ذلك عن «الهوية» وكيف تلد «الانتماء» وأما عن «الهوية» و«التراث» فواضح مما أسلفناه أنه لا هوية إلا إذا صمدت عناصر بعينها من ماض إلى حاضر، تكون بمنزلة الهيكل الذي يقام عليه البناء، فكما قلنا عن قارب السماك الذي أخذ يستبدل بألواحه الخشبية المهترئة ألواحا جديدة: فبقي الهيكل واحدا، وبالتالي بقيت للقارب هويته برغم ما قد تغير من أجزائه، فكذلك يكون وجود الأمة الواحدة: ناس يذهبون وناس يجيئون، لكن هيكل القيم التي تقام عليها الحياة الاجتماعية هيكل واحد في سمائه الأساسية، فتبقى الأمة صامدة بهويتها على مر الزمان، لكن حذار أن تقع في غلطة يقع فيها كثيرون، فتفهم من ثبات الهيكل القيمي ثباتا في صور السلوك بين ماض وحاضر، فالقيم معايير نقيس بها ما نقيسه، وليست هي نفسها الشيء الذي يقاس، شأنها في ذلك شأن «المتر» في قياس الأبعاد المكانية، أو «الميزان» في تقدير الأثقال، فثبات المتر أو ثبات الميزان لا يعني ثبات ما يقاس بهما أو يوزن؛ فقد يكون الشيء المقاس بالمتر جدارا، أو ثوبا من القماش أو قامة إنسان، وكذلك قل في الميزان وما يزن.
لقد طالت بي السرحة الذهنية أمام دكان الحداد، لكنها عادت إلي بشيء يخفف عن صدري ثقل السؤال الذي تحيرت في جوابه، وهو: أن في رءوسنا أفكارا جيدة كثيرة، فلماذا تجمد في الرءوس ولا تتحول إلى فعل يغير ما فسد من جوانب حياتنا؟ وها أنا ذا قد عدت من سرحتي مع نافخ النار بشيء من الجواب، وهو أن بعض الحل يكمن في تحليل تلك الأفكار لتنكشف عناصرها فتفهم، فتتحول إلى سلوك، فكما يلهب الحداد بالنار قطع الحديد الخام، ليسهل تشكيلها فئوسا ومحاريث تؤدي أدوارها في الحياة العملية، كذلك يزج بالأفكار المصمتة في لهب النار حتى تلين، لتكون في أيدي أصحابها وسائل حياة، بعد أن كانت لهم في تيبسها كالتوابيت للموتى.
تلك المعزوفة الكبرى
الفكرة الهادية، الخصبة، الولود، لا تأتي إلى الناس كما تأتي القشة الهزيلة، محمولة على تيار الماء، تتأرجح في هزالها ذات اليمين وذات الشمال، ثم هي لا تكاد تظهر حتى تختفي إلى حيث لا ندري، بل هي تأتي لتمكث في الأرض وهي هي الكلمة الطيبة، التي قال عنها الكتاب الكريم إن أصلها ثابت وفرعها في السماء، وإنما يشير الأصل الثابت إلى دوام نفعها، هنا في هذه الحياة الدنيا، وأما فرعها الذي هو في السماء، فيرمز إلى حسن الثواب في جنات الخلد، يجزى به من أحسن بها صنعا.
الفكرة العظيمة ينبوع لا ينفد، يظل يعطي كل من جاءه ليستقي، بقدر ما يستطيع ذلك المستقي أن يأخذ، وإن الفرد الواحد من الناس، ليظل يزداد فهما لها، كلما ازداد مع الأيام معرفة واتسع مع تراكم الخبرة أفقا؛ وذلك لأن الفكرة العظيمة لا تولد مكتملة العناصر، واضحة النتائج، بل تبدأ أول ما تبدأ، أقرب إلى «مشروع» قليل الخطوط، بسيط التكوين، تماما كما يبدأ الجنين علقة ثم يتطور لينمو، فكلما انقضى على الفكرة عصر وجاء عصر، تناولتها عقول قادرة لترى فيها من الجوانب ما لم يكن أسلافهم قد رأوه، وانظر - مثلا - إلى فكرة «الحرية» ماذا كانت تعني عند الأولين، وماذا أصبحت تعنيه عند المعاصرين.
على هذا النحو تقاطرت الخواطر في رأسي، عندما هممت أن أكتب في موضوع يشغلني ويشغل كل مصري، وكل عربي على امتداد الوطن الكبير، وهو هذا التمزق الذي تفككت به أوصالنا؛ فالشعب الواحد من شعوبنا قد انفرط أفرادا، والأمة العربية بدورها قد انفرطت شعوبا، ومن أخذ منا بغير ذلك، فإنما هو إنسان قد صعب عليه ابتلاع الوقائع فلجأ إلى الأماني، وخير لنا أن نواجه النكسة لنسأل: ماذا حدث ولماذا حدث، وكيف السبيل إلى نجاة؟
ولما كنت من أشد الناس إيمانا بحق «الحرية» للأفراد، حرية تذهب إلى أمد لا يحده إلا أن تجيء تلك الحياة الحرة المسئولة، منخرطة مع غيرها من حيوات حرة للأفراد الآخرين في الوطن الواحد، بحيث تتألف للشعب - آخر الأمر - حياة موحدة، والذي يوحدها، برغم حرية أفرادها فكرا وسلوكا، هو نفسه الرباط الذي يجمع تفصيلات العمل الفني - أيا كان نوعه - في بناء عضوي واحد، وانظر إلى قصيدة الشعر، كيف تتوالى أبياتها، بل وقد تتعدد الصور في البيت الواحد، ومع ذلك فهي بانطباعها عند المتلقي، كما كانت يوم إبداعها عند الشاعر، قصيدة واحدة، وتلك هي الحال حتى في الشعر العربي القديم، الذي أشعنا عنه فقدان «الوحدة العضوية»، ومن ذا الذي قرأ قصيدة عظيمة لأي شاعر عربي عظيم، ولم يحس في قراءتها وبعد قراءتها، بأنه إنما كانت تغمره «حالة نفسية» واحدة، مهما يكن من تعدد النقلات فيها، من نسيب، إلى مدح، إلى قتال ، إلى حكمة، إلى لقطة هنا ولقطة هناك من بيئة الشاعر أرضا وسماء، وقل عن أي عمل فني، من موسيقى وتصوير وعمارة وغيرها، ما قلته عن قصيدة الشعر، ففي الإبداع الفني درس بليغ، يعلمنا كيف تتعدد المفردات، وكيف تتألف في كيان موحد واحد.
فما أن بلغت بخواطري هذا الذي بلغته، حتى فاجأتني الذاكرة بمكنون من مخزونها، هو أنفس ما يمكن أن تفاجئني به في لحظتي هذه؛ إذ قدمت إلي تلك الفكرة العظيمة التي كان قد طرحها الفيلسوف العقلاني، الرياضي، التحليلي، «ليبنتز» في القرن السابع عشر، وهي إن تكن فكرة قد طرحت في سياق بعيد جدا عن السياق الذي نتحدث فيه الآن، إلا أنها ككل فكرة عظيمة أخرى تتيح لأبناء العصور المختلفة، أن يقرءوها قراءات مختلفة، كل قراءة منها تجيء متلائمة مع محيطها، وملقية ضوءها على ما قد أشكل أمره على الناس، فلما كان «ليبنتز» رياضي الفكر والنظر والمزاج، فقد نظر إلى كل شيء وكأنه صيغ في قالب رياضي، ومن أبرز ما يتميز به الفكر الرياضي، أنه «تحليلي» بمعنى أنه إذا تحدث عن شيء ما ذكر العناصر - كلها أو بعضها - التي ينطوي عليها ذلك الشيء، فهو بذلك لا يضيف إلى الموضوع المطروح شيئا جديدا، وإنما هو يفصح عما كان مضمرا خبيئا في ذلك الموضوع، وخذ مثلا بسيطا يوضح لك ما نريد، هذه المعادلة الحسابية: 1 + 4 + 2 = 7، فموضوع الحديث هنا هو العدد 7، فماذا قلنا عنه في هذه المعادلة؟ كل ما قلناه هو أننا عرضنا العناصر التي كانت مدمجة في العدد 7، وعلى منوال هذا المثل البسيط الواضح قس كل حالة من حالات الفكر الرياضي، أيا كان موضوعه، فالفقيه الإسلامي حين يستخرج من آية قرآنية كريمة ما قد انطوت عليه من أحكام شرعية يفكر بمنهج التحليل الرياضي، حتى ولو لم يكن كلامه أرقاما أو رموزا كالتي نعهدها في الحساب والجبر والهندسة؛ وذلك لأن الفقيه يوضح ما كان مستترا في الآية الكريمة، توضيحا يستند فيه إلى «تحليل» الصيغة اللغوية التي بين يديه، ليخرج مكنونها ولا يضيف إليها ما ليس فيها.
ونعود بحديثنا إلى «ليبنتز» ورؤيته الرياضية إلى كل شيء أراد أن «يحلله» ليعلله، فهو إذا سأل نفسه - مثلا - متى يتوافر الصدق لجملة معينة يقولها قائل، وفي مجال «العلم» بصفة خاصة (ومثل هذا السؤال، ومحاولة الإجابة عنه، يلخص لك الشطر الأعظم من العمل الذي يضطلع به الفكر الفلسفي الحديث والمعاصر) أقول: إن «ليبنتز» إذا سأل نفسه سؤالا كهذا، فإنه لا يجيب عنه بقوله: إننا نراجع مضمون الجملة العلمية المذكورة، على حقائق الواقع الخارجي، لنرى إذا كانت تطابقها أو لا تطابقها بل يقول: إننا نحلل «موضوع» الجملة لنرى هل نجد ما أخبرتنا به الجملة موجودا في عناصر ذلك الموضوع، أي أنه يحصر عمله في الجملة ذاتها، لا يغادرها إلى وقائع العالم، تماما كما يفعل الرياضي؛ فالرياضي لا يراجع وقائع العالم حين يريد أن يعرف أن عبارة «3 + 2 = 5» صحيحة أو غير صحيحة، بل هو يحلل مفهوم العدد «5» ليرى إذا كان مشتملا على العددين «2» و«3» أو غير مشتمل، فكذلك الحال عند «ليبنتز» في أي جملة يقولها قائل، تنسب خبرا إلى مبتدأ، كأن يقال - مثلا - «الإنسان يتميز بالعقل»، فصواب قول كهذا، مرهون بتحليل ما تتضمنه كلمة «إنسان»، فهل نحن واجدون عنصر «العقل» بين العناصر التي نرد إليها فكرة «إنسان» أو أن هذه الفكرة يجوز لها أن تكتمل دون أن يكون «العقل» عنصرا من عناصرها؟
وبهذه الرؤية الرياضية، نتخيل أن «ليبنتز» قد ألقى على نفسه هذا السؤال: ما طبيعة «الإنسان»؟ وإلى أي حد تعتمد طبيعته تلك، على تفاعله مع بيئته؟ فنجد جواب ذلك عنده واضحا وحاسما، وهو أن كل فرد من أفراد الإنسان قد ولد وفيه كل مقوماته، وما حياته بعد ذلك إلا نشر لما كان منطويا فيه، فهو في ذلك أشبه ببرج مغلق الجدران، لا نوافذ فيه يطل منها على خارجه، أو يطل منها خارجه عليه، إنه في هذا التكوين المستقل بذاته، كالجملة العملية التي هي من النمط الرياضي دائما، ولقد أسلفنا لك شرحا يوضح كيف أن الجملة الرياضية مكتفية بذاتها، نعرف صحتها أو خطأها من طريقة تكوينها وبنائها، دون النظر إلى أي شيء مما يحيط بها من أشياء العالم ووقائعه.
अज्ञात पृष्ठ