وإذا قسنا نضج العقل الإنساني على مستوى الفرد، فهل يكون كلامنا منطقيا، مثلا إذا قلنا إن عقل الطفل لم ينضج بعد؛ لأنه لم يزل طفلا، مع أن الطفل العادي يستخدم عقله - في حدود عالمه - الاستخدام الواعي، وهكذا يفعل وهو شاب ثم وهو رجل أو شيخ أو كهل.
ثم ما هي معايير النضج في رأيكم؟ هل هي الوعي بمواجهة الحياة بما تقتضيه من فكر ومن علم ومن دين؟ أم هي ماذا؟ وهل نقول إن سقراط - مثلا - أو أرسطو لم يكن عقله قد نضج بعد؛ لأنه لم يكن على علم بالأمور السماوية كما نعرفها نحن الآن؟ هل تقصد - إذن - بنضج العقل الإنساني حالة بذاتها، كأن يكون ناضجا بالنسبة لنوع من المعرفة وغير ناضج بالنسبة لأمور أخرى؟ وهل معنى هذا أننا نستطيع القول بأن العقل الإنساني بكل ما وصل إليه من علم طبيعي لم ينضج بعد بالنسبة لهذه الأمور؛ لأن العقل لا يزال يأتي في كل يوم بالجديد في هذ الأمور وحتى في الأمور الدينية، فإن العقل الإنساني ما زال حتى الآن، وسوف يظل غير مدرك بقناعة كافية لبعض هذه الأمور، وما زال الفكر يأتي في كل يوم بما يعين على فهم أو إدراك بعض ما غاب عنه في هذه الأمور، بصرف النظر عن تسليم العقل الإنساني بالمسائل الكلية؛ كالخلق والخالق والحياة الدنيا والآخرة ... إلخ.
سيدي الأستاذ الفاضل، ماذا تعني هذه الكلمات الخمس بالتحديد؟ ما مفهوم «نضج العقل الإنساني» كما تعبر عنه هذه الكلمات؟ أصدقك القول بأنني أود أن أفهم وأقتنع، فهذه ليست مسألة بسيطة فهي تحمل الكثير من المفاهيم إذا توصلنا إلى إدراك معناها بالتحديد.
وإني إذ أرجو أن تروي بعض ظمئي، أرجو أن تقبل اعتذاري الشديد، وأن تشفع لي عندك تحياتي واحترامي وتمنياتي مع الكثير من قرائك بالعمر الطويل والصحة الموفورة، وأعتذر عن ذكر اسمي حتى لا تعرفني، ويكون هذا حرجا لأحدنا أو كلينا» انتهت الرسالة.
تسلمت هذه الرسالة في التاسع والعشرين من شهر مارس 1988م، ولا أدري متى كتبها مرسلها الفاضل؛ وذلك لأنها تعليق على عبارة وردت في مقالتي التي نشرت في اليوم العاشر من شهر فبراير سنة 1987م، أي أنه قد مضى على نشرها أربعة عشر شهرا؟ وأقول ذلك خشية أن تكون رسالة الكاتب الفاضل قد أرسلت منذ ما يقرب من ذلك التاريخ البعيد، فيظن أني قد أهملتها عامدا أو غير عامد، فهي رسالة قد أثارت اهتمامي، حتى لقد أخذت في الرد عليها فور فراغي من قراءتها، وكان لا بد لي من استرجاع السياق الذي أوردت فيه الجملة، أو «الكلمات الخمس»، كما يعبر صاحب الرسالة على الإشارة إليها بهذه الصفة، والتي هي «فأما وقد نضج العقل الإنساني»، فعدت إلى تلك المقالة، وكان عنوانها «الكتيبة الخرساء» فوجدت سياق الحديث قائما على أن الرسالات الدينية كانت - قبل نزول الإسلام - هداية للإنسان في حل ما يكون قد تراكم في حياته من مشكلات، دون إشارة منها إلى توجيه الإنسان فيما بعد إلى الاعتماد على عقله فيما قد يستحدث في حياته من صعاب ونكسات، «فأما وقد نضج العقل الإنساني» (وهي الكلمات الخمس التي استوقفت الكاتب الفاضل) عندما جاء الإسلام، فقد نزل الوحي بما يحض الإنسان على إعمال عقله، إذا ما استعصت مشكلة لم يرد فيها حكم القرآن الكريم، أو في توجيهات النبي عليه الصلاة والسلام، ومن هنا نفهم لماذا كانت رسالة الإسلام آخر رسالات السماء إلى الإنسان، في مثل هذا السياق وردت «الكلمات الخمس»، وكان الحديث كله تعليقا على قول أبي العلاء المعري إنه «لا إمام سوى العقل مشيرا في صبحه والمساء».
فأخذ الكاتب الفاضل يحاول الفهم لما هو مقصود بنضج العقل الإنساني، فضرب لنفسه مثلا يستعين به على الفهم، شجرة تنضج ثمارها، ثم زاد الصورة تخصيصا فجعلها شجرة برتقال، فهل نضج البرتقالة يوضح لنا المعنى المقصود بقولنا «نضج العقل الإنساني»؟ ثم أخذ بعد ذلك يطرح السؤال بعد السؤال، ليؤكد بأسئلته غموض قولنا «أما وقد نضج العقل الإنساني» في المرحلة التاريخية التي كانت الإشارة موجهة إليها، وأعني المرحلة التي شهدت نزول الإسلام، فسأل الكاتب الفاضل: ألم يكن العقل قد نضج في بناة الحضارة اليونانية القديمة؟ أكان سقراط وأرسطو ينقصهما نضج العقل؟ ألم يكن العقل الإنساني ناضجا عند بناة الحضارة المصرية القديمة؟ بل ألم يكن العقل قد نضج عند الإنسان البدائي وهو يعد لنفسه مقومات حياته من مأكل وملبس ومأوى؟ ثم ألا يجوز القول عن الطفل إنه ذو عقل ناضج بالنسبة إلى عالم طفولته ومقتضياتها؟
ومنذ ضرب الكاتب الفاضل مثل البرتقالة ونضجها، ليقيس عليها العقل الإنساني ونضجه، أدركت أن القضية كلها قد اكتنفها غموض تستحيل معه الهداية إلى جادة الطريق، فليس الأمر أمر كلمة بذاتها، نتعقبها أينما وردت، ونحن على ظن بأنها ذات معنى واحد يتكرر معها كلما تكرر ظهورها، فما هكذا تفهم مفردات اللغة؛ لأن المفردة الواحدة مرهونة بسياقها، وهذا اللبس في معاني الألفاظ هو الذي حتم على رجال العلوم الدقيقة كالفيزياء، والكيمياء، أن يقيموا لعلومهم مصطلحاتها، حتى يكون للمصطلح الواحد معنى واحد، وللمعنى الواحد مصطلح واحد، فالنضج منسوبا إلى الشجرة أو إلى ثمرتها، يختلف في معناه اختلافا بعيدا عن النضج منسوبا إلى العقل الإنساني، وذلك في أمرين أساسيين، هما: «النمو» و«التربية» (أو إن شئت فقل «التدريب»)، فشجرة البرتقال، أو ثمرتها، لو فرضنا لها بقاء يمتد ألف عام، فهي هي الشجرة المعينة ذات الخصائص المعينة، وثمرتها البرتقالة هي هي بكل صفاتها، وطبعا لا يدخل في حسابنا هنا أن يجيء عالم للنبات، فيهجن شجرة مختلفة الخصائص هي وثمرتها؛ لأننا عندئذ نكون أمام «عقل إنساني» وما يستطيع فعله في دنيا النبات، وأما «العقل الإنساني» فهو إذا ما بلغ نضجه (وسنشرج المعنى بعد قليل)، فهو قابل بعد ذلك للنمو في طريق النضج نموا لا يقف عند حد محتوم عليه، ثم هو كذلك قابل لأن يسترشد بعملية تعليمية أو تربوية، ترهف طبيعته لتبلغ من درجات النضج ما لم تكن لتبلغه لو تركت على سجيتها لا يعلمها أحد ولا يتولاها أحد بتربية وتنمية، ولقد ذكر لنا الكاتب الفاضل نفسه في رسالته، أن ثمرة البرتقال إذا ما اكتمل نضجها، فسواء بعد ذلك أن تسقط على الأرض أم يقطفها أحد من فرعها، فإنها تصاب بالفساد، هكذا، قال وقد أصاب فيما قال، لكنه لم يذكر إلى جانب تلك الحقيقة عن النبات، حقيقة أخرى تقابلها عن العقل الإنساني، وهي أنه إذا ما بلغ درجة من درجات النضج، فإنه لا يتجه بعدها إلى الفساد بسببها، وأقول «درجة» من درجات النضج؛ لأن النضج لا يتكامل للعقل الإنساني أبدا كما قد يتكامل للشجرة وثمارها، وتلك حقيقة أظنها تكفي وحدها للتفرقة - إذا ما تحدثنا عن النضج - بين العقل الإنساني وأي كائن آخر من سائر الأحياء.
وننتقل الآن إلى سؤال الكاتب عن معنى الكلمات الخمس - على حد قوله - التي رآها واردة في مقالة «الكتيبة الخرساء» وهي: «فأما وقد نضج العقل الإنساني» ما معناها، وماذا يقصد «بالنضج» هنا وكيف يمكن أن نتجاهل أن نضج العقل الإنساني كان قد توافر للإنسان البدائي، وللطفل، ودع عنك حضارات سبقت؛ كالحضارة المصرية والحضارة اليونانية. وهنا لا بد أن نذكر الكاتب الفاضل بنقطة هامة هي مفتاح الجواب الذي سنقدمه عن تساؤلاته كلها، ألا وهي أن مجال القول، كلما كان الحديث حديثا عن الدين هو «العقيدة» من جهة، و«ضوابط السلوك» التي جاءت مع العقيدة من جهة أخرى، ولقد كانت الكلمات الخمس التي هي موضع تساؤلاته، وردت في مجال حديثنا عن الإسلام: بأي شيء يهتدي المسلمون بعد موت النبي عليه الصلاة والسلام إذا ما أشكل عليهم أمر من أمور دينهم، وهنا لجأنا إلى بيتين من شعر أبي العلاء المعري، مؤداهما أن الذين أجابوا بقولهم إن ملاذ المسلمين عندئذ إنما هو «إمام معصوم»، يوحى إليه بما يهتدي به المسلمون كلما استعصى عليهم أمر، قد جانبوا الصواب؛ إذ الصواب هو أن «العقل الإنساني» وحده مرشد الإنسان في حياته، أقول مرة أخرى: لقد كان في مجال الحديث هو عن الدين، وما دام الأمر كذلك، فلا بد أن ينحصر انتباهنا في أمرين، هما الأمران اللذان يجيء الدين من أجلهما: الأول هو «العقيدة» والثاني هو «القيم» التي يريد ذلك الدين للمؤمنين به أن يلتزموها في حياتهم، فبها يعرف المؤمن كيف تكون الصلة بينه وبين ربه، والصلة بينه وبين الآخرين، والصلة بينه وبين نفسه، وبالنسبة إلى الدين الإسلامي، فإن «العقيدة» مدارها «التوحيد» و«القيم» الضابطة للسلوك، يمكن الرجوع فيها إلى «الأصلين»: القرآن الكريم، وسنة النبي عليه الصلاة والسلام، وإذا ما أشكل أمر لم يرد عنه نص في هذين الأصلين فمرجع المسلم فيه هو «العقل»، ولا فرق بين أن نقول إنه «العقل» أو أن نقول إنه إجماع الرأي عند الثقات، فإذا كان الكاتب الفاضل قد وقف عند الكلمات الخمس متسائلا ماذا يعني «النضج العقلي» في تلك الحالة الخاصة؟ كان الجواب هو أنه القدرة على تمثيل المبادئ التي نزل بها دين الإسلام، والتزامها في استدلالاته العقلية بعد ذلك كلما أراد لنفسه هداية في دنيا السلوك، فمبدأ «التوحيد» بمعناه المطلق لم يكن ليلقى الإيمان في عصر سابق، لم يكن للناس فيه من نضج العقل ما يمكنهم من تصوره وتمثله، والمبدأ الذي يوجب أن يكون الدين للناس أجمعين، فلا ينحصر في فئة معينة من الناس لم يستطع بعض السابقين على الإسلام أن يتمثلوه، والمبدأ الذي يجعل المساواة بين أفراد الناس مطلقة لا تجعل معيارا لها إلا صلة الإنسان بربه، فلا درجة الغنى ولا النسب والحسب، ولا السلطان ولا العرق ولا اللون ولا أي شيء من هذا القبيل يجوز له أن يتخذ أساسا للتفرقة بين إنسان وإنسان، مثل هذا المبدأ كان يتعذر تصوره لو لم يكن العقل الإنساني قد بلغ درجة من النضج تمكنه من ذلك التصور.
ومرة ثالثة استأذن الكاتب الفاضل في تذكيره بأن مجال القول هو الدين بجانبيه: العقيدة وضوابط السلوك، وليس هو العلم، والفن، حتى يجوز له أن يعترض بحضارات المصريين القدماء، واليونان القدماء وغيرهما من أمثلة ساقها في تساؤلاته، وأضرب لك مثلا بما ورد في «سورة الفجر» من القرآن الكريم، ففيها سبقت أمثلة من ثلاث حضارات قديمة برعت في الفنون: فقوم «عاد» قد تفوقوا في فن العمارة تفوقا مكنهم من بناء مدينتهم «إرم» على طراز فريد، وهو أن يقيموا مشيداتهم على عمد، حتى ليشاهد القادم من بعيد ما يظنه غابة من أعمدة حجرية، وقبيلة «ثمود» التي سكنت واديا من الصخر الجدب، تفوقت في نحت التماثيل من صخر واديهم، وشعب مصر أيام فرعون، والمقصود هو فرعون الفترة التي ظهر فيها موسى عليه السلام؛ فقد برع في إقامة المسلات وغيرها من نواتج الفن التي تعلو إلى السماء وكأنها الأوتاد، فلو كانت البراعة في الفن وحدها هي التي تميز الشعوب، لتحتم على الحضارات الثلاث المذكورة أن تدوم، ولكنها فنيت وكان مرد فنائها هو أنها لم تستطع أن تقيم بناء الفرد وبناء المجتمع على مبادئ كالتكافل الاجتماعي والتعاطف والتعاون والمساواة.
وأحسب أنه قد حان الحين، بعد الذي قدمناه أن نفصل القول بعض الشيء في تحديد الصفات الأساسية التي منها يتكون ما نسميه «بالنضج العقلي»، إذا ما كان مجال القول هو حياة الإنسان العملية وما ينبغي لها من ضوابط، وربما كان أوضح مدخل إلى موضوعنا هذا، هو أن نوجه النظر الفاحص إلى ما نسميه «بالرشد»، عندما نقوله عن شاب إنه قد «بلغ سن الرشد»، وعندئذ ترفع عنه الوصاية، ويصبح له أمام الناس وأمام القانون حقوق لم تكن قبل تلك السن، فما هي أهم الصفات التي تتحقق في شاب بلغ سن الرشد، ولم تكن قد تحققت له، لا في مراهقته ولا في طفولته؟
अज्ञात पृष्ठ