ليس الفتى من يقول كان أبي
وأما النقطة الثانية التي أبرزتها المقارنة بين الحالتين، وهي الأهم والأفدح خطرا، فهي «المجال» الذي يتحرك فيه طموح الطامحين، فبينما تغلب علينا أن نتجه بجهودنا، وأعني جهود أسلافنا وعظمائنا، الذين هم من كتاب حياتنا عنوانه، أقول: يغلب على تلك الجهود أن تتجه إلى ما هو موجود بالفعل، مكتشف بالفعل، معلوم للناس بالفعل؛ كأن تتجه جهود العلماء الباحثين نحو ما هو مسطور فعلا في مؤلفات مبدعيها، وذلك نفسه يصدق على كل ميدان من الميادين العملية: هندسة، وطبا وصناعة، وزراعة وما إلى ذلك، فالنماذج المحتذاة قائمة هناك، وما علينا إلا حسن المحاكاة، فإذا أفلحنا حسبنا - وهما - أننا مع مبدعي تلك النماذج قد أصبحنا سواء، مع أن الفرق بين الحالتين أوسع من المحيط، فهناك إبداع وهنا منسوخ كربوني من ذلك الإبداع، ومن أين جاء هذا الفارق الواسع؟ أهو تفاوت القدرات في فطرتها؟ كلا وألف مرة كلا، فآباؤنا وأجدادنا شهود على تلك الفطرة، إنما هو «المجال» الصحيح يتجهون إليه هم ولا نتجه إليه، فبينما هم يواجهون «الطبيعة» مباشرة، يرغمونها على البوح بأسرارها، نكتفي نحن بالاطلاع على ما قد كشفوا عنه هم الحجاب، فصاغوه، فأثبتوه في مؤلفات أو في منجزات مجسدة، فنشتري نحن مؤلفاتهم لنصبح بها «علماء»، كما نشتري منجزاتهم لنكون بفضلها متحضرين.
إنهما مرحلتان متميزتان عرفناهما في تاريخ الإنسان «القومي»، وفي أي اتجاه يضرب بقوته؛ ففي الأولى كان يبطش بالبشر بغيا وطغيانا، وفي الثانية يهتك أستار الطبيعة أو يحاول، فلماذا يتحكم في رقاب البشر، وبين يديه وعر يتسلقه، وبحر عميق الأغوار يغوص إلى أعماقه؟ لماذا يفتك بأخيه، وأمامه «درة» تستنفد جهده ليشطرها، فإذا هي قوة المارد قد فك عقالها! فلما تنبه الإنسان الحديث إلى «المجال» الصحيح، الذي يستحق الجهد في تطويعه، وهو مجال هذا العالم الفسيح الذي نعيش فيه، ولا نعرف عن مكنونه إلا النذر اليسير، نشأت له «العلوم الطبيعية» وكأنها ولدت للإنسان لأول مرة في تاريخه، نعم، لا جدال في أن العصور السابقة قد شهدت من علماء الطبيعة أفرادا تناثروا هنا وهناك، إما أن تسود العلوم الطبيعية هذه السيادة كلها، وأن تنقل نفسها من منهج إلى منهج، ومن «مجرد النظر» إلى التطبيق على النطاق الواسع، الذي يجعل منتجاته من آلات وأجهزة تجد لها مكانا في كل كوخ على أي معمور من كوكب الأرض، فذلك شيء لم يعرف عنه التاريخ الماضي كله إلا حجم قطرة الماء من البحر المحيط.
ولقد كانت لنا البراعة كل البراعة بالقياس إلى غيرنا، عندما كانت الدنيا في مرحلة ما قبل العلم الطبيعي وولادته؛ إذ كان العلم صاحب السيادة عندئذ هو «الرياضة» وما يدور مدارها، مما يمكن دراسته - والدارس بين جدران بيته، لا تصله بظواهر الطبيعة صلة مباشرة - إلا على نحو باهت ضعيف، فلما أضافت الدنيا علوما إلى علوم، ومنهجا جديدا إلى منهج قديم، كان التاريخ قد حكم علينا بالوقوف، فسارت الدنيا الجديدة وظللنا حيث كنا واقفين، وعندئذ تبدلت حياتنا حالا بعد حال: كانت لنا الريادة وغيرنا الاتباع فأصبحت الريادة لغيرنا ونحن التابعون.
ودخل الراوي الذي يوجه حديثه إلى هواء غرفته، في صمت طال معه بضع دقائق، ثم عاد ليقول للهواء وفي الهواء: لست أدري لمن أتوجه بالمعذرة، وليس أمامي أحد يسمع، فقد أردت أن أعلن أسفي على هذا الخوض فيما لا ينبغي أن يخاض فيه بالكلمات، ومتى أفلحت الكلمات وحدها في زحزحة حصاة من حصوات الأرض عن مكانها؟ اللهم إلا أن يلتقطها ملتقط قادر على التغيير، وليس في هواء الغرفة من يسمع ليجيب ويستجيب، ولو أجاب واستجاب لأمكن التغلب على القيدين اللذين يمسكان بأقدامنا فلا نسير، وهما - كما ذكرنا في أوائل الحديث - مكان ضيق لا يسمح لنا بالحركة المغامرة، وتاريخ طويل أثقلنا برواسب التقاليد، فأما فسحة المكان فهذه الصحراء الواسعة تتحدانا أن نعمرها! وإنا لنستطيع تعميرها لو انتقلنا من عالم «الورق» إلى عالم الطبيعة، تغزوه مصر بالعلم وتقهره بالإرادة، وأما رواسب التقاليد التي أنقضت ظهورنا، لأننا أخذنا منها ما يحدث الكساح، وتركنا ما يشعل النار، وليس استبدالنا وضعا بوضع أمرا عسيرا إذا صحت منا العزيمة.
كان عجوز البحر قد انتهى به جهده إلى فقرات من عظام، وكأنما أراد القدر أن يقول: ليست العبرة بسمكة تصطاد فتبقى أو تذهب، وإنما العبرة بإرادة تصمم ولا يأخذها وهن، فيكون لها في آخر المطاف العظائم التي تصنع للأمة مجدها، وأصغى عجوز البر إلى الدرس ووعاه ، ثم همس لنفسه: إنه يا مولانا درس معاد تلقيه علينا صحائف تاريخنا، لو كان فينا آذان تسمع ما يصرح به التاريخ.
الإمام الغزالي تحاوره حواسه
ليس في حياتي أروع من ساعة أقضيها مع عملاق من عمالقة الفكر، أقرأ له شيئا مما كتب، لا قراءة من يتلقى ما يتلقاه، بعقل شارد وذهن بليد، بل قراءة من يتأمل في أناة، حتى ليكاد يدخل بكل كيانه في جوف الكلمات، ليرى خبيئها إن كان لها خبيء، كما قد عرفت ظاهرها البادي على سطحها، فهؤلاء العمالقة حين يكتبون، يتدبرون ما يكتبونه كلمة كلمة، وكدت أقول حرفا حرفا، ولا يقذفون اللفظ على الصحائف قذفا غير مسئول؛ وذلك لأنهم إذ هم يعالجون فكرة عظيمة - والعظماء لا تشغلهم من الأفكار إلا عظائمها - يشعرون كأنه واجب عقلي محتوم، أن تجيء عبارتهم في دقة أفكارهم حتى إذا ما قرأها قارئ، أحس بأنه لا يطالع لفظا على ورق، وإنما هو في حقيقة أمره، يجلس بين يدي المتحدث الحي، يسمع صوته الملتزم المتزن الوقور، فيصغي إليه بأذنيه، وإن الفوارق في مثل هذه القراءة المستغرقة فيما تقرؤه، لتنحى، فلا يشعر القارئ أهي كلمات مطبوعة على ورق وتطالعها عيناه، أم هي تلك الأصوات الملتزمة المتزنة الوقورة؟ ينطلق بها العظيم صاحب الفكرة العظيمة، فتسمعها الآذان؟
ومثل تلك القراءة لا يبلغ غاية مداه، إذا جلس القارئ من محدثه جلسة من يستمع ليقول آخر الأمر لمن صب في أذنيه فكرته: آمين! لقد سمعت مصدقا! أقول إن تلك القراءة التي يستسلم بها القارئ لما يتلقاه استسلاما يلغي به ذاته إلغاء، وكأن وجوده لم يزد على أن يكون شريطا من شرائط التسجيل الصوتي، هي قراءة لا يبلغ قارئها إلى أكثر من نصف الطريق، وأما النصف الثاني فهو مشاركة القارئ بالحوار الصامت مع ما يقرؤه، شريطة أن يكون هذا القارئ قد بلغ من النضج ومن التحصيل، درجة يتكافأ بها مع مثل ذلك الحوار مع عمالقة الفكر ، وإن ساعة واحدة تقضيها على هذا النحو الحي الفعال مع مفكر عظيم لأكثر بركة عليك وعلى ثقافتك من مائة ساعة تقضيها قارئا يتلقى في خمول راكد، ثم هي أكثر بركة من ألف ساعة، تقرأ فيها ما يقال لك عن ذلك العظيم وفكرته؛ فاللقاء المباشر مع مبدع فيما أبدعه، هو الوسيلة التي لا تعادلها، أو تقترب منها وسيلة أخرى. ومن هنا ندرك سرا من أسرار الهزال العلمي، الذي يخرج به شبابنا من جامعاتهم، فهم - على الأغلب والأعم - يتلقون الأفكار الكبرى، في موادهم العلمية، لا باللقاء المباشر مع أصحاب تلك الأفكار، في المراجع الأصلية التي تضم طالب العلم مع من أنتج ذلك العلم وجها لوجه - كما يقولون - لو غيبا لنص مقروء، وإذن لصوت يتخيل أنه صوت صاحب النص الأصلي، وكأنه يتحدث فيسمعه من سعى إليه يطلب منه العلم، بل إن طلابنا يكتفون بما يقدمه إليهم أساتذتهم من «مذكرات» يلخصون لهم فيها ما قاله رواد العلم، وبذلك الصدى الخافت، يفوتهم الأثر السحري الذي يتركه اللقاء المباشر بين الرجل العظيم، ومن جاءه يسعى لتحصيل شيء من عمله.
نعم، ليس في حياتي أروع من ساعة أقضيها مع عملاق من عمالقة الفكر، وقد كانت تلك الساعة، التي أكتب الآن لأروي لك نبأها، ساعة قضيتها مع الإمام أبي حامد الغزالي، في كتابه «المنقذ من الضلال»، معاودا لقراءة بعض صفحاته، وهنا وقفت مع الإمام العظيم، فيما قال عن مصادر المعرفة ودرجاتها المتصاعدة نحو اليقين، وفي ظني أن هذه القراءة الأخيرة، قد حركت عندي أفكارا، لا أحسبها قد وردت إلى ذهني في القراءات السابقة جميعا، فبعد أن يبين الغزالي لقارئه أن أضعف مصادر المعرفة، هو الأخذ عما يتناقله الناس عن شيء معين، دون أن يكون السامع قد رأى هو ذلك الشيء بعينه، إذا كان مرئيا أو أن يسمع هو بأذنيه، إذا كان الأمر متعلقا بصوت مسموع، أقول إن الإمام الغزالي، بعد أن يضع مصدر «التواتر» في مكانه، ومكانه هو الدرجة الدنيا من درجات السلم المعرفي، ينتقل إلى الدرجة التي تعلوها، وهي الحواس، من بصر وسمع وغيرهما، حيث يشاهد المتلقي ما كان قد سمع عنه فيما يتناوله الناس، بحيث يرى هو، أو يسمع هو، ليأخذ علمه من ينبوعه مباشرة، لا منقولا عن روايات يرويها عنه الآخرون، ثم ينتقل الغزالي بعد ذلك إلى الدرجة الأعلى بعد الحواس، وهي «العقل» في استدلالاته وبراهينه، ثم يلجأ بعد العقل إلى «النور» الذي يقذفه الله في القلوب.
अज्ञात पृष्ठ