وهز بشارو منكبيه استهانة وقال: سواء لدي اخترت الجندية أم الكهنوت، وعلى كل حال أمامك عدة أشهر فيها متسع للتفكير والروية ... إيه لكم أيها الأبناء! يخيل إلي أنه لن يخلف أحدكم أباه، وأن واحدا منكم لن يعيد تمثيل الدور الخطير الذي قمت به في الحياة.
وفاتت الشهور دون أن تغير من رأي ددف، فقر رأي الأسرة على إلحاقه بالمدرسة الحربية.
وفي تلك الأثناء واجهت بشارو أزمة فكرية مرة، هيأت أسبابها أبوته المزعومة لددف، وقد تساءل الرجل في حيرة: هل ينبغي أن يحافظ على ادعاء هذه الأبوة، أم أنه آن الأوان لإعلان حقيقتها وفصم عراها؟ وكان خنى ونافا يعرفان حقيقة المسألة، ولكنهما لم يشيرا إليها بتاتا، لا في السر ولا في العلانية؛ حبا في الغلام وضنا به.
وكان بشارو يقدر وقع الصدمة على نفس الغلام البريئة السعيدة، فيقشعر بدنه، ويذكر زايا وما يحتمل من غضبها وسخطها فيحجم إشفاقا، وهو ما فكر في ذلك عن سوء قصد أو عن زهد في ددف ولكنه كان يعتقد أن هذه الحقيقة ستعلن عن نفسها إذا لم تجد لسانا يعلن عنها، وأن الخير كل الخير أن تكشف له الآن ليخلص من محنتها لا أن تدخر له حتى يكبر فيضاعف له عذابها، وتردد الرجل الطيب فلم ينته إلى عزم، ولما كان ينبغي أن ينتهي إلى رأي قبل إلحاق ددف بالمدرسة الحربية، فقد أسر الرجل بذات نفسه إلى ابنه خنى، ولكن الشاب هاله الأمر، وقال لأبيه بألم وحزن عميقين: إن ددف أخونا، بل إن ما يربطنا به من الحب لأقوى من الأخوة الطبيعية. وما الذي يضيرك يا أبتي لو أنك تركت الأمور على ما هي عليه، ولم تفاجئ الغلام العزيز بضربة الذل والمسكنة؟
وكان الشأن الوحيد الذي يعمل له حساب في أبوته هو الميراث، ولكن بشارو لم يكن له من حطام الدنيا سوى راتب كبير وقصر ضخم، فلن تؤذي أبوته لددف أحدا؛ ولذلك أشفق الرجل من لهجة خنى الغاضبة، وقال يدفع عن نفسه: كلا يا بني لن تقع ضربة الذل أبدا، لقد دعوته يا بني وسأظل أدعوه بها، ولسوف يكتب اسمه بين طلبة المدرسة الحربية: ددف بن بشارو.
ثم ضحك الرجل كعادته وقال وهو يفرك يديه: ربحت ابنا جنديا.
فقال خنى وهو يمسح دمعة سالت على خده: بل ربحت رضاء الرب وغفرانه.
11
أوشك شهر توت على الفوات، ولم يبق منه إلا عدة أيام هي كل ما تبقى لددف من الزمان في بيت بشارو ثم يغادره بعدها إلى المدرسة الحربية، وكانت تلك الأيام أشد أيام زايا العصيبة، غلب عليها فيها الشرود والذهول والتفكير بمرارة في الشهرين الطويلين اللذين سيحتجبهما ددف داخل المدرسة ... والأعوام الطويلة التي لن تتاح لها رؤيته فيها سوى مرة كل شهر، فتحرم من رؤية وجهه الجميل وسماع صوته الحبيب، ويغيب عن قلبها الاطمئنان الذي يقر فيه لقربه، والهناء الذي يشمله لوجوده ... فما أقسى الحياة! وقد غشى الحزن قلبها قبل حدوث أسبابه، وظللت حياتها غشاوات من الألم مثل هاتيك السحائب المنتثرة ساقتها الرياح بين يدي غيم هاتور وكيهك الداكن المكفهر.
وحين صاحت الديكة عند الفجر معلنة قدوم اليوم الأول من بابة، استيقظت زايا على صياحها، وقعدت في سريرها مضطربة حزينة، وتنهدت تنهدة حارة كانت أول ما استقبل اليوم من عالم الأحزان، ثم تركت فراشها، وسارت في خفة إلى مخدع ددف لتوقظه وتودعه، ودخلت الحجرة على أطراف أصابعها؛ كي لا تزعجه فاستقبلها جاموركا وهو يتمطى، وخاب ظنها؛ لأنها وجدت الغلام قد استيقظ دون مساعدة، وكان يغني بصوت خافت نشيد «نحن أبناء مصر انحدرنا من سلالة الآلهة». استيقظ الغلام وحده يلبي أول نداء للجندية، وقد نادته من قبلها: ددف. فانتبه إليها مهللا، وجرى نحوها كطائر يستقبل نور الصباح، وتعلق بعنقها ورفع إليها فمه، فقبلته بحنان، وقبلت خديه ورفعته بين ذراعيها فقبلت ساقيه، ثم حملته إلى الخارج وهي تقول: تعال ودع أباك.
अज्ञात पृष्ठ