإنسانية التي تدرس في معاهد الثقافة العليا، وكانت - على ما يظهر - تباح لمن يستعد لها من الطلاب المتقدمين الذين يختارهم أساتذتهم ويأنسون فيهم القدرة على النقل عنهم، ولعل هذا ما عناه الشيخ الشبراوي بقوله عن هذه العلوم إنها «فروض كفاية» يتخصص لها من يطلبها، ولا تفرض على الذين يحضرون دروس العلماء الآخرين ولا يقبلون عليها، ولعل الأساتذة الذين يبلغون فيها مبلغ التعليم والإفادة يعتزلون الحلقات العامة بطلابهم ومريديهم، كما فعل الشيخ الجبرتي الكبير، وهو على الأرجح قد تلقى مبادئها عن شيوخ من قبله تعلموها وعلموها على طريقته في أخريات أيامه، وعلى هذه الطريقة بعينها تعلم الشيخ الدمنهوري كما سيرد في الصفحات التالية.
وإذا بدا من هذه الطريقة أن «العلوم الكونية» كانت من الدراسات «المخصوصة»، أو الدراسات التي لا تباح على عواهنها، فمن جزاف القول أن ينسب ذلك كله إلى الجمود وضيق الأفق وقلة الاكتراث بالحجر على القول أو الحجر - كما نقول في عصرنا الحديث - على حرية التفكير.
فقد يقع الذنب على شيء غير الجمود والحجر على الحرية الفكرية.
نعم، قد يقع ذنب «التقييد» الذي أحيطت به دراسة العلوم الكونية على طريقة تدريسها، أو طريقة إعداد الطلاب للتقدم فيها، وما من علم من تلك العلوم سلم من الخلط بينه وبين علم زائف يشبهه ويحمل عنوانه، وليس هو بذلك العلم الأصيل في حقيقته ونفعه.
فعلم الفلك قد اختلط بعلم التنجيم، وانتقل من ثقاته وأمنائه إلى المحتالين والملفقين لأكاذيب الطوالع وعلاقات الألفة والزواج والمشاركة في أعمال الكسب والارتزاق.
وعلم الكيمياء قد اختلط بتحضير الذهب، وسحر المعادن، وصناعة السموم بغير رقابة عليها وعلى الجرائم الخفية التي تستخدم فيها.
وعلم المنطق قد اختلط بالسفسطة والجدل، وظهر من طريقة تعليمه في الأمم القديمة من عهد الإغريق إلى عهد البيزنطيين أنه مفسدة للعقول، ومدرجة للعبث بالعقائد وقواعد التفكير الصادق والبحث المفيد.
وليس من الإغراب في الظن البعيد أن نعتقد أن أصحاب الرأي وذوي البصر بالتربية في العصر الحديث كانوا يحيطون تلك العلوم بمثل ما أحيطت به من القيود بالأمس، لو أنها بقيت إلى اليوم بأضرارها وشوائبها، ودامت على حالها من اختلاط الصحيح بالزائف واختلاط المتعلمين بين طلابها على استعداد وعلى غير استعداد، وبين المشتغلين بها للعلم والفائدة والمشتغلين بها للاحتيال والشعوذة، فليس الجمود وحده علة تقييدها بالأمس، وليست حرية الفكر وحدها هي التي رفعت عنها قيودها اليوم، ولكنها حكمة بصيرة دعت إليها أسبابها في حينها، وأوجبتها أمانة الفكر وسلامة المجتمع على المسئولين عنها من أهل العلم والسياسة.
अज्ञात पृष्ठ
إلا أن الحكمة البصيرة إذا حاف عليها الجمود، واصطلحت عليها الأثرة مع الجمود، ذهبت أسبابها وبقيت قيودها، وتحولت من الرقابة البصيرة إلى الحجر الأعمى والعداء اللجوج، وكان فعل الأثرة هنا أشد من فعل الجمود في كراهة المزايا العلمية التي يمتاز بها العارفون، ويحرمها أصحاب الظهور بالمعرفة وهم يكرهونها مخلصين لجهلهم بحقيقتها، إن لم يكرهوها مغرضين لخوفهم من مزاحمتها، وقد أوشك الحذر من تلك العلوم أن ينقلب في أوائل القرن السابع عشر من الحكمة البصيرة إلى الجمود المعيب والغرض المريب، وضعف الغيورون عليها من حمايتها واحتمال تبعاتها ومصاعبها، ولكنهم استفادوا من قوارع الهزيمة بعد الحملة الفرنسية شيئا واحدا على الأقل، وهو الشعور بالأسف عليها، والجرأة على بث هذا الأسف في كتبهم المتداولة، ومنها كتبهم التي ألفوها في صميم علوم الدين والشريعة، فلم ينس الشيخ حسن العطار - وهو يبسط القول في أصول الفقه في حاشيته على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع - أن يصرح بأسفه لإهمال علوم الحكمة واللغة، فيقول في كلامه على القياس من الجزء الثاني: «من تأمل ما سطرناه وما ذكر من التصدي لتراجم الأئمة الأعلام، علم أنهم كانوا من رسوخ قدمهم في العلوم الشرعية والأحكام الدينية لهم اطلاع عظيم على غيرها من العلوم، وإحاطة تامة بكلياتها وجزئياتها، حتى في كتب المخالفين في العقائد والفروع، يدل على ذلك النقل عنهم في كتبهم والتصدي لدفع شبههم، وأعجب من ذلك تجاوزهم إلى النظر في كتب غير أهل الإسلام؛ فإني وقفت على مؤلف للقرافي رد فيه على اليهود شبها أوردوها على الملة الإسلامية لم يأت في الرد عليهم إلا بنصوص من التوراة وبقية الكتب السماوية، حتى يظن الناظر في كتابه أنه كان يحفظها على ظهر قلب، ثم هم مع ذلك ما أخلوا في تثقيف ألسنتهم وترقيق طباعهم من رقائق الأشعار ولطائف المحاضرات.
ومن نظر ما دار بين المصنف - رحمه الله - وبين عصريه الأديب الصلاح الصفدي من المراسلات البليغة والأشعار الرقيقة، علم أنه - رحمه الله - ممن تخضع له رقاب البلغاء وتجري في مضماره سوابق الأدباء. وكذا ما دار بين سلطان المحدثين الحافظ ابن حجر العسقلاني ومن عاصره من فحول الأدباء من لطائف الأشعار والنكات الأدبية، وكذا العلامة الدماميني، بل بين الحافظ السيوطي والسخاوي من المناقضات وما ألفه من المقامات، وفيما انتهى إليه الحال في زمن وقعنا فيه؛ علم أن نسبتنا إليهم كنسبة عامة زمانهم، فإن قصارى أمرنا النقل عنهم بدون أن نخترع شيئا من عند أنفسنا، وليتنا وصلنا إلى هذه المرتبة ، بل اقتصرنا على النظر في كتب محصورة ألفها المتأخرون المستمدون من كلامهم، نكررها طول العمر ولا تطمع نفوسنا إلى النظر في غيرها، حتى كأن العلم انحصر في هذه الكتب، فلزم من ذلك أنه إذا ورد علينا سؤال من غوامض علم الكلام تخصلنا منه بأن هذا كلام الفلاسفة ولا ننظر فيه، أو مسألة أصولية قلنا لم نرها في جمع الجوامع فلا أصل لها، أو نكتة أدبية قلنا هذا من علوم أهل البطالة، وهكذا؛ فصار العذر أقبح من الذنب. وإذا اجتمع جماعة منا في مجلس، فالمخاطبات مخاطبات العامة والحديث حديثهم، فإذا جرى في المجلس نكتة أدبية ربما لا نتفطن لها، وإن تفطنا لها بالغنا في إنكارها والإغماض عن قائلها إن كان مساويا، وإيذائه بشناعة القول إن كان أدنى، ونسبناه إلى عدم الحشمة وقلة الأدب. وأما إذا وقعت مسألة غامضة من أي علم كان، عند ذلك تقوم القيامة، وتكثر القالة، ويتكدر المجلس، وتمتلئ القلوب بالشحناء، وتغمض العيون على القذى، فالمرموق بنظر العامة الموسوم بما يسمى العلم إما أن يتستر بالسكوت حتى يقال إن الشيخ مستغرق، أو يهذر بما تمجه الأسماع وتنفر منه الطباع.
وقالوا سكرنا بحب الإله
وما أسكر القوم إلا القصع
فحالنا الآن كما قال ابن الجوزي في مجلس وعظ ببغداد:
ما في الديار أخو وجد تطارحه
حديث نجد ولا خل تجاريه
وهذه نفثة مصدور، فنسأل الله السلامة واللطف.»
ثم عاد الشيخ إلى بث هذا الأسف بعد ذكر العلوم العصرية والإلمام بمؤلفاتها المترجمة عن اللغات الأوروبية، فقال في عرض الكلام على الخلاء والملاء وضغط الهواء: «إنا لو وضعنا خشبة مستوية أو أنبوبة مسدودة الرأس في قارورة، بحيث يكون بعض الأنبوبة داخل القارورة وبعضها خارج عنها، وسددنا رأس القارورة بحيث لا يدخلها هواء ولا يخرج، وذلك بأن نسد الخلل بين عنق القارورة والأنبوبة سدا محكما لا يمكن نفوذ الهواء فيها، فإذا أدخلنا الأنبوبة فيها أكثر مما كانت بحيث لا يخرج شيء من الهواء عنها انكسرت القارورة إلى خارج، وإذا أخرجناها عنها بحيث لا يدخل فيها شيء من الهواء انكسرت إلى داخل، ولولا أنها مملوءة بالهواء وما فيها من الأنبوبة بحيث لا تحتمل شيئا آخر لم يكن كذلك، فدل ذلك على امتناع الخلاء. وقد قال شارح حكمة العين: إن هذه إقناعيات لا برهانيات. وأقول: إن مسألة الخلاء ومسألة إثبات الميل في الأجسام من مسائل العلم الطبيعي، وبتحقيقها ينكشف للفطن أسرار غريبة، وعليها ينبني كثير من مسائل علم جر الأثقال وعلم الحيل واستحداث الآلات العجيبة. ووقع في زماننا أن جلبت كتب من بلاد الإفرنج وترجمت باللغة التركية والعربية، وفيها أعمال كثيرة وأفعال دقيقة اطلعنا على بعضها، وقد تتحول تلك الأعمال بواسطة الأصول الهندسية والعلوم الطبيعية من القوة إلى الفعل، وتكلموا في الصناعات الحربية والآلات النارية ومهدوا فيها قواعد وأصولا، حتى صار ذلك علما مستقلا مدونا في الكتب، وفرعوه إلى فروع كثيرة، ومن سمت به همته إلى الاطلاع على غرائب المؤلفات وعجائب المصنفات، انكشفت له حقائق كثيرة من دقائق العلوم، وتنزهت فكرته - إن كانت سليمة - في رياض الفهوم.
فكن رجلا رجله في الثرى
अज्ञात पृष्ठ
وهامة همته في الثريا
فالنفس الإنسانية بالاطلاع على حقائق المعارف تتكمل، والفاضل الكامل بأنواع العلوم يتفوق ويتفضل، لا بتحسين هيئة اللباس والمزاحمة على التصدر في مجالس الناس. قال الحكيم الفارابي:
أخي خل حيز ذي باطل
وكن والحقائق في حيز
فما الدار دار مقام لنا
وما المرء في الأرض بالمعجز
ينافس هذا لذاك على
أقل من الكلم الموجز
محيط السماوات أولى بنا
فماذا التنافس في المركز؟
अज्ञात पृष्ठ
فلا تجعل سعيك لغير تحصيل الكمالات العرفانية مصروفا، ولا تتخذ غير نفائس الكتب أليفا ومألوفا.
ولا تك من قوم يديمون سعيهم
لتحصيل أنواع المآكل والشرب
فهذي إذا عدت طباع بهائم
وشتان ما بين البهيم وذي اللب
وهذه نفثة مصدور، ولله عاقبة الأمور، لعمري لقد تساوى الفطن والأبله الأفن، واستنسر البغاث وسد طريق النظر على الناظر البحاث، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.»
والشيخ حسن العطار - نافث هذه الشكوى - قد كان مثلا للعالم المثقف بثقافة عصره قبل نحو القرن ونصف القرن. ولد بالقاهرة سنة 1190، وتوفي بها سنة 1250 هجرية (1776-1835م)، وشهد حملة نابليون وعاشر علماءها واستفاد من زيارة معالمها، وعاش زمنا في دمشق وزمنا في أشقودرة بالبلاد الألبانية، واجتهد لنفسه في تحصيل المعارف الحديثة، فدرس الطبيعة والفلك والهندسة والمنطق، وطرفا من علم الميكانيكا الذي كان يسمى بعلم الحيل، وألف الرسائل في العمل بالأسطرلاب، والربعين المقنطر والمجيب، والبسائط، وأدمن الاطلاع على كتب الأدب، فنظم الشعر وأجاد كتابة الرسائل، وأسند إليه تحرير الوقائع المصرية عند إنشائها لاشتهاره بجودة الأسلوب والتمكن من صناعة القلم، مع حسن الاطلاع على المعارف الحديثة وحسن الفهم للعلاقة بين قواعدها النظرية ونتائجها العملية في المخترعات وعجائب الفنون، ثم تولى مشيخة الجامع الأزهر بعد أن قارب الخامسة والخمسين، فبقي فيها إلى سنة وفاته. •••
ولقد تولى هذا العالم الفاضل مشيخة الجامع الأزهر - وهو كما نرى - لا تعوزه الغيرة على العلم الحديث، ولا الرغبة في تعميمه واجتذاب العقول الناشئة إليه، ولكنه كان - رحمه الله - رجلا من رجال الفطنة والكياسة، ولم يكن على غرار ذوي البأس الصارم والعزيمة الغلابة من أولئك المصلحين النوادر، الذين يناط بهم افتتاح العهود وهدم العوائق الراسخة في سبيل الإصلاح، ولا سيما الإصلاح الذي يعارضه أعداؤه باسم الدين، ويعتصمون منه بالحصون المنيعة من العادات المتأصلة والمصالح المتأشبة، وصغائر الغرور والادعاء ووجاهة المظاهر والألقاب، ونحسبه - لو كان من أولئك المصلحين النوادر - لما تسنى له في مدى السنوات القلائل التي تولى فيها مشيخة الجامع أن يقوم بعمل ذي بال لتجديد نظام التعليم وإتمام العدة اللازمة لابتداء ذلك النظام؛ فإن العزيمة الغلابة لا تكفي وحدها للغلبة على معارضة الشيوخ وإعراض الطلاب، وتبديل مصالح هؤلاء وهؤلاء في النظام القديم بمصالح مثلها أو أكبر منها تعوض عنها العلماء المعارضين والطلاب المعرضين. وقد تكفي عزيمة الشيخ للابتداء في العمل، إن لم تكف للتقدم البعيد في طريقه، لو أنه وجد من ولاة الأمر معونة صادقة تفعل بالسلطان ما لا يفعله البرهان، ولكن ولاة الأمر في عهده كانوا يؤثرون سكوت العلماء عنهم على إثارتهم بالشكوى والاتهام من أجل عمل يغضبهم ولا يرضي أحدا غيرهم، وليس هو - بعد - من العمال التي تلجئهم الضرورة العاجلة إليها.
على أننا قد نبلغ في تهوين أثر القدوة الحية إذا خطر لنا أن نفثة المصدور ذهبت في الهواء، فإنها نفثة عالم كبير يسمعها منه العاقل والغافل، ويقرؤها في كتبه مئات الطلاب من مريديه ومريدي غيره من العلماء الموافقين والمعارضين، وتأتي في أوانها الذي مهدت له الحوادث وتهيأت له النفوس المتطلعة والآمال المتوثبة، فهي من طلائع الجو الذي يتفتح له الأفق وإن لم يمتلئ به لأول وهلة، وعلى هذه السنة من سنن التجديد تبتدئ طلائع الأجواء في جميع الآفاق.
ثم تعمل الضرورة الواقعة عملها غير مدفوعة بحيل المحتالين وتعلات الكسالى المتعنتين، فقد نفث الشيخ نفثته في مفتتح القرن التاسع عشر والمدارس الحديثة تتوالى عاما إثر عام، بين مدرسة للهندسة ومدرسة للطب، ومدرسة للألسن ومدرسة للعلوم الطبيعية، ويتوالى معها بناء المعامل لصناعات السلم والحرب، ويختار لها الطلاب والمحترفون من أبناء الأزهر الناشئين، كما تختار منهم البعوث إلى البلاد الأوروبية، فيقضون فيها الأعوام المعدودة ويعودون إلى مناصب الرئاسة أو مناصب الأستاذية، ويصعدون من تلك المناصب إلى أرفع مراتب الدولة، وتتهيأ لهم وسائل التنفيذ التي لم تكن مهيأة لشيخهم في منصبه، فلم يمض جيل واحد حتى كان في القاهرة من تلاميذ العلوم الحديثة حزب كبير يفهم ما ينبغي عمله للمضي بالنهضة العلمية في سبيلها، ويملك من الرأي والمشورة المسموعة ما يعينه على خصومها ...
अज्ञात पृष्ठ
ويتفق أن يكون أكبر دعاة هذه النهضة تلميذا للشيخ العطار اختاره للسفر إلى الغرب، ونصح له قبل سفره «أن ينبه على ما يقع في هذه السفرة، وعلى ما يراه وما يصادفه من الأمور الغريبة والأشياء العجيبة، وأن يقيده ليكون نافعا في كشف القناع عن محيا تلك البقاع».
ذلك التلميذ الناجح هو نابغة جيله (رفاعة بدوي رافع الطهطاوي) رحمه الله، وهو القائل في فضل العلوم الحديثة، بعد أن نبه بغاية ما يستطاع من الصراحة في ذلك الزمن إلى إهمال محمد علي الكبير لتعميم تلك العلوم في الجامع الأزهر: «... ولو أنه أعلى منار الوطن ورقاه لم يستطع إلى الآن أن يعمم أنوار هذه المعارف المتنوعة بالجامع الأزهر الأنور، ولم يجذب طلابه إلى تكميل عقولهم بالعلوم الحكمية التي كبير نفعها في الوطن ليس ينكر. نعم، إن لهم اليد البيضاء في إتقان الأحكام الشرعية العلمية والاعتقادية، وما يجب من العلوم الآلية كعلوم العربية الاثني عشر، وكالمنطق والوضع وآداب البحث والمقولات وعلم الأصول المعتبر، ولمثل هذا فليعمل العاملون، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، غير أن هذا وحده لا يفي للوطن بقضاء الوطر، والكامل يقبل الكمال كما هو متعارف عند أهل النظر، ومدار سلوك جادة الرشاد والإصابة، منوط بعد ولي الأمر بهذه العصابة، التي ينبغي أن تضيف إلى ما يجب عليها من نشر السنة الشريفة، ورفع أعلام الشريعة المنيفة، معرفة سائر المعارف البشرية المدنية، التي لها مدخل في تقدم الوطنية، من كل ما يحمد على تعلمه وتعليمه علماء الأمة المحمدية، فإنه بانضمامه إلى علوم الشريعة والأحكام يكون من الأعمال الباقية على الدوام، ويقتدى بهم في اتباعه الخاص والعام، حتى إذا دخلوا في أمور الدولة يحسن كل منهم في إبداء المحاسن المدنية قوله، فإن سلوك طريق العلم النافع من حيث هو مستقيم، ومنهجه الأبهج هو القويم، يكون بالنسبة للعلماء سلوكه أقوم وتلقيه من أفواههم أتم وأنظم، لا سيما وأن هذه العلوم الحكمية التي يظهر الآن أنها أجنبية، هي علوم إسلامية نقلها الأجانب إلى لغاتهم من الكتب العربية، ولم تزل كتبها إلى الآن في خزائن ملوك الإسلام كالذخيرة، بل لا زال يتشبث بقراءتها ودراستها من أهل أوروبا حكماء الأزمنة الأخيرة، فإن من اطلع على سند شيخ الجامع الزهر الشيخ أحمد الدمنهوري الذي كانت مشيخته قبل شيخ الإسلام أحمد العروسي الكبير، جد شيخ شيوخ الجامع الأزهر الآن السيد المصطفوي العالم الشهير؛ رأى أنه قد أحاط من دوائر هذه العلوم بكثير، وأنه له فيها المؤلفات الجمة، وأن تلقيها إلى أيامه كان عند أهل الجامع الأزهر من الأمور المحلية، فإنه يقول فيه بعد سرد ما تلقاه من العلوم الشرعية وآلاتها معقولا ومنقولا:
أخذت عن أستاذنا الشيخ المعمر علي الزعتري خاتمة العارفين بعلم الحساب واستخراج المجهولات، وبما توقف عليها كالفرائض والميقات، ووسيلة ابن الهائم ومعونته كلاهما في الحساب، والمقنع لابن الهائم، ومنظومة الياسميني في الجبر والمقابلة، ودقائق الحقائق في حساب الدرج والدقائق لسبط المارديني في علم حساب الأزياج، ورسالتين إحداهما على ربع المقنطرات والأخرى على ربع المجيب، كلاهما للشيخ عبد الله المارديني جد السبط، ونتيجة الشيخ اللدائقي المحسوبة لعرض مصر، والمنحرفات للسبط المارديني في علم وضع المزاول، وبعض اللمعة في التقويم. وأخذت عن سيدي أحمد القرافي الحكيم بدار الشفاء بالقراءة عليه كتاب الموجز واللمحة العفيفية في أسباب الأمراض وعلاماتها بشرح الأمشاطي، وبعضا من قانون ابن سينا، وبعضا من كامل الصناعة، وبعضا من منظومة ابن سينا الكبرى، والجميع في الطب. وقرأت على أستاذنا الشيخ عبد الفتاح الدمياطي كتاب لقط الجواهر في معرفة الحدود والدوائر للسبط المارديني في الهيئة السماوية، ورسالة ابن الشاط في علم الأسطرلاب، ورسالة قسطا بن لوقا في العمل بالكرة وكيفية أخذ الوقت منها، والدرر لابن المجدي في علم الزيج. وقرأت على أستاذنا الشيخ سلامة الفيومي أشكال التأسيس في الهندسة، وبعضا من الجغميني في علم الهيئة، وبعضا من رفع الإشكال عن مساحة الأشكال في علم المساحة. وقرأت على شيخنا الشيخ عبد الجواد المرحومي جملة كتب، منها رسالة في علم الأرثماطيقي للشيخ سلطان المزاحي. وقرأت على الشيخ محمد الشهير بالسحميمي منظومة الحكيم درمقاش المشتملة على التكسير وعلم الأوفاق وعلم الاستنطاقات وعلم التكعيب، ورسالة أخرى في رسم ربع المقنطرات والمنحرفات لسبط المارديني، وعلم المزاول ومنظومة في علم الأعمال الرصدية، وروضة العلوم وبهجة المنطوق والمفهوم لمحمد بن ساعد الأنصاري، وهو كتاب يشتمل على سبعة وسبعين علما، أولها علم الحرف وآخرها علم الطلاسم، ورسالة للإسرائيلي، ورسالة للسيد الطحان، كلاهما في علم الطالع، ورسالة للخازن في علم المواليد، أغنى الممالك الطبيعية وهي الحيوانات والنباتات والمعادن. وأخذت عن شيخنا الشيخ حسام الدين الهندي شرح الهداية في الحكمة، ومتن الجغميني في علم الهيئة بمراجعة قاضي زاده ومطالعة السيد عليه. وأخذت عن سيدي أحمد الشرفي شيخ المغاربة بالجامع الأزهر كتاب اللمعة في تقويم الكواكب السبعة ...»
ولما ذكر ما تلقاه من هذه العلوم أعقبه بما طالعه بنفسه بدون الأخذ عن شيخ، فقال: «طالعت كتاب إحياء الفؤاد بمعرفة خواص الأعداد في علم الأرثماطيقي في كراسين، وكتاب عين الحياة في علم استنباط المياه، في نحو كراسين، والرسالة في الكلام اليسير في علاج البواسير في نحو كراسين، ورسالة التصريح بخلاصة القول الصريح في علم التشريح في نحو كراسين، ومنها كتاب إتحاف البرية بمعرفة الأمور الضرورية في علم الطب في نحو خمسة كراريس، ومنها رسالة القول الأقرب في علاج لسع العقرب في نحو كراس، ومنها منهج السلوك في نصيحة الملوك في نحو عشرة كراريس، ومنها كتاب بلوغ الأرب في أسماء سلاطين العجم والعرب، معنونا باسم السلطان مصطفى خان ابن السلطان أحمد خان، المولود في رابع عشر شهر صفر سنة تسع وعشرين ومائة وألف، يوم الأربعاء أول النهار في الساعة الأولى بعد الشمس، الجالس على سرير الملك في سابع عشر شهر صفر الخير سنة إحدى وسبعين ومائة وألف، يوم الأحد قبل الشمس.» انتهى كلامه ملخصا بتصرف.
وانظر إلى هذا الإمام الذي كان شيخ مشايخ الجامع الأزهر، وكان له في العلوم الطبية والرياضية وعلم الهيئة الحظ الأوفر، مما تلقاه عن أشياخه الأعلام فضلا عن كون أشياخه كانوا أزهرية، ولم يفتهم الوقوف على حقائق هذه العلوم النافعة في الوطنية، وفضل العلامة الجبرتي المتوفى في أثناء هذا القرن في هذه العلوم وفي فن التاريخ أمر معلوم، وكذلك العلامة الشيخ عثمان الورداني الفلكي، وكان للمرحوم الشيخ حسن العطار شيخ الأزهر أيضا مشاركة في كثير من هذه العلوم، حتى في العلوم الجغرافية، فقد وجدت بخطه هوامش جليلة على كتاب تقويم البلدان لإسماعيل أبي الفداء سلطان حماة المشهور أيضا بالملك المؤيد، وللشيخ المذكور هوامش أيضا وجدتها بأكثر التواريخ وعلى طبقات الأطباء وغيرها، وكان يطلع دائما على الكتب المعربة من تواريخ وغيرها، وكان له ولوع شديد بسائر المعارف البشرية، مع غاية الديانة والصيانة، وله بعض تآليف في الطب وغيرها زيادة عن تآليفه المشهورة ... فلو تشبث من الآن فصاعدا نجباء أهل العلم الأزهريين بالعلوم العصرية التي جددها الخديو الأكرم بمصر بإنفاقه عليها أوفر أموال مملكته، لفازوا بدرجة الكمال وانتظموا في سلك الأقدمين من فحول الرجال، وربما يتعللون بالاحتياج إلى مساعدة الحكومة، والحال أن الحكومة إنما تساعد من يلوح عليه علامات الرغبة والغيرة والاجتهاد، فعمل كل من الطرفين متوقف على عمل الآخر، وترجع المسألة دورية، والجواب عنها أن الحكومة قد ساعدت بتسهيل الوسائط والوسائل ليغتنم فرصة ذلك كل طالب وسائل، وكل من سار على الدرب وصل، وإنما تكون المكافأة على تمام العمل ... فهذا ما يتعلق بطبقة العلماء، وقد ذكرنا ما يتعلق به في الفصل الأول من الباب الأول من هذا الكتاب مبسوطا بما فيه الكفاية. •••
وهذا الفصل من كتاب «مناهج الألباب» يعتبر وثيقة «رسمية» من أهم الوثائق في تاريخ التعليم بالجامع الأزهر؛ لأنه يشتمل على ثبت صحيح بأسماء المؤلفات الكثيرة التي كانت تؤلف في علوم الطب والرياضة والطبيعة وغيرها من العلوم التي تسمى بالعلوم الكونية تمييزا لها من العلوم الإلهية أو الشرعية، ويشتمل كذلك على أسماء مؤلفيها والعلماء الذين يدرسونها وطريقتهم في تحصيلها، إما بالقراءة على أصحابها أو بالمطالعة في مراجعها. ومن هذا الثبت الصحيح يتبين لنا أنها كانت تحيط بصفوة المعارف البشرية كما عرفها الناس إلى نهاية العصور الوسطى في بداية القرن السابع عشر، وأنها كانت دراسات «موسوعية» جامعية من طراز مناهجها في أنحاء العالم كله على عهدها.
ويدل هذا الفصل على موقف الحكومة يومئذ من مسألة التعليم بالجامع الأزهر، فإنها كانت على موقف الحذر من تقرير علوم تدرس فيه بغير طلب من أهله، هيبة لعلمائه وخوفا من تهمة المساس بالدين والاجتراء على سنن السلف ومجاراة البدع المستحدثة؛ بدع الفرنجة أو بدع الفلاسفة كما قال الشيخ العطار بألسنتهم حين تتلى عليهم مسألة من مسائل المعرفة لم ترد في كتاب من كتب المتأخرين، وكأنما كان النابغة الأزهري - رفاعة - يلوح لشيوخ العلماء بالخطة التي يسلكونها إذا ترقبوا من الحكومة أن تغير مسلكها، «فإن الحكومة إنما تساعد من يلوح عليه علامات الرغبة والغيرة والاجتهاد، فعمل كل من الطرفين متوقف على عمل الآخر، وترجع المسألة دورية ...» إن لم يبدأ علماء الأزهر من قبلهم بمسلك جديد.
وقد دل رفاعة بما كتبه عن مسألة التعليم الأزهري على صراحة الرائد المجدد وحصافته في وقت واحد، فكان صريحا في تنبيهه إلى إهمال محمد علي الكبير لتلك المسألة، وكان صريحا في تنبيهه العلماء إلى موضع تقصيرهم أو موضع مشاركتهم في تبعة ذلك الإهمال، وكان حصيفا في عنايته بسرد أسماء العلوم والمؤلفات التي سبق إليها العلماء الأسبقون، فإنه - ولا شك - قد فطن للوجهة التي اتجه إليها تيار الفكر الحديث في البلاد، وكشف عن الموطن الحساس الذي لمسته هذه المسألة من جانب العاطفة القومية، فمنذ الحملة الفرنسية وقعت الصدمة في ذلك الجانب من العاطفة القومية موقعين متناقضين متلازمين: موقع اليقين بغلبة القوم، وفيه من دواعي الوجوم والانكسار ما فيه، وموقع العزاء بسبق الشرق إلى تلك العلوم، والإيمان بأنها عند القوم عارية مستعارة نستردها لنقول لأنفسنا وللعالم إنها بضاعتنا ردت إلينا، وفي ذلك من تجديد الثقة ما فيه.
ورفاعة في دعوته نجباء الأزهر إلى العلم العصري باسم السلف، إنما تسلم هذه العاطفة من حيث تركها رواد الفكر الحديث، ولعله تعمد أن يسوق الكلام فيها بذلك الأسلوب التقليدي المسجوع، ليدخل في روع قرائه أن الكاتب العصري لا يعجز عن مثل ذلك الأسلوب، أو لا ينقصه ولا يخلعه عن قلمه؛ لأن المعرفة العصرية لا تنقطع بكاتبها عن ماضيه.
ولم يتمكن رفاعة من تقرير النظام الذي كان يؤثره لتعليم طلاب الأزهر؛ لأنه أبعد إلى السودان في أخريات أيامه لتنظيم التعليم فيه، وتوفي سنة 1871 والأزهريون لا يحفزون لتلك الخطوة التي كان ينتظر منهم أن يخطوها تشجيعا للحكومة على استخدام سلطانها في تقرير نظامه اعتمادا على دعوة أهله، ولكن شيخ الجامع لعهده - الشيخ مصطفى العروسي - خطا في داخل الأزهر خطوة حسنة بالرقابة على علمائه وطلابه، وانتقاء الصالحين منهم للتعليم والتعلم ومتابعة الدرس في العلوم التي يتطلبها العمل الجديد في دواوين القضاء ومدارس الحكومة العصرية، وأهمها علوم الحديث والتفسير والأصول والتوحيد والفقه، والنحو والصرف، والمعاني والبديع والمنطق، ثم جاء خليفته الشيخ محمد المهدي العباسي فأسس نظام الامتحان لشهادة العالمية على نظامها الحديث، بعد استئذان الحكومة لاعتبار هذه الشهادة في ولاية الوظائف العامة غير التدريس بالجامعة الأزهرية، وجعل هذه الشهادة على درجات: أولى وثانية وثالثة، على حسب إجابة الطالب وطبقة الكتب التي يجرى الامتحان في مادتها. •••
अज्ञात पृष्ठ
على هذه الحالة كان الجامع الأزهر حين وصل الشاب محمد عبده إلى القاهرة لينتظم في سلك طلابه.
المفروض فيه بحكم الشهرة الموروثة أنه جامعة عالمية تزود طلابها بكل ما وسعته العقول البشرية من معارف الماضي والحاضر، وعلوم الدين والدنيا.
والحقيقة الواقعة أن دروسه يومئذ كانت مقصورة على قشور من علوم الفقه واللغة يتلقاها الطالب عن أستاذه، ويعول في تحصيلها على حفظ الذاكرة، وقلما يطالبه أحد من أساتذته أو يطالب هو نفسه بوعيها والتصرف في لفظها ومعناها.
وكان التعليم والتعلم كلاهما فوضى مهملة لا رقابة عليها لأحد، فلما دعا الأمر إلى اختيار طائفة من خريجي الأزهر لوظائف القضاء والتعليم، رسمت لهم شروط الامتحان ودرجات الإجازة على مثال الشهادات المدرسية التي كانت ترشح الحاصلين عليها من خريجي المدارس العصرية لوظائف الدولة.
وقد كان الراغبون في تغيير هذه الحالة غير قليلين، ولكنهم كانوا لا يملكون سلطة التغيير، أو يملكونها ويؤثرون أن يتمهلوا حتى يجيء طلب التغيير من أهله؛ تجنبا لإثارة الشبهات بابتداع البدع واتباع دعاة الزندقة - أو الفرنجة - في أمر المعهد الأكبر من معاهد الدين.
الفصل الرابع
محلة نصر
ولد أستاذنا الإمام بحصة شبشير من قرى إقليم الغربية، ولكنه نشأ بقرية «محلة نصر» من قرى مركز شبراخيت بإقليم البحيرة، حيث نشأ والده ونشأت أسرته من قبله.
وقرية «محلة نصر» هذه إحدى القرى الصغيرة في أقاليم الريف، ولكنها - على صغرها - كانت من تلك القرى التي يصح أن يقال فيها إنها موصولة التاريخ بتاريخ القطر كله، ذات كيان اجتماعي مكين، تتمثل فيه أحداث العهود ويحس أهله فيه طوارئ الزمن من عهد إلى عهد، بل من ولاية إلى ولاية؛ لأنهم يعيشون في ظل كيان غير منقطع عن مجرى الحوادث الكبرى في الإقليم، وفيما حول الإقليم من ميادين الحياة في أنحاء البلاد.
ولا يخطرن لنا أن هذا شأن عام مشترك بين جميع القرى في هذه الأنحاء، فإن من هذه القرى ما يبلغ من عزلته أن يتغير الوالي في القطر كله ولا يدركون تغيره بعمل ظاهر في القرية، بل منها ما يعم الوباء وينتشر بين أقاليم شتى، ولا يصل إليها، لقيام العلاقة بينها وبين ما حولها على المعاملات البعيدة، وقد تكون منها معاملات «حولية» تعود مع المواسم والمحاصيل، ولا تخرج من نطاقها المحدود بقية أيام الحول.
अज्ञात पृष्ठ
أما هذه القرية الصغيرة في إقليم البحيرة - محلة نصر - فكانت من تلك القرى الممتازة بدوام اتصالها بالحياة الاجتماعية والحياة السياسية في سائر أنحاء البلاد، وتاريخها في خلال القرن الذي ولد فيه الأستاذ الإمام شاهد على هذه الصلة الدائمة بينها وبين كل حادث خطير من الحوادث القهرية، التي سجلت لنا أدوار التاريخ في الوطن المصري بحذافيره.
مارست العيش في ظل نظام الإقطاع، وسميت باسم محلة «نصر»؛ لأنها كانت إقطاعا لرجل بهذا الاسم، لم يبق من تاريخه ما يعرف غير هذه النسبة.
ولما نشأت أنظمة «التفاتيش» الزراعية التي خلفت عهد الإقطاع، كان أكبر هذه التفاتيش من أملاك الخديو إسماعيل على مقربة منها، أو على علاقة بأهلها، وإلى جوار هذا التفتيش بمركز السنطة هاجر أبو الأستاذ وعمه، وكان معهم - كما قال الأستاذ في تاريخه - قدر من المال يسمح لهم باستئجار أطيان يعملون فيها بأيديهم ومعونة شركائهم، فاشتهر والده بين أهلها «بالفتوة والبراعة في الصيد بالسلاح، فأحبه لذلك مصطفى أفندي المنشاوي ومحمد أخوه، وكانا موظفين في دائرة إسماعيل باشا الخديو؛ أولهما في وظيفة مفتش زراعة، والثاني في وظيفة ناظر، وطابت له صحبتهما، فعدوه كأنه واحد من أهلها، ودام ذلك مدة سنين».
وقد كان أهل «محلة نصر» يشعرون بتقلب الأحوال بين وال ووال من أبناء الأسرة الخديوية، فاعتقل بعض أهلها في زمن عباس الأول، ثم أفرج عنهم في عهد خلفه محمد سعيد، ومنهم والده وبعض رؤساء أسرة المنشاوي، لاتهامهم بحمل السلاح وإيواء بعض المطلوبين للخدمة العسكرية، في أشد أيام النقمة عليها.
ولم تنج المحلة الصغيرة من وباء الطاعون الذي فتك بكثير من سكان القطر في منتصف القرن التاسع عشر، فمات به جده «حسن خير الله» عن ولدين هما أبوه وعمه.
وكان للقرية مقامها الديني، أو كان هذا المقام هو نواتها الذي التفت به سائر مساكنها، وذلك أن أجداد محمد عبده كانوا يسكنون الخيام مدة من الزمن، ثم اتفق أن اتصل بهم شيخ يسمى عبد الملك لا يعرف نسبه، وكان معتقدا ينسبون إليه الكرامات، فاتخذ خلوة يتعبد فيها بالمحل الذي قامت عليه بعد ذلك «محلة نصر»، ثم توفي فنهض جدهم - وكان من بيت الشيخ - ببناء قبة له جعلوا لهم مساكن من حولها، وانضمت إليها بيوت كثيرة تألفت القرية من مجموعها بعد فترة وجيزة.
ولم تخل القرية من «قوتها الحيوية» التي أسلفنا في الكلام على القرية المصرية أنها كانت عدة الريفيين في مقاومة سلطان الطغاة الكبار، ومقاومة أعوانهم من الطغاة الصغار أصحاب الإقطاع أو أصحاب الالتزام؛ إذ كان هؤلاء الطغاة أعجز من أن يسوقوا الزارعين جميعا بعصا الإكراه، ولم يكن لهم بد من مداراة العلية البارزين منهم، ومصانعة الأسر التي تمكنت من مقاد أهل القرية بجاه الثروة أو بجاه الكثرة.
روى المؤرخ المشهور «علي مبارك باشا» أنه اطلع بين مراجعه المخطوطة على رحلة لعبد اللطيف البغدادي تعرف بالرحلة الكبرى، رأى فيها اسم محلتي نصر ومسروق، وقال إنه نزل ضيفا في بيت خير الله التركماني، وإن البيوت الكبيرة في البلد كانت ثلاثة: بيت الشيخ، وبيت خير الله، وبيت الفرنواني.
ويظهر أن بيت التركماني من هذه البيوت - وهم أجداد محمد عبده - كان أقواهم شكيمة وأعصاهم مقادا على سادة القرية من أصحاب الإقطاع والالتزام، فحاربوه وطاردوه ولم يكفوا عن متابعته بالمطاردة والاضطهاد، كأنهم أيقنوا أنهم لا يأمنون مقاومته وتمرده عليهم أو يستأصلوه، فلم يزالوا بعصبة جده لأبيه حتى اعتقلوا منهم نحو اثني عشر رجلا، وسعوا بهم لأنهم ممن يحمل السلاح ويقف في وجوه أعوان «السلطة» عند تنفيذ المظالم، ثم جاء دور أبيه بعد حين، فحورب في رزقه وعمله حتى هاجر القرية وقضى بعيدا منها نحو خمس عشرة سنة.
وليس في أخبار هذه الأسرة ما يدل على ثراء كبير في ماضيها البعيد أو القريب، ولكن كل خبر من أخبارها التي بقيت لنا يدل على كثرتها وسعة انتشارها في إقليم البحيرة وما جاوره من بلاد إقليم الغربية.
अज्ञात पृष्ठ