فقهقه الفضل ثم قال: «إلا إذا ظن أننا قادمون لمصادرة ممتلكاته أو لأمر يذهب بحياته.»
فقال الفارس: «لا خوف من المصادرة في ظل أمير المؤمنين، والذهب يتدفق من بيت ماله، ولا خوف من نكبته وأهل الدولة في حاجة إلى جواريه وغلمانه حتى أمير المؤمنين.»
وفي أثناء ذلك تقدم أحد الخدم وقرع الباب، وأخذ الفرسان في التحول عن الخيول، وأول من نزل الفضل. وكان طويل القامة، رقيق العضل، خفيف شعر اللحية، أسمر اللون، يخالطه صفرة، ولا يزال في عنفوان الشباب، وقد غلب عليه المزاج الصفراوي - على اصطلاحهم - فساعده على كتمان عواطفه والظهور بما يريده من التظاهر بالصداقة لأعدائه، والسعي في الوشاية لهم. وأهل هذا المزاج من أقدر الناس على الكظم، والتظاهر بما يشاءون من الأحوال، وكتمان ما تكنه ضمائرهم؛ فهم لذلك يصبرون على الضيم ريثما ينتهزون الفرص لتحقيق مآربهم، فلا يخرجهم الغضب عن طور العقل كما يفعل بأهل المزاج العصبي أو الدموي، الذين إذا غضبوا ظهرت أمارات الغضب في عيونهم وجباههم؛ ولذلك ندرت فيهم رباطة الجأش والصبر على المكاره.
فلما تحقق أبو العتاهية من مجيء الفضل قال في نفسه: «لا بد من أمر بعث على تعجله في المجيء، ولا بد أن يكون الأمين قد حمله على ذلك؛ تشوقا لما وعد به نفسه من أمر أولئك الجواري؛ لاهتمامه بأسباب القصف والترف، ورغبته في الغناء.» وخشي أبو العتاهية أن يحول مجيء الفضل في تلك الساعة دون ما يتوقعه من الكسب وهو لم يقابل فنحاس بعد، فتحول عن النافذة وهو يطلب غرفة فنحاس، فرأى أهل الدار في هرج يتقدمهم حيان وقد أسرع إلى الدهليز لاستقبال القادمين. وكان البواب قد أنبأه بمجيئهم فلم ينتبه لأبي العتاهية. أما هذا فظل سائرا إلى غرفة المعلم فنحاس، وكان بابها مقفلا، فدقه وهو يناديه قائلا: «لعل المعلم فنحاس لا يزال نائما؟»
فلم تمض لحظة حتى سمع وقع خطواته داخل الغرفة، ثم فتح الباب وأطل منه المعلم فنحاس وهو لا يزال بملابس النوم، ليس عليه سوى السراويل والدراعة فوق القميص، وفي عينيه رمص من ضعفهما وطول النوم، وقد تشعث شعر رأسه وانتفش، واختل نظام سالفيه ولحيته. وكانت لحيته شمطاء يخالطها شيب قليل مع ميل إلى الطول والاسترسال، وهي منقسمة إلى شطرين، وأنفه كبير مستدق قد ذهب طوله بإحديدابه. وكان لدهشته في تلك الساعة قد نهض وقميصه مفتوح من أعلاه، فظهر أسفل عنقه وأعلى صدره وفيهما تجعد يتخلله شعر أجعد لو رأيته في تلك الحالة لحسبته من المتشردين.
أقبل المعلم فنحاس وهو يفرك عينيه ويمسح الرمص عنهما ببطن كفه، وحالما وقع نظره على أبي العتاهية عرفه فصاح فيه: «ما وراءك يا أبا العتاهية؟»
فدخل أبو العتاهية وأغلق الباب وراءه وهو يقول: «لقد جئتك مساء أمس بمهمة وكنت نائما؛ فانتظرتك إلى هذه الساعة، ولما استبطأتك جئت لإيقاظك، فأرجو ألا أكون قد أزعجتك.»
فقال فنحاس وهو يصلح لحيته وشاربيه ويقفل قميصه: «ليس ثمة إزعاج. قل: ما الخبر؟!»
قال: «لا تخف؛ فإن المسألة رابحة. قد حرضت مولانا ولي العهد على اقتناء بعض الجواري، وألا
لأخبرك بذلك على ألا تضيع تعبي.»
अज्ञात पृष्ठ