ومناهجها المتجسد فيها، وهي حقيقة لم أمل من ذكرها مرة بعد مرة؛ لأنني أجد فيها أس البلاء، ولشرح ذلك أقول: إنه ما من كتاب علمي، أو بحث علمي، يعرض حقائق علمية معينة، في مجال من مجالات العلوم - إلا وهو يسير في انتقاله من خطوة إلى الخطوة التي تليها، على منطق استدلالي محكم، هو الذي يجعل المادة المعروضة «علما»، ولو غابت تلك الروابط الاستدلالية من المادة المعروضة، لأصبحت «دردشة» حتى ولو دارت تلك الدردشة حول حقائق علمية، فيخرج منها الدارس بنقاط الموضوع الذي يدرسه، لكنه يفقد «المنهج» الاستدلالي، الذي هو قلب التفكير العلمي وصميمه، والذي يحدث في جهازنا التعليمي من أدناه إلى أعلاه، من تلميذ المدرسة الابتدائية إلى طالب الجامعة، هو التحول في عملية التحصيل الدراسي من الكتاب المرتب ترتيبا علميا إلى كتب أو مذكرات أو ملخصات، يكون التركيز فيها على «نقط» الموضوع المدروس، فيحفظها الدارس، ويسهل عليه بعد ذلك تذكرها ليضعها على ورقة الامتحان، وتجيء عملية «التصحيح» فلا تبالي أن يكون المعروض بين يديها مادة مفككة الأجزاء مسلوبة المنهج، فيتخرج المتخرج مع مراتب الامتياز والشرف، وليس في حقيبته إلا «كومة» من «نقط» يمكن الاستعانة بها في مجالات التطبيق مع بقاء «العقل» كما كان قبل الدراسة، مفقود المنهج، فلا يكون فرق - خارج مجال التخصص التطبيقي - بين حامل الدكتوراه والأمي في براءته، فكلاهما عجينة سهلة التشكيل في أي يد قوية، قادرة على تشكيل الأنظار والرؤى وطرائق السلوك.
والوسائل المؤدية بنا إلى تغيير هذا الموقف التعليمي الأعرج في متناول أيدينا، إذا حسنت النوايا وقويت إرادة الإصلاح ، وأولها وأهونها وأعمقها أثرا، هو أن يشترط على الدارس، أيا ما كانت درجة التعليم التي يدرس فيها، من المدرسة الابتدائية وصعودا إلى الجامعة، أن يكون الكتاب العلمي في المادة المعينة هو أداة الدراسة، وأن يمنع منعا باتا لجوء الدراسة إلى الصور الأخرى الشائهة من كتب تعرض «النقط» الأساسية، إلى مذكرات وملخصات يقدمها الأساتذة إلى تلاميذهم وطلابهم، وكل ذلك يتحقق لنا إذا نحن تدبرنا طرقا للامتحانات، تضطر الدارس اضطرارا إلى مواجهة المادة العلمية في كتابها العلمي.
وفوق هذا الأساس الأولي المبدئي، تقام دعامتان، ليس لنا عنهما غنى، إذا أردنا أمة قوية الأصلاب متحدة الأهداف، بحيث إذا اختلفت تيارات الفكر فيها، كان الاختلاف مقصورا على «الوسائل» التي تؤدي إلى بلوغ تلك الأهداف، وأولى الدعامتين هي أن يشترك أبناء الشعب وبناته جميعا في المرحلة الأولى من مراحل التعليم، ولنقل - مثلا - إنها الستة الأعوام الأولى، لا يتشعب فيها التعليم إلى معاهد دينية من جهة ومدارس عامة من جهة أخرى ومدارس أجنبية من جهة ثالثة؛ لأن مثل هذا الانقسام - وهو أمر قائم في التعليم الآن - يستحيل ألا ينتج لنا عدة وجهات للنظر وهي نتيجة نحسها في حياتنا الراهنة بقوة، ونحس آثارها في تفتيت وجهة النظر القومية إلى حد خطير، ولست بهذا القول أريد أن أقرر كيف يكون طريقنا إلى دمج الفرعين في تيار واحد، فتلك مسألة تقع على عاتق علماء التربية، والمهم هو أن يسير النشء جميعا في مرحلة موحدة أول الأمر، لتكون هي بمثابة الجذور المشتركة بين أبناء الأمة جميعا، حتى إذا ما جاء أوان التفريع، عند المرحلة الثانوية - مثلا - انقسمت الفروع بحسب المستقبل المنظور، فللدراسة الدينية فرع يصب في الأزهر، وللزراعة، والصناعة، والمحاسبة، فروع، وللدراسة النظرية، بجانبيها - العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية والرياضية - فروع.
وأما الدعامة الثانية فهي استخراج أصحاب «المواهب» بشتى اتجاهاتها، لتجعل منهم الأساس القوي المكين الذي تبنى عليه الآمال في مستقبل حياتنا، ويتم فرز «المواهب» في كل مرحلة من مراحل التعليم، عند الانتقال من المرحلة الدراسية المشتركة إلى مرحلة التفريع ثم عند الانتقال من الفروع في مدارسها الثانوية إلى مرحلة الجامعات أو المعاهد العليا، ثم أخيرا عند الانتقال من الدراسة الجامعية الأولى إلى مرحلة الدراسات العليا، نعم إن التعليم حق للجميع، كل بحسب قدراته وميوله، ولن يحرم مواطن واحد من هذا الحق، إلا أن أصحاب المواهب هم في البناء القومي رواده، وعليهم أكثر من سواهم، ينعقد الرجاء في مستقبل أفضل.
ويلحق بهذه النقطة الأخيرة أن يتوافر في جهازنا التعليمي، متخصصون في علم النفس من ناحية «الإرشاد»، المبني على دراسة الأفراد لاستخراج ما قد كمن فيه من قدرات وميول، لكي يتجه كل ذي موهبة في الاتجاه الذي تنمو فيه تلك الموهبة، فأبناء الأمة وبناتها هم أغلى ما فيها، هم أمل المستقبل كله، وأصحاب المواهب الخاصة منهم، هم بمثابة الدر في أصدافه.
إلى هنا وقد قصرنا الحديث على الجوانب «العملية» من حياتنا كما تجري بها الأيام، ورأينا كيف يمكن للجهاز التعليمي أن يخرج لتلك الحياة اليومية الجارية، مواطنين يحملون عبأها، على أحسن صورة ممكنة، فوجهة النظر موحدة في أبناء الأمة جميعا، بفضل الفترة الأولى المشتركة بين الجميع، وأصحاب المواهب هم - في آخر المطاف - حملة المشاعل الذين يشقون الطريق بمواهبهم، وبين هؤلاء وأولئك متخرجون تعلموا ما يمكنهم من أداء الأعمال المختلفة، مع الحرص على أن ترهف فيهم النظرة العلمية العامة، كلما كان الموقف بحاجة إلى فهم صحيح لعناصر الواقع، وإلى سلوك يقام على ذلك الفهم، وفي هذا الجانب من موضوعنا، ينصب الإصلاح على «المقررات» وطريقة تدريسها، والمراحل التي يجتازها الدارس.
وبقي أمامنا ما هو أشد عسرا، فأكثر مشكلاتنا استشكالا، ليست هي العمل المعين ومن يؤديه وكيف يؤديه، فذلك كله - كما أسلفنا - توافر في حياتنا بدرجات يغبطنا عليها من هم في مثل موقفنا، ويكفينا أن نعلم عن حق، بأننا نعير لسوانا أصحاب المهن والحرف من أبنائنا، ولا نكاد نستعير من سوانا أحدا ليؤدي لنا عملا عجزنا عن أدائه، إلا في الحالات النادرة.
وأما علة العلل في حياتنا، فهي «الإنسان» الذي يضطلع بما يضطلع به من مهنة أو حرفة ، فلقد طرأت على «الإنسان» المصري - والعربي بصفة عامة - صفة لم تكن قط من صفاته البارزة في أي عصر من عصور تاريخه، وألخصها بقولي إن الفرد منا قد فقد إحساسه بوجود «الآخرين»، وكأنه خلق وحده على هذا الكوكب الأرضي، وأما كل من عداه وما عداه، فأدوات مسخرة لخدمته، ثم يتفاوت الأفراد في إطار هذه النزعة نحو تجاهل «الآخرين»، بتفاوت قدراتهم على التسلط، إنه إذا كان «المصري» هو ما نتحدث عنه، فالمصري قد رسخت فيه روح «الأسرة» منذ فجر التاريخ، وإذا كان «العربي» بصفة عامة هو موضوع حديثنا، فلقد رسخت روح «القبيلة» فيه «بحكم البيئة الطبيعية ذاتها التي يسكنها»، والتي تحتم على أفراد القبيلة أن يتجمعوا في حلهم وفي ترحالهم، فكيف - إذن - هبطت على المصري أو العربي في عصرنا هذا صفة التشرنق في قوقعته، ألا يشاركه فيها إلا أقرب الأقربين، فتغمض الأعين وتصم الآذان داخل القوقعة، حتى كان حدودها هي حدود العالم؟ ومن هذه الصفة المحورية الطارئة علينا، انبثقت صفات لم يعد بيننا واحد ينكر قيامه أو يشك في وجودها، فما أوسع ما شاع بيننا أن آفتنا الراهنة هي «التسيب»، بمعنى انعدام الضوابط التي توقف حريات الأفراد عند الحدود التي تبدأ منها حريات الآخرين، فالتسبب جعل كل فرد منا وكأنه النهر في سطوة الفيضان، بغير جسور تحد من طوفانه، وكذلك ما أوسع ما شاع فينا أن أميز ما يميز هذا الجيل عن الأجيال التي سبقته «اللامبالاة»، وهي مصطلح يعني ما أسلفنا ذكره حين قلنا إن الفرد لم يعد يحس وجود الآخر أو الآخرين، إنه لا يبالي ماذا عسى أن يصيب الآخرين من أذى، ما دام هو قد ظفر بما أراد، وللامبالاة ظل آخر من ظلال المعنى، وهو أنه لم يعد فرق بين حق وباطل؛ فالفرد حين يختار ما يختاره، يكاد يوقف نفسه في نقطة وسطى متساوية البعد عن طرفي الفضيلة والرذيلة، بمعنى أنه لا يعنيه أن يتجه بسلوكه نحو هذه أو تلك، فلا غبار على الطبيب - مثلا - من حيث هو طبيب، ومن قد سافر منا ليعالج على أيدي أطباء في الخارج، كثيرا ما سأل نفسه: فيم الاغتراب وطبيبنا إن لم يكن أفضل من طبيبهم فهو يساويه؟ لكن الفرق الكبير يكمن فيما يضمره الطبيب نحو مريضه؛ إذ هو يضمر في نفسه أشياء الله أعلم بها، تدور كلها حول البحث عما ينفعه هو قبل البحث عما ينفع مريضه، وأستغفر الله فما قصدت بهذا المثل أطباءنا على وجه التحديد، بل أردت أي مثل يوضح ما أزعم أنه الآن هو المسلك العام بين «الأنا» و«الآخر»، مما حطم فينا روح الجماعة، وهدم فينا روح الثقة في النفس والثقة في الآخرين، وهي كلها عوامل أكلت «الانتماء» أكلا، حتى جعلته كعصف مأكول.
تلك هي علة العلل، وإصلاحها في مستطاع الجهاز التعليمي، لا على صورته القائمة، التي هي في حد ذاتها مشكلة كسائر المشكلات أو أشد فسادا، بل الجهاز التعليمي كما ينبغي أن يكون، ووجه الإصلاح في هذه الحالة لا هو في «المقررات» والحذف منها أو الإضافة إليها، ولا هو في دمج المراحل التعليمية أو تفرقها، ولا هو في مجانية التعليم ولا في أن يكون التعليم حقا للجميع كالماء والهواء، إنما وجه الإصلاح مرهون بروح الانضباط الصارم في المدارس والجامعات، فيكون العمل الجاد عشرة أشهر في السنة، وليس أربعة كما هو الآن، وتكون الدراسة معظم ساعات النهار، ولا تكون في حالة من الفوضى التي تسمح لأي طالب أن يفعل ما يشاء وقتما يشاء، وما يصدق على الطالب يجب أن يصدق بصورة أقوى على الأستاذ أو المدرس، فأنا أعلم عن التحلل من جميع الضوابط بين هؤلاء، ما لو ذكرت بعضه لأثار الهلع عند من لا يعرفون، الانضباط الصارم كفيل وحده أن يخرج لنا شبابا قادرا على التفرقة في الحياة العملية، بين الجائز، والواجب، والممتنع، فيستقيم المعوج، ويصلح الفاسد بإذن الله.
حاطب الليل
अज्ञात पृष्ठ