अब्दुल रहमान अल-कवाकिबी
عبد الرحمن الكواكبي
शैलियों
ويئس الكواكبي من أداء رسالة الإصلاح بالكتابة المحجور عليها في الصحافة المهددة بالتعطيل، فقبل العمل في وظائف الحكومة، وتولى في هذه الوظائف ضروبا منوعة من أعمال الإدارة والقضاء والتعليم، ومنها وظائف لها اتصال بالتجارة؛ كإدارة حصر الدخان ولجنة البيع والفراع التي تستبدل أرض الحكومة، ورئاسة غرفة التجارة، وغيرها من الوظائف التي ندع إحصاءها ونكتفي في هذا المقام بدلالتها جميعا على كفاية الرجل لكل عمل تولاه، وعلى تلك القدرة الملهمة التي أعانته على إحياء كل وظيفة عهدت إليه من موات الوتيرة أو «الروتين»، ونجاحه في تنظيفها وتطهيرها بعد نفض الغبار عنها، واستصلاحها للإنتاج والتعمير.
فمن مبتكراته في المجلس البلدي أنه جعل للسابلة طرقا غير طريق الإبل والدواب، وأقام في ضواحي المدينة سلاسل من الحديد للفصل بين معالم الطرق وتيسير السير للمشاة.
ومنها أنه زاد أجور العمال سدا لذرائع الرشوة والاختلاس، وأنه رتب أوقات العمل وموضوعاته وخصص الأماكن لكل منها منعا للزحام والانتظار، وأنه تتبع المهربين للدخان وأجرى عليهم الرواتب والوظائف التي تغنيهم عن التهريب، وأنه ضبط أعمال الغرفة التجارية بالإحصاءات، ونظمها على مثال الغرف التجارية في عواصم الحضارة.
ومن مشروعاته إعداد العدة لإنارة المدينة وضواحيها بالكهرباء، وبناء مرفأ للسويدية وجلب الماء إلى حلب من نهر الساجور، وتجفيف المستنقعات التي كانت فيما مضى منبعا للأوبئة والحميات الدورية.
وقد أقام في حلب معظم أيامه لم يفارقها قبل سفره منها إلى القاهرة غير مرات قليلة في رحلات قصيرة، إحداها أبعد فيها الرحلة إلى الآستانة، حيث علم أبو الهدى بمقدمه فنقله إلى داره وحاول اجتذابه إلى حظيرته، واستبقاه تحت نظره، فماطله الكواكبي بالوعد حتى تمكن من العودة إلى بلده بغير اختياره.
وفي خلال هذه الأعمال والوظائف جرت عليه نزاهته - وصراحته - عداوة أعداء العمل النزيه والقول الصريح، فابتلي في ماله ورزقه، وتمحل الولاة المعاذير الواهية لمصادرة أرضه وإتلاف مرافقه، وأقاموه بمرصد للتهم والوشايات، كلما نشبت فتنة أو وقعت جريمة لصقت به الفرية العاجلة، وصنعت الجاسوسية صنيعها في تلفيق الأسانيد وتلقين الشهود وتدبير المحاكمات، وينقضي الوقت في شغل شاغل من هذه التهم ومن جهوده وجهود أنصاره في دفع شرها ورد كيدها، ومنها ما يبلغ به الخطر مبلغ الاتهام بالخيانة وعقوبة الإعدام ...
يلقى حجر على القنصل الإيطالي فيتهم الكواكبي؛ لأن القنصل أصيب في جوار داره، ويطلق الرصاص على الوالي فيتهم الكواكبي؛ لأن الكواكبي اشتكاه وأنحى عليه، ويشتجر جماعة من أبناء الجاليات فيتهم الكواكبي؛ لأنه حسن العلاقة محبوب بين أبناء هذه الجاليات.
ومن نبل هذا الرجل الكريم أن الوالي الذي اتهمه بتدبير الجريمة لاغتياله - جميل باشا - وقع في خصومة عنيفة بينه وبين القنصل الإنجليزي في المدينة، فلجأ القنصل إلى نفوذ دولته في العاصمة، وبادرت العاصمة إلى التحقيق على غير عادتها، فقدم مندوب الوزارة المحقق إلى حلب، وهو يعلم بنزاهة الكواكبي وصدقه، ويعلم أنه مطلع على الحقيقة من شهادته وتوجيهاته، فأبت مروءة الرجل أن يؤيد وكيلا لدولة أجنبية تغنم التأييد في البلدة من وراء فوزه في هذه الخصومة وانتصاره على أكبر ولاتها، وشرح الموقف لمندوب التحقيق من هذه الوجهة، فسلم الوالي من عاقبة هذه الأزمة، ولم يسلم الكواكبي من أذاه.
وأخطر ما اتهموه به أن يتواطأ مع دولة أجنبية لتسليم البلاد إليها، وهي جريمة عقوبتها الموت إذا ثبتت، وتثبت بالشبهة القوية عند ساسة العصر إذا تعذرت الأسانيد القاطعة، وأوشكت قرائن التزييف والتهديد أن تطبق على المتهم البريء، لولا أنه نجح في نقل المحاكمة من قضاء حلب إلى قضاء بيروت، فكان ابتعاد المحاكمة عن مقر التزييف والتهديد سبيلا إلى جلاء الشبهة وثبوت البراءة، بعد أن ضاع الرجل فيها أو كاد.
إن سيرة هذا البريء المظلوم مادة دراسة للمظالم والأباطيل، وإن أعداءه في بلده أعوان همته وعزمه، فلولاهم لجاز أن يسكن إلى مقام يستطاع ويحتمل، ولكنهم أحسنوا غير عامدين ولا مشكورين فجاوزوا به حد الاحتمال.
अज्ञात पृष्ठ