فسار الموكب محاذيا الشاطئ الشرقي، وعلى الأمين السواد والقلنسوة حتى وصل الجسر السفلي، فقطعه وسار بعده على الشاطئ الغربي حتى أطل على دار القرار والناس يقفون له في الطرق ويحيونه ويدعون له بطول البقاء، ولا سيما العرب ومن يرى رأيهم في العصبية العربية، فيرد تحيتهم وهو مشرق الوجه بنضارة الشباب وعزة الملك.
وكانت زبيدة تنتظر مجيئه، وقد استبطأته مع علمها بطول المسافة بين قصرها وقصره، ولكن مدة الانتظار تطول على المنتظر وإن قصرت. وكانت قد أعدت له كل أسباب الراحة والأنس والترحاب؛ لشدة تعلقها به؛ لأنه وحيدها، وقد تركزت كل آمالها فيه، فأمرت جواريها ففرشن طرقات الحديقة بالأزهار والرياحين، وأعدت له مجلسا تضوعت فيه رائحة الطيب من المسك والعنبر في غرفة من قصرها سقفها قبة مصنوعة من خشب الصندل، ومكسوة بالوشي والسمور وأنواع الحرير بألوانه الزاهية، وقد أسدلوا من جوانب القبة على جدران المجلس ستائر من الديباج طرزوا عليها بالقصب أبياتا من الشعر، أو حكما مأثورة، وعلقوها في مواضعها بكلاليب من الذهب، وفي أرض الغرفة بساط واحد من السجاد الثمين عليه رسوم أحد ملوك الفرس يصطاد السباع، توهم الناظر من إتقان صنعها أنه يرى منظرا حقيقيا، وعلى حواشي البساط أبيات من الشعر مطرزة بالذهب. وفي وسطه صورة طاووس ألوانه منسوجة بالحرير، وخيوط الذهب والفضة، وعيناه من ياقوت؛ مما يبهر النظر.
وكان في قصر زبيدة غرف عديدة لكل غرفة فرش خاص بشكل خاص، وفرش هذه الغرفة من الطراز المعروف بالأرمني في ذلك العصر من صنع أرمينية، وهو عشر مصليات بمخادعها ومساندها ومطارحها وبساطها، كما وصفناه . فمثل هذا الفرش لا يقوم بأقل من 5000 دينار،
4
غير البساط وغير ما يكسو القبة والنوافذ والجدران من الستائر والنقوش، وغير ما في جوانبها من المنائر المصنوعة من الذهب، وقد غرس فيها شمع العنبر وهو من أثمن ما يكون، ولم يستخدمه أحد قبلها إلى ذلك العهد.
الفصل الخامس والثلاثون
دار القرار والجواري المقدودات
وحينما وصل الأمين إلى الحديقة استقبله جماعة من الخدم الشاكرية أعانوه على النزول عن جواده، وقد تحول صاحب الحربة قبله ومشى بين يديه بالحربة حتى وصلا إلى موضع الأزهار، وقد فاحت روائحها وامتزجت بروائح الطيب، فتنحى صاحب الحربة ومشى الأمين وحده حتى وصل إلى باب القصر، فرأى والدته واقفة هناك في انتظاره، فلما دنا منها همت به فضمته إلى صدرها، وقبلته قبلة الوالدة المشتاقة، فقبل يدها فأحس ببضاضتها. وكانت زبيدة مشرقة الوجه بيضاءه، عليها وقار الهاشميين مع حلاوة وجمال، وكانت سوداء العينين كبيرتهما مع ذكاء وحدة، وقد استدار خداها وانبسطا من عيش الترف والرغد، وكان فمها صغيرا باسما يعلوه أنف فيه شمم، وذقن قليل البروز ليس بينه وبين الترقوة غور ولا ثنية، وقد استدار عنقها واشتد بياضه، وليس فيه بروز.
وكانت بضة طويلة القامة مع سمن قليل. إذا أسرعت في مشيتها ارتج كتفاها وفخذاها ارتجاج الدلال والرخاء. وقد تزملت برداء من الحرير أرجواني اللون يستر كل أثوابها، وتمنطقت فوقه بمنطقة مذهبة شدت طرفيها بعروة مرصعة بالجواهر. وقد أرسلت شعرها ضفيرة واحدة على كتفيها،
إلى نساء العامة، بل كانت مقصورة على بيت الخلفاء والأمراء، شأن ما يحدث في الأزياء في كل عصر؛ فإن الزي الجديد (المودة) تبدأ به عادة بعض الوجيهات فيقلدها أترابها، ثم يشيع بين العامة. والعصائب استنبطتها علية؛ أخت الرشيد؛ لتستر بها عيبا في جبينها، فاصطنعتها مرصعة بالجواهر، كما تقدم، فاستحسن الناس ذلك فقلدوه. أما زبيدة فكانت لفرط اعتزازها بمنزلتها عند الرشيد حسبا وجمالا وتعقلا تستنكف أن تقلد سواها، فاتخذت عصابة بسيطة لا جواهر بها؛ ترفعا عن التقليد. ولم تضع في عنقها عقدا، ولا في أصابعها خاتما، ولا في معصمها سوارا؛ تنزها عما يستطيع سواها تقليدها به. فلم يتمالك الأمين عند مشاهدة تلك العصابة عن الابتسام وقال: «أراك تقلدين عمتي علية. إن هذه العصائب جميلة يا أماه، لكنني لا أرى على عصابتك شيئا من الجواهر.»
अज्ञात पृष्ठ