كان حلما وما زال حلما
كانت السن في مرحلة الشباب المتأخر، وكان اليوم يوما من الصيف، وكانت الساعة أصيلا أخذ ينحدر نحو الغروب، وكان المكان ريفا في الطرف الشمالي من دلتا النيل، وكانت المشية بطيئة الخطى وبلا هدف، وكان البصر كلما دار فيما حوله من خضرة الأرض وزرقة السماء لحظة قصيرة، غلبته البصيرة لحظات طوالا، فتسد عليه الطريق، لينصرف الشاب إلى خواطره الدافئة خاطرا في ذيل الخاطر، وكان الخيط المشترك الذي يشد تلك الخواطر بعضها إلى بعض، سؤالا أخذ يتردد في صدره في حرارة أخذت تندرج صعودا، حتى أوشكت أن تصل به إلى رعشة الحمى: لماذا هم كذا ولماذا نحن كيت؟!
لماذا يغوص شبابهم الجاد إلى أغوار البحار باحثين كاشفين، ولماذا يلهو شبابنا على شواطئهم في ضحكات بلهاء؟ لماذا يتسلق شبابهم من الجبال أعتاها صخورا، وأوعرها طريقا عواصف وثلوجا، لا تهدأ لهم أنفس حتى ينكشف لهم المجهول وتصفو لهم شوامخ الطبيعة وتخشع؟ ولماذا يثقل الزمن الأجوف الفارغ على أبدان شبابنا، لا يعرفون كيف يقضون ساعاته المملولة الجدباء، إلا فيما لا يقضي لهم شأنا، أو في ثرثرة طفلية تزيد العقول البليدة بلادة، والقلوب الميتة مواتا؟ لماذا يكد علماؤهم، لا يستريح لهم جنوب على مضاجع، حتى يفضوا عن هذه أو تلك من ظواهر الطبيعة أختامها، وحتى يخضعوها للبحث فتنكشف أسرارها وإذا هم أمام قوة ألجموها فسخروها؟ ولماذا يقنع علماؤنا بأحرف وكلمات، خطفوها خطفا من هنا أو من هناك، فحفظوها، صحيحة حينا، شوهاء حينا، ثم قالوا لأنفسهم وللناس: ها نحن أولاء قد أوينا إلى فراشنا بالأمس جهلاء، وأصبحنا مع الصبح علماء.
كان الشاب في مشيته تلك، ينقل خطاه الوئيدة على جسر النيل أمام قريته، متجها بها نحو الشمال إلى القرية المجاورة، لم يكن بين القريتين إلا مقابر القريتين، ثم يعود قافلا بخطواته البطيئة نحو الجنوب نحو قريته، وسيل الخواطر الداخلية، لماذا هم كذا؟ ولماذا نحن كيت؟ لا يكاد يترك لبصره لحظة يجول فيها ذات يمين أو ذات شمال: فعن يساره وهو متجه بسيره نحو الشمال، كانت حقول الذرة في الأرض الممتدة بين الجسر والنهر، وهي أرض يغطيها النيل إذا فاض، ثم يزرعها الزارعون إذا غاض عنها النيل وانحسر، لم يكن يخلو يوم، في تلك الفترة من الصيف، من أن يقع البصر على جماعة من الزارعين، وقد تحلقت حول ركوة من النار يوقدونها بأوراق النبات الجافة، ويشوون عليها أكواز الذرة أكداسا أكداسا، ويأكلون المشوي نحتا بأسنانهم، ضاحكين بما يملأ جو السماء مرحا، وأما عن يمينه وهو متجه بمشيته نحو القرية المجاورة، فكانت المقابر عبرة لمن أراد أن يعتبر، ولكن أين هو الذي يعتبر؟ لقد تلاقت القريتان عند مقابر موتاهما، وأما أحياؤهما فقد كانوا - في ذلك الزمن البعيد البعيد - يحترقون غيرة، إحداهما من الأخرى ثم تتفجر الغيرة - آنا بعد آن - في معارك ساخنة بين شباب من هذه وشباب من تلك، مما لم يكن يزيد في حقيقته عن عبث الصغار، الذي لم يفلح قط في أن يفسد للود قضية بين الشقيقتين.
لكن الشاب، في مشيته تلك، في تلك الساعة، من ذلك النهار، في ذلك الصيف، قد حدث له أمر عجب وهو يقطع المسافة المجاورة للمقابر، وكانت نقطة البدء أن وثب إلى ذاكرته قول أبي العلاء، مخاطبا السائر على الأرض، أيا كان السائر، وأينما كانت الأرض، بأن يرتفع بقدميه عن أديم الأرض إذا استطاع، فيطير بهما في الهواء، بدل أن يدوس بهما سطح الأرض، لماذا لأن أديم الأرض إنما هو رفات الموتى، فألوف السنين بعد ألوفها، قد ألقت في اللحود ملايين الموتى بعد الملايين، وتحللت الأجساد وباتت ترابا من التراب، الذي لا بد أن يكون قد ملأ الرحب، أينما سارت بسائر قدميه، وإذا كان كذلك بالنسبة إلى أي أرض وإلى أي سائر، فماذا يكون الشأن بسائر في جوار المقابر، التي هي مقابر أهله وذويه؟ ثم ماذا يكون الشأن إذا كان هذا السائر قد امتلأ فؤاده بمثل الخواطر الحسيرة التي ذكرناها، والتي أخذ يتساءل بها في حسرته: لماذا هم كذا؟ ولماذا نحن كيت؟
وهنا أوشكت قدماه أن تتجمدا، خشية أن تتحرك فيهما قدم فتقع على رفات، وانحنى الشاب فالتقط كتلة صغيرة من تراب ناعم تلاصق بفعل الرطوبة ثم تيبس، وما هو إلا أن ذكرته قبضة التراب بذلك الحوار الساخر بين هاملت وحفار القبور، حين أظهرت فأس الحفار جمجمة مدفونة، وكان مما قاله هاملت في تأملاته، إن ساكن الكوخ إذا ما حدث ثقب في جدار كوخه، وأدخل له الثقب هواء الشتاء البارد، فأسرع إلى قبضة من تراب الأرض، وعجنها طينة وسد بها ثقب الجدار، ألا يكون - وهو لا يدري - قد وقع على جزء مما كان ذات يوم ملكا يحمل الصولجان ويتحكم في رقاب الناس؟
ولم يلبث الشاب عند هذه الخاطرة أن نظر إلى قبضة التراب في يده، وقال وكأنه يوجه إليها السؤال: ترى من أي جسد بشري جئت؟ حدثيني! كان كاتبا تقع كلماته على آذان صماء؟ أم كان خطيبا يعظ بما لا يفعله هو ولا يفعله أحد من سامعيه؟ أكان حاكما مغرورا بسلطانه الزائف الزائل، أم كان محكوما مظلوما لا يدري كيف يثبت للحاكم أنه بريء؟ أكان رجلا يستبد بأهل بيته ويطغى، أم كان امرأة قيدتها أغلال العبودية ثم أوهموها بأنها هي حرية المرأة وكرامتها، حدثيني يا هذه الرفات من تكونين؟ فما هو إلا أن سمع صوتا متقطعا معدني الرنين، يخرج من قبضة التراب في يده، فأخذه من الفزع الراجف ما أخذ، لكنه مع الفزع قد استمع، وإذا بالصوت المعدني المتقطع يقول له في أحرف واضحة: لست واحدا من هؤلاء، فأنا قبضة من رفات من جسد، والإنسان - أي إنسان - هو بأفكاره وأعماله، وهذه إن صلحت ثبتت على الدهر لا تموت ولا تدفن ولا تصير إلى تراب، فاحذر الخلط بين ما يدوم وما يفنى.
جاءت هذه الكلمات إلى الشاب، كما تجيء لمعة البرق فتشق سواد ليل زاده السحاب الأسود سوادا؛ إذ وجد فيها نورا يضيء له الطريق إلى جذور دقيقة دفينة، لم يكن رآها وهو يبحث عنها، فهو حين كان في حيرته يسأل: لماذا هم؟ ولماذا نحن؟ لم يكن قد أدرك الفرق بين من ينذر حياته لما يدوم ويبقى، ومن ينذر حياته فيما يزول ويفنى.
استدار الشاب نحو الجنوب، ليعود إلى الدار مسرع الخطى، ما أسعفه تراب الجسر - جسر النيل - الناعم من سرعة، فكأنما كانت الفكرة البسيطة الواضحة التي خيل إليه أنه قد سمعها منطوقة من كتلة التراب المتلاصق في قبضة يده، بمثابة المحرك إلى الخطوة السريعة، هل قالت قبضة التراب - التي هي في حقيقتها رفات من إنسان مجهول - هل قالت تلك القبضة شيئا سوى أن جثامين الموتى ليست هي أشخاصهم، وإنما أشخاصهم هي ما أنجزوه في حياتهم الدنيا من فكر يسري ومن فعل يبقى، والشاهد على هذا وذاك هو الأرواح لا رفات الأجساد، وانظر إلى عبقرية اللغة العربية حين فرقت بين «شاهد» و«شهيد»، فمن هم «الشهداء» من الناس؟ إنهم هم الذين «جسدوا» ما قد آمنوا به من فكرة وعقيدة، تجسيدا يمكن أن تشهده الأعين الشاهدة، ومنها ما يكون من ذات الإنسان نفسه، فيشهد على نفسه بنفسه.
ورسخت تلك الفكرة البسيطة الواضحة في وعي الشباب، رسوخا زاد ولم ينقص مع أعوام طال بها عمره حتى اكتهل وشاخ، ولقد أراد له ربه أن ينشغل في شيخوخته بالبحث عن «الجذور»، بل وما قبل الجذور من «البذور»، التي انبثقت منها فروع لا أول لها ولا آخر، من ظواهر الضعف، والتفكك، والتراخي، في حياتنا الحاضرة أفرادا وجماعات، فلئن حق لذلك الشاب في شبابه البعيد البعيد، أن يأخذ منه القلق مأخذه، كلما قارن بين «هم» و«نحن»، فلقد جاءت حياتنا الراهنة بما هو أفدح وأخطر، مما يدعو إلى القلق وإلى البحث عن العلل، فقد كان ذلك الشاب وهو في مرحلة شبابه، يستطيع أن ينظر حوله فيرى جهدا وجهادا نحو التحرر من مستعمر جاء فاحتل أرضه، ولم يعد اليوم مستعمر لنا ولا محتل، وكان ذلك الشاب يستطيع أن ينظر حوله ليرى أعلاما، يشقون في حياتنا الجديدة طرقا جديدة، اقتصادا مصريا بعد أن لم يكن، فنونا جديدة، من موسيقى إلى تصوير ونحت، بعد أن لم تكن، تصورا جديدا لأدب جديد، من رواية، ومسرح شعري، ومسرح نثري، ومبادئ جديدة لنقد أدبي وفني جديد، وإحياء واع لبعض تراثنا، يصاحبه اعتراف أوعى من بحار العصر الجديد، نعم - كان ذلك الشاب في شبابه القلق - يستطيع أن ينظر حوله ليرى هذا كله، ومع ذلك أقلقه أن يرانا في كثير جدا من ذلك الجديد والتجديد، إنما نقف عند حدود النقل والمحاكاة، سواء أكان المنقول عنه ماضينا أم كان عصرنا متمثلا في مبدعيه من أوروبا وأمريكا، وسواء أكان الذي نحاكيه أبا أو جدا من آبائنا وجدودنا، أم كان غريبا عنا في شعب بعيد، كان ذلك الموقف السلبي من حضارة العصر «وأعني الموقف الذي يأخذ من الناتج الحضاري الذي أنتجه آخرون»، ثم لا يضيف من عنده ولا يعطي، هو الذي أقلق الشاب في مرحلة شبابه، حين أخذ يتساءل في لهفة المحترق: لماذا هم كذا؟ ولماذا نحن كيت؟
अज्ञात पृष्ठ