अब्दुल रहमान अल-कवाकिबी
عبد الرحمن الكواكبي
शैलियों
بل يكفيه من الزاد - ويربي على الكلمة - أن يعلم من أحكام دينه ما يميز به الصحيح وغير الصحيح ويهتدي به إلى القويم من الرأي والاعتقاد وغير القويم، ويكفيه أن يعلم من أحوال عصره علاقات الدول والأوطان، ومجمل الوقائع الثابتة من دعوات الحرية والإصلاح، وذلك هو الزاد الذي يعلم المطلعون على كتابيه أنه كان موفورا لديه.
فمن صفحات «أم القرى» و«طبائع الاستبداد» نعلم أنه كان على اطلاع حسن في مسائل الدين، وكان على دراية محققة بتواريخ الأمم الإسلامية، وكان من الملمين أولا فأولا بالفتوح العلمية في العصر الحديث، يفهم منها ما لم يكن يفهمه غير القليلين في أوروبة نفسها يومئذ من آراء الرواد السابقين فيها، فكان ملما بمذهب النشوء والارتقاء، ملما بآراء العلماء في أطوار المادة وحركات الأفلاك وتكوين الكرة الأرضية والمنظومة الشمسية، وكان في شئون الاجتماع والسياسة يلم بأخبار الثورة الفرنسية وأخبار الزعماء والعاملين على استقلال الشعوب وتوحيد الأقوام، ويتتبع قواعد الحكم ومواضع التفرقة بينها، وينظر في الأخلاق والعادات التي تقترن بالفوارق بين أمة منها وأمة، وبين حكومة منها وحكومة، ويخص الشئون العملية بعنايته الأولى غير معرض عن جوانبها الأدبية، فلا يخفى عليه اسم الشاعر الذي أبدع الأناشيد أو الخطيب الذي أثار النخوة، ولكنه يقنع من ذلك بالحظ الذي سلك عنده «شيلر» في سلك حسان والكميت، فلا نظنه كلف نفسه الاطلاع على أناشيد المرشدين وخطب الخطباء؛ بل لا نظنه كان يعتز بها في لغة من اللغات التي يحسنها لو أنه سأل عنها، ولكنه لم يعلم بالأسماء إلا لعلمه بالدعوات التي أبرزتها في صفحات رواتها ومؤرخيها. •••
ولا اختلاف في مذهب الثقافة الدينية، على اعتقاد الكواكبي، بين التجديد والمحافظة على تراث السلف الصالح في صدر الإسلام ؛ لأن نهضة المسلمين إنما تقوم على تطهير الديانة الإسلامية من نفايات الخرافة، وحواشي البدع التي لصقت بها في عصور الجمود والتقليد، فالمحافظة في اعتقاده مرادفة للتجديد على أقوم سبله، واعتبار الكواكبي من صميم المحافظين في الدين لا يخرجه من زمرة المجددين المتشددين في طلب الإصلاح؛ بل هو على قدر غلوه في المحافظة على تراث السلف يغلو في دعوة الأجيال المقبلة إلى التحرر والتجديد.
وقد كان يشتد في المحافظة أحيانا فيتحرج من تغيير العادات في غير حرج، كما نرى في انتقاده الذي أنحى به على السلطان محمود لأنه «اقتبس عن الإفرنج كسوتهم وألزم رجال دولته وحاشيته بلبسها حتى عمت أو كادت، ولم يشأ الأتراك أن يغيروا منها الأكمام رعاية للدين؛ لأنها مانعة من الوضوء أو معسرة له».
وإن هذا الانتقاد لإفراط في المحافظة يلحقه بزمرة المحافظين الغلاة في حرصهم على سمت السلف وزيه الذي لا مساس له بجوهر العقيدة، وقد رأينا من معاصريه أنه ربما نزع إليه إفراطا منه في السخط على سلاطين الدولة وأساليبهم في التقريب بين الشرق والغرب والقديم والحديث، ولكنه - كما نرى من محافظته على زيه في وطنه وبعد الهجرة منه إلى الهند والديار المصرية - لم يكن يعمل غير ما يقول، ولم يكن ينقد بكلامه ما يترخص فيه بمسلكه، فإنه بقي على سنة أسلافه قبل عهد السلطان محمود، فلم يبدل زيه إلا ليلبس العباءة والعقال.
وربما جنح في أواخر أيامه إلى آراء بعض المتصوفة في تفسير الكائنات الغيبية بالمعاني النفسية والرموز الروحية، وأبعد ما ذهب إليه من ذلك قوله في فصل التربية من طبائع الاستبداد: «إن يشأ الكمال يبلغ فيه إلى ما فوق مرتبة الملائكة، إن كان هناك ملائكة غير خواطر الخير، وإن شاء تلبس بالرذائل حتى يكون أحط من الشياطين، إن كان هناك شياطين غير وساوس النفس بالشر ...»
ورد هذا في الطبعة التي ظهرت بعد وفاته، ولم يرد في طبعة من الطبعات التي أصدرها في حياته، ولعله مر بهذا الخاطر بعد اطلاعه على التفسيرات الحديثة على أطراف من كلام الصوفية المتأخرين، ولا نخاله قد غفل في مطالعاته الدينية عن تفسير كتفسير السيد محمد الآلوسي المتوفى سنة 1270 هجرية، فإنه يشير إلى أمثال هذه الخواطر كما فعل بعد تفسير الآية عن زلل آدم وحواء إذ أكلا من الشجرة فقال: «وبينما هما يتفرجان في الجنة، إذ راعهما طاووس تجلى لهما على سور الجنة، فدنت حواء منه، وتبعها آدم، فوسوس لهما من وراء الجدار ... ومشهور حكاية الحية ... يشير أولهما عند ساداتنا الصوفية إلى توسله من قبل الشهوة خارج الجنة، وثانيهما إلى توسله بالغضب، وتسور جدار الجنة عندهم إشارة إلى أن الغضب أقرب إلى الأفق الروحاني والحيز القلبي من الشهوة. وقيل إن توسله إلى ما توسل إليه إذ ذاك مثل توسله اليوم إلى إزلال من شاء الله تعالى وإضلاله، ولا نعرف من ذلك إلا الهواجس والخواطر التي تفضي إلى ما تفضي، ولا جزم عند كثير في دخول الشيطان في القلب، بل لا يعقلونه؛ ولهذا قالوا: إن خبر «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم» محمول على الكناية عن مزيد سلطانه عليهم وانقيادهم له، وكأني بك تختار هذا القول، وقال أبو منصور: ليس لنا البحث عن كيفية ذلك، ولا نقطع القول بلا دليل ...»
وقد تقدم من كان يقول - كالجبائي وأبي بكر الرازي: إن أثر الشيطان في دم الإنسان كأثر النفس فيه، فليس للشيطان وجود جسدي في داخل البنية الإنسانية، وليس له من سلطان عليه غير ما يتغلب به على هواه.
فإن الكواكبي قد لاحت له هذه اللمحة العابرة فما عدا بها تلك الخواطر الصوفية، ولا تلك الخواطر الطيبة التي أوردها مورد الاحتمال، ولم يقطع بالقول - على حد عبارة السيد الآلوسي - بغير دليل. •••
ولا تزال سمة الثقافة العصرية أغلب السمات على هذا الفعل المستنير، تجذبه المحافظة على سنة السلف أحيانا؛ بل تجذبه كثيرا، ولكنها لا تجذبه إلى جانبها إلا من جانب التجديد؛ لأن التجديد عنده هو محو الفضول عن العقيدة الإسلامية، والعودة بها إلى بساطة الحرية والاستقامة والاجتهاد في الفهم المنزه عن قيود التقليد.
अज्ञात पृष्ठ