ولم يكن الفتى الذي تركته ذاهلا من الفرح مشرق الوجه بنور الأمل هو الذي رأته حين مقدمها كاسف البال شارد الخاطر متهافت النفس؛ فقد بعث الحب نفسه بعثا جديدا وأحياها بعد موات، وزارت مخيلته - في تلك اللحظة السعيدة - أطياف من ماضي قلبه، من معرض نافا الجميل، وشاطئ النيل الأخضر الفسيح، وقطيع الفتيات الحسان، ثم ذكر حزنه ويأسه وتلف نفسه الجلدة الصبور، ثم ذكر الأمل المشرق الذي أدركه في غمرات القنوط والأحزان، فتمثلت له حقيقة الحب والحياة كنهر يسقي بستانا ناضرا تتألق أزهاره وتغرد أطياره ما جرى ماؤها عذبا، فإذا نضب معينه خوى البستان على عروشه وذوى حسنه وتجرد كفلاة مهجورة.
وأعاده إلى اليقظة دخول سنفر، وأخبره الضابط بأن كل شيء على قدم الاستعداد، فأمره بالنفخ في الصور إيذانا بالرحيل، فانبثت على الأثر في المعسكر حركة هائلة، وعزفت الموسيقى، وتحركت طليعة الجيش. وركب ددف عربة القيادة التي يتولى قيادتها سنفر، وركب كبار الضباط وسارت جماعتهم إلى قلب فرقة العجلات، ثم نفخ في الصور مرة أخرى، فتحركت عربة ددف في الطليعة بين جناحين من عربات الضباط العظام، وتبعتهم في صفوف متوازية فرقة العربات المكونة من ثلاثة آلاف عربة حربية مثقلة بالسلاح، وسارت خلفها فرق المشاة، تحمل كل علمها، تتقدمها فرقة القسي وتليها فرقة الرماح ثم فرقة السيوف، وتبع الجيش عربات المهمات الكبيرة محملة بالأسلحة والمؤن والعقاقير الطبية، تحيط بها قوة من الفرسان.
اخترق ذلك الجيش الصحراء، يهدف إلى السور المنيع الذي اتخذته القبائل وكرا آمنا.
وقد طلعت عليهم شمس الضحى، ولفحهم وهج الظهيرة، وهب عليهم نسيم المغيب، وهم يضربون في الأرض كالمردة، تكاد الأرض تشكو من حمل أثقالهم ولا يشكون من شيء.
27
ورئيت عربة استكشاف تنهب الأرض صوبهم، فتطلعوا إليها باهتمام شديد، وتقدم قائدها من القائد وأخبره بأن عيونهم عثرت على جماعات من البدو منتشرين حول تل الدوما، وكان من رأي الضباط أن يسيروا إليها فرقة من الجيش لقتالهم، وبسط ددف خريطة الصحراء أمامه، وبحث باهتمام عن تل الدوما، ثم قال: إن تل الدوما يقع جنوب طريقنا، والمعروف عن أولئك البدو أنهم يسيرون جماعات صغيرة للنهب والفرار، وأنهم لا يخطر لهم على بال مهاجمة جيش جرار كجيشنا، فلا خوف علينا من مواجهة حركة التفاف. فقال له أحد الضباط: أظن يا صاحب السعادة أنه ليس من الحكمة تركهم ...
ولكن الشاب قال: لا شك أننا سنصادف في طريقنا كثيرا من أمثال هذه الجماعات، فلو أننا سيرنا إلى كل جماعة منها كوكبة من جنودنا لتشتتت قوتنا، فلنضع نصب أعيننا الهدف الأول، وهو اختراق سورهم الحصين، وضربهم في عقر دارهم والقبض على زعيمهم خانو ...
ولكنه رأى عن حكمة أن يعزز القوة التي تحرس عربات المؤن والأسلحة.
وتقدم الجيش في طريقه، ولم يروا في أثناء سيرهم أثرا لرجال القبائل، وأتتهم الأخبار بأن من كان يضرب في الصحراء منهم ولى الأدبار، حين سمع بأخبار الجيش الزاحف صوب شبه الجزيرة، فشقوا طريقا آمنا خاليا حتى بلغوا مقاطعة أرسينة، فألقوا عصا الترحال ليأخذوا قسطهم من الراحة وحاجتهم من المؤن، وبادر الأمير أبوور إلى زيارتهم، واستقبل استقبالا رسميا يليق بمكانته السامية، وتفقد الأمير وحدات الجيش، ومكث مع القائد وكبار معاونيه يتحدث إليهم في شئون الحملة، وقد اقترح عليهم أن يوجدوا حلقة اتصال بينهم وبين أرسينة ليطلع على أخبارهم، وليمدهم أولا بأول بما يحتاجون إليه، وقال لهم في ذلك: واعلموا أن جميع قوات أرسينة مشمرة للقتال، وأن قوات عظيمة من سرابيوم وذقعة ومندس في طريقها إلى أرسينة.
فقال ددف: ندعو الآلهة يا صاحب السمو ألا نحتاج إلى قوات جديدة؛ احتراما لرغبة صاحب الجلالة الذي يحرص على أرواح العباد.
अज्ञात पृष्ठ