من ذكريات لبنان
العبرة بالخواتيم
الكلب
بوبي
نزهة وسليمة باشا
فيفي
كيف كنت غيري
القاتلة
لو عرف الشباب
ميمي
الخاتم
ليلة حافلة
رواية ورواية
كيف حفرت بئرا ... لنفسي؟
من ذكريات لبنان
العبرة بالخواتيم
الكلب
بوبي
نزهة وسليمة باشا
فيفي
كيف كنت غيري
القاتلة
لو عرف الشباب
ميمي
الخاتم
ليلة حافلة
رواية ورواية
كيف حفرت بئرا ... لنفسي؟
ع الماشي
ع الماشي
تأليف
إبراهيم عبد القادر المازني
من ذكريات لبنان
سألتني مرة من بنات لبنان، صديقة صابحة الوجه أديبة: «ألم تلهمك هذه المناظر شيئا؟»
ومالت بخصرها اللين وراء ذراعها البضة وهي تشير إلى الجبال والشجر والماء المنحدر وراء الصخور. فقلت: «كلا.»
قالت مستغربة: «كيف؟»
قلت: «ينقصني مقدار من فيض الحياة لا سبيل إلى الشعر إلا به، ولا سبيل إليه إلا بالحب الذي يفجر ينابيع النفس، ولهذا ترينني يا فتاتي جافا ذاويا.»
قالت - وقد آثرت المجاملة: «كلا، إنك ما زلت شابا.»
قلت: «خسارة.»
قالت: «ماذا؟»
قلت: «عيناك.»
قالت - وقد أطلقت دهشة المفاجأة لسانها بالعامية: «شو؟»
قلت: «نعم جميلتان ... ساحرتان ... ولكنهما لا تبصران.»
فصاحت بي: «العمى.»
فضحكت، ولم يسؤني أنها انفجرت بما يشبه اللعن، وقلت لنفسي هذا كلام العادة، لا السخط والنقمة. ثم رأيتها تضحك مثلي، فتذكرت قولي - أيام كان لي بالشعر ولوع:
لا يحسن التعبيس أبلج واضح
ضحك الجمال بوجهه وأضاءا
ولما قرت الضجة عادت تسأل: «ألم تعشق قط؟»
فقلت وأنا أعابثها وأجد في آن معا: «يا حسرة! من لا يكون له من بنات لبنان حبيب؟ ولو كنت أستطيع أن أعشق لعشقت هنا، ولو كان في نفسي دماء لعدت إلى قومي شاعرا، ولكن قلبي يا فتاتي غليظ، وعيني دائرة لا تتلبث، ونفسي حائرة لا تسكن، وعقلي طائر لا يقر، وما يدريني يا صاحبتي، لعلي دفنت قلبي قدما يوم نفضت اليدين من بعض التراب، وكم قلت آه من الحرمان، وغيري يقولها من الوجدان، وليست الحسرة أني لا أجد، ولكنما الحسرة أني لا أصبو. ورحم الله صنوي الجامد المتنبي، فقد عرف هذا وبلا مرارته، فدهش ونظر في أنحاء نفسه وصرخ «أصخرة أنا؟» ولولا عادة الكبت لأطلقت أقوى من صرخته. فما أعرفني رف قلبي سرورا، أو عصره الألم، أو ألعجه الحنين، أو أطاره فزع أو جزع، أو أضناه قلق. نعم تضحك السن وتلمع العين، أو يتقلص الوجه وترتسم على معارفه الكآبة، ويبهت اللون ويمتقع ويجول اللحظ باحثا مترقبا، ولكن الذي في ضمير الفؤاد هواء.»
ونظرت إليها فرأيت الدمع متحيرا في جفنيها، فلعنت نفسي واستدركت فقلت - وراحتي على كتفها: «لا تصدقي مقالتي يا فتاتي.»
فابتسمت وقالت: «لقد كدت تبكيني، وقد كان قلبي يحدثني أنك تكذب، ولكن كلامك مع ذلك خدعني. إنك تحسن التمثيل ...»
قلت: «إلا في الحب. فما أعرفه يجدي معه التمثيل والتكلف، لأنه يطل من العينين وتارة تسمع زغردة ناره، ويرى لهبها حتى من تحت الثياب.»
فصفقت فرحة - لا أدري لماذا - وقالت: «إذن عشقت؟»
قلت: «كثير ... عدد شعر رأسي ... ولكني أفيق وأصحو في كل مرة بعد أربع وعشرين ساعة ليس إلا.»
فزوت ما بين عينيها وهزت رأسها مستفسرة. فقلت: «نعم، أربع وعشرون ساعة فقط لكل معشوقة، وأسقطي من هذه الساعات الأربع والعشرين ما يذهب في النوم وفي كتابة المقالات الغراوات، أعني السعي وراء الرزق، وفي الكلام الفارغ وفي غير ذلك من مشاغل الحياة، فتكون النتيجة أن مدة عشقي لكل امرأة ممن عشقت لا تزيد على ساعة أو نصفها.»
فصاحت ضاحكة: «بس؟»
قلت: «يا بنت حواء، حسبك هذا فلا تكوني طماعة.»
قالت: «كيف؟»
قلت: «هي مسألة حسابية ...»
فاستغربت خلط الحساب بالشعر والحب، وقالت: «حسابية؟»
قلت: «نعم. وأجيبيني من غير أن تقاطعيني، وإلا جعلت نصف الساعة نصف دقيقة: كم عدد الجميلات الجديرات بالحب في هذه الدنيا الطويلة العريضة أو حتى في لبنان بمجرده؟»
فابتسمت وهزت كتفيها. فقلت لأستفزها: «أحسبك تريدين أن تقولي واحدة؟»
فأسرعت تقول: «لا لا لا ... كثير ...»
فقلت: «هذا حسن. فكم ينبغي أن أهب كل واحدة من عمري؟ واذكري أن عددهن غير محدود، وأن عمري محدود، وأن طرفي الطفولة والشيخوخة لا يحسبان، وأن كل ساعة تشهد مولد جميلة، وأن ...»
فقاطعتني محتجة: «ولكن هذا غير معقول ...»
فقطبت وسألتها: «غير معقول؟ ... ماذا؟»
قالت: «كيف تريد أن تحب النساء كلهن؟»
قلت: «وما المانع؟ أحب المرأة على العموم، وإن لم أعشق واحدة على الخصوص.»
قالت: «لست فاهمة.»
قلت: «دعي هذا ... ألست تعترفين بأن الجديرات بالحب لا آخر لعددهن؟ فكيف تريدين مني أن أخص واحدة منهن بحبي وأن أحرم الباقيات كأنهن غير أهل للحب؟ ألا يكون هذا غبنا لهن وتقصيرا مني؟»
قالت: «إنك تمزح.»
قلت: «بل أنا جاد جدا.»
قالت: «لا أصدق.»
قلت: «شأنك، فما أستطيع إرغامك.»
قالت: «إني أصدق الآن ما سمعته.»
قلت: «الحمد لله ...»
قالت: «إنما أعني ما سمعته عنك ...»
فسألتها: «وبماذا سعى بي عندك الحساد والوشاة؟»
فألقت إلي نظرة وقالت: «قالوا إن الإنسان لا يعرف لك جدا من هزل.»
فسألتها: «وصدقتهم؟»
فرفعت إلي عينها وسألتني: «هل كذبوا؟»
قلت: «ليتني أستطيع أن أرميهم بذاك.»
قالت: «إذن لماذا تقول هذا الكلام الفارغ؟»
قلت: «سامحك الله يا فتاتي وغفر لك ...»
قالت: «أربع وعشرون ساعة ...؟ هل تضحك علي؟»
قلت: «لا تغلطي يا فتاتي ... هو نصف ساعة فقط ... ولا مطمع لبنت حواء معي في أطول منه.»
فقرصت ذراعي فصرخت وقلت: «ثم أنساها ولو أدمى القرص جلدي.»
فضحكت وقالت: «إنك عنيد.»
وقد أعياني أن أخرجها من خصوصها على العموم، وأن أفهمها أن عجزي عن الحب ليس معناه أنها هي في عيني غير أهل له، أو أني أرى في جمالها نقصا يصرفني عنه ويزهدني فيه، وعبثا حاولت أن أصحح لها هذا الخطأ وأن أبين أن كون امرأة معينة جميلة ليس من مقتضياته أن أكون أنا مكلفا أن أحبها إذا رأيتها أو جالستها، وأن الحب كالزكام يصاب به المرء من حيث لا يحتسب، وأنه لو خير لاختار النجاة، وأن الذنب ليس لي إذا لم أعشق، كما أن السليم لا يلام إذا لم يزكم.
وتعبت من الكلام، فقلت: «ألا نجلس ونشرب من هذا الماء البارد ونطفئ به وقدة هذا الحوار!»
فملنا إلى النبع وتناولنا منه براحتينا، وأحسست وأنا أشرب أن هذه الكرعة الروية أجدى وأرد للنفس من كل هذا الجدل العقيم، وكان وجهها إلى جانب وجهي - وهي حانية ويدها ممدودة إلى الماء - فنازعتني نفسي أن أقبلها، واشتهيت أن أضع شفتي على خدها الأسيل، ولكني أحجمت وكبحت نفسي على عادتي، وقلت وأنا أعتدل واقفا: «لقد كنت أستحقها.»
فلم تفهم - ولها العذر - وسألت: «ماذا؟»
قلت: «قبلة فطمت نفسي عنها وأضعت فرصتها.»
فلم تفهم هذا أيضا - أو لعلها فهمت وتبالهت - وسألت: «قبلة؟ ممن ...؟»
قلت بحدة: «منك أنت ... فقد حركت نفسي وأتعبتني.»
فضحكت وقالت: «أوه ... أوه ...»
فقلت وأنا مغيظ: «أوه ... أوه ... أهذا كل ما عندك؟»
فقالت معتذرة: «ولكن ما ذنبي أنا؟»
قلت: «صدقت ... أنا الذي أضاع الفرصة ثم عاد يتحسر عليها.»
قالت: «أتتكلم جادا؟»
قلت: «نعم، ولكني لا أشتهي الآن شيئا، زالت الرغبة بزوال اللحظة وما انطوت عليه من قوة الإغراء.»
قالت: «ولكني لا أستحق أن تقبلني ... لست بجميلة ...»
قلت: «يا بنت حواء من تخدعين؟ إنك جميلة وتعرفين ذلك، ولكنه يسرك أن تسمعي الثناء على حسنك من أفواه الرجال، ولو كنت تكرهينهم، بل إنك لا تكرهين منهم كضنهم عليك بالثناء، ولكني لا أنوي أن أجاريك فأقصري يرحمك الله واحذري أن تهيجي هذا البركان النائم.»
قالت: «مسكين ... إني آسفة.»
قلت: «لا أسف ... هبيني قبلتك، فماذا إذن ... ماذا كنت أفيد ... ما عمر قبلة ... أنت هكذا أحلى في خيالي.»
قالت: «أويعيش الناس بالخيال؟»
قلت: «أتراني أخطأت إذ لم أقبلك؟»
فرشتني بالماء، فطوقتها وأهويت بفمي على شفتيها وخديها وعينيها وشعرها ... وقلت وأنا أفك أسارها: «هذا عقابك.»
فعادت إلى الماء ترشني به لأني قبلتها، وكانت ترشني لأني لم أفعل، فما أشد حيرة الرجل مع المرأة وأعظم جهله بها!
العبرة بالخواتيم
يرجع تاريخ هذه القصة - إذا جاز أن نسميها قصة - إلى ذلك العهد الذي كان فيه القلب شابا، والعقل غلاما، وكنت يومئذ ساكنا، وادعا كالسمكة في الثلاجة. كذلك كانت تقول عني زكية، بنت ابن خال ابن عم أبي ... قريبتي والسلام، وإن كانت حواء - فيما يبدو لي الآن - أقرب إلي، وأشبه بي، وأرحم أيضا، وكانت يتيمة؛ فهي تقيم مع خال لها، ولكن اليتم لم يفل لها عزما، ولم يصدها عن الجرأة، ولم يضعف ثقتها بنفسها ... ثقتها بنفسها؟ إنه ليخيل إلي أن موسوليني وهتلر لا بد أن يكونا قد تلقيا عليها دروسا في الثقة بالنفس، والاعتداد بالذات - بالمراسلة - ولم يكن أبغض إلي من خالها هذا، وأحسب - بل أنا واثق - أن الكراهية كانت متبادلة، وكان السبب من ناحيته أنه يعتقد أني مجرم بالفطرة، أو بعبارة أدق «خفيف اليد».
أما الداعي إلى كرهي له فذاك أنه كان قاضيا، فاتفق يوما أن أقامت الجمعية الخيرية الإسلامية حفلتها السنوية في حديقة الأزبكية، وكانت تزين سور الحديقة بمصابيح توقد فيها الشموع، وكنا لفيفا من الطلبة، فلما قضينا كل حاجة داخل الحديقة، دار في نفوسنا جميعا خاطر واحد، هو أن نخرج، وندور بالسور، فنطفئ الشموع، وندس منها في جيوبنا ما تتسع له ... شقاوة تلاميذ، لا أكثر ولا أقل، ولكن سوء الحظ أبى إلا أن يرانا الشرطي ... ولا أطيل. كان من سوء الحظ بعد ذلك أن يكون القاضي خال زكية! فهل تدري بماذا حكم علي هذا الرجل ذو الوجه السلحفائي، لولا شارباه المفتولان؟ غرمني مائة قرش! تصور مائة قرش يغرمها تلميذ في سنة 1905؟ لقد كانت ثروة! وكان يكفي في زجرنا عن مثل هذه الشقاوة أن يمط بوزه، ويزوي ما بين عينيه، ويقول: «عيب يا ولد أنت وهو ... امشوا اخرجوا، ولا تعودوا إلى هذا مرة أخرى!» بل كان ينبغي أن يؤنب الشرطي الذي جرنا إلى «القسم» وأن يفهمه أن هذا لعب أطفال، ولكنه كان فظا غليظ الكبد، ولعله كان يتوهم أن هذه الغرامة ستكون من نصيبه! وقد بقيت «محجوزا» حتى جمع المال! فهل من يلومني إذا قلت: إن كرهي له كان ينمو في قلبي كالسرحة أو كشعر رأسي، في ذلك الزمن؟
ولا أحتاج أن أقول إني كنت أتقيه، وأني كنت، إذا اضطررت أن أذهب إلى بيته، أحس كأني مسوق إلى المشنقة، ولكن زكية لم يكن يزجرها عن زيارتنا ما كان يزجرني عن بيت خالها، وكنت أحس - وهي عندنا - أن في البيت إعصارا، وكانت لا تتركني حتى تورطني في أفاعيل يسأل من مثلها السلامة، وقد أغرتني مرة بأن أقص لقريب لنا، ضيف علينا، أحد شاربيه، وهو نائم ... ومن السهل عليك أن تتصور ما حدث بعد ذلك ... أي بعد أن خرج الرجل لشأن له ولاحظ أن كل عابر سبيل يضحك منه، وأن الجالسين أمام الأبواب أو الدكاكين وفي المقاهي يتغامزون عليه ويشيرون إلى وجهه ...!
ولا أدري كيف كان يحدث هذا كله، ولكن الذي أدريه أني كنت حين أراها أتجهم لها، وأصمم على رفض كل ما تتوجه إلي به من رجاء، وأقول لنفسي: «كن حجرا صلدا. لا تعرها أذنا، ولا تعبأ بها، ولا حتى بدموعها»، ثم تتقشع السحب، وتصفو السماء، وإذا بها قد حملتني على مكروهي! فالحق أن شمشون كان معذورا فيما وقع فيه بفضل دليلة!
وقالت زكية يوما: «اسمع. أريد منك أن تذهب إلى دكان ... فإن فيه «فنيارا» ظريفا تحدثني نفسي أن أشتريه، ولكني أريد رأيك فيه قبل أن أفعل، فإنه غال. تأمله ... جسه ... افحصه جيدا ... ثم عد إلي برأيك ...»
ولم أر في هذا بأسا فذهبت إلى الدكان. ولكن من تظن أني رأيت فيه؟ خالها من فضلك! وقد تحب أن أزيدك بيانا، فاعلم إذن أنه كان يفحص «الفنيار» الذي وصفته! وقد أصرت على أن هذه مصادفة ليس إلا، ولكني لا أصدق، وكنت قد دخلت الدكان كالقنبلة، فلما وقعت عيني على الخال الفاضل وقفت كأنما صدني حائط، ودار رأسي، وتخلخلت ركبتاي، وخفت أن أهوي إلى الأرض، فمددت يدي لأتكئ على شيء، ووجدت شيئا - لا أدري ماذا، فقد كانت عيني على الخال وعقلي معه - فاستندت، وجاهدت أن أتشدد، وفكرت في التقهقر والهرب، وإذا بالخال يدور فيراني، فيقطب، ثم يقول: «ماذا تصنع هنا؟»
فأقول متلعثما: «إ... لا شيء.»
فيقول: «هل كففت عن السرقة؟»
فأتشجع وأقول: «لم تكن هذه سرقة، ثم إن ...»
فيقاطعني ويقول: «لقد كان حقك السجن ... ولكني رحمتك.»
فأهم بكلام، ولكن الذهول الذي استولى علي لما سمعته يقول إن تغريمي مائة قرش كان عملا رحيما، عقل لساني.
فيقول: «وماذا تعمل الآن؟»
فيقول رجل معه لم أفطن إلى وجوده: «يسرق العصي على ما يظهر، فإني أرى يده على عصاك.»
فأرفع يدي كأنما شكني مسمار محمي، وأنظر إلى العصا وهي تقع على الأرض، وأرى، كأني أحلم، الخال ينحني ويتناولها، ثم يحدجني بالنظر الشزر، وأفتح فمي محاولا أن أشرح له كيف اتفق أن أضع يدي - عفوا وبلا قصد - على عصاه، فأتردد وأحجم، وأطبق فمي، وماذا يمكن أن أقول له؟ ليس من السهل أن تقول لقاض حكم عليك بغرامة فادحة: إنه ثقيل بغيض وإنك تمقته أشد المقت، وإن رؤيته تسود في عينيك نور الضحى.
ويرى هو اضطرابي، وتلعثمي، فيكون هذا عنده بمثابة الاعتراف، ويقتنع بأني مفطور على السرقة، وأن اللصوصية شيء في دمي ... ولست أشك في أنه كان في تلك اللحظة يتمنى لو كان في المحكمة، وأنا أمامه ليبعث بي إلى السجن.
ولأمر ما، ترك ما كان فيه، وجر صاحبه وخرج. فخلصت أنفاسي، وطهر الجو فيما أحس، واستعدت رباطة جأشي، ووسعني أن أكلم صاحب الدكان، وأن أتناول «الفنيار» وأتأمله، كما أوصتني تلك اللعينة، وأن أقول له - ياللجرأة! إنه صدئ، وأنه لا يساوي شيئا!
فيتعجب ويقول: «صدئ؟ أين هذا الصدأ؟ اخرج به في النور وانظر.»
فأتناول «الفنيار» وأخرج، ولكني أتعثر - في مدخل الباب - ويطير «الفنيار» من يدي، وأنكب أنا ... على صدر الخال الفاضل!
وأفيق، وأعرف على من وقعت، وبمن اصطدمت، فأضع ذيلي في أسناني وأهرب! •••
وتصور أن تجيء زكية، بعد سنتين، وتقول لي: «لي عندك رجاء يا روحي.»
فسرت في بدني رعدة، فما تقول لي: «يا روحي»، إلا وهي تنوي أن تورطني في أمر خطير لا بد أن يزهق روحي، ولم يخطئ حدسي، فقد ذكرتني بأن لها قريبا تحبه ويحبها، ولكن وظيفته صغيرة، فخالها لا شك سيرفض أن يوافق على تزويجها له، وصحيح أن لها هي ميراثها، ولكن هذا لن يكون له تأثير في رأي خالها .
فسألتها، وأنا أحدث نفسي بأن وقوع البلاء أهون من توقعه: «لماذا تقصين علي كل هذا الذي أعرفه؟»
فقالت: «لأننا اتفقنا - أنا وأحمد - على أنك خير من يستطيع أن يساعدنا.»
فصحت بها: «كيف؟»
قالت: «لا تصح هكذا ... نعم أنت ... في وسعك أن تحمل خالي على الرضى.»
فكاد عقلي يطير ... ولي العذر ... والغريب أني ضحكت، بل قهقهت، ولكن هذا ليس غريبا، ألم يقولوا إن شر البلية ما يضحك؟
ولما استطعت أن أتكلم قلت: «آسف ... آسف جدا ... اذهبي إلى دكان آخر.»
قالت: «ولكنك تخيب أملي ... أملي وأمل أحمد.»
قلت: «إنك أنت التي خيبت أملي ... لم يبق في رأسك عقل. كيف تتصورين أن يكون في وسعي أن أذهب إلى هذا الوباء - معذرة - وأقنعه أنا ... أنا ... أقنعه بأن أحمد كفء لك، وأحمله على الرضى به؟ هل جننت؟ إن خالك لا يطيق أن يرى وجهي ... يعتقد أني لص ... مجرم بطبيعتي.»
فأدهشني أن أسمعها تقول: «هذا هو الذي يجعلك أقدر الناس على مساعدتنا.»
ففتحت فمي، وحملقت ... كالأبله ... ما كنت أظنه حجة لي تقلبه هي حجة لها علي. فالحق أن المرأة مخلوق آخر ...
وقالت: «ألا تفهم؟ كل ما عليك هو أن تذهب إليه وتقول له يا عمي، أو يا خالي ... ماذا تسميه في العادة؟»
قلت: «البلاء الأزرق ... وقل له ذاك.»
قالت: «قل له ما تشاء ... ولكن قل إنك تحبني، وإني أحبك، وإنك تريد أن تتزوجني، فأنت ...»
فنفد صبري، وأنا صبور جدا، وحليم، ولكن لكل شيء حدا، وقد كلفتني حماقاتها أكثر مما أحب أن أتذكر، ولكن هذا شطط لا سبيل إلى احتماله، وقد بينت لها رأيي فيها بأصرح ما أستطيع، ولعنتها ولعنت صاحبها أو قريبها بأحر لفظ!
ولكنها لم تغضب، بل قالت لي: «يظهر أنك غير فاهم. هذا اقتراح أحمد، وهو كما تعرف ذكي جدا ... شعلة ذكاء، وهو يقول إن خالي يكرهك كره العمى، فإذا سمع أنك تحبني وتخطبني، وأني أحبك، وراضية بك، طار عقله وقال: «كله إلا هذا»، وهو يعرف حق المعرفة أنه لا سلطان له علي لأني بلغت رشدي، فإذا جئت أنا وقلت له: إني لا أحبك ولا أريدك زوجا لي، لم يسعه إلا أن يرضى بأحمد ... أي إنسان خير عنده منك ... هل فهمت الآن؟ ... المسألة كلها لن تستغرق أكثر من نصف ساعة وتخرج أنت مسرورا بنجاحك، وأسعد أنا وأحمد بقية العمر بفضلك!»
وبدا لي، وأنا أدير هذا الاقتراح في رأسي، أنه لا يخلو من سداد، وإن كانت أشياء بقيت تحك في صدري، وهي مخاطرة على كل حال!
وسألتها: «هل أنت واثقة أن هذا الحمى يقبل كل شيء إلا أن يزوجني منك؟ إني لا أريد أن أقع أنا في الشرك!»
قالت: «لا تخف، وهل تتصور أنه يخطر لي أن أرضى بك زوجا؟»
قلت: «أشكرك، ولكني أحب أن أكون على يقين.» •••
وقد كان. دخلت على الخال، فألفيته لم يفق من تعجبه لاستئذاني عليه، فقلت أحاوره قليلا حتى أسري عنه، وأرد إليه روحه، ثم ألقي القنبلة، وسيسرني أن أراها تطير بأشلائه، وتمنيت أن يحدث له ما سيسمع مني سكتة قلبية، أو على الأقل فالجا، وقد كاد فعلا يفلج حين سمع مني أني أخطب لنفسي زكية، وأني أحبها وتحبني، وأنها ترضاني بعلا لها ... هراء بالطبع ولكنه لا يعرف أنه هراء، وقد انتفض واقفا، وضرب المكتب بجمع يده، فكان من دواعي اغتباطي أن يده وقعت على سن غطاء الدواة، فصرخ كأنما أصابته طعنة خنجر، ثم صاح بي: «اخرج من هنا ... حالا.»
فقلت: «ألا تسألها أولا؟ إن في وسعها أن تتكلم، وستتكلم، فما هي بقاصر.»
ولا أدري من أين رزقت كل هذه الشجاعة، وأحسب أن الذي شجعني يقيني أني أكويه وأشويه بكلامي، وأني أنتقم لنفسي، وأثأر منه، وأعوض ما فجعني فيه حين غرمني مائة قرش من أجل عمل صبياني.
وعاد إليه عقله لما نبهته إلى أن زكية ليست بقاصر، فدعا بها إليه، وقص عليها الخبر، وهو يظهر الاشمئزاز والتقزز كأنما يمسك فأرا ميتا.
فقالت له: «ولكن يا خالي هذا مستحيل ... إن أحمد هو الذي يريد أن يتزوجني، وهو الذي أرضى به.»
وكانت جرأتها في هذا أعظم من جرأتي أنا عليه، فثار وراح يقطع الغرفة كالنمر الجوعان، ويصيح: «وهل عندنا بنات يفعلن هذا؟ ما شاء الله! عال. لم يكن باقيا إلا هذا!»
فقالت بهدوء: «إذا كنت لا ترضى بأحمد، فالمسألة بسيطة. سأرضى بخليل، ولم لا؟ مستقبله حسن ... ومركزه الحالي لا بأس به ...»
فقاطعها وصرخ: «لا لا لا لا ...»
قالت: «إذن ترضى؟» وانحط على كرسي، وانحطت عليه زكية، تقبل خديه.
ولم يسعني أنا إلا أن أتسلل وأخرج ...
فيا لها من فتاة!
ولقد غفرت لها كل ما جرته علي، لأنها مكنتني من شفاء غيظي وغلي! ... مائة قرش! يا حفيظ يا رب!
الكلب
كنا في قهوة «الحاج إلياس» على طريق «ضهور الشوير»، أو على الأصح في بستان فاكهة وزهر على هذا الطريق، وكان معي أسرتي زادها الله عددا، وأبقاني لها ذخرا ومددا، فما أعرف لي عملا في الحياة إلا أن أزود هذا الجيش المبارك بالزاد والعتاد، وكنا قد أكلنا هنيئا، وشربت أنا مريئا، وبقي البطيخ والفاكهة ولا محل لها، فقلنا نرجئها ساعة أو بعض ساعة، وخفت أن تسبق معداتهم معدتي في الهضم، فأغبن، فقلت أتمشى، ومضيت إلى واحد من رجال القوة وقلت: «يا حاج إلياس.»
ولم يكن هو الحاج - كما عرفت فيما بعد - ولكنه وثب إلى قدميه أو عليهما أو لا أدري كيف وقال: «نعم سيدي!»
قلت: «سأتمشى قليلا.»
قال: «تكرم سيدي.»
قلت: «هل هنا طريق؟»
قال: «نعم سيدي.»
قلت: «وصيتك العيال!»
فضحك وقال: «تكرم سيدي.»
قلت: «هل أعدهم لك، وآخذ إيصالا بهم؟ أو الدار أمان؟»
فقال وهو يضحك: «الدار أمان سيدي.»
قلت: «إنهم أكثر مما تظن.»
قال: «شو بتقول سيدي؟»
قلت: «إنهم أربعة والخادمة، يساوون خمسة والخادمة.»
قال: «كيف سيدي؟ شو هادا؟»
قلت: «أعني أنهم أربعة والخادمة فيما يبدون لك، ولكنهم في الحقيقة خمسة والخادمة. أفهمت الآن؟»
فأقسم أنه لم يفهم، فقلت على سبيل الشرح: «إن الخامس لا تراه لأنه مختبئ منذ شهور.»
قال: «مختبئ؟»
قلت: «نعم، متحفز.»
فهز رأسه، فصحت به: «العمى! في بطن أمه!» •••
وذهبت أتمشى، ورأسي عار، ويداي في جيبي البنطلون، وكنت أغني - آمنا - «ما بدها عيطة، ولا بدها زيطة، وقع المقدر، ولبسنا البرنيطة»
1
للزعني أو لعلها ليحيى اللبابيدي، فقد نسيت، وكان الذي أغراني بهذه الأغنية وجرأني على رفع الصوت بها في الجبل الخالي أن لحنها ساذج لا يحتاج إلى جمال في الصوت، وأن الذي سمعته يغنيها ويطرب الناس بها - في الفونوغراف - ليس أرخم مني صوتا، ثم إني كنت أشعر بأني مفتقر في تلك الساعة إلى «البرنيطة» لشدة وقدة الشمس، فأخرجت منديلا وغطيت به رأسي وعقدت أطرافه عليه، ورضيت عن نفسي وعن الدنيا، وأمنت شر هذه الشمس واتقيت غدرها، فانطلقت أغني: «ما بدها عيطة.»
وكنت أمشي على غير هدى، فأبعدت وإذا بكلب يجري ورائي وينبحني، فوقفت وقلت لنفسي: «سبحان الله العظيم!» ودرت على عقبي فواجهته وقلت له: «نعم سيدي؟»
قال: «هاو ... هاو ...»
قلت: «أشكرك ... ولكني أستطيع أن أعرف الطريق وحدي.»
قال: «هاو ... هاو ... هاو ...»
قلت: «الحق معك، وإني لمعترف بخطئي، وأعدك أن لا أغني مرة أخرى، إلا في سري، انتهينا؟»
قال: «هاو هاو ... ها هاو ...»
قلت: «يا أخي، إن التائب من الذنب كمن لا ذنب له.»
قال: «هاو هاو هاو!»
قلت: «أتسمح بأن أقدم لك سيجارة؟ إنها سجاير مصرية لذيذة، تركها لي عمال الجمرك في بيروت، أو على الأصح لم يتركوها، وإنما غابت عن عيونهم في مطاوي الثياب، أو بعبارة أدق، لم يفتحوا الحقائب.»
فأبى أن يتقبل مني السيجارة، فقلت: «آه مفهوم! الدخان عندكم مكروه ... بالطبع! معذرة يا أخي، وإذا كنت تكره أن تراني أدخن أمامك، فإني مستعد أن أرمي السيجارة وأدوسها بقدمي، أطحنها بكعب حذائي، أخلطها بتراب هذا الجبل الجميل، أما العلبة، فسأعود إلى البركة وألقيها فيها، إذا سمحت، فهل تسمح؟»
قال: «هاو هاو ... هاو هاو ...»
قلت: «هممم! يظهر أن المفاوضات بيننا ستطول، فهل تسمح لي أن أفكر في طريقة لاختصارها قليلا!»
فأذن، بالصمت، فشكرته بعيني، ووقفت أفكر في أمري معه وفي ضيق صدره بي ونقمته علي بلا مسوغ، فما جئت إلى لبنان غازيا، ولا خوف مني على الكلاب لو عقلت، وأخرجت يدي ورفعتها إلى جبيني لأفركه وأستعين بذلك على التفكير، فزجرني الكلب وصاح بي: «هاو هاو!»
قلت: «رجعنا؟» ورددت يدي إلى مكانها واستغنيت عن معونتها، فخطر لي أن أتئره النظر وأطيل التحديق فيه - في عينيه - عسى أن ينام، نوما مغناطيسيا، فأتسلل على أطراف أصابعي وأخرج من هذه الورطة الثقيلة، ولكنه على ما يظهر كان لبيبا فطنا، فأدرك أني أدبر له أمرا، وراح ينبحني نباحا عاليا فقلت له لأتألفه: «حلمك سيدي! حلمك! لا تغضب!»
ولكنه أصر على الغضب، لأنه أحمق وليس بلبيب فطن كما توهمت، وأبى إلا أن يواصل النباح، وأحسبه كان يطمع أن يؤلب علي كلاب الجبل جميعا، لولا أن الجبل لا كلاب فيه غيره، وإذا بشجرة وراء الكلب تقول بصوت ناعم: «بيجو! بيجو! تعال!»
فالتفت إلى الشجرة مستغربا وقلت: «كوني متواضعة يا شجرة، كالأنبياء وتعالي أنت!»
فلم تتحرك الشجرة ولم تبرح مكانها، ولكن تحركت أغصانها وافترقت - أعني افترت - عن وجه ملائكي ما لجماله ثان في هذا العالم الفاني. فخلتني لحظة في الجنة التي وعدها المتقون، أليس الشجر فيها ينشق ثمره عن الحور العين؟ ولكني وا أسفاه لست من المتقين فلا يمكن أن تكون هذه هي الجنة، وإنما هي الدنيا، فعلي أن أرد نفسي إليها من عالم الأوهام، فقلت وأنا أدنو من الشجرة، وقد نسيت الكلب ونباحه فلو عضني لما شعرت به: «هل تسمح لي الشجرة المباركة أن أقطف هذه الثمرة الشهية؟»
فارتد الوجه ضاحكا وغاب بين الورق الأخضر.
فقلت: «سبحان ربي القادر! شجر يثمر وجوها حلوة، لها عيون آه من سحرها! وشفاه ليت رقتها تسري إلى قلوبها!»
فضحكت الشجرة، وعاد الوجه فأطل بديباجته المشرقة، ولا أدري كيف حدث هذا، ولكن الذي أدريه أني دفعت ذراعي فإذا تحت الوجه كتفان وذراعان وخصر نحيل وجسم رخص طري.
فاستحلفتني ضاحكة: «وحياة دقنك!»
قلت: «حلفت بغير شيء، فقد حلقتها اليوم!»
قالت: «يخرب عقلك!»
قلت: «ليس فيه ركن واحد عامر.»
قالت: «أطلقني!»
قلت: «حتى أشكر الله!»
قالت: «ارفع يديك عني واشكره.»
قلت: «بل أشكره بقبلة.»
فردت وجهها فانتفش شعرها الذهبي الناعم، وعلقت منه خيوط بالشجرة، فصرخت، فلم أكترث لذلك وأهويت عليها باللثمات، فلعنتني وسبتني وتوعدتني أن تغري بي هذا الكلب اللعين، وكنت قد نسيته، فذعرت ولكني تجلدت وتشددت وقلت لنفسي إذا أظهرت الجزع أنفذت وعيدها وطارت الثمرة من يدي.
وقلت: «لو قطعني كلبك هذا لما استطعت أن تفلتي، تعالي! اخرجي!»
وجذبتها فخرجت معي إلى فضاء الله ونظرت إلى الكلب باسما فقد ظفرت عليه وقلت: «ألسنا صديقين يا صاحبي؟ قل لها إني رجل طيب ... تعال يا بيجو! تالله ما أحلى اسمك ... الآن، وما أشد حبي للكلاب ... اليوم!»
قالت: «ألا تحبها؟»
قلت: «وهل فرغنا من حب بني آدم حتى نحب الكلاب؟ بل أحبك أنت!»
قالت: «بهذه السرعة؟»
قلت: «وما داعي أن أبطئ وأتلكأ؟ وما دام الحب مقدورا ولا بد منه فليكن من الآن!»
قالت: «من أنت؟»
قلت: «سعيد بن موفق.»
قالت: «شو؟»
قلت: «أقول إن اسمي اليوم سعيد بن موفق.»
ففهمت وضحكت، ثم قالت: «وماذا كان اسمك قبل اليوم؟»
قلت: «أوه! إن لي كل يوم اسما جديدا، على حسب الأحوال، مثلا، قبل أن تظهري لي بنصف دقيقة كان اسمي «منحوس بن حيران»، وقبل أن تحملني رجلاي إلى هذا المكان كنت «شبعان بن متخوم» وهكذا ...»
قالت: «صحيح؟»
قلت: «أي شيء؟»
قالت: «ما تحكيه.»
قلت: «دعيني أفكر ... كنت أقول إني سعيد، وهذا صحيح، ولا أزال سعيدا، وأرجو أن أظل كذلك ...»
قالت: «لا لا لا ...»
قلت: «لا ... يعني ماذا؟»
قالت: «هل كنت خائفا من الكلب؟»
قلت: «ولم لا أخافه وهو كلب؟» ولكني لا أخافه الآن فإن ملاكي الحارس معي، والآن قولي لي من أنت؟ وتعالي أعرفك بالجراء الكثيرة التي عندي ... أعني في قهوة الحاج إلياس.
قالت: «هل عندك كلاب؟»
قلت: «ثلاثة ورابعهم في الطريق ...»
قالت: «صحيح؟»
قلت: «بالطبع صحيح، وهل أنا أكذب، ومع ذلك سترين بعينيك الساحرتين ... تعالي ...»
وعدنا معا إلى القهوة، وتعارفنا في الطريق، ومضت دقائق ونحن جلوس - هي وأسرتي وأنا - ثم قالت فجأة: «أين كلابك؟»
فقلت: «لقد مسخها الله ... كما ترين.»
وأشرت إلى أولادي، فهاج بي الجمع كله، لا أدري لماذا؟
بوبي
وقعت عيني عليها، فلم أعد أرى سواها، وكنت أركب «الأمنيبوس» ففتحت الباب وإذا بها أمامي، وفي حجرها كلب أبيض صغير غزير الشعر وإلى جانبها صاحب لي، جالس كالدمية. فغضضت الطرف؛ أعني أني حولت عيني عنها إلى التمثال، وكانت نظرتي واشية بالإعجاب والسرور، فانقلبت نظرة حسد وغيظ، ومقت أيضا، ولكني كتمت ذلك وأمسكت على ما بنفسي منه، ولم أسمح له أن يطل من عيني؛ لظني أنها قد تكون زوجه أو أخته أو قريبته، أو حبيبه، ولكنه كان تمثالا مبنيا أو منحوتا من الحجر لا إنسانا حيا من لحم ودم. فمضيت عنه إلى آخر مقعد، وقد زاد حقدي عليه وحسدي له، وجعلت أقول لنفسي - وأنا قاعد، وبيني وبينهما صفان - إنها لا يمكن أن تكون زوجة أو قريبة، فما خلق مثلها ليشقى بزواج مثله أو يبتلى بقرابته، وإنه لا حق له في زحامها على مقعدها، وإن من سوء الأدب ألا يفسح لها.
ورثيت لها، وأشفقت عليها من برد هذا التمثال الجامد الذي لا ينبض فيه عرق، ولا يطرف له جفن، وهممت مرات أن أدعوه إلي، ولكني رددت نفسي عن ذلك، مخافة أن تكون معه، فإن النساء - ككل شيء - حظوظ وأرزاق، وقد سمعت وحفظت من أمثال عامتنا أن الله يشاء أحيانا أن يعطي الحلق لمن ليس له أذن ...
وبلغت «محطتي» فنزلت، ومنحت السيارة ظهري، فقد شق علي أن أراها تمضي بهذه الفتاة، فلما آذنني صوتها - أعني صوت السيارة - أنها بعدت عني، درت، فإذا بالفتاة إلى جانبي وأطراف أصابعها على فمها، وفي وجهها كل آيات الحيرة أو الاضطراب، ولم أر الكلب، فتلفت فبصرت به يعدو ويسابق ظله الصغير، ولم أبصر صاحبي في مكان قريب أو بعيد، فلم يبق محل للتردد، فخلعت معطفي ورميته بلا تفكير، وذهبت أعدو وراء الكلب، فأدركته بلا عناء، فقد كان صغيرا وخطوه متقاربا، ورفعته عن الأرض ، ووقفت أمسح له شعره الناعم، لأستريح.
وسمعت صوتا رخيما يقول لي: «أشكرك، هذا منك غاية المروءة.»
فدرت وقلت بسرعة: «العفو ... أستغفر الله.»
قالت الفتاة: «منتهى اللطف ولا شك.»
فلم أدر ماذا أقول، وكنت أنا أحمل الكلب، وهي تحمل معطفي - كما تبينت فيما بعد - ولكني لم أكن أرى أو أدرك شيئا، سوى أن لساني قد انعقد، وأني فقدت القدرة على الكلام.
وعادت الفتاة تقول: «صحيح، أنا متشكرة جدا.»
فكان كل ما فتح الله به علي: «إني أحب الكلاب.»
ولم أكن صادقا في ذلك، فما أحب الكلاب ولا أطيقها، وما رأيت قط كلبا - ولو كان ميتا - إلا ذهبت أفكر بسرعة في أقرب مستشفى للكلب ...
وسمعتها تقول: «لا شك أنك تحبها، وإلا لما جريت وراءه هكذا.»
فقلت: «نعم، إني أحب ... أحبها ... هل تحبينها؟»
قالت: «نعم، حبا جما.»
قلت: «أنا كذلك، أحبها حبا جما.»
قالت: «بعض الناس لا يحبونها.»
قلت: «صحيح، أنا ... مثلا ... أحبها ... أحبها كثيرا.»
ثم كأنما انحلت عقدة لساني، ونزلت عليه الفصاحة والبيان، فقلت من غير أن أتلعثم أو أتأتئ أو أفأفئ: «أحب الكلاب بأنواعها؛ القلطي والسلوقي والمالطي والأرمنتي والبول دوج والثعلبي، وأحب هريرها ونباحها وهوهوتها، وأحب لعبها وعبثها وعضها.»
وخانني بياني فأمسكت، فقالت: «يظهر أنك تحب الكلاب.»
فقلت: «نعم، أحب الكلاب ... جدا.»
قالت: «إن لها مزاياها.»
قلت: «صحيح ... إن للكلاب مزاياها.» وفتح الله علي فأضفت: «وكذلك للقطط مزاياها.»
فقالت: «صحيح ... القطط أيضا لها مزاياها.»
قلت: «لا شك. ولكن القطط تختلف عن الكلاب.»
قالت: «نعم تختلف ... لقد لاحظت ذلك.»
وكان ينبغي أن أجيب بشيء، فقد اتسع الموضوع ولم يعد مقصورا على الكلاب، ولكنه لم يخطر لي كلام أقوله، فعضضت لساني من الغيظ، وسكتت هي أيضا، ووقفت أمسح للكلب شعره، وبودي لو أخنقه، فقد كبر في ظني أنه هو الذي جر علي هذه الحبسة التي أصابت لساني، ثم رفعت عيني إلى الفتاة فرأيتها تنقل معطفي من ذراع إلى ذراع، فأسرعت أقول: «معذرة! لقد كنت ذاهلا.»
وتناولت المعطف، فحملت عني كلبها وهي تقول: «هو الذي أذهلك ... إنك تحبه، أليس كذلك؟»
فقلت - وأنا أتشهد في سري: «أحبه؟ آه ... نعم ... أحبها ... أعني الكلاب.»
قالت: «إنك ...؟»
قلت: «إني؟»
قالت: «نعم، إنك ... أعني ... إني لست أعرف لمن أنا مدينة بهذا الجميل؟»
قلت: «آه. صحيح ... كلا ... لا فضل ولا جميل ... لا لا لا ... لا شيء.» وسخطت على نفسي جدا؛ فقد كان واضحا أنها تسألني عن اسمي وما إلى ذلك، فجاء جوابي كأني لا أرتاح إلى تعريفها شيئا منه، وأحر بهذا أن يصدمها ويفتر ما بيننا.
ثم قالت: «ألا تتفضل معي قليلا؟»
وأشارت إلى بيت، فقلت: «هذا مسكنك؟»
قالت: «نعم، تفضل، فإن أمي يسرها أن تشكر لك صنيعك، وأظنها تحب بوبي أكثر مما تحبني.»
وضحكت، فقلت: «في وقت آخر ... لا موجب للشكر ... ما فعلت إلا ما يفعله أي إنسان.»
وصافحتها وانصرفت مسرعا، وبودي أن أجرد من نفسي شخصا أظل ألعنه وألكمه حتى أشفي غيظي، فما أذكر أني كنت قط أسخف مني في ذلك اليوم، وإني لثرثار في العادة، ولست أتهيب المرأة أو أجهل طبيعتها، فمن أين جاءني هذا البكم؟ وماذا عسى أن تقول عني هذه الفتاة؟ وكيف لم يخطر لي كلام إلا: «إني أحب الكلاب»؟
وآليت - من فرط سخطي على نفسي وخجلي من عيي وفهاهتي - أن أجنب السير في هذا الطريق، وحرصت على ذلك أشد الحرص، ومضت أيام لا أذكر عددها، ونسيت الحكاية، وصرفتني عن الحياة مطالب الدنيا ومشاغل الحياة، ثم اتفق لي أن ركبت «الأمنيبوس» مرة أخرى في هذا الطريق عينه، مع صديق لي، وكان قد دعاني إلى العشاء، فلما بلغت المكان هجمت علي الذكرى، فانتفضت قائما، وقلت لصديقي سألحق بك فامض أنت.
قال: «إلى أين؟»
قلت: «زيارة وجيزة.»
قال: «من؟»
قلت: «زيارة ... ما سؤالك هذا؟»
قال: «أفي الأمر سر؟»
قلت: «لا يا سيدي، لا سر ولا شبهه، سأزور كلبا.»
قال: «كلب؟!»
قلت: «نعم، كلب، وأي غرابة في ذلك؟»
قال: «ولكنك تكره الكلاب؟»
قلت: «أكرهها؟ من قال إني أكرهها؟ إنما أكره ما يستحق الكراهة من كل شيء.»
فصاح بي وأنا أنزل: «ولكنك لا تعرف البيت.»
فقلت: «بل أعرفه ... لا تخف علي.»
فصاح بي من النافذة: «بل لا تعرفه ... أنا واثق، فاصعد.»
فقلت بحماقة: «يا أخي أعرفه ... هي دلتني عليه.»
فقال: «هي؟»
فعضضت لساني من الغيظ، ومضيت عنه ... •••
ودققت الجرس، فخرجت لي خادمة وقالت: «نعم.»
فحرت ماذا أقول؟ وذكرت أني لا أعرف اسم الفتاة، ولا اسم أمها، ووقفت مترددا ثم قلت: «اسمعي يا شاطرة، إن عندكم كلبا صغيرا جميلا، أبيض الشعر، أليس كذلك؟»
قالت بدهشة: «كلب؟ تسأل عن كلب؟»
قلت: «نعم ... اسمه ... اسمه ... آه. تذكرت ... اسمه بوبي ...»
قالت: «آه ... بوبي ... ماله؟»
قلت: «أ... أ... كيف صحته؟ إن شاء الله يكون بخير.»
فدارت اللعينة، وقالت تخاطب من لا أرى: «إنه رجل غريب يسأل عن صحة بوبي.»
فبرزت لي سيدة ضخمة، ضخمة جدا، أضخم شيء رأيته في حياتي، حتى لقد احتجت أن أدور بعيني في أنحاء جسمها المتباعدة، لأحيط بها علما، وأقبلت علي تسد الفضاء في وجهي وقالت: «من هذا؟»
قالت الخادمة: «لا أعلم ... لم أره من قبل.»
فسألت خادمتها، كأنها لا تراني - وهل أنا إلا ذرة أو هباءة؟: «ماذا يريد؟»
قالت الخادمة: «يريد أن يعرف صحة بوبي.»
فقالت: «ما شأنه به؟ هل يعرفه؟»
فتدخلت في الحوار وقلت: «نعم يا سيدتي؛ لقد تشرفت بمعرفته يوم فر من سيدته وكاد يضيع أو يختفي.»
فقالت: «آه» ولم تزد.
قلت: «نعم؛ وقد خطر لي أن أسأل عنه كيف حاله؟»
قالت: «بخير ... أشكرك بالنيابة عنه.»
قلت: «ألا يمكن أن أراه، وأطمئن عليه؟»
قالت: «لا ... لا يمكن.»
قلت: «أهو لا قدر الله ...؟»
قالت: «خرج ...»
قلت: «خرج؟ يا سيدتي كيف تتركينه يخرج وحده؟»
قالت: «لا ... خرج مع إيلين ... لا خوف عليه ... متشكرة ...»
فلم أدر «إيلين» هذه من تكون، الفتاة أم خادمة أخرى، ولكني قلت أجازف وأمري إلى الله، وسألتها: «وكيف حالها؟ بخير إن شاء الله.»
قالت: «حالها؟ من؟»
قلت: «المدموازيل إيلين؟»
قالت: «المدموازيل ...؟»
قلت: «آه ... بنتك ... أليست بنتك؟»
فقالت: «بنتي؟ عن أي شيء تتكلم؟»
فتشجعت وسألت: «أليس هذا بيت المدموازيل إيلين؟ معذرة إذا كنت مخطئا.»
قالت: «بيت المدموازيل إيلين؟ ماذا جرى لعقلك؟ من أنت؟ إنها خادمة هنا.»
فأحسست أنه لم تبق لي قدرة على المضي في هذا الحوار، فاعتذرت لها مرة أخرى، وفررت. •••
وصرت في الطريق، فأخرجت المنديل، وأقبلت على وجهي أمسح العرق المتصبب عنه في الشتاء، فإذا بالفتاة تقول بأرخم من صوتها الأول: «سعيدة ... هذا بوبي.»
ومدت لي يديها به، فلم أتناوله، وتركته على كفيها وسألتها: «هل أنت إيلين؟ قولي لا بسرعة.»
فقالت وهي متعجبة: «إيلين؟ كلا ... إني ...»
فقاطعتها: «لا تقولي شيئا ... يكفي أنك لست إيلين.»
قالت: «ولكني لا أفهم ...»
قلت: «ستفهمين كل شيء ... بعد أن أتنفس وأشكر الله.»
ثم قصصت عليها الحكاية، فضحكت، ولما سكنت الضجة، واستطاعت أن تتكلم أخبرتني أني غلطت، وأن هذا مسكن جيران، وأن كلبهم كان قد ضاع، فرده عليهم بعضهم، وأن هذه السيدة الضخمة لا بد أن تكون قد استرابت بي وشكت في أمري، لأنها تعرف الذي أعاد الكلب، ففهمت ما بدا منها من الجفوة، ولماذا تركتني واقفا على عتبة الباب وأبت أن تدعوني إلى الدخول.
فقلت: «إذن ناوليني بوبي ...»
وحملته عنها وصعدت معها إلى أمها ...
وضحكنا كثيرا في ذلك المساء، ولا أحتاج أن أقول إني نسيت صديقي وعشاءه ... وهبني لم أنسهما، فإني لا أعرف البيت.
نزهة وسليمة باشا
قلت يوما لإخواني - وأنا في بغداد: «يا ناس حرام عليكم. ألا سبيل إلى السماع في بلادكم؟ فقد صدئت أذني، وأخشى - إذا اقتصر الأمر على الولائم - أن أنقلب، من رأسي إلى أخمص قدمي، معدة ليس إلا.»
فسكتوا يومين، ثم ضربوا لنا موعدا بعد عشاء - فقد كانت أوقاتنا مكظوظة بالمآدب - ثم مضوا بنا إلى بيت أنيق، في حي جديد، وقالوا: «تفضلوا»، فتفضلنا - أعني دخلنا. وأنا أعجب لمن هذا البيت؟ ولماذا جاءوا بنا إليه؟ وكانت التي فتحت لنا الباب جارية قصيرة عظيمة الثديين، ثقيلة الردفين، ولا عنق لها. ففزعت من هذه «الفاتحة» واستعذت بالله في سري، وتوجهت إليه تعالى بقلبي فقلت: «يا رب، يا رءوف، يا لطيف، إنك تعلم أني ههنا غريب، وأني فوق ذلك ليتيم، وأولادي صغار، فارحمني والطف بي وبهم في قضائك.»
فاستجاب الله دعائي بسرعة، ولا عجب، فإنه تعالى رحيم كريم، وهذا عصر اللاسلكي. ورقينا في سلم عالي الدرج، وأنا أكره السلاليم، وأتقي الصعود فيها، ولم أكن أعلم أن الله سبحانه قد استجاب لي، فقلت: هي ليلة سوداء، وأمري إلى الله ولا حول ولا قوة إلا به، وندمت على ما اشتهيت وطلبت ... وفرغنا من هذه المرقاة التي دوختني وقطعت أنفاسي، وخلصنا منها إلى ما كان حقه - لو كان البيت في مصر - أن يكون ردهة تتوسط الحجرات، ولكنها هنا شرفات على محاذاة الجدران الأربعة، يطل منها المرء على صحن الدار، ونظرت فإذا إلى اليمين غرفة صغيرة في وسطها صينية عظيمة مثقلة بالصحون الملأى بألوان شتى من الآكال، ولم أعدها، ولكنها فيما خيل إلي لا تقل عن ستين أو سبعين صحنا، فحولت وجهي عنها لأني شبعان، ودخلنا حجرة واسعة وثيرة الأثاث أنيقته، فأدرت عيني فيها وقد انشرح صدري، واستويت على مقعد مريح جدا، ووضعت رجلا على رجل، وشرعت أدخن.
وجاء خادم فأدنى منا أخونة صغيرة عديدة، وسألنا: ما تشربون؟ فنظر بعضنا إلى بعض، وقلت: أنا «صودا». فقال صديق لي: «لا يا شيخ، بل ويسكي وصودا.» فقلت لنفسي: «لا بأس، أتركه أمامي وأتناول كل ساعة رشفة فلا يضيرني.» وشرع الخادم يملأ الأقداح، ثم أخذ يجيء بالأطباق المترعة ويضعها أمامنا، ويرتبها ويفسح لها - لكثرتها - وأنا لا أكاد أطيق النظر إليها من فرط الشبع، ولا إليه أيضا، وبقينا هكذا نحو ساعة، وأنا ساكت، صابر، وإذا بحورية هاربة من الفردوس تدخل علينا، وإذا بنا نثب إلى أقدامنا، وقد التمعت عيوننا، وأعدتنا، فأشرقت وجوهنا، وانطلقت ألسنتنا الخرساء وانحلت عقدتها.
وجلست الحورية بجانب واحد غيري، فأسفت لأني آثرت التواضع - لعنه الله - واخترت مقعدي في ركن، وتحسرت على «الصدر» الذي تركته لصاحبي، ولكني عزيت نفسي بأني أراها، ورفعت كأسها، فقلت: أشاربها ولو زهقت روحي، ثم سألتها: «من أي الفراديس هربت يا حورية ؟» فضحكت وغمزت بعينيها ولم تقل شيئا، فلم أنهزم، فقلت: «بأي لغة تتكلمين في الجنة؟» فعادت تضحك، ولا تجيب، فاستغربت، ونهضت إليها وقلت بلهجة الجد: «أريني لسانك.» فأخرجت لسانا دقيقا حلوا، فهززت رأسي مسرورا، وعدت، وسألني جاري - وهو أديب عراقي: «لماذا فعلت هذا؟» قلت: «أردت أن أطمئن. سأدخل الجنة بعد عمر طويل، فإذا كانت حورياتها بلا ألسنة، فإن هذا يكون خازوقا.»
ودخلت في هذه اللحظة حورية أخرى، أقصر من الأولى، ولكنها مثلها اعتدال قد، وهيفا ورشاقة، وفي أثرها خمسة من الرجال يحملون آلات العزف، ودار الحديث، وتكرر ارتفاع الكئوس إلى الشفاه، وحارت العيون بين هذين الوجهين الملائكيين، وأصلحت الأوتار، وضرب العواد على كرانه وشيع آخر في الناي. ثم اشتركت المعازف جميعا في أحلى صوت وأشجى لحن. ثم غنتنا الحورية الثانية صوتا مصريا كان ابتداؤها به تحية جميلة، فطربنا وأثنينا، وشكرنا، واقترحنا أن تسمعنا أصواتا عراقية، فقالت: «حبا وكرامة.»
ونهضت الأولى فخرجت، وغابت شيئا، ثم عادت في ثوب رقيق هفهاف شفاف من الحرير، ونظرت إلى الرجال، فعزفوا لها صوتا رقصت على أنغامه رقصا أدار رءوسنا وخطف أنفاسنا، وكانت تلف، وتنآد من بعد أن تنأطر، وتجثو بساق ثم تنهض كالرمح، وتدفع يديها البضتين، وتجعل من معصميها نطاقا لغير موجود، كأنما تدعوه أن يهتصر، ويموج شعرها على عطفها، ويكاد - لولا ما يمسكه - أن يسقط عنها الإزار، وكان يخيل إلينا، وهي تجلو مفاتنها، أنها ذائبة من الرقة، ومبرية من الشجى، فلما جثت على ركبة في آخر دورة، وكلتا يديها لنا، كبر هذا الوهم في نفوسنا، فنهضنا إليها لنعينها ونرفعها، فضحكت.
وجلست على كرسي بجانبي. فقلت لها - وكنت قد عرفت اسمها الأرضي: «يا نزهة. اعلمي أن رقصك جميل، واعلمي أيضا - وهذا هو المهم - أني أقدر على مثله.»
فرفعت حاجبيها نصف ملليمتر، وقالت: «صحيح؟»
قلت: «بلا أدنى شك. وهل أنا أكذب؟ لكن ينبغي لذلك أن تهبيني هذا القوام، نعم، أعطيني جسمك، وخذي جسمي فارميه للكلاب.»
فضحكت وقالت: «العفو، ولكن أنا، ألا يبقى لي جسم؟»
قلت: «هو معي يا حورية، أليس يكفيك الروح؟ ما حاجتك في الفردوس إلى جسم بعينه؟ اكتسي غيره هناك.»
قالت: «جسم بلا روح، ما يحرز.»
1
قلت: «صدقت، والآن، هذا الثوب الجميل، أليس أطول مما يلزم؟»
قالت: «وكيف تريد أن يكون؟»
قلت: «لو كان الأمر إلي ... ولكن ألا ترين أنه يكفي أن يكون إلى هنا؟ إن كل عرائس الخيال تسير عارية الساقين والكتفين.»
وهمت بالقيام لتغير ثوبها فقلت: «كلا يا حورية، لا تذهبي كالحلم. منذ بضع دقائق كنت متعة عين، أما الآن فأنت ضرورة، وحاجة ملحة، ثم إني أشعر أن هناك سعادات أخرى مذخورة لي، فابقي حيث أنت ...» فبقيت، وأراحت أصابعها على ذراعي فقلت: «لن أنسى هذه الصورة، ما حييت ... كفها الغضة على ذراعي، وأناملها الدقيقة الرقيقة، مغروسة في كمي، وعينان فيهما من النجوم أبهى وأسنى مما في السماء اللازوردية، وفم رأته بسيشيه في الندى الذي جاءها به كوبيد في راحته، وساق أحلى من التي مات في سبيلها أكتيون ولم يكن ما بذل غاليا ...»
فسحبت كفيها، وقال الأديب العراقي: «إنه شاعر يا نزهة.»
قلت: «كنت شاعرا ... وكنت أحسبني برئت وشفيت من الشعر، ولكني الآن أخشى أن أعود كما بدأت ... ليت هنا مرآة.»
قالت: «لماذا؟»
قلت: «نرفعها أمامك فترين فيها حورية تعرف عالمها، ولكنها ليست منه. لأنها من مخلوقات الخيال، يغمرك جمالها - كالموسيقى - بسحر حسنها.» فقاطعتني سائلة: «وأنت؟»
قلت: «أنا؟ كنعان الروح، إني أمثل حثالة جنسي، وأنت تمثلين زبدة جنسك، وصفوته النقية ... أنت وأنا شبيهان بأرييل وكاليبان في رواية العاصفة إن كنت تعرفينها ... هل سمعت بمسكين اسمه شكسبير كان يحلم بحسنك في زمانه ويصوره في رواياته؟»
فهمت بجواب، ولكن الأوتار عزفت، فحولنا إليها وجوهنا، فإذا سليمة باشا - المغنية - واقفة تستعد للتغريد، فأنصتنا. فغنتنا أصواتا عراقية، وكأنها لا تغني: «من سكون الأوصال، وهي تجيد» كما يقول ابن الرومي:
من هدو، وليس فيه انقطاع
وسجو، وما به تبليد
مد في شأو صوتها نفس كا
ف كأنفاس عاشقيها، مديد
فيه وشي وفيه حلي من النغ
م مصوغ يختال فيه القصيد
عيبها أنها إذا غنت الأحرا
ر ظلوا وهم لديها عبيد
فشغلنا بغنائها، وأين نحيد عنه وهو في قلوبنا وأسماعنا؟ وظللنا نستزيد حتى مطلع الفجر، وكانت ليلة، ما لفتنتها وحسنها في حياتنا من نديد.
فيفي
تلقت «فيفي» نبأ - بالتليفون - بأن في وسعها الآن - إذا كانت لا تزال راغبة في ذلك - أن تزور «الضحية» وتراه وتجالسه وتحادثه. وكانت تتوقع هذه الدعوة التي ألحت في طلبها، ولكن سرورها بها كان مع ذلك عظيما، وكانت تغالط نفسها وتزعم أن فرحها إنما هو بشفائه وزوال الخطر عنه، ولم تكن تعرف أن هذه مغالطة، فما رأت ضحيتها إلا هنيهة قصيرة على ضوء مصباح السيارة وهو ملقى على الأرض أمامها، وقد فقد وعيه من الصدمة، وكان معها أخوها - وهو ضابط في الجيش - فأسرع إلى المصاب ليرى مبلغ ما حل به، وانحنى عليه يجسه وإذا بصوت يقول: «الذنب ذنبه. لقد قطع الشارع من غير أن يعنى بالتلفت والنظر، ورأيت أنا السيارة مقبلة بسرعة فخفت عليه ودفعت يدي لأرده ولكنه كان قد مضى ... هو هكذا أبدا ...» ومال على صاحبه ثم رفع رأسه وقال: «لا أظنه أصابه شيء خطير ... لعل الصدمة التي أصابته من وقوعه على الأرض أقوى من صدمة السيارة ... على كل حال تعال نحمله إلى البيت ومن هناك ندعو الطبيب.»
وجاء الشرطي وهما يحملانه إلى السيارة، ورأى بزة الضابط فجنح إلى التساهل، وساعده على ذلك أن صديق المصاب كان يهون الأمر ويؤكد أن لا شيء هناك يستحق وجع الرأس، وكانت فيفي هي التي تقود السيارة فمضت بها إلى حيث أشار الصديق، وكان المصاب لا يزال مغشيا عليه. فدعى الطبيب وخلا به، وشرع يفحصه، والصديق معه، وفيفي وأخوها في غرفة أخرى يتمشيان ولا يطيقان الجلوس أو الكلام من فرط قلقهما على الشاب المسكين، وقد كبر في وهمها من طول الغيبوبة أنه لا محالة ميت، وخرج عليهما الطبيب بعد دهر طويل فابتسم وقال لهما إن الذي أصاب الرأس طفيف لا قيمة له، وإن الخدوش الأخرى لا خوف منها، ولكن الذراع مكسورة، وإنه سيبعث إليه في الصباح بطبيب يجبر الكسر إلا إذا آثروا المستشفى، ولكنه هو لا يرى حاجة إلى ذلك.
وانصرف الطبيب بعد أن اتخذ من تدابير الوقاية والعلاج ما رأى أنه لازم، وبقيت فيفي وأخوها زكريا مع طاهر نحو نصف ساعة، فعلما منه أن اسم المصاب «حمادة» وأنه طالب في السنة الأخيرة من كلية الطب، وأنه ابن عمه وهو يقضي إجازته الصيفية ضيفا عليه - أي على طاهر - في الإسكندرية، حيث يعمل في بنك مصر، وقد سر الأخوين أن طاهرا أبى أن يعد أحدا غير حمادة نفسه مسئولا عما وقع، وكانت فيفي تحدث نفسها بأن تعرض على طاهر أن تقوم هي وأخوها بنفقات العلاج، ولكنها خجلت أن تخاطبه في ذلك بعد الذي رأته من مروءة نفسه وحلاوة طباعه، وآثرت أن تشاور أخاها أولا عسى أن يستطيع أن يحتال للأمر من غير أن يجرح إحساس هذا الرجل الكريم.
وكانت فيفي وزكريا أشبه بالصديقين الحميمين منهما بالأخوين، فقال لها وهما عائدان: «غريب ... لقد استلطفت حمادة ... بمجرد وقوع عيني عليه وهو ملقى في الطريق.»
فلم تقل فيفي شيئا، فقد كانت تحس أنها مشفية على البكاء.
وعاد زكريا يقول - أو يصيح على الأصح - بعد قليل: «لماذا لم تدوسي واحدا ممن لا خير فيهم ...؟ لماذا حطمت هذا المسكين ...؟»
فقالت: «لو لم أمر بك لآخذك ... لو كنت مضيت إلى البيت مباشرة لما حدث هذا، فظاعة ... أواثق أنت أنه سيفيق من هذه الغيبوبة؟»
فقال زكريا: «الطبيب يؤكد ... فلنصدقه ... وسنرى غدا ... اسمعي ... إني أريد أن نقوم بنفقات العلاج ... إنه طالب وابن عمه موظف متوسط الحال ... وقد دسناه على كل حال وكسرنا له ذراعا، فما قولك؟»
قالت: «لقد فكرت في هذا ولكنني خجلت أن أعرضه على طاهر ... اسمع ... تعال نقتسم النفقات ... واسمع ... لا داعي لإخبار ماما ... ألا توافق؟»
قال: «بالإجماع ...»
وهكذا كتما الأمر عن أمهما اتقاء لإزعاجها من ناحية، وخوفا من أن تنغص على فيفي حياتها إذا عرفت ما وقع. •••
وقالت فيفي لطاهر وهي تدخل ووراءها زكريا: «ألم تقل له إننا آسفون جدا جدا لما حصل؟»
فقال طاهر بابتسام: «لقد تركت لك هذا ... كان علي واجب آخر لهذا المهمل الذي لا يعرف كيف يقطع الطريق.»
وتقدمهما إلى الغرفة وصاح وهو يتنحى عن الباب لتدخل فيفي وأخوها: «ضيوف يا حمادة ... افتح عينيك.»
وألفت فيفي نفسها جالسة على حافة السرير تبتسم لحمادة في عينيه، وقد سرها أن أخاها استأثر بطاهر، فقالت: «لا أحتاج أن أقول إني آسفة، فإن هذا لا يكفي ... فقد جنينا عليك، ولا أدري في الحقيقة كيف تطيق النظر إلينا، وقد كسرنا لك ذراعك.»
فنظر حمادة إلى ذراعه وقال: «أوه هذا ... إني أكاد أعد طبيبا فصدقيني حين أقول لك إنه لا شيء ... ثم إن هذه فرصة لي سأغتنمها.»
فلم تفهم فيفي مراده وزوت ما بين عينيها فقال: «صحيح ... بعد أن أعود إلى الكلية سأستبدل بها ذراعا صناعية خيرا من الطبيعية.»
فقالت فيفي: «إيه ... هل ... هل ...»
فأسرع حمادة يقول: «لا لأن يدي هذه أصبحت لا خير فيها ... كلا ... بل لأن الأعضاء الصناعية أصبحت من الدقة والإتقان بحيث تفوق الطبيعية، مثلا إذا كنت أريد أن أشتغل بتفريخ الدجاج فما علي إلا أن أتخذ ذراعا خاصة أتبعها وأطيع وحيها.»
فحدقت فيه وفمها مفتوح ... أتراه يتكلم جادا ... هل بلغ تقدم العلم هذا المبلغ المدهش ... أم هو يمزح ليؤنسها ويصرف ذهنها عما أصابه منها؟
وسمعت حمادة يقول: «أعرف رجلا بترت له ساقاه على أثر حادث ترام ... وكان يحب الألعاب الرياضية فركبوا له ساقين مدربتين على هذه الألعاب ... ويمكنك أن تتصوري بسهولة أنه أصبح الآن وليس أبغض إليه من هذه الألعاب، لأن ساقيه لا تتركان له يوما يرتاح فيه من الوثب والجري وما إلى ذلك.»
فلم يبق شك في أنه يمزح، فلم يسعها إلا أن تضحك، وإلا أن تعجب بروحه الواسعة الكريمة.
وقالت، والتفتت إلى أخيها وطاهر: «زكريا، يجب أن نحتفل بحمادة أفندي في أول يوم يخرج فيه ... يتغدى عندنا هو وطاهر أفندي ... أليس كذلك؟»
فنهض زكريا ودنا من السرير وقال يخاطب حمادة: «اسمع يا سيدي هذه الفتاة سريعة النسيان ... لقد اتفقنا أن نكتم الأمر كله عن الأم لئلا تسود لفيفي عيشها ... فليس من المناسب أن ندعوك إلى البيت على الرغم من رغبتنا في ذلك، ولكني أقترح أن نتغدى يوم تخرج في سيدي بشر ... إلى أن نمهد لإطلاع الوالدة المحترمة على الحقيقة تمهيدا نأمن به الشر الذي نخشاه، وإن كنا نستحق أضعاف أضعافه.»
ولم تسؤ حمادة وطاهرا هذه الصراحة، وراقهما ما بين الأخوين من الحب وما يتبادلان من الرعاية، وخطر لطاهر وهو ينظر إليهما أن فيفي كانت خليقة أن تعشق زكريا عشق المرأة للرجل لو لم يكن أخاها.
وحرصا على التخفيف فانصرفا بعد قليل. فقال زكريا لأخته في الطريق: «هيه.»
قالت: «هيه.»
قال: «لقد قلتها أولا.»
قالت: «أحسب أن معنى ذلك بعد الترجمة هو ما رأيي في حمادة ... الجواب مدهش.»
قال: «هاتيه.»
قالت: «قلت لك مدهش ... ألا يكفيك هذا؟»
قال: «طيب يا ستي آمنا ... وأنا مستعد فأدهشيني ... تفضلي ...»
قالت: «ما هذه البلادة؟ قلت لك إنه مدهش ... ميم ... دال ...»
قال: يقاطعها «أيوه ... أيوه ... فاهم ... بس أريد أن أسمع هذا الجواب المدهش.»
فلما كفت عن الضحك قالت: «يا أبله ... إنما أعني أن حمادة هو المدهش.»
فهز رأسه موافقا وقال: «وأنا من رأيك ... وأحب أن أقول لك أيضا إني أتمنى أن أراه لك زوجا.»
فقالت: «على مهلك ... على مهلك ... طول بالك ... ولا تنس الوالدة المحترمة.»
فقال: «أيوه ... إذا كان هذا هو كل ما في الأمر فدعيه لي ... أنا أدبر المسألة.» •••
وتوثقت العلاقة بين الفريقين، وارتقت من الصداقة إلى الحب - نعني بين فيفي وحمادة - ولكن الأم ظلت لا تعرف من الأمر شيئا، فقد كان الأخوان يعلمان أن أمهما تأبى أن تزوج بنتها لواحد من غير أهل اليسار والغنى مثلها، وكانا قد عرفا أن حمادة رقيق الحال، وإن كان المرجو - بل المحقق - أن يكون مستقبله خيرا من حاضره، ولكن الأم لا تقبل كلاما كهذا، وكانا يحبانها ويعز عليهما أن يصدماها، أو يخيبا لها أملا فيهما، فرأيا أن يستعينا بالصبر عسى أن يتيح الله لهما فرجا.
ولاحظت الأم أن الأخوين أصبحا لا يفترقان - ولم يكن هذا حالهما من قبل - نعم كانا كاللصين لا يعرف ما بينهما إلا الله، ولكنه قلما يمضي الآن يوم لا تخرج فيه فيفي مع أخيها. فهل ترك زكريا إخوانه جميعا ... ثم إلى أين يذهبان ...؟ كلما سألت تلقت جوابا من زكريا فيه من الغموض والإجمال أكثر مما فيه من الوضوح والبيان، ويندر أن تزيد فيفي على الابتسام، وما أكثر ما تلجأ إلى تقبيل أمها واحتضانها كأنما تريد أن تصرفها عن هذا السؤال.
وإذا قالت شيئا كان قولها: «ألا يكفيك للاطمئنان أن أخي معي لا يفارقني؟»
ولم يكن هذا هو الذي يقلق الأم، وإنما كان يثقل عليها أنهما لا يريدان أن يقولا لها شيئا، وكان هذا يثير رغبتها في المعرفة، ولم تستبعد أن يكون زكريا قد ذهب يساعد فيفي على غرام لها، فإنها تعرف عظم ما بين هذين من الحب، ولكن إخفاء الأمر عنها معناه أنهما يدركان أنه لا يبعث على رضاها، ومن هنا كان قلقها.
وكأنما أرادت أن تقطع العقدة بالسيف، فأعلنت يوما أنها قررت العودة إلى القاهرة غدا، ولم يكن زكريا في البيت فتعبت فيفي في محاولة إقناعها بالعدول عن هذا القرار، ولم يجدها أن تبين لها أن الصيف ما زال باقيا منه أكثر من شهر.
فتظاهرت بقلة الاكتراث وهزت كتفها وقالت: «على كيفك، إذا كنت قد اشتقت لمصر فلنذهب إلى مصر ... وما الفرق؟ سيان عندي في الحقيقة ... وأقول لك الحق إني لم أضجر من الإسكندرية كضجري في هذا العام ...»
ومضت إلى غرفتها وقد شق عليها أن تترك الإسكندرية وتترك فيها حمادة، ولم يعزها أن حمادة سيرجع إلى مصر لا محالة، وأن في وسعه أن يرجع الآن أيضا ... كلا لم يعزها هذا الخاطر فاستلقت على السرير وهي تجيل هذا وما إليه في نفسها، ودخلت عليها أمها فرأتها ساهمة فسألتها ما لها فقالت: «لا شيء. تعب بسيط.»
وكانت الأم رقيقة القلب جدا، وقد مات لها ثلاثة قبل أن ترزق هذين، فهي ضنينة بها جدا، لا تطيق أن ترى أحدهما مزكوما أو مصدعا أو به فتور، وكان يقلقها ويزعجها أن ترى زكريا يؤثر أن يبقى في البيت لأنها تتوهم أنه مريض فتروح تلح عليه أن يخرج ويتنزه ويشم الهواء ويضحك مع الإخوان وينعش نفسه.
وقالت لفيفي: «ما لك ... لقد كنت قبل ساعة كالوردة النضيرة، فماذا جرى؟»
قالت فيفي: «لا شيء يا ماما ... تعب قليل ... يزول بالراحة ... اطمئني.»
فقالت الأم: «سأدعو الطبيب ... حالا.»
فلم ترتح فيفي إلى هذا وألحت على أمها ألا تفعل، ولكن الأم أبى لها قلبها الرقيق الضعيف إلا الإصرار، فخرجت إلى التليفون والتقت في طريقها إليه بزكريا، فسألها وقد رأى وجهها الممتقع: «ماذا جرى؟»
قالت: «فيفي ... مريضة ... سأدعو الطبيب.»
فاستغرب زكريا، فقد ترك أخته على أحسن حال، وقال لأمه وقد ساورته الشكوك: «انتظري حتى أراها.»
وأسرع إلى فيفي، فقصت عليه ما حدث. ففرك كفيه، وعيناه تلمعان وقال وهو ينهض: «هذا خير ساقه الله ويجب انتهاز الفرصة التي أتاحتها لنا الأم المحترمة. لقد كنت حائرا جدا وأتعبني التفكير في التماس الحيلة حتى يئست. فالآن فتحت لنا الأم الباب، بورك لنا فيها ... عليك الآن أن تلزمي السرير. المرض يثقل عليك شيئا فشيئا ... وعلي أنا الباقي.»
فرمت فيفي إليه قبلة وعاد إلى وجهها الإشراق والوضاءة.
وقال زكريا لأمه: «نعم يجب أن ندعو الطبيب ... كلميه وسأذهب أنا إليه بالسيارة ... هذا أسرع.»
فكادت المسكينة تقع على الأرض لأنها أيقنت من لهجة زكريا وهيئته أن الأمر جد، وأن بنتها مريضة حقا، وإذا كان زكريا قد قلق إلى هذا الحد فيا ويلها هي ...
وجاء الطبيب - وكان هو طبيب الأسرة في الإسكندرية - وكان روميا هرما ذا لحية كثة بيضاء، ولكنه دائم البشاشة، حاضر النكتة، وإن كانت نكتته كثيرا ما يفسدها أو يحجبها عجزه عن التعبير باللغة العربية، ودخل على فيفي ورد الباب وراءه، فارتدت الأم راجعة وكانت تشتهي أن تكون حاضرة وهو يفحص ابنتها وقرة عينها وحبة قلبها.
واستمر الفحص نحو نصف ساعة فكادت الأم تجن، وأيقنت أن الأمر أخطر مما كبر في وهمها إلى الآن. فلما خرج الطبيب خفت ناهضة إليه، وقد ارتسم القلق والفزع على وجهها وفي عينيها.
وقالت له وهي تتناول طيتي سترته بكفيها وتشده منهما: «طمئني يا دكتور.»
فقال بلهجة الجد ما معناه: «اطمئني على كل حال، ولكن هذا المرض جديد علي، لم أتول علاج مثله من قبل، ولست أعرف أخصائيا لهذه الحالة المعينة سوى رجل واحد يجب أن تبعثوا إليه وتستقدموه.»
فدهشت الأم وقالت: «مرض لا تعرفه أنت؟»
قال مبتسما: «أعرفه ولكني لا أعالجه ... علاجه عند غيري.»
فسألته: «ما هذا المرض؟ ما اسمه؟»
قال: «أما المرض فأعراضه كثيرة: اضطراب. خفقان. حالات متناقضة من النشوة والكآبة، والسرور والحزن، تارة يكون المريض أصح من مصارع، وطورا يكون كالذي أجريت له عملية جراحية تركته أصفر باهتا وضعيفا متهافتا كالورقة المبلولة، حالاته وأطواره عجيبة وشرحها يطول، وأما اسمه فلا أعرفه بالعربية ولكنه بالفرنسية «مال دامور»، عجلي باستشارة هذا الرجل وثقي به واطمئني إلى النتيجة.»
وخرج ومعه زكريا وقال له في السيارة: «يا صاحبي هذه أول مرة أرتكب فيها هذه الخديعة ولا أدري كيف أطعتك، ولولا أني أعرفكم من زمان طويل وأعدكم كأبنائي لما كان ممكنا أن أجاريك في هذا العبث ... والآن أرجو أن يكون هذا آخر عهدي بهذا الموضوع، وإن كنت أحب أن أطمئن على النتيجة.»
وبينما كان زكريا في طريقه إلى حمادة ليجيء بهذا الأخصائي في مرض «المال دامور» كانت الأم تحاول أن تتذكر هذا الاسم الغريب الذي لم تسمع به قبل اليوم، ولما كانت لا تعرف لغة أجنبية فإن لها العذر إذا كان الاسم قد طار وأعياها أن تقتنصه.
وجاء الطبيب الأخصائي مع زكريا، ودخلا على الأخت التي كانت تنتفض من الاضطراب والفرح والخوف، وبعد قليل تركهما زكريا ورجع إلى أمه.
وما لبث الأخصائي أن خرج فتقدم إلى الأم وأنبأها أن الحالة ميسورة العلاج جدا، ولكنها تحتاج إلى وقت وراحة تامة ...
فسألته: «لقد كان في نيتنا السفر غدا.»
قال: «هذا مستحيل الآن ... ربما أمكن بعد أسبوع أو اثنين ... تبعا للحالة ... سأعود مرة أخرى في المساء.»
وجعل يعودها مرتين في اليوم، مرة في الصباح وأخرى في المساء، ولا يمكث في كل مرة أكثر من دقائق، وظل الحال على هذا المنوال نحو أسبوع، فقلقت الأم وتعبت فيفي - أتعبها الانتقال المفاجئ من الضحك حين يكون معها أخوها أو طبيبها إلى الجهامة والفتور المتكلفين حين تدخل عليها أمها، إذ كلفها هذا التمثيل جهدا شاقا جدا، وهذا فضلا عن الاضطرار إلى ملازمة الفراش.
وأحس زكريا أن الأمر زاد تعقيدا لا سهولة، وأن المخرج أصبح عسيرا، فليس كل المراد أن تبقى الأسرة في الإسكندرية، وأن يتيسر بذلك لقاء الحبيبين، بل أن ترضى الأم بزواجهما.
فقالت فيفي لأخيها يوما: «وآخرتها؟»
قال: «الحق أقول إني لا أدري.»
قالت وهي تتجلد: «ألم يبق لهذا الرأس قدرة على التفكير؟»
قال: «اسكتي يا فيفي ... لا تزيديني ألما ... ما أردت إلا الخير، وقد كانت النتيجة ماذا ... هذا الموقف الذي لا نعرف وجه الخلاص منه ... أقول لك اتركي الأمر للمقادير ... عسى أن تفتح الباب الذي لا نراه الآن.»
قالت: «إني مستعدة أن أترك الأمر للمقادير، ولكن هذه الرقدة تطير عقلي ... أنقذني منها على الأقل.»
قال: «مسكينة ...»
وخرج يمشي مطرقا، ورأته أمه فأقبلت عليه وجرته إلى مقعد وقالت: «اسمع يا ابني، هذا حال لم يبق لي صبر عليه، ولا بد من استشارة أطباء آخرين، ويحسن أن يجتمعوا هنا.»
فريع زكريا وأيقن أن كل شيء قد أفسد، ولكن الخوف استحث خاطره فقال: «لا تتعجلي ... إنك لا تعرفين الأطباء ... ليس كل طبيب صالحا ... والأولى أن تسألي طبيبنا رأيه فيمن يحسن أن يستشار.»
فقالت: «هذا ما كنت أنوي أن أصنع ... اذهب إليه وكلمه.»
فذهب إلى الطبيب الرومي، فتململ هذا وقال له: «ألم أقل لك إني لا أحب أن أحشر في هذه الحكاية؟ لقد اضطررتني إلى الكذب وتضليل هذه السيدة الساذجة الطيبة القلب، ثم اضطررتني أن أشير عليها بالاستعانة برجل ليس بطبيب وهذه جريمة أخرى، واضطررت هذا المسكين أن يدعي أنه طبيب وهو ليس إلا طالب طب ... والآن تريد أن أدلك على رجل آخر - طبيب في هذه المرة - ليساعدنا على الكذب البغيض؟»
فقال زكريا: «ولكن المسألة ليست مسألة مرض ... إنها كلها فكاهة ... وأنت تعرف ضيق عقل السيدات مثل أمي ... تريد رجلا لبنتها يملك ضياعا وعقارا ... وهذا شاب فقير ولكنه صالح جدا ... يحب أختي وهي تحبه ... أنا أخوها ... أكبر منها ... أقرر أن هذا الزواج يجب أن يتم لمصلحة الاثنين ... على الأقل يجب أن يتم الاتفاق عليه حتى يفرغ من الامتحان ... وأنا أطلب معاونتك على خير.»
فقال الطبيب: «من رأيي أن أذهب إلى والدتك وأطلعها على الحقيقة كلها بصراحة.»
قال: «إنك تنسى أن أمي من الجيل الماضي.»
قال الطبيب: «قد تصغي إلي إذا كانت لا تصغي لابنها.»
قال: «إني أخشى غضبها وعنادها، ولا أطيق أن أرى فيفي تتعذب.»
قال الطبيب: «إن الفشل من هذا الطريق خير من النجاح من طريق الخداع ... ثم إني لا أطيق أن أظل أخادع هذه السيدة الساذجة.»
قال زكريا: «وما العمل الآن؟»
قال: «سأذهب إليها وأكلمها ... إنكم أيها الشبان لا تأتون البيوت من أبوابها أبدا ... تعقدون البسيط، ثم تروحون تبحثون عن حلول مستحيلة، لماذا تفرض أن أمك ستعارض حتما في زواج فيفي من هذا الشاب ... لماذا لم تقدمه إليها وتتركها تفطن إلى مزاياه على الأيام ...؟»
قال زكريا: «لأني أعرف أمي.»
قال: «بل لأنك لا تعرفها وتبني سلوكك على أوهامك ... تعال.» •••
بعد أن قص الطبيب الحكاية كلها على الأم وهي واجمة من فرط الدهشة قال: «لقد أدركت أن ابنك لا يعرفك ... هو يظن أنه يعرفك ... ولكنه مخطئ ... توهم أنك عنيدة وأنك تجرين وراء المال ... وغاب عنه أنك لا تطلبين لابنتك مالا بل رجلا صالحا ... لأنك تدركين أن الرجل الصالح لا يقوم بمال، وقد أقنعته بخطئه ... غريب أن أعرفك أنا الغريب خيرا مما يعرفك ابنك، ولكنه شاب وأنا رجل مجرب ... وأظنك توافقين على أن لي فراسة في الناس ... والآن صار عندنا الرجل الصالح ... ولكني أنصح لك بالتمهل حتى تختبري هذا الشاب بنفسك، وتعرفي أهله وتطلعي على سيرته ... على أني كصديق قديم لكم أنصح أيضا بوجوب الحرص على كتمان هذه الحكاية ... حكاية المرض والطبيب إلى آخر ذلك لئلا تدور على ألسنة الناس وتصبح مادة للسخرية منكم ... ولا أدري كيف أعتذر لك مما كان مني، ولكن حبي لكم هو الذي أفقدني الرشد لحظة ندمت بعدها أشد الندم ... على كل حال أراني قد تداركت الأمر وأصلحت ما اشتركت فيه من الغلط ... سامحيني ... وإلى الملتقى.»
ولما أقبل ابناها يعتذران إليها بعد أن انصرف الطبيب ويطلبان الصفح لم تزد على أن قالت: «خوف الفضيحة فقط هو الذي يجعلني أبلع هذا العبث منكما ... لقد كنت دائما أقول إن الأخوين لا يكونان هكذا ... وكنت أخشى عاقبة ذلك ... لا بأس، الأمر لله.»
ولكنها ما لبثت أن أحبت حمادة بعد أن عرفته، فلما أنست فيفي منها الميل إليه سألتها عن رأيها فيه، فقالت الأم وهي تقبل ابنتها: «الحق إنك معذورة ... إنه آية ... فلتة ... الله يوفق.»
كيف كنت غيري
كنا نقصف - ذات ليلة - في فندق كبير في «ضهور الشوير»، والقصف أن نشرب ونضحك ونأكل - بعيوننا - الفتيات الممشوقات اللواتي يخطرن في المرقص مع السعداء من الشبان، وكانت الأنوار في المرقص ألوانا شتى متعاقبة، وكان الضوء الأرجواني - حين ينساب الفتيات فيما يترقرق عليهن منه - أقوى فتنة وأشد إغراء، فكنا ننهض عن المائدة ونتزاحم على أبواب المرقص، وعيوننا تكاد تخرج من فرط التحديق، وكانت هناك فتاتان تتراقصان وتأبيان أن يخاصرهما الرجال، وكانتا ساحرتين؛ في جمالهما، ودلهما، ولعبهما، وحركاتهما، فأغريت بهما أحد رفاقي - وكان يجيد الرقص - وأنا أقول لنفسي: «إذا راقص إحداهما عرفناهما جميعا وفزنا بصحبتهما»، ولكنهما ردتاه ببسمة وكلمة رقيقة لا تغني ولا تسمن.
فقلت لنفسي: «لم يبق لها إلا رجالها»، ودنوت منهما وقلت وأنا أتناول كرسيا وأجلس بغير استئذان: «أمن قلة في الرجال تتراقصان؟»
فقالت إحداهما - بعد أن ألقت على صاحبتها نظرة: «بل من كثرتهم.»
فقوي قلبي أنها ردت، فقلت: «اسمعا مني، إن هذه النظرات الخبيثة التي تتبادلانها لن تجديكما، (ضحك ) وأنا باسم هؤلاء الشبان الكثيرين الذين لا أعرف أسماءهم ولا أحب أن أعرفها ...»
فقالت إحداهما: «لماذا؟»
فقلت: «لا تقاطعي من فضلك، ثم إن هذا شأني وحدي، وعلى ذكر ذلك أسألك ... هل أنت مصرية مثلي؟»
فقالت الخبيثة - أعني التي تتكلم: «هل أنت مصري؟»
فصحت بها: «يخرب عقلك، وهل ترين أني أتكلم إلا كما يتكلم المصري؟»
فضحكتا وقالت الأخرى: «هذا أحسن، لقد كنت أسأل نفسي أين يا ترى رأيتك؟»
فقاطعتها: «نعم إني أراك دائما ...»
فسألتني جادة: «أين؟»
فقلت: «بخيالي ... في أحلامي.»
فقالت الأولى وهي تبتسم - لا أدري لماذا: «ألست عبد ... عبد الله؟»
فتشهدت وقلت: «طبعا. طبعا. عبد الله حقا وصدقا.»
قالت: «لقد كنت واثقة أني أعرف وجهك ... ألم تعرفيه يا توحة؟»
فأجبتها أنا: «لماذا تحرجينها؟ دعي لها سرها حتى تهمس به في أذني، ونحن نتمشى في غابة بولونيا، والقمر طالع ...»
فضحكتا وقالت توحة: «بهذه السرعة؟»
فقلت: «معذرة، إن خيالي وثاب ... طيار إذا شئت، ولكنه صادق لا يطير إلا بجناحين من الحقيقة.»
فقالت الأولى: «وكيف زوجتك؟»
فصحت: «إيه؟»
ولم أكن أتوقع أن ترميني بسؤال عن زوجتي، وخفت أن يكون وراء السؤال شرك منصوب، فلذت بالحذر، وقالت: «إنما سألت كيف زوجتك؟»
فقلت: «زوجتي؟ أوه ... آه، مفهوم ...»
قالت: «لماذا تركتها؟»
فلم أدر ماذا تعني بالترك؟ وآثرت أن أروغ فقلت: «هل تعرفينها؟»
فقالت الخبيثة: «إنه يسأل هل أعرفها؟ قولي له يا توحة.»
فدار رأسي، وارتبكت، فما رأيتهما قط في بيتنا ولا في بيوت أحد من أهلنا أو معارفنا، وزاد شعوري بالشراك المنصوبة تحت كل كلمة، ولعنت الساعة التي أقدمت فيها على كلامهما، ولكني قد تورطت، وانتهى الأمر، ولم تبق لي حيلة، وخجلت أن أنهزم أمامهما فتشددت وقلت: «ما أجمل هذه المصادفة! بالله حدثاني عن نفسيكما ... إن أذني معكما ... لكل واحدة منكما أذن ... تكلما ... بارك الله فيكما، وفي ليلتي هذه معكما.»
فقالت الخبيثة: «ماذا جرى بينكما ... إلا أن يكون هذا سرا لا تحب الإفضاء به.»
فقلت: «لا لا لا ... وعلى أنه لم يجر بيننا إلا ما يجري بين الزوجين ... أعني عادة ...»
فقالت توحة وهي تضحك: «إن الذي تعنيه أختي ...»
فسألتها: «أختك؟»
فقالت: «نعم أختي ... من كنت تظنها؟»
فقلت: «كنت أظنها ... إ... أ... أختك.»
فأضحكهما هذا التخليط، وضحكت معهما، ولما قرت الضجة قلت: «والآن يا أختها بأي اسم تخاطبين نفسك حين تنظرين في المرآة؟»
فقالت: «أتريد أن تعرف اسمي؟»
فأردت أن أستفزها فقلت: «لا (بفتور) يكفي أن أعلم أنك أخت توحة.»
ولكنها كانت أخبث مما توهمت، فقالت: «نعم كفاية، والآن ألا تحدثنا عن سبب انفصالك عن زوجتك؟ إنها صديقتنا من أيام المدرسة، وقد آلمنا ما وقع، ولكن لعل لك عذرا.»
فحمدت الله في سري على جهلها بزوجتي، وأيقنت أني آمن معهما، ولكني مع ذلك حاولت أن أزحزح الحديث عن هذا الموضوع فقلت: «هذا شيء مضى، ومن العبث الكلام فيه.»
فقالت أخت توحة: «مسكينة.»
وقالت توحة: «ما أفظع الرجال، يأكلون المرأة لحما، ويرمونها عظما.»
وألفيت نفسي عرضا لسخطهما ونقمتهما، فضاق صدري وقلت: «إني لم أكن أحب أن أقول شيئا، ولكن الرجل لا يستطيع أن يظل يحتمل طول عمره أن يرمى بصحاف الطعام الملأى.»
فصاحت توحة: «إيه؟ ماذا تقول؟»
وأعجبني صوتي، وسرني أني تبينت آية الدهشة في وجهيهما، فمضيت أقول: «لقد كانت تتناول قطتي البيضاء وتلعب بها الكرة، أو تمسكها من ذيلها وتطوح بها ذراعها، وتزعم أن هذا خير من اتخاذ الحديد للعب.»
فقالت أخت توحة: «زينب تفعل ذلك؟»
فقلت: «المسألة بسيطة والبرهان حاضر. تعاليا معي إلى مصر وأنا أريكما القطة.»
وآلمني أن أمزق (زينب) هذه بالغيب، وأدركني عليها عطف شديد، ولكني ماذا أصنع وقد أبت الفتاتان إلا أن تحشراها في الحديث حشرا، وإلا أن تركباها كتفي، وتزعماها زوجة لي، وتدعيا أني أسأت إليها وجنيت عليها وتخليت عنها؟
وقالت توحة: «ولكن كيف يمكن؟ لقد كانت في المدرسة أرق التلميذات قلبا؟»
فهززت رأسي وقلت: «وأشهد أنها ظلت كذلك زمنا حتى اعتادت الشراب.»
فصاحتا بصوت واحد: «الشراب؟ زينب؟»
قلت: «نعم مع الأسف، وبعد ذلك انقلبت زوبعة لا تسكن قط ... بالله اتركا هذا الحديث ... إنه يؤلمني ... وما أفضيت إليكما بهذه الحقائق إلا لأنكما كنتما معها في المدرسة، فاعذراني وانتقلا إلى كلام آخر.» •••
وصرنا أصدقاء، نلتقي كل بضعة أيام، أعني أني كنت أزورهما من حين إلى حين في مصيفهما «بضهور الشوير»، ونخرج إلى البساتين والضياع المجاورة. ثم مضت فترة لم أرهما فيها، واتفق يوما أني كنت مدعوا إلى حفلة في فندق ببيروت فبصرت بأخت توحة واقفة تطل على البحر، فوقفت إلى جانبها وحييت، فردت التحية بفتور، فقلت: «الجو حار.»
قالت: «نعم.»
قلت: «ولكن البحر يلطف الحرارة.»
قالت: «نعم.»
ولم يخطر لي كلام جديد، فقلت: «كبر ما بنا أم جفوة؟»
فواجهتني وسألتني بحدة: «ألا يزال اسمك عبد الله؟»
قلت: «يا فتاتي لا تجهلي. ما زلت عبد الله حقا وصدقا، وإن كنت مع هذا لا أنكر أنه غير الاسم الذي اختاره لي أبواي.»
قالت: «ألا تخجل؟»
قلت: «إني أستحق عطفك ... لقد احتملت هذا الاسم الذي لا يبعث على الزهو، لأنك أنت اخترته لي.»
قالت: «لقد رأيت زينب ... وأخبرك أيضا أنها مع زوجها، وأنهما يقضيان الصيف في لبنان. لماذا قلت عنها ما قلت؟»
قلت: «أي زينب؟»
قالت: «لا تكابر. إنها لا تعرفك، ولم ترك قط في حياتها.»
قلت: «ما أضعف ذاكرة النساء.»
قالت: «إن عذرك الوحيد - في نظري - أنك مجنون، وكلما تذكرت ما قلته عن زينب وما أضعته سدى من العطف عليك ...»
فقاطعتها: «كلا. لم يضع ... لقد زادني هذا حبا لك وتعلقا بك ...»
قالت: «ألا تزال تجرؤ على مثل هذا الكلام؟»
قلت: «أويحتاج ذكر الحقيقة والإقرار بها إلى جرأة؟»
قالت: «وتتصور أني أصدقك أو أصدق أنك تتكلم جادا؟»
قلت: «كلا. إن هذا لا يجري لي في بال. إنما أن منظر ... ويمكنك أن تعدي كلامي صورة طبق الأصل من حديث أحلامك ونجوى أمانيك ... وسيأتي يوم تظلم فيه الدنيا أمام عينيك، وتحسين أنه ما من أحد يحبك في هذه الحياة. كلنا يمر به يوم كهذا، فإذا جاء - أعني ذلك اليوم - فقولي لنفسك ... كلا. إني مخطئة، فإن في الدنيا قلبا يخفق بحبي، بحبي مخلصا ...»
فقالت: «إنك مجنون ولا شك.»
قلت: «وفي أثناء ذلك ترين شخصيتي الجميلة الجذابة تتفتح تحت عينك كما تتفتح غلائل الزهرة تحت أشعة الشمس ...»
قالت: «لن أصغي لك.»
قلت: «إذن احضري معي هذه الحفلة، وكوني فيها ملاكي الحارس.»
فصاحت بي: «لن أغفر لك هذا.»
فقلت: «إني لست عبد الله، ولكني عبده والله.»
فابتسمت، فقلت: «هذا أحسن، وأين توحة؟»
قالت: «لو كانت هنا لما نجوت بهذه السهولة.»
قلت: «الحمد لله ... أعني على النجاة لا على غيابها، اذهبي بي إليها.»
قالت: «والحفلة؟»
قلت: «تستطيع أن تنتظر - أعني الحفلة - فإن مرضاتها - أعني توحة لا الحفلة - أولى وأندى على كبدي.»
وكان هذا هو السر الذي لم يعرفه المحتفلون، في أن حفلتهم تأخرت نصف ساعة، فليت حظي من كل حفلة نصف ساعة كهذه.
القاتلة
وضعت الحقيبة الصغيرة، ووقفت أستريح، وأمسح العرق المتصبب، ونظرت في ساعتي فأنبأتني أنها لم تتجاوز الخامسة صباحا، وكان الصبح لا يزال يسفر والبحر يبدو من وراء الوادي البديع كأنه بقية السحاب المطبق المنبسط، وفي النسيم برد وندى، ولكني مع ذلك كنت حران، فقد كانت الثنية طويلة صعبة المرتقى، والحقيبة - على صغرها - ثقيلة، وأرسلت طرفي رائدا فإذا الخضرة مطردة والنبات متخايل متزين بنواره، ولكن لا طريق.
ولم يكن ثم بد من مواصلة التصعيد في هذا الجبل، فإن في رأسه إخوانا ينتظرونني، ومعي طعامهم، وهم لا شك جياع يتضورون. فما يشبع المرء في هذه النجود، وما أظنهم أفطروا على شيء قبل خروجهم، وكان عزمي أن أستقل سيارة إلى نهاية الطريق المعبد، وكان في مأمولي أن يتلطف السائق فيحمل الحقيبة عني إلى مفجر الينبوع في رأس الجبل - وكان هناك موعدنا - ولكني آنست من نفسي نشاطا فاغتررت.
وتناولت الحقيبة وقلت: «الرأي أن أتتبع أنابيب الماء التي مدها القوم من فجرة النبع إلى الضيعة.» وتوكلت على الله واستأنفت السير - أعني الصعود - وكنت ربما احتجت في بعض الطريق أن أفرق سيقان النبت لأرى إلى أين تجري هذه الأرادب، حتى لا أضل، وإذا بي في بعض هذه المرات أسمع صوتا يصرخ: «أوه.»
فصحت مستغربا: «إيه؟ من؟»
فقال الصوت - وكان ناعما رخصا: «أنا.»
فقلت: «أنت؟ مفهوم.»
وتذكرت صاحبنا أبا حية النميري وسيفه الخشبي الذي كان يسميه «لعاب المنية» وحكايته مع الكلب، فقلت مقتبسا - وما خير أن أقرأ الأدب القديم إذا لم أقتبس منه: «اخرجي بالعفو عنك قبل أن أدخل بالعقوبة عليك.»
فسمعت رطانة سريعة لم أفهم منها سوى: «دخيلك.»
ثم برزت فتاة غضة بضة هيفاء غيداء رطبة حلوة، فقلت: «يا صباح الخير، يا صباح الخير.»
وتركت الحقيبة تسقط على الأرض، وأعنتها - أعني الفتاة لا الحقيبة - على الخروج من ألفاف الشجر الذي توشجت أغيصانه، والتبس بعضها ببعض - من غير أن تتمزق ثيابها.
وكانت - كما قلت - غضة بضة هيفاء غيداء، رطبة حلوة، وليس هذا وصفا، وإنما هو كلام ينبئ عن قوة الشعور، وكانت صغيرة السن - لا شك في ذلك - وإن كان جسمها يوهم أنها شارفت العشرين، فسألتها وأنا أجلسها أمامي: «ماذا تراها تصنع هنا في هذه البكرة المطلولة؟»
فقالت بسذاجة محببة: «مختبئة ... فارة.»
قلت: «فارة؟»
قالت: «بلى.»
قلت: «همممم» وفكرت بسرعة ثم قلت: «حسنا صنعت.»
فسألتني بلهفة: «صحيح؟»
قلت: «بلا شك ... لو لم تفري وتختبئي لقبضوا عليك وحبسوك ... ثم من يدري ... نعم إن الذي صنعت هو عين العقل.»
فسألتني بسذاجة، وقد أشرق وجهها - أو على الأصح زاد إشراقا: «صحيح؟ هذا رأيك؟»
قلت: «بلا شك.»
قالت - وقد اطمأنت على ما يظهر ووثقت: «إني كلير.»
قلت: «كلير؟»
قالت: «ولكني إيفون.»
قلت: «ولكنك إيفون ...؟ هممم.»
قالت: «هو حبر على الحقيقة.»
قلت: «حبر ... بالطبع، وماذا يمكن أن يكون غير ذلك ... أزرق؟»
قالت: «لا لا لا ... أحمر.»
قلت: «أحمر؟ ... بديهي ... لا تكتميني شيئا من هذه التفاصيل الممتعة، تفضلي.»
قالت: «ولكنه ذنبها.»
قلت: «ذنبها؟ ... طبعا ... اسمعي، سأقص عليك حكاية ... أنا بطليموس.»
قالت: «بط... بط...؟»
قلت: «تمام. بطليموس. ب... ط... ل... ي... م... و... س.»
قالت ببطء: «بطليموس.»
قلت: «برافو ... ولكني ... أوكتافيوس.»
قالت عاتبة: «وبعد أن تعبت.»
قلت: «والآن اسمعي الحكاية: كنت ... لما كنت بطليموس ... أعني أكتافيوس ... هل هذا واضح ... حسن ... كنت ... شا ... كاتبا.»
فقاطعتني سائلة: «تكتب بالعربية؟»
قلت: «بالأوردي.»
قالت: «ال... ال...؟»
قلت: «فكتبت مقالة طويلة ملأت عدة صفحات من الورق، ولكني نسيت أن أرقم الصفحات فطار بعضها، ونشرت الجريدة وقرأها الناس وأعجبوا بها وقالوا إنها آية، وإنها معجزة، وإنها ستخلد اسمي، وترفعه فوق كل البطالسة، والأكتافيوسات أو الأكتافيوسين أو ...»
فصفقت وصاحت: «صحيح؟»
قلت: «بالطبع صحيح ... والآن فلنعد إلى كلير ... أعني إلى إيفون ... فهل من الممكن أن نضع على صفحات الجريمة التي ارتكبتها فتاتنا الهاربة المختبئة أرقاما؟»
فسألت: «أرقاما؟»
قلت: «أعني ألا يمكن أن نسمع القصة من أولها؟»
فقصتها، فقالت إنها كانت تلاعب أختها، فقلت: «ما أحلى أن يكون للإنسان أختان ... أعني أن تكون له بنتان هما أختان.»
فقالت: «ولكنه ميت.»
قلت: «ميت؟ ... مسكين ... من هذا يا ترى؟»
قالت: «أبي.»
قلت: «آه ... هذه مسألة أخرى لم تكن في الحساب عند التمني.»
وأقصرت، ومضت في حكايتها فقالت: إنها كانت قد اشترت مسدسا تطلقه فيخرج منه ماء بدلا من الرصاص، فخطر لها أن تحشوه ... أي تملأه حبرا أحمر، ولم تكن أختها تعلم أنها اشترت مسدسا، فحدث أنهما اختلفتا - كما ينبغي أن يحدث - فأخرجت كلير - أي إيفون - المسدس وهددت به أختها، فلم تذعن لسوء حظها، فأطلقته، فذعرت الأخت وأحست بشيء يقطر من جبينها فمسحته بأصابعها ثم نظرت فإذا هو - فيما خيل إليها - دم قان، فسقطت على الأرض مغشيا عليها، فارتاعت إيفون وانحنت عليها تناديها وتؤكد لها أنه حبر أحمر لا دم، وأنها لم يصبها سوء، ولكن الأخت لزمت الصمت وأصرت على الموت، فلم يسع إيفون إلا أن تهرب وتختبئ.
فسألتها عن اسم أختها فقالت «لورا»، فقلت إنه اسم لا يمكن أن تكون الفتاة التي تحمله إلا مخطئة ومعتدية، وقلت لنفسي: إن هذا قد يكون اسم كلب، وإن لورا هذه لا بد أن تكون دميمة، ثم قلت: «هل أكلت شيئا مذ هربت؟»
قالت: «كلا.»
قلت: «وعلى أي شيء تفطرين في العادة؟»
قالت: «بيض ... وشاي ولبن ... وو... وزبد ... و ...»
فقلت مقاطعا: «آسف جدا، لو كنت تفطرين على خوخ وعنب وجبن ولحم مشوي وكبيبة و... لأمكن أن نفتح هذه الحقيبة ونرى ماذا فيها.»
فقالت، وهي تضحك: «هل معنى هذا أنك تدعوني؟»
قلت: «إنك ذكية جدا.»
فضحكت وقالت: «هات فإني جائعة ... ميتة من الجوع.» •••
وفرغنا من الأكل، ولكل شيء مع الأسف آخر، وأشعلت سيجارة وأسندت ظهري إلى جذع شجرة من أشجار الصنوبر الكثيرة في هذه الجبال وقلت: «والآن وقد انتهى الطعام، أفلا يحسن بنا أن نفكر في مخبأ غير هذا الشجر لفتاتنا الهاربة؟ إن لي إخوانا - أعني أعوانا - في رأس هذا الجبل، فلو ذهبنا إليهم، واتصلنا بهم ...»
فنهضت بلا كلام، ومدت يدها إلى الحقيبة فتناولتها، وتركتها تحملها فقد خف وزنها، ولفت ذراعها بذراعي، ومضينا ندب كأننا جنديان.
ودنونا من العين، فقلت: اختبئي هنا حتى أنفض المكان. وسبقتها إلى حيث كان القوم جالسين يتراهنون على أني لا محالة خاذلهم ومجوعهم في يومهم هذا، فلما رأوني فرح الذين أحسنوا الظن، وحزن الذين أساءوه وخسروا، وأفضيت إليهم بقصة الفتاة، فضحكوا، وتقدم واحد فصاح - وكان قوي الحنجرة: «إيفون ... إيفون ... كلير ... اظهري ولك الأمان.»
فبرزت له وأقبلت علينا ضاحكة مستبشرة، فوثبنا إلى أقدامنا، ورفعنا أكفنا إلى رءوسنا بالتحية ثم أنزلناها بقوة على أفخاذنا كما يفعل الجنود.
ثم قلت - على سبيل التعريف: «هؤلاء جنودك ... كلهم مستعد أن يبذل آخر قطرة من دمه - أعني كل قطرة - في سبيل نجاتك أيتها المجرمة الجليلة (ضحك عال)، وثقي أنهم سيدافعون عنك (أصوات: نعم ... نعم) ب... ب... بأي شيء يا إخوان (أصوات مختلفة: بأرواحنا ... أرواحنا فداء لها) أرواحهم ... ولكن يا إخوان ألا يوجد شيء غير الأرواح تدافعون به؟»
فاقترح واحد أن نعقد مجلسا حربيا للتشاور في أي أدوات الدفاع - غير الأرواح - أصلح، فاتفقنا - أعني أنهم هم اتفقوا - على أن أول وسائل الدفاع أن يخرجوا ما في الحقيبة ويأكلوه، وقد كان، أكلوا ما قسم لهم، ثم أرسلنا منهم طليعة إلى بيت الفتاة تتجسس وتستكشف، وتجيئنا بالخبر اليقين عن القتيلة وعن حركات الشرطة وبسيارات تقلنا، فندخل بها الضيعة غازين فاتحين - إذا كانت الأخبار مطمئنة.
ولا أطيل - وما الحاجة إلى الإطالة - جاءت سيارتان عدنا بهما - وإيفون بيننا في إحدهما - إلى مكان الجريمة، وكان في استقبالنا سيدة على وجهها مسحة من الجمال، وكانت تبكي ... حزنا على القتيلة ولا ريب، أو سرورا بانتصارنا ... أو لا أدري لماذا، فقد شغلت عنها بفتاة تبارك الله خالقها ومبدعها، فوقفت أنظر إليها بعين يكاد حملاقها يخرج من شدة التحديق وإذا بإيفون تثب من السيارة وتعدو إليها وهي تصيح: «لورا ... حبيبتي ... يخرب بيتك.»
وترتمي عليها وتعانقها وتقبلها وتبكي على صدرها.
فمشيت إليهما وفرقتهما وقلت: «ما هذا ... أعني من هذه؟»
قالت إيفون: «أختي ... أختي لورا.»
فسألتها: «القتيلة؟»
فضحكت وقالت: «بعد الشر.»
وكان مسدسها معي، فأخرجته من جيبي وصوبته إلى وجهها وقلت: «همممم.»
فصاحت: «يقصف عمرك ... هاته بقى.»
وخطفته ...
وصادر الجنود ما بقي في البيت من الأطعمة.
لو عرف الشباب
كان أبوها تاجرا حسن الحال، وأقبلت عليه الدنيا فأقبل على تجارته يوسعها ولكن بلا تدبير، وعلى المال ينفقه بلا حساب، وأغري بالقمار فأفضى به الأمر إلى الخراب الوحي. فتجلد وراح ينشد العمل في متجر، ولكن سيرته في أيام النعمة خوفت منه التجار وزهدتهم في استخدامه، فلم يبق له إلا الاحتيال على صفقات قليلة يوفقه الله إلى عقدها ويخرج منها «بعمولة» ضئيلة لا تغني، وكان في أثناء ذلك يبيع حلي زوجته، ثم أثاث بيته. فلما أتى على هذا وذاك ولم يبق إلا الموت جوعا، شرب خمرا رخيصة في ساعة يأس وألقى بنفسه في النيل، وترك امرأته وبنته - وكانت في الثامنة من عمرها - تعيشان أو تموتان. فأما الأم فقضت نحبها بعده بشهور، وأما الفتاة فسمع بخطبها رجل طيب كان يعرف قومها فأقنعهم بأن يدعوه يتبناها ويأنس بها ويستعين بها على ضعف الشيخوخة، وكان هو أيضا تاجرا. فلما ارتقت به السن قنع بما أفاد وصفى تجارته، وكانت زوجته قد ماتت من غير أن تعقب له نسلا، فاتخذ فقيرة من قريباته لتدبير أمر بيته، وكانت امرأة صالحة فرعته ، وجعلت من نفسها خادما وأما وأختا ووصية أيضا.
وقال لها عصر يوم وهي تقدم له القهوة وتدني منه «طاولة» صغيرة عليها «منفضة» للسجاير: «يا حليمة ... اسمعي يا بنتي ... أنا منتظر رقية ...»
فقالت مستفسرة: «رقية؟»
قال: «رقية ... نعم ... بنت المرحومة الست خديجة ... ستقيم عندنا إلى ...»
ثم كأنما رأى أن التحديد عسير فترك هذا وقال: «أظن من السهل عليك إعداد الغرفة الجنوبية لها ... هه؟»
قالت: «سهل طبعا ... لكن بنت صغيرة ...؟ يمكن تتعبك.»
فقال محاولا أن يزيل دواعي القلق الذي يساورها: «بنت صغيرة؟ ... هذه بنت عشر ... شابة.» فلم تزد حليمة على أن قالت: «طيب.»
وجاءت الفتاة بعد قليل مع رسول من قوم أمها يحمل لها أشياءها القليلة، وكان وجهها أصفر متهضما، وعظام وجهها بارزة، ونظرتها ساهمة، فقبلت يد الشيخ فتناول وجهها بين كفيه المعروقتين وقبل جبينها وأجلسها إلى جانبه، وشرع يحدثها ويلاطفها حتى أنست به وهشت له. ثم تركها لحليمة تعنى بها.
ومضت الأيام ووجدت رقية في الشيخ سليم عوضا عما فقدت، وزالت الغضاضة التي كانت تجدها في أول الأمر وصارت حين تقول له «يا عمي» تشعر أنه عمها حقا وصدقا، وتفتح لها قلبه الكبير وأنزلها منه في حبته، وذاق في شيخوخته العالية ما حرمه طول حياته من حلاوة الأبوة ونعمة البنوة البارة. فقد صارت رقية هي التي تعنى به، وتعد له حاجاته، وتسهر على راحته، وتبقى إلى جانبه حتى يصرفها إلى مرقدها بعد أن يدعو لها ويمسح شعرها ويقبلها.
ولكن حليمة لم ترض عن رقية، وكان رأيها فيها أنها فتاة عنيدة، وأن أبويها أفسداها بالتدليل، وأن الشيخ سليم يزيدها فسادا بإسرافه في إظهار التعلق بها والحنو عليها، وكان يسوءها على الخصوص أن لسان رقية حاد، وأنها لا تفعل إلا ما يطيب لها، وكانت حليمة صريحة فلم تكن تكتم رقية سوء رأيها فيها، أو تتقي أن تنذرها بمستقبل أسود «كالحبر»، وكثيرا ما كانت تقول لها إن الشيخ يسيء إليها بهذا التدليل.
وكان هذا الكلام وأشباهه يهيج رقية في أول الأمر، ويطلق لسانها بما يخطر لها ساعة الغضب، ولكن ثرى نفسها كان خصبا فلم يخل كلام حليمة من أثر، فقالت ذات ليلة لعمها وهي جالسة على ذراع كرسيه: «عمي!»
فرفع إليها وجهه المغضن وسألها: «نعم؟»
قالت وهي تداعب شعر لحيته: «إنك تفسدني بالتدليل. لماذا لا تربيني كما ينبغي؟»
فدهش الرجل وقال: «من وضع في رأسك الصغير هذا الكلام؟ حليمة بالطبع.»
قالت: «هي على حق ... شف ... لي هنا نحو سنة ... وقد نسيت ما تعلمته في المدرسة.»
قال: «آه. صحيح ... الحق معك ... صحيح ... هل تريدين أن تتعلمي حقيقة؟»
قالت: «آه.»
قال: «إن شاء الله.»
وخطر للشيخ وهو راقد على سريره في تلك الليلة أن رقية مسكينة، وأنها مستوحشة في هذا البيت الكبير الذي ليس فيه إلا هو وحليمة والخادم الكهل الذي يقضي الحاجات، وأن رغبتها في التعلم من مظاهر إحساسها بالوحشة، وأن الواجب ... ولكنا نسبق الحوادث.
وجاءت المعلمة وبدأت الدروس فشغلت بها رقية عن كثير مما ينغص على حليمة، ولكن الشيخ لم يقنع بهذا ولم ير فيه الكفاية، وإن كان لم يفته أن حليمة أصبحت أقل شكوى وتذمرا من رقية. وكانت عادة الشيخ أن يخرج إلى الصلاة في مسجد سيدنا الحسين ثم يشرب الشاي في إحدى المقاهي الكثيرة المشهورة بصنعه هناك، ولا يعود إلا في الضحى فيتناول شيئا يسيرا من الطعام ويرتاح قليلا ثم يعود فيخرج ويمر بإخوانه التجار في دكاكينهم ولا يرجع إلا وقت الغداء، وإذا خرج في العصر فقلما كان يعود إلا بعد صلاة العشاء في «الحسين».
وقال ليلة وهما جالسان إلى الطعام: «أظن يا رقية أنك تستوحشين هنا ...»
فقالت: «كيف تقول يا عمي؟»
قال: «الوحدة ... ليس لك أنيس من سنك ... والبيت واسع كبير كالربع ... وليس فيه إلا نحن والعفاريت.»
وسره كلامه فضحك، فقالت: «بسم الله الرحمن الرحيم ... قل لي يا عمي ... هل في البيت عفاريت؟»
قال وهو يبتسم: «هل تخافين العفاريت؟»
فأجابت بسؤال: «ألا تخاف أنت؟»
قال: «الله هو الحافظ ... لقد خطر لي شيء ... أريد أن أدفن في بلدي.»
فصاحت به وقد خفق قلبها: «أعوذ بالله! لماذا تقول هذا الكلام؟»
قال: «يا بنتي الموت حق ... دعي هذا ... قريتنا جميلة ... لي فيها أرض ودار لا بأس بها، والحياة هناك أشرح للصدر وآنس للقلب، ناس كثيرون ... أهل ومعارف ... لا يمل الإنسان ... والمناظر جميلة ... الحاصل ... سنذهب إلى البلدة ونترك هذا البيت الموحش ... ما الداعي أن أبقى في مصر؟»
قالت: «أمرك يا عمي.»
قال: «ألا يسرك؟ يمكننا أن نعود إذا لم ترتاحي هناك ... الأمر سهل.»
وبعد أيام من هذا الحديث حملها معه إلى البلدة، وترك حليمة والخادم الكهل ليرسلا أثاث البيت ويلحقا بهما.
ولم يبالغ الشيخ فقد كانت القرية جميلة والدار رحيبة تقوم في وسط بستان ثمر وزهر، ولكن العناية بالزهر كانت ضئيلة فلم يكن هناك إلا بضعة أعواد من الورد، أما الأشجار فكانت كثيرة وكان ثمرها وفيرا، فطاب المقام لرقية، ووجدت في الحديقة الواسعة ملهى ومرتعا، وكان فتى من أقرباء الشيخ في السابعة عشرة من عمره هو الذي يتعهد الحديقة، وكان مبيته في الدار أيضا ولكن في إحدى الغرف التحتية، ولم تكن رقية ترتاح إلى هذا الفتى ولكنه كان قريب الشيخ، وكانت تدرك أنه لا بد للحديقة من رجل يتعهدها، فإذا كان عمها قد آثر أن يكل هذا إلى قريب له فهو على حق، والأقربون أولى بالمعروف، وهي أجنبية - ولا ينبغي لها أن تنسى هذا - فليس من حقها أن تكره وتحب، وما شأنها هي على كل حال؟ وإذا كانت لا ترتاح إلى محمود هذا فإن في وسعها أن تتجنبه، وأن تتقي لقاءه بلا عناء، غير أنها - لسبب ما - كان يسخطها عليه ما ترى من بلادته وجموده وبطء حركته، وأن وجهه لا يتطلق قط، وقد سمعت أنه حفظ شيئا من القرآن، وأنه قضى بمدرسة ابتدائية بضع سنوات، فهو ليس جاهلا كأكثر الفلاحين ... فما له؟ ... ما خطبه؟
وكانت ربما لقيته في بعض جولاتها في الحديقة فيضيق صدرها بجهامته ولا تملك إلا أن تصيح به: «يا شيخ إتلحلح شوية»، فينظر إليها ممتعضا ولا يزيد على أن يقول لها - حين يقول شيئا: «وإنت مالك؟» ويستأنف ما كان فيه غير عابئ بها أو مكترث لها فكأنها غير موجودة.
وكان الشيخ يلاحظ حبها للحديقة فقال لها يوما: «لعلك مسرورة.»
فطوقته بذراعيها وقبلته، فاستغرب الشيخ إحساسه بذراعيها وتنبه إلى أن هزالها قد زال، وأن وجهها قد امتلأ، وأن ذراعيها صارتا بضتين، وأنها - ولم يمض عليها عنده إلا عام وبعض عام - قد طالت قامتها وعلا ثدياها على صدرها ... بالاختصار أصبحت شابة ... لا يمكن أن يخطر لأحد أنها في الثانية عشرة من عمرها فقط ...
وقال لها وهو ينحي ذراعيها عن عنقه برفق: «كيف وجدت محمودا؟»
فعبست وسألته: «هل تحبه؟»
فقال كأنما أراد أن يلخص لها موقفه منه في أوجز عبارة: «أمه بنت خالتي.»
فأدهشته بقولها: «هل تحب بنت خالتك؟»
فقال: «أ... أ... أحبها؟ ... آه بالطبع ... بنت خالتي ... طبعا.»
قالت: «لا أعني هذا.»
فزاد عجبه منها وأراد أن يغير الموضوع فسألها: «ما رأيك في محمود؟»
فقالت بإيجاز: «بليد ...»
فسألها بلهجة المشفق: «هل قلت له هذا؟»
فضحكت وقالت: «لا تخف ... هو أيضا لا يكتمني رأيه في.»
فهز الشيخ رأسه آسفا وأطرق قليلا ولكنها ردته إليها بقولها: «قل لي يا عمي ... لماذا تسألني عن محمود؟»
فنظر إلى عينيها الواسعتين العميقتين قبل أن يجيب وكأنما رأى أن لا خير في اللف والمغالطة مع هذه الفتاة فقال: «لا شيء ... ولكني رجل كبير وأحيانا أحلم بأشياء ... كله بيد الله ... قومي هاتي لي الحصيرة للصلاة.»
فجاءته بها فوقف ورفع يديه إلى أذنيه وكانت هي عند الباب فقالت له وهي تهم بالخروج: «اذكر يا عمي أنه هو أيضا لا يحبني.»
فما استطاع الشيخ أن يتوجه بقلبه في صلاته إلى الله وحده، إلا بجهد. •••
وخطر للشيخ بعد مدة أن الأولى أن يبعد محمودا عن الحديقة، وأن يكل إليه عملا آخر في الغيط، فإن البعد رحمة في بعض الأحيان، وأخلق بهما إذا قل لقاؤهما أن يفتر بينهما هذا العداء، ثم من يدري؟ ... لعلهما حينئذ يتحولان إلى ... ولكن من يدري؟ من يدري؟ ... على كل حال هذا خير من قرب يثير بينهما حربا ...
غير أن الأقدار لم تمكنه من إمضاء عزمه، فقد أصابه برد ثقلت وطأته على جسمه المتهدم، فأحس الرجل بدنو الأجل، ودعا إليه رقية، وأدناها منه على سريره وقال: «قلت لك يا رقية إني كنت أحيانا أحلم بأشياء ... وأخشى أن أكون قد أسأت من حيث قدرت أن أحسن، ولست أحب أن ألقى الله بضمير مثقل بهذه التبعة. نعم كان يسرني أن أوفق بينك وبين محمود ... هو أيضا ليس له غيري، ولكني لا أحب أن تشعري أن عليك أن تفعلي شيئا لا لسبب إلا ظنك أن هذا يرضيني، إن حياتك أمامك فاصنعي بها ما تشائين، كنت أحب أن يطول عمري حتى تكبري، فأتركك مطمئنا، ولكنه لا راد لقضاء الله ... وقد تركت لك أكثر ما أملك واحتطت فلن ينازعك أحد، وتركت له ما فيه الكفاية، فاحرصي على مرضاة الله ثم مرضاة وجدانك، ولا تجعلي بالك إلى ما تظنين أنه يرضيني ... هذا ما أردت أن أقوله لك ...»
فلم تستطع أن تقول شيئا؛ فقد انهمرت دموعها وخنقها البكاء.
وبعد يومين ذهب الشيخ الكريم في سبيل من غبر ...
وظهر أنه وقف ماله، فترك لها نصف الأرض ولمحمود النصف الآخر، أما الدار التي في القرية والبيت الكبير في مصر فجعلهما شريكين فيهما بحيث لا يستطيع أحدهما أن يحدث فيهما شيئا - كائنا ما كان - إلا باتفاقهما على ذلك، وآثرها على الفتى ببيت صغير آخر تحته دكان، وجعل النظارة لتاجر من أصدقائه، ولكل منهما نصيبه من بعده.
وبعد الأربعين خفت الفتاة والفتى إلى مصر إجابة لدعوة الشيخ سعيد ناظر الوقف، وقد قابل كلا منهما على حدة.
قالت الفتاة بعد أن سلمت وجلست: «لست أفهم شرط عمي فيما يتعلق بالبيتين.»
قال: «الأمر سهل ... إذا أردت مثلا أن تسدي شباكا فلا يجوز لك هذا إلا بموافقة محمود، وإذا أراد محمود أن يفتح بابا أو يبيض جدارا فلا يكون له هذا إلا بإذنك وموافقتك.»
فقالت: «ولكن لماذا ربطنا على هذا النحو؟ إن الاتفاق بيننا مستحيل.»
فابتسم الشيخ سعيد وقال: «لا حل لهذا الإشكال الذي أورثكما إياه إلا الزواج.»
فصاحت الفتاة مستنكرة: «أتزوج محمود؟ أعوذ بالله ... مستحيل.»
قال وهو لا يزال يبتسم: «حل آخر ... وطني نفسك على التنازل له في المستقبل.»
فقالت: «أتنازل له؟ ولا في المنام.»
قال: «إذن لا حيلة إلا الصبر.»
ودخل عليه محمود بعدها فسأل بعد كلام: «ما العمل في حل هذا الإشكال الفظيع؟»
فقال الرجل: «أحسن حل أن تتزوجها.»
فقال الفتى: «يا ساتر يا رب.»
فقال مقترحا: «تنازل لها إذن.»
فصاح الفتى: «أتنازل لها هي؟ هذا شيء لا يكون.»
قال: «صبرا إذن يا بني.»
ومضت الأيام وكرت الأعوام والفتى في بلدته، والفتاة في البيت الكبير بمصر ومعها حليمة والخادم الكهل، والوصي الأمين يرعاها ويحدب عليها ولا يغفل أمر محمود، وكان ذكر محمود لا يرد على لسان الشيخ سعيد إلا في الندرة القليلة، فسألته يوما: «ما أخبار البلد؟»
فقال: «أنا خائف على محمود.»
فقطبت وقالت: «ما له؟»
قال: «شديد على الناس ... أصبح أعداؤه كثيرين.»
فاستزادته مستفسرة، فقال لها: «إن الفلاحين يهملون أحيانا فيشتد عليهم ويقسو بهم ويعاملهم بالعنف، وقد سرق أحدهم أخيرا كيسين من القطن فضبطه وضربه حتى كاد يميته ... وأمثال هذا يحدث كثيرا ... وهم يخافونه ولكنهم يكرهونه وأخشى أن يتربصوا به.»
فلم تقل شيئا، ولكنها بعد أسبوع سألت الشيخ سعيدا: «هل أستطيع أن أزور البلدة؟»
قال: «طبعا ... ما المانع؟»
قالت: «ربما استاء محمود ... هو مرتاح من وجودي كل هذا الزمن.»
قال: «ولكنه لا يستطيع أن يعترض على وجودك.»
فقالت: «ليست المسألة مسألة اعتراض.»
قال: «ماذا إذن؟»
فهزت كتفيها وقالت: «لا أدري.»
وسافرت بعد أيام ومعها حليمة التي انقلبت تحبها كأنها بنتها، وكان محمود في الغيط، فلما علم بحضورها خف إليها ورحب بها، فاستغربت وقالت له: «لقد صرت ظريفا.»
فضحك وقال: «لقد كبرنا يا رقية ... كنا أطفالا.»
فقالت ضاحكة: «أحسبنا ما زلنا أطفالا.»
فقال وهو مطرق: «حملنا الهم قبل الأوان علمنا ... الحمد لله على السلامة يا أهلا وسهلا.» وتبادلا الأخبار عن البيت الذي في مصر والدار التي في القرية، فقال لها إنه محتاج إلى مخازن وليس هناك مكان يتخذه مخزنا إلا الجانب القبلي من الدار، يهدم ذلك الجانب كله ويبني من جديد فيصلح به البيت من فوق وتقوم المخازن المطلوبة، فاعترضت على هذا بشدة وقالت إن هذا الجانب فيه الغرفة التي كان ينام فيها عمها، فيجب أن تبقى كما هي، وقالت إن الذي يحتاج إلى عمارة هو بيت مصر ... واسع جدا بلا ضرورة ولا ينتفع به أحد، فيحسن أن يشطر البيت شطرين واحد يبقى لسكناها، والآخر يؤجر، فاعترض الفتى وقال إن هذا يفسد البيت، فقالت إن الأمر على كل حال للشيخ سعيد وستقنعه بذلك، ومتى اقتنع الشيخ سعيد فإن الأمر يكون له، ولم يستطيعا الاتفاق ولا التفاهم وإن كان الأمر كما قالت للشيخ سعيد فكل خلاف عبث. وقام محمود مغضبا يائسا من إمكان الوفاق مع هذه الفتاة العنيدة، وجاء الليل واجتمع محمود في الساحة أمام الدار بالفلاحين يحدثهم في شئون الأرض ويحاسبهم ويتلقى منهم أخبار ما فعلوا في يومهم، وكان لا يزال متأثرا بخلافه مع رقية، فخرج عن طوره مع أحد الرجال وتفاقم الأمر، فقام محمود وضرب الرجل واجتمع الخلق عليهما وعلت الأصوات، وكانت ليلة مظلمة حالكة السواد ولا ضوء هناك إلا ضوء مصباح غاز في ردهة في الدار، فانطفأ المصباح فجأة فهاج الناس وماجوا، واشتد اللغط، وسمع صوت يقول: «أوع يا أحمد، حاسب»، وارتفع صوت محمود يصيح: «ترفع العصا علي يا كلب يا ابن ... أنا أقتلك.»
ولكن الرجال دخلوا بين المتعاركين وردوهما وحملوا محمودا إلى الدار وأغلقوا وراءه الباب. فصعد إلى فوق ولم يكد يصير إلى مكان فيه نور حتى وقف ينظر إلى يديه مستغربا.
وكانت رقية واقفة أمامه فسألته: «مالك؟ هل أصابك شيء؟»
قال: «كلا ... ولكن هذه السكين؟ كيف صارت في يدي؟ لم يكن معي شيء؟» فابتسمت رقية وقالت: «ألم تضربه بها؟»
فسألها متعجبا: «أضربه؟ أضرب من؟»
قالت: «الرجل الذي رفع عليك العصى.»
فقال وهو لا يزال يتعجب: «أضربه بالسكين؟»
قالت: «لقد وضعتها في يدك لهذا الغرض.»
فصاح وهو مذهول: «أنت وضعت السكين في يدي؟»
قالت: «بالطبع ... من كنت تظنه فعل ذلك غيري؟ لقد نزلت وخفت أن يراني الرجال فأطفأت المصباح، ولما رأيت أن الأمر متفاقم خفت، وكان الشيخ سعيد قد أخبرني أن الفلاحين يكرهونك لأنك شديد عليهم، فجريت وجئت بالسكين وتسللت في الظلام ووضعتها في يدك ... لم يرني أحد في الظلام ... ظنوني على الأرجح رجلا منهم.»
فقعد محمود ولم يستطع أن يقول شيئا وطال صمته، فهزته رقية وسألته: «ما لك؟»
فقال: «ما لي؟ الحمد لله على كل حال ... لو كان هناك نور ورأوا السكين؟ نهايته ... حصل خير.»
وقالت وهي مضطربة: «هل أخطأت؟ قل لي الحق ... لقد كنت خائفة عليك.»
فنهض وهو يبتسم وقال: «حصل خير، حصل خير ... ربنا ستر.»
ولما أرادت أن تعود إلى القاهرة رافقها إلى المحطة، وهناك تركا حليمة مع الأشياء وراحا يتمشيان في انتظار القطار وقال لها في بعض حديثهما: «حكاية السكين هذه ... ماذا أغراك بها؟»
قالت: «كنت خائفة عليك من الفلاحين؟»
قال: «مدهش.»
قالت: «هل كنت تظن أني سأتركهم يقتلونك وأنا أتفرج؟»
قال: «لم أكن أتصور أن تخافي علي ... مدهش.»
قالت: «ما هو المدهش؟»
قال: «سأسافر معك ... أريد أن أقابل عمي الشيخ سعيد.»
قالت: «من أجل المخازن؟»
قال: «إيه ... حاجات كثيرة.»
قالت: «اسمع ... مسألة المخازن في محلها ... افعل ما تريد.»
قال: «ولكن الأمر بيد الشيخ سعيد.»
قالت: «نعم ولكنه لا يخالفني.»
فأطرق، وبعد برهة سألها بلهجة المتردد: «بيت مصر ... هل صحيح أن لك رغبة في قسمته؟»
قالت: «هذه فكرة ... بالطبع لا أستطيع الآن.»
قال: «لماذا؟ الشيخ سعيد لا يخالف لك رغبة.»
قالت: «صحيح ... ولكن ... لا أريد الآن.»
قال: «لأني اعترضت؟»
قالت: «آه.»
قال: «أظن أن رأيك أصوب.»
فصاحت وهي فرحة: «صحيح؟»
قال: «بالطبع ... كل ما يرضيك افعليه ... وهل لي غيرك؟»
قالت: «ولا أنا.»
فقال: «المرحوم كان حكيما.»
فقالت: «عمي ... أوه جدا.»
قال: «كان غرضه ...»
فلم تمهله وقالت مقاطعة: «كان مدهشا ... عرف كيف يحتال علينا بعد وفاته.»
فسألها : «ما قولك في تحقيق رغبته؟»
فأطرقت حياء. فكرر عليها السؤال فقالت: «اسأل عمي الشيخ سعيد.» •••
ولم تكن سن الزواج لها حد في تلك الأيام، ففرح الشيخ سعيد بتحقيق أمل صديقه.
ميمي
جلس «طلبة» في القطار العائد به من مصيفه في الإسكندرية يفكر في «وردة»، فما استطاعت الإسكندرية بمن حفلت بهن من الفتيات اللاتي جئن من كل مدينة وقرية ليعرضن جمالهن وفتنتهن على شواطئ البحر أن تنسيه سحرها ودلها أو تصرفه عنها وتحول قلبه إلى سواها، وإن الإسكندرية لمفسدة أي مفسدة - كذلك جعل يقول لنفسه وهو يهتز في مقعده من فرط السرعة التي يعدو بها القطار - ماذا يظن هؤلاء الآباء الذين يتركون بناتهم يتجردن على الشاطئ، ويصبحن لا هن كاسيات ولا هن عاريات؟
ولم يكن طلبة من الطراز القديم أو المحافظ، فقد كان ابن عصره الذي لم يشهد سواه، ولكنه كان فتى أكسبته حياته وعمله اتزانا قلما يتاح في مثل هذه السن، فقد كان صيدليا، والصيدلي يرى كل صنوف الناس، ولا يسعه وهو يستقبل الزبائن ويرحب بهم ويتلقى «أوامرهم» ويصغي إلى حديثهم وثرثرتهم في أحيان كثيرة إلا أن ينظر ويفكر ويقارن ويقابل، وإلا أن يقف على كثير مما يخفى على الشبان أمثاله في أعمال أخرى، وإلا أن يلم بحالات قلما تمر نظائرها بأنداده، وقد أفاد من عمله في الصيدلة صبرا وحلما وتسامحا وحكمة ومقدارا من «الحصانة» تمنع أن يغتر المرء بالظواهر، وتلك بعض ثمار المعرفة التي اكتسبها في ذلك المعرض الذي يسميه الناس «الصيدلية» ولا يخطر لهم أنه يمكن أن يرى فيها غير العقاقير.
وخطر لطلبة والقطار ينهب به الأرض أن من الحماقة أن يتوهم الآباء أن عرض بناتهن على الشواطئ يعجل بتزويجهن، ورجه القطار وهو يفكر في ذلك فكأنما رج ما في رأسه أيضا فعاد يسأل نفسه: ولكن هل هم يعرضون بناتهم ليزوجوهن؟ أليس الأصح أن يقول إن تيار الزمن جرفهم، وأنهم لم يستطيعوا مقاومته فهم لا يعنون شيئا ولا يريدون أمرا، وإنما ينزلون على حكم التيار؟ على أن المهم على كل حال أن هذا العرض يزيغ العين، والرجل لا يستطيع بعد أن يرى كل هذا الجمال المتنوع المحشود أن يروض نفسه على الصبر على طعام واحد، وطبيعي أن يقنع بالفجلة وكسرة الخبز اليابسة من لم يجلس إلى الموائد المثقلة بألوان الآكال الشهية، ولكنه إذا جرب هذه الطعوم المغرية فإنه لا يكون آدميا إذا ظل يعد الفجلة نعمة من الله.
وسأل نفسه مرة أخرى: «ولكن هل معنى هذا أن الأولى أن ترد البنات عن حمامات البحر وما إليها؟» وهز رأسه وقال لنفسه: «مستحيل، ثم إن الحياة لا تطيب بذلك لو تيسر ... كان يمكن أن تطيب لو أننا ظللنا لا نرى على الشاطئ كل هذه المفاتن، ولكنا أكلنا من شجرة المعرفة، فلا قناعة لنا بشيء بعد الآن، ولا سبيل إلى الصبر على الحرمان ...»
واعتدل في مقعده وسأل نفسه هذا السؤال: «إذا كان الزواج هو الغاية ... لا تقل الغاية ... فإنه على كل حال ليس إلا واسطة، ولكن نقول إذا كان هذا الزواج هو النظام المقرر فأيهما خير للرجل المدرك المفكر ... أن يتزوج واحدة من أولئك اللواتي لا يخرجن إلى البحر في ثياب الاستحمام ولا يعرفن السينما، ولا يبرزن للرجال، ولا يعرفن من الحياة إلا الأكل والكسوة والجلوس على الحشايا، ولا تخشى عليهن الفتنة لأنهن لا يتعرضن لها، أو أن يتزوج واحدة من هؤلاء المرحات الصابحات الوجوه، البضات الأجسام، الرشيقات القوام، اللواتي يحسن الحديث والسمر، ويعرفن كيف يمتعن ويستمتعن، ويجعلن الحياة كلها فرحة دائمة، ونعيما مقيما، ومتعة مستمرة، لكثرة ما فيها من التنوع؟»
وهز رأسه مرة أخرى وقال: «مشكل والله، وعقدة لا أعرف لها حلا ... فتلك الجاهلة لا تكون إلا مملة، وإن كان المرء يسعه أن يطمئن وأن يسكن، وتلك المتعلمة المدنية البرزة أحلى وأمتع - في أول الأمر على الأقل - ولكن السكرة تذهب، وتزول النشوة، وتجيء الفكرة، ويحتاج المرء إلى السكون والرضى والاطمئنان ... الراحة على العموم ... وأين الراحة مع الخفة والتقلقل الدائم والشك الذي لا سبيل إلا إليه ولا حيلة فيه؟»
وطال تفكيره في هذا وما هو منه بسبيل، ولم يجد في هذا راحة، ولم يستطع أن يهتدي إلى رأي فيما عرض على نفسه. فانتقل إلى «وردة» وشرع يتصورها على هواه، وكان يدرك وهو يفعل ذلك أنه يفيض عليها من خياله، ولكنه كان يقول لنفسه إن الخيال أمتع من الحقيقة، وإن الجمال الذي لا يحرك الخيال لا قيمة له، وإن الجمال الحقيقي هو الذي يجدد نفسه في خاطرك، ويعرض عليك من صوره وفتنه ألوانا ومعاني لا ينضب لها معين، وهذه مزية وردة، وإن كانت أيضا آفتها، فإنها زئبقية ... لا تستقر حقيقتها - إذا كانت لها حقيقة - ولا تستطيع أن تتناولها وتقول هذه هي ... كلا ... مستحيل ...
وارتفعت لعينيه وهو يفكر في «زئبقية» وردة صورة «ميمي» الوديعة ... ميمي اليتيمة التي لم يبق لها من الأهل سواه. فهي في بيته - مذ جاءت بها أمه - كالأخت، أو إذا شئت، كالخادمة، تقضي له حاجاته، وتعد له أشياءه، وتتعهد البيت، وتدبر أموره، في سكون ومع الابتسام الدائم، ومن غير تأفف أو ضجر، ولا تطلب إلا أن يكون راضيا ناعم البال قرير العين ... أتراها تحبه؟ إن هناك ما يشير إلى ذلك ويشي به، ولكنها لا تقول شيئا، ولا تجترئ على أكثر من ابتسامة السرور حين يسرها، ويخيل إليه أحيانا أنها كانت تبكي أو أن الدمع يتحير في عينيها، ولكنه لا يدري ... لا يدري ... ثم إنه لا يريد أن تحبه، كلا ... فإنه يحب غيرها ...
وجرى بباله البيت المشهور وهو يتناول حقيبته وينزل من القطار في محطة القاهرة:
جننا بليلى، وهي جنت بغيرنا
وأخرى بنا مجنونة لا نريدها
فقال بصوت مسموع: «أعوذ بالله! ما هذه السخافة؟ قد تكون ميمي مجنونة بي، وإني لمجنون بوردة، ولكن وردة على التحقيق لا تحب أحدا غيري ... نعم لا يبدو أنها تحبني كما أشتهي وأتمنى، ولكن من فضل الله أنها لا تحب سواي ... هذا شيء على كل حال ... يمكن أن أقتنع به الآن ... ومع الارتياح ... ولكن من يدري ...؟»
وساورته الشكوك وهو يشتري في طريقه طاقة من الأزاهير البيضاء التي يعرف أن وردة تحبها، وظلت تساوره وهو يدخل شقته ويلقي بالحقيبة، ويتلقى تحية ميمي بفتور لا يعنيه، وقد سخط على نفسه وأوسعها تقريعا وذما، وقال لها: «هذه وردة يشرق وجهها لك، وتكاد تفتح ذراعيها، وتبدو كأنها تريد أن تضمك إلى صدرها الناهد ... الحق أن صدرها جميل ... وأنت تقابلها بهذا الفتور؟ ... إن هذه خسة، ماذا جنت الفتاة حتى تصدمها هذه الصدمة؟ وتدفع في صدرها بجمع يدك؟ آه صدرها ... الحق إنه جميل ... قدها كله جميل، فيها لين، تنساب كالماء الرقراق ... ثم إنها وديعة، راضية، حلوة الطبع، لماعة العين دائما. أوه ميمي ... ميمي؟ إنه يجب أن أفكر في وردة ...»
وكانت ميمي في هذه اللحظة تضع الورود في الزهرية، فزعق طلبة: «ماذا تصنعين؟»
قالت باستغراب: «أرتب الورد، أليس ...»
ولم تتمها، فقد انتزع منها الأزاهير وهو مقطب ولفها في ورقتها كما كانت وتمتم وهو يفعل ذلك: «ترتب الورد؟ أتراها تظنني جئت به لأزين به بيتي؟»
وقال بصوت عال: «دعيه هكذا ... إنه لوردة.»
فأحست المسكينة بمثل شكة الخنجر ... يعود من الإسكندرية بعد خمسة عشر يوما قضاها هناك غائبا عنها، ولا يذكرها بزهرة واحدة، ومعه هذا «الحوض» كله يحتفظ به لوردة! ولا يخطر له أن من الرحمة الواجبة ألا يخزيها على هذا النحو! ماذا كان عليه لو اتقى أن يجيء به إلى البيت؟ ولكن ...
ولم تسترسل في هذه الخواطر المؤلمة، فقد كان عليها أن تهيئ له ثيابا أخرى يلبسها ليزور وردة، وإن ميمي لتعلم أن وردة مشغولة عنه بغيره، وأنها لا تفكر فيه، ولا تبالي أجاءها بهذه الأزهار الجميلة أم نسيها ولم يخطرها بباله ولكن ميمي لا تستطيع أن تقول له هذا وإلا ظن بها الظنون.
وأحست ميمي وهي تنفض لطلبة ثيابه التي يجب أن يرتديها، بثورة نقمة على وردة، وشعرت كأن وردة تخون طلبة لأنها مشغوفة بسواه، وصحيح أن وردة لا زوجته ولا خطيبته، ولكن هذا لا يمنع ميمي أن تسخط على وردة وأن تشعر لها بكراهية شديدة يزيدها علمها أنها غير محقة فيها.
وخرج طلبة، ومعه طاقة الزهر الأبيض، وبقيت ميمي وحدها، لا أنيس لها إلا خواطرها، نعم هناك أمه، وأخته، وخادمة، ولكن ما أنسها بهؤلاء؟ وهي مضطرة أن تتكلف أمامهن الابتسام وأن تتظاهر بغير ما تبطن، وهذا بلاء آخر ...
ولم يطل غياب طلبة، فقد عاد، ومعه طاقة الزهر الأبيض التي خرج بها، ففتحت له ميمي الباب وارتدت مذهولة ... أذهلها تجهمه، وأذهلتها طاقة الزهر التي تتدلى بها يده، فارتدت ولم تقل شيئا، وتركته يدخل وهو مطرق لا ينظر إليها ولا إلى شيء ويرمي بطاقة الزهر على المائدة، ويذهب إلى غرفته، ويرد بابه حتى لا يدخل عليه أو يزعجه أحد.
وبعد قليل صفق، فذهبت إليه أخته فردها وقال لها: «ابعثي إلي بميمي.» ولم يكن هذا مستغربا فقد كانت ميمي هي الموكلة به في الحقيقة، وكانت أمه يسرها أن ترى ميمي تقوم له بحاجاته وتتكفل بأموره، وكان رجاؤها أن يفطن ابنها إلى قيمة ميمي فيتخذها زوجة.
وذهبت إليه ميمي فقال لها: «اجلسي، وأصدقيني.»
قالت، وهي تجر كرسيا: «نعم.»
قال: «وردة ... إنك تعرفينها كما أعرفها، فلا تخفي عني شيئا ... ما هي الحكاية؟»
قالت: «أي حكاية؟»
قال: «إن المرأة تعرف عن المرأة أكثر مما يستطيع أن يعرف الرجل، ثم إن النساء يتحدثن فيما بينهن بما لا يتيسر العلم به للرجال، فأخبريني ما هي حكاية وردة؟»
فكررت قولها: «أي حكاية؟»
قال: «ألا تريدين أن تخبريني؟ إذن سأعرف كل شيء وحدي.» ونهض فخرج ...
ولم تستطع ميمي أن تكتم ما بنفسها، فحدثت أمه بما سألها عنه من خبر وردة، وتركتها تتصرف كما تشاء، على أن الأمر لم يحتج إلى تصرف من الأم أو سواها، فقد أراد طلبة أن يقف على جلية الخبر وأن يعرف من هذا الشاب الذي رآه خارجا معها من بيتها يوم عاد - أي طلبة - من الإسكندرية، وذهب إليها ليسلم عليها ويقدم لها الورود البيضاء التي تحبها وتؤثر جمالها على سواها من ضروب الزهر، وكان هو يهم بالنزول من الترام في محطته أمام بيتها، فلما رآها خارجة ومعها هذا الفتى الغريب الذي لم يره قط من قبل بقي على سلم الترام إلى المحطة التالية، ثم عاد إلى بيته، وما خير أن يذهب إليها وهي خارجة؟ ومع فتى؟
وكان طلبة ممن يؤمنون بأن الخط المستقيم أقرب المسافات بين نقطتين، فذهب إلى أبيها وسأله عن هذا الفتى من عسى أن يكون، وكان بين أسرة طلبة وأسرة وردة من الصلات الوثيقة القديمة ما يسمح له بمثل هذا الاستفسار الذي كان خليقا أن يعد - لولا ذلك - فضولا غير مقبول، وكانت وردة وحيدة أبيها، وقد ماتت أمها، فرق لبنته جدا ودللها تدليلا شديدا، فقال الأب: «هذا حسني ... خطيبها ... وعلى فكرة ... أظن أنه من الأوفق ... تعرف ما أعني ... ولا مؤاخذة.»
فهز طلبة رأسه وقال: «نعم أعرف ... يحسن بي أن أكف عن زيارتكم حتى لا أثير وساوس الخطيب ... ولكن يا عمي من عسى أن يكون هذا الخطيب؟ إنه طارئ ولا شك، فإني أعرف كل معارفكم، ولا أذكر أني رأيته أو سمعت به، وما غبت عنكم إلا خمسة عشر يوما، أفي خمسة عشر يوما يعرف وردة، ويخطبها وينتهي الأمر؟»
قال: «ولم لا؟ يوم واحد يكفي ما دمنا قد سألنا ووثقنا أنه شاب طيب حسن السيرة.»
قال: «وهل سألت يا عمي ووثقت؟»
فقال الرجل بلهجة المتأفف: «ما هذه الأسئلة؟»
فقال طلبة وهو ينهض: «أنا أعرف أنك لا تستطيع أن تكذب ... وأستطيع أن أعرف أنك لم تسأل ولم تستوثق، وإنما نابت عنك وردة في هذا كله ... مبارك على كل حال ... وأستودعكم الله.»
ومضت الأيام وطلبة يعزي نفسه بأن الخيرة في الواقع، وأن الزواج لا يكون مؤديا إلى السعادة إذا كانت الفتاة مدللة كوردة كل هذا التدليل، حتى لتخطب لنفسها من تشاء، ولا يسع أباها إلا الموافقة، وعاد - شيئا فشيئا أيضا - إلى ما كان يفكر فيه وهو عائد من الإسكندرية ويسأل نفسه عنه: «أي الفتاتين خير؟ واحدة نشأت على الطاعة والعفة أم أخرى مدللة تعرف حمامات البحر والخروج مع الرجال؟» وزاد السؤال تحديدا فجعله هكذا: «أيهما خير لمثلي: فتاة وديعة كميمي تحبني وتطيعني ولا تعرف سواي، أو تفكر في غير واجباتها لي وإن كانت تنقصها مظاهر الطراز الحديث؟ أو أخرى كوردة تخطب لنفسها من تشاء ولا يسع أباها إلا الموافقة؟»
وانتهى من هذا التفكير الجدي الرزين في ميمي إلى نهايته، ولم يخالجه شك في أن ميمي ستفرح حين تعلم أن رأيه استقر على الزواج منها، وقد خاطب أمه في الأمر ففرحت، وحدث أخته ففرحت، وكاد يحدث الخادمة، وفي يقينه أنها لا شك ستفرح؛ فقد ربيت - أي الخادمة - في بيته.
كل امرئ فرح إلا ميمي، حين كلمتها أمه، وفي قولنا إنها لم تفرح شيء من التساهل في التعبير، ذلك أنها فرحت لأن هذا هو الذي كانت تطمع فيه وتتطلع إليه، ولكنها كانت تعلم أن طلبة يحب وردة، وآلمها أن يشقى طلبة، وأن تغدر به وتخونه وردة، وسرها أنه لم يفز بها، وحز في نفسها أن طلبة إنما انثنى إليها ورغب فيها لأن أمله في وردة خاب، وكان هذا أوجع ما عانته من الإحساسات، وتنازعتها الرغبة في إرضاء حبها بالقبول، والرغبة في إرضاء كبريائها بالرفض، وكانت أحيانا تميل إلى الرفض وهي تشتهي ويكاد قلبها يتمزق من فرط الحب، ثم تميل إلى القبول، ولكن الألم يمزق أعصابها ويتلفها، فتبكي.
وترى الأم والأخت هذا منها فتستغربان وتنكران هذا البكاء، ويخطر لهما تارة أن هذا البكاء بكاء السرور، وتارة أخرى أن ميمي لا تريد طلبة زوجا لها، ولكنها لا تستطيع أن ترفض لأنها يتيمة لا أهل لها ولا بيت إلا هذا ...
وكان هذا بعض ما خطر لميمي وقطع قلبها، وزادها حيرة، فهي إذا قبلت الزواج لا يسعها أن تنسى أن قلب طلبة مع وردة، وإذا رفضت، فقد قضت على حبها ووجب عليها في هذه الحالة أن تترك البيت، ولكن إلى أين في هذه الدنيا الطويلة العريضة الزاخرة بملايين الخلق، والتي تضيق مع ذلك بفتاة واحدة؟
وطال التردد، ومضت الأيام، والكل حائر، حتى طلبة بدأ يستغرب وظن أن ميمي لا تريده، وأنه كان مخطئا فيما توهمه دليلا على ميلها إليه وتعلقها به، وكان من فضل هذا أن صغا إليها بقلبه، شيئا فشيئا أيضا ... حتى كانت ليلة فناداها، فلما دخلت عليه صارحها بما نابت عنه أمه من قبل في الكلام فيه.
فقالت له: «لا ... إنك تحب وردة، فأنا لست لك.»
قال: «أهو هذا؟» وسرته هذه الغيرة وأيقن من حب الفتاة وقال: «اسمعي يا ميمي، لقد كنت أتوهم أني أحب وردة، ولكن المرء قلما يعرف نفسه، ولو أني كنت أحبها بالمعنى الصحيح لما استطعت أن أسلوها بهذه السرعة، وقد كنت أعمى ... الدرة تحت عيني وأنا لا أراها ...»
فقاطعته: «لأنك لم تكن ترى إلا وردة.»
قال: «نعم، فلما خلت منها حياتي استطعت أن أنتفع بعيني، ومن واجبي أن أشكر الله، فلو لم أتعلق بوردة لما استطعت أن أفطن إلى الدرة التي كنت ذاهلا عنها ... وإذا كنت تحبينني كما أعتقد وأرجو، فإن من واجبك أن تحمدي أني افتتنت بوردة أياما، فكانت هذه الفتنة سبيل المعرفة ووسيلة الهداية ... أليس كذلك يا ميمي؟»
وأراد قلب ميمي أن يقتنع، فاقتنعت، ولم تندم قط بعد ذلك على أنها أطاعت قلبها ولم تطع كبرياءها، وقد كان من الممكن أن يكون الأمر على نقيض ذلك، ولكن طلبة كان صادقا حين قال إن فتنته كانت سبيل المعرفة، وإنه عرف نفسه بعد أن ضل قليلا ...
الخاتم
«خبئي خاتمي ... بسرعة.» «ماذا؟» «خذي ... أخفيه ... ألا ترين هؤلاء الثلاثة المقبلين في مثل ثياب الأوشاب؟ أسرعي ... يا لك من بلهاء! ... لا بأس، سأتركه هنا؟ فما أظن أحدا يلمس هذين أو يدس يده بينهما.»
ودست الخاتم بين ثديي أختها الناهدين الراسخين وتركتها ومضت.
وكان الثلاثة الأوشاب، أو الذين آثروا أن يتنكروا في هذا الزي يتنقلون بين السيدات على عجل، وينزعون عنهن ما يسهل نزعه من الحلي، ويتركونهن ما بين ذاهلة مفتوحة الفم جاحظة العين، ومغشي عليها من الخوف، وصارخة تستغيث وتصيح: «أدركوني ... يا بوليس.» وكان بعض الرجال قد حاولوا أن يصدوا هؤلاء الأوباش ولكن فوهات المسدسات ردتهم وأرخت أيديهم إلى جنوبهم وألصقت ظهورهم بالجدران.
وتقدم أول الثلاثة من جليلة، وهي واقفة تنتفض ولا تكاد تقوى ساقاها على حملها وترى الكرسي إلى جانبها، ولا يخطر لها أن تقعد لفرط ما انتابها من الاضطراب والجزع، وتناول كفيها ورفعهما وهو يتأملهما، ثم صعد عينه إلى وجهها وقال: «غريب، فتاة جميلة مثلك لا تلبس حليا؟ وهؤلاء جميعا محشودون هنا احتفالا بك؟ غريب؟!»
وهوى بكفيه إلى فخذيها يتحسس ثنية الجوربين عليهما عسى أن تكون قد خبأت هناك شيئا، ولما لم يجد شيئا انصرف عنها وهو يهز رأسه مستغربا، وغادر الثلاثة البيت، كما دخلوا من الباب، صفا واحدا لا متريثين، ولا عجلين، ولا متلفتين، كأنما كان دخولهم وتفتيش السيدات أمرا عاديا مما يحدث كل يوم، فعلت الأصوات وانطلقت، بعد طول الاحتباس، وتصادمت الأجسام بعد أن استردت قدرتها على الحركة.
ودخل صاحب البيت وهو ينفخ ويمسح العرق المتصبب، وانحط على كرسي فحف به الموجودون وألحوا عليه بالأسئلة، وهو لا يجيب، ثم انتظمت أنفاسه فقال: «اطمئنوا ... لم يضع شيء ... كل ما أخذوه ألقوه في الدهليز ... يظهر أنها مزحة، ألا قبح الله هذه المساكن الخلوية ... لو لم يكن بيتنا بعيدا من المساكن لما اجترأ هؤلاء الأشرار أن يركبونا بهذا المزاح البارد المزعج، ولكن لا بأس ... والآن سيداتي وسادتي، تستطيعون أن تعودوا إلى الرقص والمرح.»
وتفرق المدعوون يستعيدون ما فقدوا، وأقبلت «إحسان» على أختها تقول لها: «هاتي الخاتم يا جليلة ...»
ولم تتم كلامها، إذا صح أنها تريد أن نقول غير ذلك، فقد دخل بينهما في هذه اللحظة شاب في زي شيطان، وأحاط خصر جليلة بذراعه، وهو يقول: «هذه رقصتي.»
فهزت إحسان رأسها وقالت لنفسها: «لا بأس، ولا داعي للعجلة، فإن الخاتم في أمان ولن يخطفه مراقصها وإن كان عفريتا.»
وقال العفريت لجليلة وهو يطوف بها: «ما أحلى أن ترقص الشياطين والملائكة معا.» وصوب عينه وهو يهمس بذلك إلى صدرها، وكان يدنيها منه ويشد عليها، وكانت هي تحاول عبثا أن تتخلص من هذا الذي يشبه العناق، فخيل إليها أن حدقتيه الباديتين من ثقبي القناع تومضان ساخرتين، فتقول له بصوت كأنما براه الضعف والتفتر والخوف والرغبة، وهذا الحذر الذي صارت تحسه يدب في جسمها: «أرجو ... اسمح لي»، ثم تجيل عينيها فيما حولها وهي تحدث نفسها أن عليها أن تتفلت من أسر يديه فلا يزيدها ذلك إلا اضطرابا.
وأسر إليها: «آسف ... هل نخرج إلى الشرفة؟»
فقالت: «نعم ... من فضلك لا أريد أن أبقى هنا ... سأذهب إلى غرفتي.»
فقال: «سيكون ما تريدين يا عصفورتي الجميلة.»
وظل يراقصها وهو يتخلل بها المدعوين حتى خرجا إلى الشرفة، ثم مال بها يسرة حتى وقفا عند باب، وهناك انحنى عليها، وحناها على ذراعه، فانقطع رباط ثدييها، وسمع هو الصوت فابتسم واعتدل، ودفع أصابعه بسرعة وخفة والتقط الخاتم، وقال وهو يلثمها: «والآن أستودعك الله ... سأذهب أنا أيضا. فما أريد أن أراقص أحدا غيرك ... ولكني أرجو أن تقولي لإحسان حين ترينها في الصباح أن الشيطان لا ييأس ... وإلى الملتقى يا فتاتي الحسناء.» •••
واستيقظت جليلة عند الضحى، فكان أول ما تذكرته هذا الشيطان الذي لم تر وجهه، ولكنها لا تزال تشعر كأن ذراعه على خصرها، ودخلت عليها إحسان وهي تحلم بهذا وعيناها مفتوحتان، فاحتاجت أن تهزها - وإن لم تكن نائمة - لتردها إلى هذا العالم، وقالت: «الخاتم ... هاتيه.»
فأفاقت جليلة جدا لما دست أصابعها بين ثدييها فلم تجده، وقالت وهي تنهض وتهز قميصها وتنفضه: «لقد كان هنا ... لا أذكر أني أخرجته ... لقد كنت أرقص مع أحد ضيوفك (واضطرم وجهها لهذه الذكرى) ثم عدت إلى غرفتي ونمت ...»
فصاحت بها إحسان: «من كان هذا؟ إن المدعوين ليسوا لصوصا ... تذكري أين وضعته.»
قالت جليلة: «لا أعرفه، لقد كان في زي شيطان ... ورجا مني وهو يودعني أن أقول لك إن الشيطان لا ييأس.»
فقالت إحسان: «لعنة الله عليه ... لن أرى الخاتم بعد ذلك أبدا. لقد نجح حيث فشل لصوصه الذين جاء بهم.»
فقالت جليلة: «لست فاهمة ... إنه أحد الضيوف ... وإذا كنت تعرفينه فلا شك أنه سيعيد إليك الخاتم.»
فصاحت إحسان: «يا بلهاء ... إنه ليس ضيفا ... هو ابن زوجي ... أسعد ... وهذا خاتم أمه، وكان يريد أن يحتفظ به، ولكني أغريت أباه بأن يعطينيه، فهو يكرهني ويحقد علي، وقد فسد ما بيننا بعد ذلك فآثر أن يعيش وحده، فإن به غنى عن أبيه، ولا يزورنا قط ... والآن قد استرده ...» •••
ولم تر جليلة أن تنهض عن سريرها فبقيت مستلقية عليه تفكر ... إذن لم يكن أسعد يراها جميلة، ولم يكن يدعوها عصفورته، ويهمس في أذنها بألفاظه المعسولة إلا ليخدعها، وكان الخاتم همه الوحيد ... وكل ما يبغيه هو أن يسترده، على حين كانت هي لبلاهتها تتوهم أنه مفتون بها.
ودار في نفسها خاطر آخر أوجع وآلم، ذلك أنها عاشت إلى الآن بعيدة عن أختها أكثر الوقت لأنها كانت في المدرسة، فهل كان ما دفع أسعد إلى مغادرة بيت أبيه هو انتزاع الخاتم منه، وإيثار امرأة أبيه به عليه؟ ألا يمكن أن يكون قد رأى من إحسان ما جعله يفر منها حرصا على كرامة أبيه؟ ولكن جليلة نفت هذا الخاطر المنكر الذي أدارته الغيرة في نفسها.
ولكنها لم تكن مخطئة، فما فر أسعد من بيت أبيه إلا لأن إحسان تطارده فيه، وإن كانت لم تزد على التودد.
وهكذا اتفق في ذلك اليوم أن كانت اثنتان تفكران في أسعد؛ جليلة وهي راقدة على سريرها تتمنى أن يعود لتراه كما هو لا في زي شيطان، وإحسان وهي تروح وتجيء في البيت، تدعو الله أن يظل أسعد بعيدا مخافة أن يفتتن بأختها الحسناء الصابحة الوجه ...
ومضت الأيام، وفي نفس كل منهما أمنيتها، وكانت جليلة تجد نفسها على الأيام عاجزة عن إحسان الظن بأختها إحسان، وكان استبداد هذا الخاطر بنفسها وإلحاحه عليها على الرغم من مجاهدتها له وثورتها عليه، يثيران غيرتها ويدفعانها إلى العناد، فتأبى أن تقبل من أختها وزوجها شيئا، وترفض أن ترافق أختها إلى حيث تذهب، وتصر على البقاء، وتطيل خلوتها بنفسها.
وفي مساء يوم، دخلت غرفة المكتب لتعيد كتابا وتستعير غيره، فاتفق أن لمست أصابعها أوراقا على المكتب فأطارتها، فانحنت لتعيدها إليه فإذا بها تقرأ في واحدة هذه الرسالة الوجيزة إلى زوج أختها:
آسفة جدا، وقد تركت لك رسالة وردتني من أسعد وهي تقص عليك القصة كلها، فلا حاجة بك إلى شرح مني، فأستودعك الله.
إحسان
فقرضت جليلة أسنانها، ومزقت الرسالة على غير عمد منها، ثم نظرت إلى الورقة الأخرى التي ذكرتها إحسان في كتابها فقرأت فيها:
عزيزتي الجامدة المتعبة:
لقد يئست، وإنك تعلمين أني لا أستطيع أن أزورك في هذا البيت، ولكن في وسعك أنت أن تزوريني، ويجب أن تزوريني، فإن هناك أمرا أريد أن نتفق عليه، واعلمي أني لم أذق طعم الراحة مذ استعدت الخاتم.
ففهمت كل شيء، ولم يخف عليها أن هذه الرسالة لها، لا لأختها، ولكن الذي لم تستطع أن تفهمه هو أن تخاطر أختها على هذا النحو، وتهجر بيتها وزوجها وتذهب إلى من لا يريدها. إذن يجب أن تذهب هي إلى بيت أسعد لتتدارك الأمر، وتصلح الخطأ وتمنع الفضيحة.
ولم تجد عناء في دخول البيت بلا استئذان، فقد كان بيتا صغيرا، تحيط به حديقة، ومن السهل التسلل إلى أية غرفة، إذا كان هناك شباك أو باب مفتوح.
ودخلت حتى صارت في غرفة تتصل بأخرى بباب موارب، فوقفت ساكنة، فقد سمعت أصواتا، وإذا بأسعد يقول: «إني لم أكتب إليك هذه الرسالة، وأنت تعلمين ذلك.»
وقالت الأخت المغامرة: «بالطبع أعرف هذا، إن هذه الفتاة التي تفتنك وتسبيك وتسلبك لبك، لم تزد على أن تضحك مقهقهة لما قرأت رسالتك إليها ... إن قلبها من حجر ... أو هو لوح من الثلج ...»
فسألها: «هل تعنين أنها لا تبادلني حبا بحب، وأنها لا توافق على الزواج؟»
فضحكت وقالت: «إنها لا تشعر أنك موجود، فلا تخدع نفسك، وخير لك أن تقصر ...»
ونهض أسعد - فقد سمعت جليلة حركة تدل على ذلك - وقال وهو يتمشى في الغرفة: «إنك لست أختا لها ... لا يمكن أن تكوني أختها ... أنت ... أنت ... لا أعرف ماذا أنت، ولكني أعرف أنك ماكرة خبيثة، وكل عجبي أن تكون هذه الفتاة الطيبة الساذجة أختك ... مستحيل.»
وفي هذه اللحظة دق الجرس ففتح الخادم الباب، ودخل الزوج - زوج إحسان - يمشي بخطى سريعة، ومن حسن الحظ أنه دخل من ناحية أخرى فلم ير جليلة، وأبصر زوجته على أريكة، والسيجارة بين أصابعها، وابنه يتمشى مطرقا، فوقف ونظر منها إليه ثم قال: «هل هذه الرسالة منك يا أسعد؟»
فنظر إليها أسعد ثم قال: «نعم يا أبي.»
وفي هذه اللحظة خطر لجليلة خاطر بمثل سرعة البرق، ففتحت الباب وهي تقول: «هذا أنت ... أوه ما هذا الذي بيدك ... رسالة أسعد إلي؟ أشكرك ... لقد خفت أن تكون قد وقعت في يد أختي، فتتبعني إلى هنا.»
فنظر الرجل إلى الرسالة التي في يده، ثم رفع عينيه إلى ابنه، وتنفس الصعداء، ثم التفت إلى جليلة وسألها: «أهي رسالة منه إليك؟»
فقالت: «بالطبع، ولمن تكون غيري؟ إن أختي لا تحبه، فهو لا يجيء إلى بيتك، ولهذا طلب مني أن أجيء أنا إليه، ولما رأيت أن أختي جاءت اختبأت، لأن أسعد أشار علي بذلك ووعد أن يتخلص منها بسرعة فإنها تعترض جدا على أن أتصل بأسعد.»
وهنا تناول أسعد يد جليلة وقال: «إذا كان لا مانع عندك يا أبي من زواجنا، فأرجو أن تقنع زوجتك بالموافقة.»
فقال الرجل: «إن اعتراضها لا يمكن أن يكون إلا سخيفا، تعالي يا إحسان، لماذا لم تحدثيني بكل ذلك من قبل؟ كان يجب أن تشاوريني؛ فإن جليلة كبنتي ولها علي حقوق. على كل حال حصل خير ... تعالي نخرج ... ولندعهما ...» •••
وسأل أسعد: «أظنك لم تري رسالتي إلا بعد أن خرجت أختك؟»
فقالت جليلة: «صحيح، وقد مزقت كتابها إلى أبيك، ولكنها لا تعرف ذلك فستظل قلقة لا تدري هل عرف زوجها أنها همت بهجره أو لم يعرف.»
فقال أسعد: «إن هذا القلق أقل ما تستحق، هاتي قبلة، ولنخرج إلى السينما ...»
ونزع الخاتم من أصبعه ووضعه في أصبعها.
ليلة حافلة
منذ نحو ربع قرن - فقد صرنا نحسب مسافات الزمن بأرباع القرون! مات لنا قريب شاب، أبوه من سراة الريف، فرافقنا رفاته على قطار خاص إلى البلدة، وكانت العادة في تلك الأيام أن يظل المأتم قائما أسبوعا أو أربعين يوما، وكنت يومئذ مدرسا، وكان الوقت صيفا، والمدارس موصدة، ففي وسعي أن أشاطر القوم حزنهم إلى آخر المدى، فجاءني يوما شاب من أقربائي، وانتحى بي ناحية وأسر إلي أن أخته تكاد تموت جوعا، فعجبت، فإن الخير كثير والطعام وفير، وما يذبح كل يوم من الخراف والعجول يكفي جيشا. فأخبرني أن الموائد توضع ثم ترفع كما هي، لا تمتد إلى ما عليها يد، وأن أخته تستحي أن تتناول شيئا، ولكن نساء البيت بعد ذلك يتسللن إلى حجرة قصية؛ فيقبلن على الطعام ويلتهمن منه ما لا يحسب الحاسب، فهن يمسكن عن المطعم علانية ويمترن منه سرا، وأخته تنظر وتتحسر، وقد التوت أمعاؤها من الجوع. ثم سألني: «والآن ما الرأي؟ أشر كيف تأمر!»
فقلت له: «دع هذا لي.»
وللشباب جمحاته وحماقاته. ركبت إلى مدينة قريبة، فاشتريت شيئا من الرقاق الملفوف باللحم، ومربى، وألوانا من الحلواء، وأرغفة، وعدت وأنا أقول لنفسي: «هذا شيء ينفعها إذا نام الليل.» ولم يكن من السهل أن أدخل البيت ومعي هذا الحمل تحت عيون هذا الخلق كله، وماذا عساي أن أقول إذا سألني سائل عما لف عليه الورق؟ لهذا اضطررت أن ألف، وأدور، وأختبئ هنا وههنا، حتى تيسر لي أن أبلغ غرفتي من غير أن يراني أحد، وبقي أن أنتظر حتى يقبل الليل، وتنقطع الرجل، فأحمل هذه الربطة إلى حريم الدار، والله المسئول أن يوفقني إلى الوصول إلى قريبتنا الطاوية، وأن يقيني عواقب هذه المجازفة؛ وهل أعدم خادمة تدعوها إلي أو تحمل إليها هذه الرسالة.
وجاء الليل، وقمنا إلى المخادع، وكان لي في غرفتي شريك، فذهبت أدخن سيجارة بعد سيجارة، حتى علا شخيره، ففتحت الباب وأرهفت أذني، فلم أسمع شيئا، فتوكلت على الله، وأقدمت - أعني مشيت - مترفقا حتى خرجت من هذا البناء المهيأ للضيوف إلى صحن واسع يفصل حريم الدار عن ثوي الرجال، وكان الليل طاخيا، فلم أزل أتخبط حتى لمست بابا توهمته باب المنزل فدخلت، ولكني لم أجد سلما أرقى فيه، فاستغربت ورحت أدور بالمكان، ويدي على الجدار، فكنت أجد أبوابا، بعضها مفتوح، والبعض موارب أو مغلق؛ ولكن لا مرقاة، فقلت: أخرج من هذا التيه، وتركت الجدار واندفعت، ويداي أمامي لتتلقيا عني الصدمة إذا بلغت حائطا أو شبهه، وإذا باللفافة التي معي تلمس جسما فيسقط منه شيء على الأرض فأفزع، وأدع اللفافة تهوي، ثم إذا بواحد يهجم علي فأقع ونتدحرج معا على البلاط، وهو ممسك برجلي يريد أن ينزعها، وأنا أدفع في بطنه، حتى تخلى عن رجلي فدرت على ركبتي، وقد أيقنت من صمته أنه غريب واغل يتلصص، وألفيت يدي على عنقه، فأخذت بخنقه، فلكمني بجمع يده فانقلبت على ظهري وقد تخليت عن رقبته، فانقض علي، فضربت برجلي فأصبت جنبه، فمال عني فنهضت على ركبتي وجعلت أضرب بيدي، ولكن في الهواء، حتى لمست رأسه فقبضت على شعره وجذبت بكل ما في من قوة، فنطحني في بطني فانثنى بعضي على بعض، فركلني برجله، فتدحرجت كالكرة، فعدا يريد أن يجهز علي، فأخطأني وخبط الباب برأسه فكان قنبلة انفجرت في سكون الليل، وإذا بصوت رجل يصيح: «مين ...؟»
ثم انقطع الصوت، لأن صاحبه على ما يظهر داس بعض الطعام الذي تبعثر في المكان، فتزحلق فوقع على الأرض كالحجر، وكنت أنا قد نهضت ولمست يدي بابا ففتحته ودخلت، وأنا أسوي شعري وأمسح وجهي وأنفض التراب عن ثوبي، وكانت هذه لحسن الحظ غرفتي، فقد سمعت شريكي فيها يقول وهو يثب عن السرير: «ما هذه الأصوات! ماذا جرى؟»
فقلت - وقد ارتدت إلي نفسي: «لا أدري ... يظهر أن هنا لصا، قم لننظر.»
فصاح: «لص؟» وأسرع إلى الشباك فنادى. «يا ولد! يا مخيمر! يا مخيمر!»
وفتحت الأبواب، وأطلت منها رءوس النوام - أو الذين كانوا نواما - وكثر اللغط، وعلت الضجة، واختلطت الأصوات، وصار هذا يسأل عن الخبر، وذاك يدعو مخيمر وغيره ممن نسيت أسماءهم من الخدم، وثالث يصيح أن هاتوا نورا، ورابع يقول أين المصباح؟ وخامس يسأل محتجا: «أليس مع أحدكم عود ثقاب؟»
وفي أثناء ذلك كان الذي وقع قد لامس خده المربى التي انكسر وعاؤها فسالت، فلم يخالجه شك في أن قتلا حصل وأن هذا دم القتيل، فكاد يموت من الرعب، ولزم مكانه ولم يحاول حتى أن يرفع خده عن المربى، وجاء مخيمر يحمل بندقيته، ووراءه كثيرون غيره، وفي يد أحدهم مصباح، تقدم به - في حماية البندقية - وإذا بنا نرى «وكيل» صاحب البيت، مطروحا على وجهه، ويداه ممدودتان، وخده لاصق بالمربى، وهو يرفع رأسه وينظر محاذرا، ثم كأنما اطمأن قليلا فجعل يطرف، ويدير عينه، فيبصر الوعاء وما سال منه، فيمسح بعضه عن خده وهو ينهض، فتجمعنا حوله وحففنا به، وجعل بعضنا ينظر إلى بعض مستغربا متأففا، منكرا على هذا «الوكيل» الشره، ألا يكون له هم سوى بطنه، وأن يزعجنا في فحمة الليل بهرسه ومحاولته إخفاء ما يأكل.
ونظر إليه صاحب البيت نظرة سخط واشمئزاز، وقال له: «ما هذا؟ مربى، ورقاق، لم أكن أعرف أنك مبطان نهم إلى هذا الحد؟ وقليل الذوق أيضا؟ حلواء في مأتم! أفلا انتظرت حتى ينفض المأتم؟ أم شامت أنت بي؟ لعنة الله عليك وعلى والديك! قم ... قبحك الله! ولا ترني وجهك!»
فهم الرجل بأن يقول شيئا، فقد كان مظلوما ولا ذنب له، ولكن سيده أبى أن يسمع والتفت إلينا وقال: «إن هذه فضيحة والله! الخير كثير والحمد لله، وفي وسعه أن يأكل ما شاء، ويشبع، إذا كان يمكن أن يشبع، فانظروا ماذا صنع؟ وبأي شيء يجزيني وقد ربيته وكفلته ولم أزل به حتى جعلته وكيلا لي، وأمينا على أملاكي! يشتري حلواء ومربى ورقاقا ليأكلها خفية في مأتم ابني! اخرس يا كلب! ولك وجه تقابلني به يا كافر النعمة! والله لولا أنك حقير لأفرغت في قلبك الآن الرصاص. امش ... اخرج من عندي ...»
فقلت: «شيء فظيع!»
وارتددت إلى غرفتي ساخطا. •••
ولبثنا ساعة نمزق أديم هذا الوكيل الشره الجحود الذي يأبى إلا أن يأكل حلواء في مأتم ابن سيده! وأصبح الصباح فاستأنفت ألسنتنا هجوه وذمه، وكنت أشعر بعطف عليه ومرثية له، ولكني لم أكن أستطيع أن أذكر الحقيقة فأحول إلى نفسي كل هذا اللعن الذي ينصب على رأسه، ودنا مني الشاب قريبي الذي كان سببا في كل هذا، وسألني همسا: «أتعرف حقيقة ما حصل أمس؟»
قلت: «لا، ولا أزال مستغربا ما كان من هذا الوكيل.»
قال: «إنه مظلوم!»
قلت: «يا شيخ! كيف يمكن أن يكون مظلوما وقد رأيناه بأعيننا؟»
قال: «والله إنه لمظلوم!»
قلت: «ربما يا أخي! العلم عند الله!»
قال: «فينا من يكتم السر؟»
قلت: «لا تخف. إن صدري بئر لا قرار لها.»
قال: «لقد احتلت حتى جئت بشيء من اللحم والخبز، ولففته في ورقة، وكنت أريد أن أصعد به إلى أختي بالليل، ولكني اصطدمت بواحد كان يريد أن يقتلني ...»
فقلت مستغربا: «يقتلك، لماذا؟!»
قال: «لا شك أن هذا كان قصده، فقد كان همه أن يقبض على عنقي ويضغط، وكان يحرص على الصمت حرصا شديدا، وعندي دليل آخر: ذلك أنه لم يكد يسمع صوت الوكيل يصيح «مين» حتى اختفى فجأة!»
فسألته: «ماذا منعك أن تستنجد؟»
قال: «وأفضح نفسي؟ ماذا يقولون عني إذا رأوا معي هذه الأطعمة؟ لقد كان كل همي أن أتخلص وأرتد إلى غرفتي.»
قلت: «وكيف خطرت لك هذه الفكرة السخيفة؟»
قال: «ليست سخيفة. إنها طبيعية، أول ما يخطر للمرء.»
قلت: «وهل كان من الضروري أن تجيء بمربى وحلواء؟»
قال: «لم أجئ بها، وهذا هو اللغز الذي يحيرني.»
قلت: «فمن أين جاءت إذن؟ الوكيل طبعا!»
قال: «لا أصدق، لقد كان خارجا من غرفته لينظر ما الخبر.»
قلت: «صحيح، الحق معك.»
قال: «إذن من أين جاءت؟»
فصحت به: «وهل أنا أعرف؟ ألا يكفي فزعنا بالليل حتى تحطم لي رأسي بالنهار؟»
فاعتذر ومضى عني.
وسعى الوكيل بعد أيام أن يسترضي سيده.
والغريب أن قريبي نسي أني وعدته أن أنقذ أخته، ولو تذكر لعرف من أين جاءت المربى والرقاق، ولأدرك أن الذي اشتجر معه في الظلام لم يكن قاتلا متربصا، وإنما كان قريبه.
رواية ورواية
قال محدثي: كنت في ذلك الوقت غارقا في دروسي، فقد رسبت - كما تعلم - في الامتحان، وأبيح التقدم له مرة أخرى، فعدت من البلد ونزلت على أقربائي هؤلاء وشرعت أستعد لأداء الامتحان في المواد التي أخفقت فيها، وكانت أربعا تضاف إليها ثلاث أخرى اخترتها طمعا في «المجموع»، فعكفت على دروسي وأقبلت على تحصيلها، وما أكثر ما كنت أفني ليلي بالسهر في مراجعتها! فكانت «سميحة» تزجرني عن ذلك وتقول إن سهر الليل يهد القوى ويكثف العقل، وأن عمل النهار أوفر عائدة وأرفق بالجسم والعقل، وكانت هي قد فازت «بالبكالوريا» ولم تتلكأ عندها مثلي، ووثبت منها إلى كلية الطب، ولم تكن قد قضت فيها غير عام واحد، ولكنها - مذ التحقت بها - أصبحت تتحدث عن الصحة والعلل وطبابها كأنها جالينوس، وكنت أحبها غير أن دروسي شغلتني عنها، وكانت معي في البيت فلا داعي للشعور بالوحشة وفراغ الدنيا حول المرء، وكنت إذا تعبت أقوم فأتمشى في البيت وأدور بالغرف - فما ثم غيرها - وقد أتلبث شيئا عند سميحة وهي مستلقية على سريرها - أو على الأصح نائمة كقاعدة فوقه - وفي يدها قصة تزجي بها الفراغ، وكانت تحب الروايات البوليسية مثلي، فلا يفوتها شيء مما ينقل إلى العربية في هذا الباب، وأنا مثلها وعسى أن يكون هذا هو الذي دهورني ولكنه لم يدهورها، فلا أدري ما علة إخفاقي وسر نجاحها ... لا تعترض ... إني أعرف ما تريد أن تقول ولهذا أقول لك إنها ليست أذكى مني وإن كان لا يسعني إلا أن أعترف أنها أمضى عزما وأقوى إرادة وأقوم طريقا إلى غايتها حين تكون لها غاية، وما أظن بها إلا أنها أرادت أن أعشقها فعشقتها، ولكن الذي يحيرني أنها تأبى علي راحة القلب واطمئنان البال، ولا تنفك تظهر لي النفور من هذا الحب والكراهة له والزهد فيه، وأحسب أن هذه هي طباع المرأة، فهي تعني «أريد» حين تقول «لا أريد» ... ما علينا ... انتهى الامتحان واستطعت أن أنام مرتاحا، ووسعني أن أدير عيني فيما حولي، وأن أجعل لقلبي حظا بعد طول الحرمان، ولكن سميحة كانت تنفيني عن البيت وتقول لي إني أتلف صحتي ، فبي حاجة إلى الهواء الطلق، وكان هذا صحيحا لا شك فيه، ولكن هذه «الأستاذية» التي كانت تتكلفها معي كانت تثقل على نفسي، وكانت تخرج معي أحيانا، ولكن كما يخرج المعلم مع تلاميذه الصغار إلى حدائق الحيوان أو مرصد حلوان، فلا أشعر أني مع الفتاة التي أحبها، ولا أجد متعة أستفيدها من هذه الرحلات التي يطيب فيها الغزل عادة، والتي كنت أمني نفسي وأحلم، وقد قلت لها مرة ونحن في حديقة الأرمان: «يا ستي ما هذا الحال المقلوب.»
قالت: «أي حال ... ما لك ...؟»
قلت: «لكأني أسير مع شرطي.»
فلم تضحك - وكنت أظنها ستفعل - فغاظني ذلك فقلت: «أليس حالا مقلوبا أن نضحك في المطبخ ونعبس في الحديقة الحالية ...؟!»
فسألتني مستغربة: «المطبخ ... متى ضحكنا في المطبخ؟»
فقلت لها بضجر: «لا تكوني حرفية ... إنما أعني البيت وأنت تعرفين ما أعني فلا تغالطي.»
قالت: «إن البيت ليس من مرادفاته المطبخ.»
فسكت ولم أقل شيئا - وماذا عسى أن أقول؟
وحدث مرة أخرى وكنا معا - على ما يبدو للناس أما في الحقيقة فقد كان كل منا وحده - فضاق صدري فقلت: أرفه عن نفسي بالغناء، فرفعت صوتي وانطلقت أغني:
يا بت أنا بدي أبوسك
بس أبوسك
وأطرب وأحظى بكئوسك
رقي شوية
فلم يرعني إلا قولها: «ليس أضر من الخمر ولا أقتل.»
فقلت: «يا ستي إن المراد بالكئوس هنا الشفاه الرقيقة وبالخمر الريق العذب.»
فقالت: «اخص ...»
فقلت مندهشا: «اخص ...؟»
قالت: «اخص ...»
قلت: «طيب ...»
وهذا يريك من أي معدن صيغت سميحة، ولكني على هذا كنت أحبها حبا عظيما؛ لأني كنت واثقا أن هذه قشرة نشرتها كلية الطب على صفحة معدنها الصافي، وستزول ولا شك مع الأيام.
وصح ظني، فقد كانت - كما قلت لك - تحب الروايات البوليسية حبا جما، وكنت قد فرغت من الامتحان كما أسلفت فوسعني أيضا أن أعود إلى هذه الروايات، وكان قد صدر منها أخيرا رواية طويلة في مجلدين اسمها «السم في الدسم»، فاشتريتهما وغرقت فيهما - أعني في المجلد الأول - واستغنيت بهما عن هذه النزهات والرحلات التي لم أكن أفيد منها أي متعة، بل كنت أفيد منها التنغيص، وكنت أخفيهما عن عينها مخافة أن تسطو عليهما، وكانت الرواية قد نفدت بسرعة فلا سبيل إلى نسخة أخرى غير التي كانت معي إذا هي ضاعت فلا عجب إذا كنت قد حرصت عليها وضننت بها، ولا أكتمك أن نفسي حدثتني أن أعذبها - أعني سميحة - بعد أن أفرغ من الرواية وأعرف سر الجريمة، وذلك بأن أخايلها بها وأحرك نفسها لها، ولا أمكنها منها، ولماذا لا أعذبها كما عذبتني! ... ثم إن تعذيب المرأة أحيانا لا يكون من القسوة، فقد وجدت على ضآلة تجربتي وقلة خبرتي أنها تستحلي هذا - أعني المكايدة - إذا لم تخرج إلى الإيلام ولم تجاوز الحدود المعقولة ... ومع ذلك من يدري فلعلها تستعذب العذاب بلا قيد أو شرط ... لا أدري.
وفي أحدى الليالي عدت من مأدبة كنت مدعوا إليها مع لفيف من إخواني وأندادي أقيمت لتوديع واحد منا مسافر إلى إنجلترا لإتمام تعليمه هناك، فلما رجعت إلى البيت دخلت غرفتي وأنا أمني النفس بساعة جميلة أقضيها مع الروائي البارع الذي أبدع ذهنه صوغ هذه القصة الممتعة، وإذا بها قد اختفت ... وكنت قد دسستها بين المرتبتين المطروحتين على السرير، فإن أقاربي هؤلاء يخافون الفيران والصراصير فيكدسون المراتب على السرر فتعلو جدا ويحتاج المرء إلى كرسي يصعد عليه، ولم أشك في أن سميحة سرقت روايتي وأنها تنعم بها في سريرها على عادتها حين تريد القراءة، وكانت الساعة الحادية عشرة فقدرت أن تكون قد قطعت مرحلة طويلة وبلغت العقدة التي لا يمكن أن يستريح القلب إذا لم يقف على حلها، فمضيت إلى غرفتها ونقرت ودخلت فقالت: «نعم، خير إن شاء الله.» فقلت وأنا أرفع نفسي لأجلس على حرف السرير - فإنه عال كما قلت لك:«أوه لا شي ... إنما جئت لأتحدث معك قليلا.»
قالت بجفوة: «ليس هذا وقت الحديث فقم من فضلك.»
قلت: «بل قولي إنك تقرئين رواية السم في الدسم ... أليست بديعة؟»
فاطمأنت، لظنها أني فرغت منها ففي وسعها الآن أن تمضي في قراءتها من غير أن تخاف أن أقطع عليها - بالسرقة أو الخطف - حلاوة المتعة، ورأيت أمارات هذا الاطمئنان في وجهها ففرحت، فإن الانتقام يكون أوقع إذا خيب أملا قويا، وأطلت الحديث فسئمت واشتهت أن تعود إلى روايتها وقالت: «هل تنوي أن تنام هنا الليلة ... إذا كنت تنوي هذا فقل لي لأنتقل إلى غرفة أخرى.»
ونهضت عن السرير ومضت إلى الشرفة ففتحتها وأطلت منها، فلمحت الرواية تحت الوسادة فما أسرع ما دسستها في جيبي ثم قلت وأنا أمضي إلى الباب: «إذا كنت تكرهين وجودي إلى هذا الحد فإني ذاهب إلى حيث ...»
فقالت من الشرفة: «ألقت»، وضحكت.
فلم يسوؤني ذلك، فإن الذي يضحك أخيرا يضحك كثيرا كما يقول الإنجليز على ما حدثنا معلمنا. وأوصدت باب غرفتي بالمفتاح واستوثقت منه بهزه مرارا وبقوة لأرى هل يستطيع محنق مغيظ أن يكسره، ثم قعدت على كرسي وراء الباب ورحت أنتظر.
ولم يطل انتظاري فقد اهتز الباب، فصحت وأنا أتكلف الفزع: «من؟»
قالت: «افتح من فضلك.»
قلت: «إذا كنت تنوين أن تقضي الليل في هذه الغرفة فقولي لي لأنتقل إلى سواها.»
قالت: «لا تكن فظا ... لماذا سرقت الرواية ...؟»
قلت: «بضاعتنا ردت إلينا ... هل عرفت من القاتل؟ ... لعلك تظنين أنه «رودلف» ... كما كان المحققون يتوهمون ... كلا يا فتاتي ... إن السر أعمق وأخفى من ذلك وإن الروائي لبارع حقا ... والآن أرجو أن تذهبي فقد بلغت الفصل الذي يشقى صبر المرء إذا لم يتمه في مثل لمح البصر ... اذهبي ونامي يا حبيبتي واحلمي بالصيني فإن له لدخلا في الأمر وعلاقة بالسر.»
قالت: «صحيح؟»
قلت: «طبعا ... لقد عرفت ذلك منذ دقيقة واحدة.»
قالت: «ألا تخبرني من القاتل؟ ... إني أكاد أجن ولا أستطيع أن أنام حتى أعرف هذا، فكن لطيفا وأخبرني.»
قلت: «حتى تكوني أنت لطيفة.»
قالت: «ماذا تطلب؟ ... قل وخذ، وهات الرواية.»
قلت: «الرواية كلها ... لا ... إن ثمنها غال جدا ... على أني بعد التفكير العميق أرى أن المساومة لا تليق ولهذا أرفض كل ما تعرضينه كائنا ما كان.»
قالت برقة: «ترفض أن تعلم أني ... أني ... أني ... أحبك (بصوت خافت).»
فانتفضت واقفا وصحت: «إيه؟»
قالت: «لا تصح هكذا ...»
ووضعت فمها في ثقب المفتاح وهمست: «يا عبيط ... إني أحبك ... هل تفهم ... وأنوي أن أتزوجك على رغم أنفك ... فنضع لهذه المنافسة السخيفة حدا ونستطيع أن نقرأ الروايات البوليسية كلها معا ... تقرأ لي فأسمع ... وأقرأ لك فتسمع.»
فاعترضت وقلت: «ولكني قد أحب أن أسرع وأقلب بضع صفحات ليطمئن قلبي، أو تحبين أنت ذلك فيقع الخلاف.»
قالت: «كلا ... على كل حال ... سأكون واثقة أن الرواية باقية في البيت، فأنا أتعهد لك أن أقدمك على نفسي وأتركك تسرع أو تبطئ كما تحب ... وحسبي أن تترك لي فتات المائدة.»
فأثر في نفسي هذا الإخلاص والإيثار ... وأي إيثار أعظم وأي تضحية أكبر من أن تتركني أقرأ - أو أتم - رواية بوليسية قبلها ...؟ هذا إخلاص وإيثار لم يسمع - أو على الأقل لم أسمع أنا بمثلهما - فلا عجب إذا كنت قد فتحت الباب بسرعة وفتحت مع الباب ذراعي لها فدخلت في ذراعي قبل أن تدخل من الباب.
وكان لا بد أن أجزيها إخلاصا بإخلاص وإيثارا بإيثار، فقدمت إليها الرواية وقلت: «اقرئيها قبلي يا نور العين.»
كيف حفرت بئرا ... لنفسي؟
شقراء، ذهبية الشعر، لا أدري كيف أنبتتها هذه الصحراء! ومن بنات الفقراء، ولكن لها دلا وأناقة تخطئهما عند اللواتي نشأن في كنف النعمة والترف والثراء، وفي كلامها خفة وهزج، وفي مشيتها تبختر لا يثقل، وميس ليس من الاختيال، وكانت ترسل شعرها الوحف ولا تفرقه أو تضفره أو تعقصه، بل ترده عن جبينها الوضاء وتحسر جمته عن أذن، وتستر به أذنا، ولا تثبته بالأمشاط أو الدبابيس ولا تعصب رأسها بالمناديل، فإذا عبث به الهواء وأسال قصتها على وجهها رفعت الشعرات بأصبعها أو نحتها عن أذنها، وكنت لا أراها تبتسم إلا خيل إلي أنها ترى حلما يسرها فيثب قلبي إلى حلقي، وأجد حر النار في كفي.
وكان بيتي في ذلك الوقت «على تخوم العالمين»، وكانت له حديقة صغيرة جعلتها شغلاني، وكان الماء كثيرا وثمنه زهيدا، لا يتجاوز خمسة عشر قرشا في الشهر بالغا ما بلغ ما أجريت منه، فكنت آخذ كفايتي منه وأسنه على وجهه للجيران، وكانت هذه الشقراء تجيء كل مساء بجرة فتملؤها مرة أو اثنتين أو عشرا - كما تشاء - فأقف لها وأحادثها وأساعدها على رفع الجرة إلى رأسها، ولم تكن هي الوحيدة التي تستقي، ولكنها كانت أبرعهن شكلا وأخفهن على الفؤاد، وكانت تأنس مني الميل إليها والإعجاب بها، فتطيل الوقوف معي أحيانا، أو تتولى عني عزق الأرض، أو بذر الحب أو سقي الزرع، واجتزاز الكلأ والعشب والحشيش أو نزع ذلك بأصوله، وكانت أعرف مني بذلك كله وأخبر، وكانت تضحك مني لجهلي فتقول لي مثلا: «ألا تحش هذه الملوخية؟ لقد كادت تكتهل.»
فأقول: «ملوخية؛ لقد طرحت هنا حب فجل فكيف تخرج الأرض ملوخية؟»
فتقول: «كلا؛ هذه ملوخية وقد بلغ نبتها المدى؛ فاختضرها وإلا فسدت.»
فأقطع ورقة وأمضغها فأجد طعم الملوخية ولا أجد طعم الفجل، وكنت أهمل أن أكتب أسماء البذور على الورق الذي أحفظه فيها، وأعتمد على الذاكرة والذكاء فيختلط علي الأمر، وأروح أظنني زرعت جزرا فإذا هو خيار، وكنت لجهلي ألقي البذر ولا أعنى بإعداد الأرض وإخلائها من الحجارة، وكانت أرض الحديقة جلدة في مواضع كثيرة وفي بطنها حجارة غليظة مختلطة بطينها. فلا يخرج شيء مما يقع على هذه الجلاميد، فكانت الشقراء تنبهني إلى ذلك وتعرفنيه، وكنت ربما تركت في الشتاء ما لا يبقى عليه أصله، وقلعت ما يبيد الشتاء فرعه ويبقي أرومته، فتصلح لي من خطئي ما يتيسر إصلاحه، ولم أكن أعرف الفرق بين ما يسمو من النبات صعدا ويستغني بنفسه، وما يحتاج، وهو يسمو، إلى ما يتعلق به ويرقى فيه، وما ينسطح على وجه الأرض، فأغرس الأعواد لما ينبت مفترشا، وأدع ما يحتاج إلى التعلق بلا عصب؛ فكانت هي تعلق وتقوم المعوج وتعالج ما أفسدت.
ثم حدث أن شركة الماء وضعت لنا في البيت «عدادا» يحاسبنا على القطرات بعد أن كنا نأخذ بلا حساب، ولا ننقدها في الشهر إلا خمسة عشر قرشا . فأرهقني هذا «العداد» وكلفني فوق ما أطيق، وصرت بين أمرين: إذا أبقيت على الحديقة جعت وتضورت، فإن أرضها كثيرة الرمل يذهب فيها الماء ولا يبقى منه للنبات ما يكفيه. فحاجتها إلى السقي لا تنقضي، وإذا أنا ضننت بالماء ذهبت الحديقة، فشق علي ذلك واشتد همي، وطال وجومي من جرائه، ورأت هي اغتمامي وسهومي فسألتني فأفضيت بشجني، فقالت: «احفر بئرا.»
قلت: «إيه؟ أحفر بئرا؟»
قالت: «نعم. ماذا يمنع أن تفعل؟»
قلت: «يمنع أن هذه أرض مضرسة؛ حشوها حجارة ولا يمكن أن يكون في جوفها ماء.»
قالت: «من أدراك؟ إني أعتقد أن في أرضك ماء غزيرا.»
قلت: «أما الحرث والزرع فشيء عرفنا أنك تعرفينه؛ وإن كنت لا أدري من أين جاءك هذا العلم، وأما الآبار وحفرها ...»
فقاطعتني وقالت: «أظنني أستطيع أن أدلك على موضع العين في هذه الأرض. غدا في النهار أختبر الأرض وأجسها.» •••
وفي عصر اليوم التالي جاءت وفي يدها عود على هيئة اللام ألف، ولكن في ساقه - قبل موضع التشعب - طولا، وقالت: «انظر، سأجس الأرض بهذا.» ورفعته لعيني.
فقلت: «وكيف تصنعين؟ إنه غصن لا أكثر.»
قالت: «هو حسبي، وما أعرفه خذلني أو كذبني قط، ولكن عهدي بهذا الجس بعيد وأخشى أن أكون قد فقدت القدرة على استنبائه.»
قلت: «استنباؤه؟ أويقول لك هذا الغصن أين منبع الماء في جوف الأرض؟»
قالت: «نعم، وسترى بعينيك إذا وفقني الله.»
وأقبلت على الأرض تجسها شبرا شبرا، وكانت تضع العود على الأرض كأنها تغرسه فيها وتسنده بأصابعها وتنظر إلى شعبتيه برهة، ثم ترفعه وتقدمه خطوة أو خطوتين، وهكذا يمينا وشمالا حتى رأيت إحدى الشعبتين تميل قليلا فعجبت.
فقالت: «هنا ماء ولكنه قليل.»
ومضت تنقل العود من مكان إلى مكان حتى بلغت الجدار الآخر، فقالت: «يخيل إلي أني سأخفق.»
فلم أقل شيئا، وماذا عسى أن أقول؟ لقد تركتها تختبر الأرض وأنا كافر بها - أعني بالفتاة وقدرتها على الاهتداء إلى منابع الماء في بطن الأرض - ولكني قلت إنه لا بأس علي من ذلك، وحسبي أني أقضي معها ساعة أنعم فيها بحديثها وبالنظر إليها، ولكن انثناء العود إلى الأرض، من تلقاء نفسه، ومن غير أن يمسه شيء حيرني، وصرفني عن الفتاة وجمالها، إلى هذه الظاهرة الغريبة.
وجعلت أقول لنفسي: «إذا كان كل ما يتطلبه الأمر أن يجيء بمثل هذا العود ذي الشعبتين، وأن يركزه أو يغرسه في الأرض، فإذا كان هناك ماء انثنى وحده فما أسهل ذلك ... وكيف غاب هذا عن الناس وفاتهم هذا العلم اليسير؟»
ولم أكتم هذا الذي دار في نفسي، فقالت بابتسام: «لا، إن المعول على اليد لا على العود.»
ولم أفهم شيئا، ولكني سكت، فقد تجهمت، وطال سكوتها وتقطيبها، وثبت حملاقها، وبدت لي كأنها تعصر نفسها عصرا، ثم قالت: «افتح هذا الباب.»
وكان باب حجرة مهجورة في فناء البيت، نحبس فيها الدجاج، ففتحته فدخلت وقالت: «انزع هذا البلاط.»
فأطعت، وتجشمت عناء شديدا، ولكني أمضيت لها مشيئتها، فحنت على الأرض وأقامت العود في ترابها، وإذا بالشعبتين جميعا - بعد هنيهة - تنثنيان على الأرض - عموديا - حتى لخيل إلي أنهما ستقصفان.
ونهضت، ومسحت العرق المتصبب، وقالت: «هنا يجب أن تحفر. الماء غزير، ولكنه بعيد، وماذا يهم؟ ستجد فوق الكفاية من الماء.»
ولم يخالجني شك في صدقها، فجئنا بعد أيام بالرجال فحفروا ووسعوا، واحتجنا أن نهدم الجدار الذي فيه الباب فأتينا عليه، وانحدر الرجال إلى أكثر من ستة أمتار، وقضوا في ذلك أياما طويلة حتى بلغ أحدهم حجرا فزحزحه بالمعول فأنبط الماء من تحته.
واستغنيت عن شركة الماء. •••
وقلت للفتاة: «لماذا جشمت نفسك هذا العناء؟»
قالت: «هو جزاء المعروف.»
قلت: «ليس إلا؟»
قالت: «وعز علي أن تضطر إلى تضييع الحديقة.»
قلت: «وماذا أيضا؟»
قالت: «لا أدري ماذا أيضا؟ غلبني شعوري.»
قلت: «ليس في وسعي أن أجزيك ...»
قالت تقاطعني: «لا تحاول ... حسبي أني أعدت إلى وجهك الابتسام.»
قلت: «اسمعي، إن الحديقة مدينة لك بحياتها، وأنا مدين لك بمعنى هذه الحياة، ولست أظنها تقوى على فراقك، ولا أنا يا فتاتي ...»
قالت: «لم أصنع شيئا.»
قلت: «أزخرت حياة كادت تجف وتذوي، فماذا يستطيع إنسان أكثر من هذا؟»
قالت: «كلا، كل ما صنعت أني وجدت ماء، وقد وجدته مائة مرة قبل اليوم، فلم أسمع مثل كلامك ... إنك تمزح ولا شك.»
قلت: «بل أنا جاد، لا غنى بي ولا بالحديقة عنك ... فما قولك؟»
قالت: «كلا، للحديقة صاحبها، ولك الدنيا، أما أنا فذاهبة.»
قلت: «ذاهبة؟ أين؟»
قالت: «غدا - أو بعد غد - يرحل أبي، وأنا معه، فما بقي ما يستوجب مقامنا.»
فدنوت منها ووضعت يدي على كتفها وسألتها: «أنت أوعزت إليه؟»
قالت، وهي مطرقة: «نعم، والآن أستودعك الله.»
فتعلقت بها فلم يجدني ذلك وقالت: «أنا بنت الصحراء، وأنت ابن المدينة ... لست لي، ولست لك ... وقد تركت لك الحديقة ... لتذكرني بها.»
وكان هذا آخر عهدي بها ...
ولكني لم أطق هذه الذكرى، ولم أعد أحتمل أن أرى الحديقة أو البئر التي حفرتها، فتركت ذلك كله وانتقلت إلى بيت آخر ... بعيد ... بعيد جدا، ولا حديقة له.
अज्ञात पृष्ठ