فكانت العباسة تستنشق ريح ابنها وهي تجهش بالبكاء، وقلبها يتردد بين اليأس والرجاء، والغلام يضحك والسذاجة الفطرية ظاهرة في وجهه، وسلامة النية وطهارة القلب باديتان في كل حركة من حركاته. وقد أصاب المصورون إذ شبهوا الملائكة بالأطفال، فإنهم مثال الطهارة والقداسة وصدق اللهجة، فهم لا يخفون عواطفهم، ولا يكظمون ما في نفوسهم؛ ولذلك كانت المشاعر الطبيعية ظاهرة فيهم، وأقواها حب الذات؛ فالطفل يحب ذاته، ويحب كل ما يرى فيه نفعا لنفسه، وهو يحسد ولكنه لا يكظم، بل يظهر ذلك فيه، ولا يستحي من إظهاره؛ ولذلك لما رأى أحد الأخوين أمه تلاعب أخاه وتقبله ألقى نفسه على صدرها كأنه يزاحمه على ما يكنه ذلك الصدر، فقبلته العباسة ثم التفتت إلى عتبة وعيناها تتكلمان عنها، وما تمالكت أن قالت لها: «ما ألطف هذين الولدين! وما ألطف اسميهما «الحسن والحسين»! هل يسمح لي الله أن أعيش معهما ولو في كوخ حقير، أو في خيمة بالبادية؟!»
فابتدرتها عتبة قائلة: «إن الله على كل شيء قدير. ألا تظنين أن رجوعك إلى قصرك قد آن؛ فإن الفجر أصبح قريبا، وأخشى أن يشعر أحد برجوعك فنقع فيما نخشاه؟»
قالت: «يعز علي الذهاب يا عتبة، ولكن لا بد منه. أين الدراهم التي أتيت بها معك؟ ادفعيها إلى رياش.»
فتناولت بدرة من الدراهم ودفعتها إليه، فتناولها وأثنى على العباسة، ونهض فقبل يدها. وكذلك فعلت برة، فقالت لهما العباسة: «لا حاجة بي أن أوصيكما بالحسن والحسين؛ فإنهما فلذة كبدي.»
وكان الحسن أكبرهما سنا، فلما تحقق من عزم والدته على الفراق ورآها وقفت، ألقى بنفسه في حضنها، وأمسك بيدها، وأسند خده على راحتها، وقال وصوته مختنق: «تعالي معنا يا ماما، وقولي لأبي يجيء معنا أيضا.»
فنظرت العباسة إلى الغلام فرأته يرنو إليها وفي عينيه دمعتان تترددان بين المآقي، وشفتاه ترتجفان ولا تطاوعانه على الكلام. وكان يحاول الكلام ويحاذر أن يسبقه البكاء وقد غص بريقه. فلا تسل عن قلب العباسة عند سماعها تلك العبارة ومشاهدتها ذلك المنظر المؤثر، وقد كانت تخشى فراقهما وتغالب نفسها وتتجلد وقد ضاق صدرها لاحتباس عواطفها، فلما رأت ما رأته، وسمعت الحسن يذكر والده ويطالبها به على تلك الصورة، غلبتها عواطفها وأحست بما تكابده من ألم الفراق وثقل الحذر والخوف، فلم تتمالك أن جلست بغتة وهي تضم الغلام إلى صدرها وتصيح: «صدقت يا ولداه.» وأغرقت في البكاء حتى أغمي عليها.
وكانت عتبة واقفة ترقب حركات مولاتها وتشاركها في كل عاطفة من عواطفها، وقد همت أن تخفف عنها، فلما رأتها جلست بغتة خافت عليها من الإغماء؛ لأنها شاهدت إغماءها على تلك الصورة غير مرة، فلما سمعتها تصيح وتبكي تحققت من غيبوبتها، فتناولت إحدى الشموع من المشمعة وهرعت إلى الباب وفتحته؛ لتستدعي خادما يأتيها بالماء لترش سيدتها. وكان أبو العتاهية لا يزال واقفا ينظر من ثقب الباب. فلما أسرعت عتبة إليه وفتحته على غير انتظار والشمعة بيدها، بغت وارتبك في أمره، وكاد الدم يجمد في عروقه، فوقف كأنه صنم من الأصنام وبصره شاخص كأنه لا يرى شيئا. أما عتبة، فظنته لأول وهلة أحد خدم المنزل، فصاحت به: «هات الماء.» ثم علمت من ملبسه أنه ليس من الخدم، فاستغربت وقوفه هناك على هذه الصورة. أما هو فلم يطل جموده إلا لحظة، ثم انتبه لنفسه وحول وجهه وهم بالفرار، فلما تحرك تذكرت أنها تعرفه، ثم فطنت إلى أنه أبو العتاهية، فأشكل عليها أمره وهي على تلك الحال من القلق خوفا على سيدتها من الإغماء، فغلب عليها ذلك القلق فأسرعت إلى غرفة الخدم وصاحت بهم، فنهض أحدهم وجاءها بالماء، وعادت إلى سيدتها ورشتها به فأفاقت. وأخذت تخفف عنها وخاطرها مشتغل بأبي العتاهية، وأدركت من ارتباكه عند رؤيتها له أنه كان يتلصص عليهم، ولا بد أنه سمع شيئا من أحاديثهم، وهي تعلم أنه لا يؤتمن على مثل هذا السر، وأن اطلاعه على أمر هذين الغلامين خطر على العباسة، فكانت تخاطب مولاتها وتخفف عنها والقلق والارتباك باديان على وجهها، وهي تتردد بين أن تطلع العباسة على هذا الأمر أو تكتمه عنها، ولكنها فضلت كتمانه لئلا تزيد من أحزانها ومخاوفها.
على أنها عزمت على أن تدبر وسيلة تمنع بها أبا العتاهية من إفشاء هذا السر، فلما فكرت في ذلك ذهب قلقها وعادت إلى التهوين على العباسة والتخفيف عنها، وأشارت إلى رياش أن يذهب هو وبرة بالغلامين أولا، فأطاعها ونهض فحمل الغلامين على كتفيه وهو يلاعبهما ويضاحكهما. وكانا قد تعودا عليه، وعرف هو ما يلهيهما به من المواعيد أو نحوها، فسكتا وظلت عتبة بجانب العباسة تشاغلها وتسايرها وهي تتنهد ولا يزال أثر الإغماء باديا عليها. فلما خرج رياش وبرة، أمرت الخادم الذي كان قد جاءها بالماء أن يستدعي حيان، فذهب ثم عاد وحيان معه وآثار النوم ظاهرة في عينيه؛ لأنهم نادوه وهو مستغرق في النوم فجاء وعلى رأسه طاقية لم تستر إلا بعض شعره، فوقف بين يدي عتبة فقالت له: «إن مولاتي تطلب منك أن ترسل مع هذين الغلامين من يدبر لهما مركبا يركبان عليه إلى دجلة.»
الفصل التاسع
الهاجس
अज्ञात पृष्ठ