अब्दुल नासिर और मिस्र का वामपंथ
عبد الناصر واليسار المصري
शैलियों
القمع والرضا به
على أن سلبيات التجربة الناصرية في الاشتراكية لا تقتصر على الأمور المادية - كالاقتصاد والجيش - فحسب، بل إن السلبيات المعنوية أخطر وأهم؛ ذلك لأن الاشتراكية الحقة إنما هي إعلاء لشأن الإنسان قبل كل شيء، وعمل دءوب من أجل تحريره من كافة ألوان الاضطهاد والاستغلال، المعنوي منه والمادي. وهي تتعهد أسمى ملكات الإنسان بالرعاية، فتشجعه على التفكير المستقل، وعلى استخدام عقله في معالجة مشكلاته، وتحيي فيه الشعور بآدميته وآدمية الآخرين معه.
والشيء الذي لا أستطيع أن أستسيغه في أية تجربة تصف نفسها بالاشتراكية، هو أن تمتهن الإنسان وتعمل على إذلاله ، وأنا لا أعني بذلك تجربتنا السابقة بالذات، بل إن حكمي ينسحب على أية تجربة أخرى تتخذ تدابير تؤدي في نهاية الأمر إلى سحق الإنسان. صحيح أن الثورة قد تجد نفسها مضطرة إلى قمع أفراد في طبقة معينة يعملون على مناوأتها، ولكن هذا القمع يتم في نهاية الأمر لصالح القيم الإنسانية التي تراعى في حالة الطبقات الكادحة مراعاة كاملة. أما أية ثورة تقمع الجميع لحساب الطبقة الحاكمة وحدها، فليطلق عليها أصحابها وأنصارها ما يشاءون من الأسماء ما عدا الاشتراكية.
والحق أن التجربة الناصرية قد تضمنت من عناصر القمع ما يتجاوز بكثير نطاق التدابير المشروعة التي تحمي بها الثورة نفسها من أقلية معادية لصالح المجموع. فالإنسان المصري قد خرج من هذه التجربة مختلفا، في جوهره الباطن، اختلافا جذريا عما كان عند بدايتها؛ لقد كان في البدء يشعر بأنه يستطيع أن يتكلم، وأن يناقش وأن يعترض، وبأن البلد بلده، وله فيها رأي مسموع، صحيح أن كثيرا من الأحزاب - وخاصة أحزاب الأقلية - كانت تتصرف على نحو يجعل من هذا الشعور أمرا خاليا من أي مضمون، ومن أية نتيجة عملية ولكن الشعور ذاته ظل موجودا، وكان يعبر عن نفسه حالما تتاح له الفرصة بانتخاب حزب الوفد - الذي كان بالفعل أكثر الأحزاب شعبية - بأغلبية كبيرة. وصحيح أيضا أن هيكل البناء الاجتماعي والاقتصادي كان من شأنه أن يسلب هذا الشعور كل قيمة له، إذ كانت ثروة البلاد في يد فئة ضئيلة من الإقطاعيين والتجار والرأسماليين الذين يتحكمون على طريقتهم الخاصة، في أرزاق الملايين. ومع ذلك فإن الإنسان المصري كان في أحلك الأوقات يشعر بأن الاضطهاد لا بد أن تكون له نهاية، ويقف في وجه مضطهديه إلى الحد الذي يرغمهم، في بعض الأحيان، على التراجع، كان هناك على الأقل، الشعور بالأمل، وبأن مكافحة الظلم يمكن أن تأتي بنتيجة، ولو على المدى الطويل، وبأن من يقمع الحريات ليس من حقه أن يقمعها ولا بد أن يعرف ذلك.
ولكن هذا الإحساس أخذ يختفي منذ اللحظات الأولى للتجربة الناصرية، ورسمت سياسة لا بد أنها كانت منظمة ومخططة من أجل القضاء على هذه المعاني في نفوس الناس، وبأن إجراءات القمع لا ينبغي أن تقاوم ولا حتى بالكلام، وحوكم أشخاص، في السنوات الأولى، وعوقبوا سنوات طويلة من الأشغال الشاقة لأنهم رددوا إشاعات، أي عارضوا واعترضوا، في أحاديثهم الخاصة، وتسلل الرعب إلى النفوس بالتدريج، ومع الرعب ظهرت السلبية، والنفاق، والتحدث بلغتين، والجهر بعكس ما يؤمن به الإنسان. وفقد الإنسان المصري قدرته على الرفض والاعتراض، والاحتجاج، ومن فقدان هذه القدرة فقد ملكة التفكير العقلي المتزن، والحكم على الأمور حكما صائبا: إذ كان القمع مصحوبا بحملة دعاية منظمة، قائمة على أسس علمية مدروسة تستهدف في نهاية الأمر ألا يكون هناك إلا رأي واحد وألا يسمع الناس إلا وجهة نظر واحدة، تظل تردد مرة تلو المرة إلى أن يصدقها كل من كان يقاومها ولم يكن مقتنعا بها في مبدأ الأمر.
هذا التخريب الداخلي لنفس الإنسان المصري وعقله، هو في رأيي أكبر سلبيات التجربة الناصرية، وحتى لو كان الهدف الذي تحذقه عملية التخويف، وإسكات الأصوات، وتعطيل ملكات التفكير النقدي، هدفا وطنيا مائة في المائة فإني أعد التجربة التي تلجأ إلى هذا الأسلوب أشد ضررا على الإنسان من تلك التي تترك له قدرا من الأمل، ومجالا للاعتراض، وهي في الوقت نفسه تستغله وتنهبه، إن الأمرين بالتأكيد شر، ولكن ضرر التجربة الأولى أفدح.
ذلك لأن الإنسان هو، في نهاية الأمر هدف كل تجربة في الحكم، وبقدر ما تأخذ هذه التجربة بيد الإنسان لتعيد إليه الشعور بكرامته، وبأن كلمته مسموعة، وبأن له دورا يؤديه في وطنه، وبأن الحاكمين يستجيبون لرغباته ولا يفرضون عليه رغباتهم، تكون تجربة الحكم ناجحة ولقد كانت التجربة الناصرية تؤكد، على الدوام، أن هذا عين ما تقوم به، ولكن النتيجة الحقيقية لهذه التجربة أتت على عكس ما كانت تنادي به دعايتها ويؤكده إعلامها. كانت النتيجة الحقيقية هي إحساس الإنسان المصري العادي بأن هناك من يفكر له، وبأنه ليس في حاجة إلى التفكير، وبأنه حتى لو فكر فلن يجديه ذلك شيئا؛ لأن الأمور ستسير دائما كما يريد أصحاب السلطة، وكانت النتيجة الحقيقية هي اعتياد الإنسان المصري الانكماش والسلبية، والوقوف موقف المتفرج غير المكترث، وحتى المكترثين منا، والمعجبين بنتائج التجربة، كانوا يصفقون بطريقة سلبية: أعني أنهم كانوا يصفقون إعجابا وانبهارا بقرارات مفاجئة تصدر من أعلى ولا يؤخذ رأيهم فيها. والفرق هائل بين هذا النوع من التصفيق وذلك الذي يهلل فيه الناس؛ لأن القرارات التي طالما نادوا بها، وشاركوا في صنعها وفي الدعوة إليها بإيجابية وفعالية، قد صدرت أخيرا.
الخطأ، والخطأ المقصود
لقد أصبح الإنسان المصري، من فرط خوفه وانكماشه، يقبل أوضاعا ما كان ليقبلها من قبل. أصبح يقبل باستسلام فكرة وجود قانونين، قانون للمحكومين وقانون للحاكمين، وصحيح أن، من حيث الأمر الواقع، كانت مصر طوال الجزء الأكبر من تاريخها تعاني من عدم تطبيق قوانين المحكومين على الحاكمين، ولكن كان الشعور بالسخط - يعبر عن رفض مكتوم لازدواجية القانون، لكن أخطر الظواهر في التجربة الناصرية هي أن الناس أصبحوا بالتدريج يقبلون هذه الازدواجية بوصفها أمرا طبيعيا، ولا يدهشون لها، ولا يعلقون عليها، وكأنها جزء من طبيعة الأشياء هذا هو ما أعنيه بالتخريب الداخلي لنفس الإنسان المصري وعقله. فالمشكلة لم تكن انتشار مظالم أو استثناءات، بل كانت في اعتياد الإنسان عليها إلى حد أنه أصبح يراها شيئا طبيعيا؛ بحيث تبلد الإحساس بالظلم، وتحول الاستثناء إلى قاعدة لا بد من قبولها باستسلام.
ولكي يدرك القارئ ما أعنيه، أود أن أضرب له مثلا بسيطا: ففي أواخر عهد ما قبل ثورة 1952م، انشق مكرم عبيد على حزب الوفد المصري وأراد أن يبرر انشقاقه ويكشف فضائح الوفد فألف الكتاب الأسود الذي عدد فيه حالات استغلال النفوذ والاستثناءات في مختلف فترات تولي الوفد الوزارة. ولو ألقى المرء نظرة واحدة على هذا الكتاب، في ضوء التطورات التي حدثت بعد ذلك، لاستبدت به الدهشة وعجب كيف تستخدم وقائع بسيطة كهذه في التشنيع على أكبر حزب في البلاد: إذ تجد فيها حالة الموظف رقي درجتين بصورة استثنائية في مدى عام أو عامين، وتجد فيها حالات استغلال نفوذ في بناء مرافق خدمات خاصة وخدمات عامة في الوقت ذاته، في حدود لا تتجاوز بضعة ألوف من الجنيهات، ولكن الأمر الذي يلفت النظر حقا هو أن هذه الوقائع ظلت محور أحاديث الصحف ومناقشات الناس فترة طويلة. وأنا لا أضرب هذا المثل لكي أدافع عن مكرم عبيد أو أهاجمه (وإن كنت أفضل لو أنه لم يختم جهاده الطويل بمثل هذا الكتاب)، ولكن ما يهمني في الأمر هو إحساس الناس بأن الاستثناء شيء مستنكر، وبأنه يستحق التنديد والتشنيع حتى لو لم يكن من الممكن القضاء عليه بصورة مباشرة.
अज्ञात पृष्ठ