شكر وتقدير
ملحوظة بشأن الاقتباسات ونطق الأسماء
1 - البوذية والأفيال
2 - بوذا
3 - الكارما والميلاد المتكرر
4 - الحقائق الأربع النبيلة
5 - الماهايانا
6 - انتشار البوذية
7 - التأمل
8 - الأخلاقيات
9 - البوذية في الغرب
التسلسل الزمني للبوذية
قراءات إضافية
مصادر الصور
شكر وتقدير
ملحوظة بشأن الاقتباسات ونطق الأسماء
1 - البوذية والأفيال
2 - بوذا
3 - الكارما والميلاد المتكرر
4 - الحقائق الأربع النبيلة
5 - الماهايانا
6 - انتشار البوذية
7 - التأمل
8 - الأخلاقيات
9 - البوذية في الغرب
التسلسل الزمني للبوذية
قراءات إضافية
مصادر الصور
البوذية
البوذية
مقدمة قصيرة جدا
تأليف
داميان كيون
ترجمة
صفية مختار
مراجعة
هاني فتحي سليمان
خريطة 1: الهند والمنطقة التي نشر فيها بوذا تعاليمه وعاش فيها.
خريطة 2: بوذية تيرافادا في آسيا.
خريطة 3: بوذية ماهايانا في آسيا.
شكر وتقدير
أثناء كتابة هذا الكتاب استفدت كثيرا من اقتراحات الطلاب والزملاء والأصدقاء؛ فلقد قام الطلاب الذين حضروا محاضراتي عن البوذية في كلية جولدسميث، التي استمرت 25 عاما، بأداء دور فئران التجارب أثناء اختباري مسودات فصول الكتاب. ولا يسعني إلا أن أتمنى ألا يكون وقع تلك التجربة عليهم مؤلما جدا. ولقد استفدت أيضا استفادة عظيمة من المعرفة المتراكمة للزملاء: لانس كازنس، وبيتر هارفي، وتشارلز بربيش، الذين كانوا كراما في تقديم النصح والتوجيه كي لا أرتكب أي خطأ أو سهو. وأي خطأ أو سهو بقي في هذا الكتاب فأنا أتحمل مسئوليته وحدي.
وفي النهاية، إنه لمن دواعي سروري أن أتوجه بالشكر إلى جورج ميلر، من مطبعة جامعة أكسفورد، على نصحه ودعمه وتشجيعه لي لتقديم هذا الكتاب من وقت الشروع في تأليفه وحتى نشره. وأتوجه بالعرفان أيضا إلى ريبيكا هنت لمهارتها التي جعلت عملية الإنتاج في غاية السهولة والكفاءة؛ فأي مؤلف لن يطمع في مساعدة مهنية في تحرير كتابه أكثر مما قدمته.
داميان كيون
ملحوظة بشأن الاقتباسات ونطق الأسماء
بين الحين والآخر سيجد القارئ إشارات مثل «ديجا». هذه إشارات إلى نصوص بوذية مقدسة، لا سيما طبعات جمعية النصوص البالية لقانون الشريعة البوذية القديم. والمراجع البوذية تسير على النحو التالي: الفصل يطلق عليه «نيكايا» ويضم الموضوعات المختلفة التي تحدث عنها بوذا، ويطلق على كل موضوع منها اسم «سوتا». «ديجا نيكايا». «ماجيما نيكايا». «أنجوتارا نيكايا». «ساميوتا نيكايا».
لغة النصوص وطريقة نطقها
جمعت النصوص البوذية وترجمت إلى كثير من اللغات، من بينها: اللغة البالية، والسنسكريتية، والتبتية، والتايلاندية، والبورمية، والصينية، واليابانية، والكورية. ورغم ذلك، فقد جرت العادة على ذكر المصطلحات البوذية التقنية إما باسمها باللغة البالية وإما باللغة السنسكريتية. وفي هذا الكتاب سوف أستخدم في العموم الأسماء باللغة البالية، وخلاف ذلك سيكون مع المصطلحات التي اشتهرت باللغة السنسكريتية بدلا من اللغة البالية، وأمثال هذه المصطلحات هي: «كارما»، و«نيرفانا». وسوف أحتفظ بالترجمة الحرفية لأسماء الأعلام الشائعة في الأدب (مثل الإمبراطور أشوكا). وسيذكر مرادف الاسم باللغة السنسكريتية واللغة البالية بالنسبة إلى المصطلحات الأكثر أهمية بين قوسين.
الفصل الأول
البوذية والأفيال
ذات مرة روى بوذا قصة العميان والفيل (كتاب أودانا). قال إن أحد الملوك السابقين لمدينة سافاتي أمر بجمع كل رعاياه العميان وتقسيمهم إلى مجموعات. وبعد ذلك أخذت كل مجموعة إلى أحد الأفيال ووضعت أمام جزء معين من أجزاء جسم ذلك الحيوان - كالرأس والخرطوم والأرجل والذيل، وهكذا. وفيما بعد طلب الملك من كل مجموعة أن تصف طبيعة ذلك الحيوان. فأما الذين لمسوا رأس الفيل فوصفوه بأنه جرة ماء، وأما الذين لمسوا أذني الفيل فشبهوه بمروحة ذر الغلال، وأما أولئك الذين لمسوا قدم الفيل فقالوا إنه يشبه العمود، وأما الذين لمسوا نابه فأصروا على أن الفيل يشبه الوتد. وأخذت تلك المجموعات تتناقش فيما بينها وتصر كل مجموعة على أن تعريفها هو الصحيح وأن الآخرين مخطئون.
إن دراسة البوذية على مدار القرن الماضي أو نحو ذلك كانت تشبه مقابلة الرجال العميان بالفيل من عدة نواح؛ فطلبة البوذية اعتادوا التمسك بجزء صغير من منهج البوذية، وافترضوا أن استنتاجاتهم عن المنهج بأكمله صحيحة. وفي أغلب الأحيان كانت الأجزاء التي تمسكوا بها تشبه إلى حد ما أنياب الفيل - فهي جزء بارز، لكنه لا يمثل الحيوان ككل. ونتيجة لذلك، انتشرت تعميمات كثيرة خاطئة ومتسرعة عن البوذية تصفها بأنها على سبيل المثال «سلبية»، و«منقطعة عن متع الدنيا»، و «متشائمة»، وغير ذلك. وعلى الرغم من أن هذا الميل إلى المبالغة في التعميم أصبح الآن أقل شيوعا، فإنه ما زال موجودا في التراث القديم الذي يميل مؤلفوه إلى تضخيم سمات معينة في تعاليم البوذية، أو افتراض أن السمات التي كانت حقيقية عن البوذية في إحدى الثقافات أو الفترات التاريخية تنطبق صحتها في كل مكان آخر.
ومن ثم فإن أول درس مستفاد من قصة العميان هو أن البوذية موضوع كبير ومعقد، ويجب أن نحذر من التعميمات المستندة إلى أساس معرفة جزء معين. وبصفة خاصة، فإن العبارات التي تبدأ بقول: «يعتقد البوذيون ...» أو «تعلم البوذية ...» يجب أن تعامل بحذر. ونحتاج إلى إضفاء صفات معينة على تلك الجمل من خلال التساؤل عن «هوية» البوذيين المشار إليهم، و«المنهج» البوذي المتبع، و«المذهب» أو الطائفة التي ينتمون إليها ... وهكذا، قبل أن تصبح تلك العبارات ذات قيمة. وقد يذهب بعض الدارسين إلى أبعد من ذلك ويزعمون أن الظاهرة العابرة للثقافات المعروفة لدى الغرب باسم «البوذية» (أصبحت كلمة «البوذية» مألوفة في الاستخدام الغربي في ثلاثينيات القرن التاسع عشر) ليست كيانا واحدا على الإطلاق، وإنما هي مجموعة من المناهج الفرعية. وفي هذه الحالة، ربما يجب التحدث عن «أنواع من البوذية» وليس عن «بوذية واحدة». ورغم ذلك، لعل أفضل تفسير لميل هؤلاء الأكاديميين إلى «تفكيك» البوذية على هذا النحو هو أنه رد فعل لميل القدماء إلى «بيان جوهر» البوذية؛ أي افتراض أن البوذية كيان موحد متماثل مهما اختلف المكان. أما الحل الوسط هنا فهو اعتبار أن البوذية تشبه الفيل الموجود في القصة؛ فهي مجموعة غريبة من أجزاء مستبعدة إلى حد ما، لكنها أيضا تمتلك جسما أساسيا ترتبط به تلك الأجزاء.
أما الدرس الثاني الذي يمكن تعلمه من هذه القصة - وهو درس أقل وضوحا لكنه ليس أقل أهمية - فيتمثل في وجود أنواع كثيرة للعمى؛ فلقد أوضحت تجارب الإدراك البصري أن العقل يؤثر كثيرا على ما نراه. وإلى حد كبير يرى البشر ما يتوقعون رؤيته - أو ما يرغبون في رؤيته - ويحجبون الأشياء التي لا تتفق مع نموذج الواقع الموجود في مخيلتهم. وفي الثقافات المختلفة يربى الأطفال على الرؤية والفهم بطرق مختلفة، ولهذا السبب في أغلب الأحيان تبدو تقاليد الآخرين مثيرة أو غريبة في عيون الغرباء عن ثقافة ما، بينما تبدو طبيعية للغاية في عيون أبناء هذه الثقافة. وعند التعامل مع الثقافات الأخرى، ربما نتخيل وجود معتقداتنا وقيمنا في تلك الثقافات ثم «نكتشف» في مصدرها صحة ذلك على نحو يثير الدهشة. وبهذه الطريقة أصبحت البوذية هي بالضبط ما نأمل (أو نخشى) أن تكون عليه. حتى الخبراء من الناس ليسوا محصنين ضد النظر للوراء و«إضفاء» افتراضاتهم الخاصة على البيانات. كثير من الباحثين الغربيين فسروا البوذية بطرق تحمل بصمات معتقداتهم وتنشئتهم على نحو واضح أكثر مما تحمل بصمات البوذية نفسها.
وبالإضافة إلى ميل الأفراد إلى إضفاء تصوراتهم الخاصة على الثقافة الجديدة على نحو يؤدي إلى إحداث تأثيرات ذاتية الطابع مختلفة الأشكال على تلك الثقافة، ثمة خطر آخر؛ ألا وهو التنميط الثقافي الذي يظهر عند أي لقاء مع «الآخر». وقد لفت الكتاب المعاصرون، أمثال إدوارد سعيد، الانتباه إلى ميل الغرب في فنه وأدبه إلى تكوين «شرق» يكون انعكاسا لظله أكثر من كونه تصويرا دقيقا للحقيقة الواقعية. ولسنا في حاجة إلى قبول نظرية المؤامرة المعقدة التي يقدمها سعيد، والتي تقضي بأن الغرب قولب الشرق فكريا كتمهيد لاستعماره سياسيا، كي ندرك أننا عند الشروع في دراسة الثقافات الأخرى لا يمكننا إلا أن نتأثر بالتوجهات والافتراضات المتبقية في ثقافتنا؛ تلك التوجهات والافتراضات التي نكاد نكون غير مدركين وجودها. وفيما يتعلق بدراسة البوذية، يجب حينئذ الانتباه إلى خطر «العمى الثقافي»، وسوء الفهم الذي يمكن أن ينجم عن افتراض أن التصنيفات والمفاهيم الغربية تنطبق على الثقافات والحضارات الأخرى.
هل البوذية دين؟
شكل 1-1: معبد روريكو جي، ياماجوتشي، اليابان. هذه الباجودا ذات الطوابق الخمسة، التي تعد واحدا من أقدم مباني الباجودا في اليابان، تعود إلى القرن الخامس عشر، ويبلغ ارتفاعها 31 مترا.
تواجهنا مشكلات كهذه بمجرد أن نحاول تحديد ماهية البوذية . هل هي دين؟ هل هي فلسفة؟ هل هي أسلوب حياة؟ هل هي نظام أخلاقي؟ ليس من السهل تصنيف البوذية تحت أي اسم من تلك الأسماء؛ إذ تمثل البوذية تحديا يجعلنا نعيد النظر في بعض هذه الأسماء المذكورة؛ فعلى سبيل المثال، ما المقصود ب «الدين»؟ سيقول معظم الناس إن الدين معتقد مرتبط بالإيمان بالرب. والرب بدوره يفهم على أنه كائن أسمى خلق العالم والمخلوقات الموجودة به. علاوة على ذلك، يهتم الرب عن كثب (أو ظل يهتم إلى الآن على أقل تقدير) بمسيرة التاريخ البشري، من خلال إقامة المواثيق الإلهية، والإعلان عن إرادته بشتى الطرق، وبالتدخل عن طريق المعجزة في الأوقات الحرجة.
إذا كان الإيمان بالرب على هذا النحو هو جوهر الدين، فمن ثم لا يمكن أن تكون البوذية دينا؛ فالبوذية لا تحمل هذا المعتقد، بل على العكس تنكر وجود إله خالق. وفي ضوء التصنيفات الغربية المتاحة، فإن هذا الأمر يجعل البوذية «إلحادية». ورغم ذلك، فإن إحدى مشكلات هذا التصنيف تتمثل في أن البوذية تعترف بوجود كائنات خارقة للطبيعة مثل الآلهة والأرواح. والمشكلة الأخرى هي أن البوذية لا تحمل الكثير من السمات المشتركة مع الأيديولوجيات الإلحادية الأخرى كالماركسية على سبيل المثال. ومن هذا المنطلق، ربما يكون التصنيف على أساس «الألوهية» و«الإلحادية» غير مناسب في هذا الصدد. واقترح البعض الحاجة إلى تصنيف جديد - ألا وهو دين «لا إلهي» - كي تدخل البوذية تحت مظلة الأديان. وثمة احتمال آخر، ألا وهو أن تعريفنا الأصلي للدين هو ببساطة تعريف ضيق الأفق. فهل يمكن ألا تكون فكرة الإله الخالق، التي تعد سمة أساسية في أحد الأديان - أو في مجموعة من الأديان - هي السمة المميزة الحاسمة في كل الأديان؟ وعلى الرغم من أن هذه الفكرة محورية على نحو مؤكد للديانات «الإبراهيمية» أو الأديان «السامية»؛ أي اليهودية والمسيحية والإسلام، فربما توجد أنظمة عقائدية أخرى - مثل الكونفوشيوسية والطاوية - تشبه الدين الغربي في نواح كثيرة لكنها تفتقر إلى هذا المكون.
الأبعاد السبعة للدين
منذ أن بدأ جديا مجال الأديان المقارنة بعد الحرب العالمية الثانية، مثلت البوذية لغزا للدارسين الذين حاولوا تقديم تعريف مقبول لهذا الموضوع. وكان من أنجح أساليب التعامل مع هذه المشكلة ذلك الأسلوب الذي تبناه نينيان سمارت الذي حلل ظاهرة الدين إلى سبعة أبعاد رئيسية بدلا من تقديم تعريف للموضوع؛ وبذلك يمكن القول بأن الأديان لديها بعد عملي وطقسي، وبعد تجريبي وعاطفي، وبعد سردي أو أسطوري، وبعد عقائدي وفلسفي، وبعد أخلاقي وتشريعي، وبعد اجتماعي ومؤسسي، وبعد مادي. وما يلفت النظر في هذا الأسلوب هو أنه لا يختصر الدين في أي من هذه المبادئ أو المعتقدات، أو يزعم أن كل المؤمنين بالأديان لديهم قاسم مشترك؛ فالبيانات المأخوذة من مختلف الثقافات والفترات التاريخية توضح أنه في العموم لا يوجد بينها قاسم مشترك. وعلى الرغم من ذلك، يبدو أنه توجد مجموعة من الأشياء التي تشكل مجتمعة الظاهرة التي نسميها «الدين»؛ فما وضع البوذية فيما يتعلق بتلك الأبعاد السبعة؟ إن تحليل البوذية من خلال كل بعد من هذه الأبعاد تباعا سوف يميزنا عن الرجال العميان؛ إذ سنتمكن من استكشاف سبعة أجزاء من الفيل بدلا من جزء واحد فقط.
البعد العملي والطقسي
البعد العملي والطقسي أقل وضوحا في البوذية منه في الأديان التي تربطها علاقة قوية بالأسرار المقدسة مثل اليهودية أو المسيحية الأرثوذكسية. وليس للرهبان البوذيين دور كهنوتي - فهم ليسوا وسطاء بين الرب والبشر - كما أن ترسيمهم رهبانا لا يمنحهم أي قوى خارقة ولا أي سلطة. ورغم ذلك، تشتمل البوذية على طقوس ومراسم ذات طبيعة عامة وخاصة أيضا، وكثير من تلك الطقوس يتعلق بحياة الرهبان؛ فطقوس الانضمام إلى الرهبان تتم عندما يصبح الشخص راهبا (فيحلق رأسه على سبيل المثال)، وتوجد طقوس دورية مثل التدريب الجماعي على قواعد الرهبنة (الباتيموكا) في أيام البدر والهلال في كل شهر. ومن الطقوس السنوية المهمة مهرجان «كاتينا» الذي يقدم العامة فيه مواد جديدة لصنع الحبال بعد أن ينتهي الرهبان من اعتكافهم خلال موسم المطر. يعد المعبد المحلي جزءا من مجتمع حي، ويلعب الرهبان دورا في الرفاهة الاجتماعية، واقتصاد المجتمع المحلي وسياسته. وعلى الرغم من أن العقيدة البوذية تمقت الطقوس الأخرى المتعلقة بدورة الحياة، فإن هذه الطقوس من الناحية العملية أصبحت مقبولة؛ وبذلك فإن طقوس الحماية والتعبد في المعابد أو في الأماكن المقدسة أصبحت جزءا من تقاليد ما قبل الولادة وما بعد الولادة في كل أنحاء العالم البوذي. وبالمثل فإن البركات البوذية أو وجود الرهبان البوذيين قد يضفي طابعا بوذيا على الطقوس التقليدية والحديثة لدورة الحياة، بداية من تعلم قراءة الأبجدية حتى التخرج في التعليم الثانوي أو الجامعة. وفي تايلاند، يعد الترسيم كراهب من طقوس البلوغ لدى الذكور، وعادة تسبق بركات دير الرهبان حفلات الزفاف. وفي كل مكان آخر، ولا سيما في العصور الحديثة، أصبح الرهبان والرموز البوذية يلعبون دورا أكبر في مراسم الزواج. وقد يصبح أيضا التقاعد من الحياة الصاخبة بؤرة اهتمام الطقوس البوذية إذا تزامن ذلك، كما يحدث عادة، مع الترسيم كراهب أو تبني الوصايا الثماني أو الوصايا العشر.
دين بغير رب؟
بعض الدارسين نفوا أن تكون البوذية دينا؛ لأن البوذيين لا يؤمنون بوجود كائن أعلى أو روح شخصية. لكن هل هذا حكم قائم على تعريف ضيق الأفق لمفهوم «الدين»؟ وفقا لنينان سمارت، فالأديان لديها «الأبعاد السبعة» التالية. وإذا صحت وجهة نظر سمارت، فسيبدو تصنيف البوذية كدين مبررا. (1) البعد العملي والطقسي. (2) البعد التجريبي والعاطفي. (3) البعد السردي والأسطوري. (4) البعد العقائدي والفلسفي. (5) البعد الأخلاقي والتشريعي. (6) البعد الاجتماعي والمؤسسي. (7) البعد المادي.
توجد اختلافات كبيرة بين الطقوس في المذاهب البوذية المختلفة، وقد تضافر عامل تأثير التقاليد المحلية مع طلب العوام من البوذيين (وفيهم هؤلاء الموجودون في الغرب) وأديا إلى ظهور طقوس جديدة (مثل طقس الزواج) لتوازي تلك الموجودة في الأديان الأخرى. ويبدو أن التأثير متبادل بين الطرفين؛ فهناك دلائل على أن طقوسا بوذية معينة، مثل طقس «ميزوكو كويو» الذي يتم في اليابان عقب الإجهاض، أصبحت جزءا من بعض الطقوس الغربية.
البعد التجريبي والعاطفي
البعد التجريبي والعاطفي للبوذية - البوذية بوصفها تجربة حياتية - هو أمر بالغ الأهمية. إن تجربة بوذا الشخصية في التنوير هي أساس المنهج البوذي بالكامل. وفي أغلب الأحيان يستحضر تجربته الخاصة ليستشهد بها على معتقداته، ويقول إن التعاليم غير المدعومة بتجربة شخصية هي تعاليم قليلة القيمة. ويشتمل تنوير بوذا على بعد عاطفي أيضا يتخذ صورة الشفقة الشديدة على الآخرين، وهذا هو ما حفزه على نشر تعاليمه المسماة دارما. ونظرا لشفقته على البشر بسبب معاناتهم، فقد قضى بوذا جزءا كبيرا من حياته في نشر تعاليم أدرك أنها كانت «صعبة الاستيعاب وصعبة الفهم وغامضة بحيث لا يدركها إلا الحكماء.» كي يفيد قليلا من البشر «في عيونهم قليل من التراب لكنهم يعيشون في ضياع بسبب عدم الاستماع إلى تعاليم دارما» (كتاب ماهايانا).
يشكل البعد التجريبي أهمية بالغة في البوذية؛ لأن البوذية تعتبر الحياة الدينية في جوهرها مسارا لتحويل الذات؛ فالتمارين الروحانية مثل التأمل تولد حالات وعي متغيرة يمكن أن تعجل من التطور الروحي. وفيما يتعلق بأهمية التأمل، فمن الممكن تشبيهه بالصلاة في المسيحية، على الرغم من أنه عادة ما يكون لكل من الصلاة المسيحية والتأمل البوذي أهداف مختلفة؛ فعلى سبيل المثال، عندما يتأمل البوذيون فهم لا يطلبون تلبية أمنياتهم من الرب، بل يحاولون الحصول على الحكمة والشفقة.
إن هذا التأكيد على البعد التجريبي الداخلي للممارسة الدينية يربط البوذية بالتقاليد الصوفية للهند القديمة مثل اليوجا. وفي اليوجا تستخدم تمارين كثيرة - مثل السيطرة على الوضعية والتنفس - من أجل كسب السيطرة على الجسم والعقل واستخدام قواهما الكامنة. وسنرى في الفصل التالي أن بوذا جرب بعض هذه الطرق بنفسه. وهذه الأساليب ليست مقتصرة على الهند فحسب، بل موجودة في أجزاء أخرى من العالم. وتوجد شواهد حاليا على عودة الاهتمام بالبعد الصوفي في المسيحية، وهو تطور نابع إلى حد ما من الاهتمام المعاصر بالروحانية الهندية.
البعد السردي والأسطوري
كما هي الحال مع الأديان الأخرى، فللبوذية نصيب من الأساطير والحكايات. و«الأسطورة» في هذا الصدد لا يقصد بها شيء مزيف، بل الأساطير هي القصص التي تتسم بقوة مثيرة نظرا لقدرتها على العمل على عدة مستويات في الوقت نفسه. وهذه الأساطير لها محتوى سردي، لكن لها أيضا - كما الأمثولة - محتوى مجازيا يمكن فهمه وتفسيره على عدة أوجه؛ فعلى سبيل المثال، اعتقد فرويد أن أسطورة أوديب - الذي قتل أباه وتزوج أمه - تحتوي على حقائق عالمية مهمة عن الجنس لدى البشر وعن العقل اللاواعي. وفي بعض الأحيان يكون من الصعب معرفة إن كان محتوى الأسطورة يجب أن يفهم بمعناه الظاهري أم لا. وأولئك الذين يؤمنون بالحقيقة الحرفية للكتاب المقدس سوف يميلون إلى قراءة قصة الخلق في سفر التكوين على أنها سرد حقيقي للطريقة التي بدأ بها العالم. وقد يفضل آخرون النسخة العلمية للأحداث مع التسليم بأن سفر التكوين يكشف حقيقة عميقة عن العلاقة بين الرب والكون. والبوذية القديمة لها «أسطورة خلق» خاصة بها مذكورة في خطب «أجانيانيا»، ويوجد الكثير من السير الشائعة مثل قصص «جاتاكا»، وهي مجموعة من الحكايات الأخلاقية عن الحيوات السابقة لبوذا. وفي بعض هذه الحكايات تكون الشخصيات من الحيوانات، لكن ليس على غرار خرافات إيسوب، وفي النهاية يكشف بوذا أنه كان الشخصية الرئيسية في حياة سابقة.
كثير من الوقائع المثيرة التي تحتوي على الخوارق يثري التراث البوذي، وقد أصبحت تلك الوقائع أكثر مبالغة وتكلفا مع مرور القرون. حتى في المصادر القديمة تظهر الآلهة والأرواح في كثير من الأحيان. وعادة ما يتم تصوير تلك الآلهة والأرواح في الفن والأدب البوذي على أنها تشكل جزءا من الجمهور في بعض الوقائع المهمة في حياة بوذا. وتروي إحدى القصص المثيرة كيف تعارك بوذا قبل تنويره مع مارا، الشرير، وحقق نصرا كبيرا عليه وفرق جيوشه. وتوجد أيضا بعض القصص والوقائع المتسلسلة البعيدة عن الإثارة التي تروي تاريخ البوذية في ثقافات مختلفة، لكن تلك القصص والوقائع تحتوي أيضا على سمات خيالية.
البعد العقائدي والفلسفي
لا يستخدم البوذيون في آسيا مصطلح «البوذية» لوصف دينهم، ويشيرون إليه إما باسم «دارما» (وتعني «القانون») وإما باسم «بوذا ساسانا» (وتعني «تعاليم بوذا»). وربما لا يروق للبعض منهم استخدام مصطلح «العقيدة» لوصف مفاهيمهم، من منطلق أن هذا المصطلح له إيحاءات مرتبطة بالدين الغربي. ورغم ذلك، إذا كان ما نفهمه من كلمة «عقيدة» هو الصياغة المنهجية للتعاليم الدينية في شكل متماسك من الناحية الفكرية، فلن يبدو من قبيل المبالغة استخدام هذا المصطلح في البوذية. والتعاليم العقائدية الأساسية محفوظة في مجموعة من القضايا المترابطة معروفة باسم الحقائق الأربع النبيلة، التي كونها المؤسس بوذا. وعادة ما تكون مهمة دراسة تلك المعتقدات وتوضيحها وتفسيرها مسئولية صفوة مثقفة ومتعلمة. وفي البوذية تكون مسئولية الحفاظ على النصوص وتفسيراتها ملقاة على عاتق مجموعة من الرهبان تسمى «سانجا». بيد أن الرهبان ليسوا جميعا فلاسفة؛ ففي التقليد البوذي يوجد أشخاص شعروا أن التجربة الصوفية - تلك المكتسبة من خلال التأمل - كانت الطريق لتحرر مؤكد على نحو أكبر من طريق حفظ النصوص. على الرغم من ذلك، وعلى مدار القرون، استثمرت البوذية جهدا فكريا هائلا في الدراسة العقائدية، ويمكن رؤية ذلك من خلال النصوص والأطروحات المطولة المحفوظة في كثير من اللغات الآسيوية. ونسبة قليلة جدا فقط من هذا التراث هي ما تمت ترجمتها، على الرغم من أن كثيرا من النصوص ذات الأهمية البالغة متاح الآن باللغة الإنجليزية أو بغيرها من اللغات الأوروبية.
البعد الأخلاقي والتشريعي
تحظى البوذية باحترام واسع النطاق بوصفها واحدة من الديانات ذات الأخلاقيات العالية. ويعد المبدأ الأساسي في الأخلاقيات البوذية هو عدم الإيذاء المعروف باسم («أهيمسا»)، ويتجلى هذا المبدأ في احترام الحياة؛ ذلك الاحترام الذي تشتهر به البوذية. تحض التعاليم البوذية على احترام كل المخلوقات الحية، سواء البشر أم الحيوانات، وتعتبر التدمير العمدي للحياة خطأ فادحا. وقد أدت هذه الفلسفة إلى أن أصبح كثير من البوذيين (لكن ليس جميعهم بالتأكيد) نباتيين، وتبنوا مبدأ السلام باعتباره أسلوبا للحياة. ويلعب مبدأ عدم الإيذاء دورا إيجابيا في شكل فضيلة أخرى من الفضائل البوذية الرئيسية، وهي الشفقة، كما أن الاهتمام بتخفيف المعاناة دفع البوذيين من العوام والرهبان إلى تأسيس المستشفيات، ودور الرعاية، والمدارس، والمؤسسات الخيرية.
النصوص الأولى للبوذية تدين العنف بقوة، واستخدام القوة لدعم أهداف الدين - في شكل حروب صليبية أو «جهاد» على سبيل المثال - يبدو أمرا غير مفهوم على الإطلاق بالنسبة إليهم. وهذا لا يعني القول بأن السجل التاريخي للبوذية ناصع لا تشوبه شائبة؛ حيث توجد فترات من التاريخ الآسيوي استغلت فيها البوذية لأغراض سياسية، واستخدمت لتبرير الحملات العسكرية. ورغم ذلك، كانت تلك الحوادث أقل من أن تقارن بالحروب الصليبية والحروب الدينية في العصور الوسطى وأوائل عصر الحداثة في أوروبا. وفي القرن العشرين تبنى البوذيون في التبت سياسة المقاومة السلمية لغزو أراضيهم من قبل الصينيين في عام 1950، وبعد هذا الغزو قدر عدد الذين توفوا من سكان التبت بنحو مليون، فضلا عن تدمير ستة آلاف دير. كما نشأت أيضا في اليابان حركة قوية داعية إلى السلام في أعقاب الحرب العالمية الثانية.
الأبعاد الخمسة التي ذكرناها حتى الآن كلها ذات طبيعة مجردة، والبعدان الأخيران متعلقان بالدين وتجسيده في شكله الاجتماعي والمادي.
البعد الاجتماعي والمؤسسي
عرف ألفريد نورث وايتهيد الدين بأنه «ما يفعله المرء في عزلته.» لكن الدين أكثر من مجرد تجربة شخصية داخلية (في ضوء إطارنا الحالي، يمكننا أن نرى أن هذا التعريف يركز كثيرا على البعد التجريبي). وفي العادة يشعر أتباع الدين بأنهم جزء من جماعة، وفي الغالب يرون أن لذلك أهمية سياسية ودينية أيضا، كما هي الحال في مفهوم «العالم المسيحي» في العصور الوسطى. وهذه النظرة واضحة جلية في الإسلام أيضا، الذي يرى أن الشريعة تتحكم في كل مناحي الحياة العامة والخاصة.
النواة الاجتماعية للبوذية هي جماعة الرهبان والراهبات («سانجا») التي أسسها بوذا. وعلى الرغم من أن الجماعة البوذية هي المؤسسة الاجتماعية المحورية، فإن البوذية ليست دينا مقتصرا على الرهبان؛ فالمصادر القديمة تقدم تصنيفا اجتماعيا للبوذية يفيد بأنها: «الجماعة الرباعية» التي تتكون من الرهبان والراهبات والتلاميذ المتدينين من عوام البوذيين من الرجال والنساء (ويطلق عليهم «أباساكا/أباسيكا»). وما يلفت النظر في هذا الصدد هو الشمولية والاعتماد المتبادل بين الأفراد، سواء بين الذكور والإناث أم بين العوام والرهبان. وعلى الرغم من وجود فارق واضح بين حياة الرهبنة والحياة العلمانية في كثير من مناحي العالم البوذي، فلقد وجدت محاولات لتشويش أو إزالة الحواجز بين الحياتين، وقد لاقى هذا الميل أكبر قدر من النجاح في اليابان.
يمكن أن يتخذ النظام الاجتماعي لأحد الأديان أشكالا عدة، بداية من مجموعات صغيرة يقودها معلمون وصولا إلى مؤسسات ذات هيكل هرمي التسلسل يضم ملايين من الأتباع. وتوجد في البوذية عدة تنويعات تنظيمية. وفي الأساس كان بوذا معلما متجولا جذب الأتباع من خلال جاذبية شخصيته. ومع تزايد أعداد هؤلاء الأتباع تكونت بنية مؤسسية أساسية في شكل جماعة من الرهبان لها قواعد وضوابط. ورغم ذلك، فقد أعلن بوذا أنه لا يعتبر نفسه قائد هذه الجماعة، ورفض تعيين خليفة عند وفاته، وبدلا من ذلك، شجع أتباعه على العيش وفقا لتعاليمه (الدارما) ووفقا لحكم الرهبنة، وأن يكونوا «مصابيح (أو جزرا) بعضهم لبعض» (كتاب ديجا). وعلى الرغم من أن بلدانا عديدة لديها سلطات دينية، فإن البوذية لم يكن لديها قط زعيم منفرد، ولم يكن لديها منصب مركزي يماثل منصب البابا في المسيحية. ونظرا لغياب السلطة المركزية، كلما نشبت الخلافات على أمور العقيدة أو الممارسة، مالت البوذية إلى الانقسام بسهولة. وتتحدث سجلات البوذية عن ثماني عشرة طائفة وجدت خلال قرنين بعد وفاة بوذا، وقد ظهر عدد أكبر من تلك المذاهب منذ ذلك الحين.
الطوائف والمذاهب البوذية
على مدار القرون تكونت العديد من الطوائف والمذاهب البوذية. ويوجد فرق كبير بين البوذية المحافظة الموجودة في جنوب آسيا في بلدان مثل سريلانكا وبورما وتايلاند، وبين مذاهب الشمال المجددة في العقيدة الموجودة في التبت وآسيا الوسطى والصين واليابان. في جنوب آسيا يشيع مذهب التيرافادا، ويعنى هذا الاسم «التعاليم الملزمة» أو «التعاليم الأصلية»، على الرغم من أن الترجمة الشائعة له هي «عقيدة الأقدمين». ويعتبر هذا المذهب نفسه حاضنا للتعاليم القديمة الأصلية التي تعود إلى بوذا نفسه. أما مذاهب شمال آسيا فتنتمي إلى حركة تعرف باسم ماهايانا، وتعني «العربة الكبرى». ويعرف الأفراد البوذيون أنفسهم باعتبارهم تابعين لإحدى هاتين «العائلتين»، على النحو الذي يعرف به المسلمون أنفسهم باعتبارهم إما سنة وإما شيعة، أو على النحو الذي يعرف به مسيحيو الغرب أنفسهم باعتبارهم إما بروتستانتيين وإما كاثوليكيين.
وفيما يتعلق بالنظام الاجتماعي، يبدو أن بوذا قد فضل النظام الجمهوري من النوع المستخدم بين أتباعه. وشجع الرهبان على عقد «اجتماعات كاملة ومتكررة» (كتاب ديجا) واتخاذ القرارات بالإجماع. ويختلف النظام الاجتماعي في البوذية من ثقافة إلى أخرى، وقد أظهرت البوذية قدرا عاليا من المرونة في التكيف مع تقاليد الثقافات الأصلية التي احتكت بها. ومع انتشار البوذية في الغرب، فإن من المتوقع أن تتطور الأشكال الديمقراطية للنظام الاجتماعي؛ لأن الجماعات البوذية تطور نظما اجتماعية تناسب احتياجاتها.
البعد المادي
البعد السابع والأخير مشتق إلى حد كبير من البعد الاجتماعي؛ فالبعد المادي يشمل الأشياء التي تتجسد فيها روح الدين، مثل: الكنائس والمعابد والأعمال الفنية والتماثيل والمواقع المباركة والأماكن المقدسة مثل أماكن الحج. وفي الهند، كثير من الأماكن المرتبطة بحياة بوذا أصبح مراكز حج مهمة، مثل مكان مولده ومكان تنويره، والحديقة التي ألقى فيها أولى خطبه. وفي أماكن أخرى في آسيا توجد مواقع بوذية عديدة ذات أهمية أثرية وتاريخية وأسطورية. وتشمل هذه الأماكن المنحوتات الصخرية العملاقة، مثل تلك الموجودة في بولوناروا في سريلانكا، وباميان في أفغانستان، ويون كانج في الصين. أما الأثر الأكثر شيوعا وتذكيرا بالبوذية فهو «ستوبا» واسع الانتشار، وهو أثر على شكل قبة، لكنه تحت تأثير أساليب العمارة في شرق آسيا تحول إلى مبنى الباجودا. وتحتل النصوص من الآثار الأخرى أهمية بارزة في البوذية؛ فالنصوص الدينية تعامل بقدر هائل من الاحترام نظرا لأنها تضم تعاليم بوذا وتجسد حكمته. ويعتبر نسخ أو إلقاء أو حفظ هذه النصوص نشاطا دينيا، وكذلك عملية ترجمة تلك النصوص إلى لغات أخرى.
ملخص
يمكننا أن نرى مما سبق أن الدين عبارة عن ظاهرة معقدة لا يمكن أن يوفيها حقها تعريف على غرار تلك التعريفات الموجودة في القواميس، ولا سيما عندما يكون ذلك التعريف نابعا تماما من التجربة الدينية للغرب. رغم ذلك، وبمجرد أن نبدأ في التفكير في الدين باعتباره كيانا له أبعاد متعددة، فإنه يصبح من السهل رؤية كيف أن البوذية - على الرغم من سماتها الغريبة والمميزة - تأخذ مكانها وسط عائلة الأديان العالمية. وبالعودة إلى سؤالنا الأصلي، يمكننا أيضا أن نرى لماذا كان من غير المناسب تعريف البوذية على أنها مجرد فلسفة أو أسلوب حياة أو نظام أخلاقي؛ فهي تضم كل هذه الأمور، وفي بعض الأحيان يبدو أنها تقدم نفسها بإحدى هذه الطرق. ومع ذلك، يعتمد الأمر إلى حد كبير على المنظور الذي ترى منه البوذية وعلى مقدار تجاهل بقية أبعادها الأخرى. فإذا أراد أحد الأشخاص رؤية البوذية باعتبارها فلسفة عقلانية خالية من الخرافات الدينية، فعندها - من خلال التركيز على البعد العقائدي والفلسفي - يمكن فهمها بهذه الطريقة. وإذا أراد شخص أن يراها في جوهرها سعيا للتجربة الصوفية - من خلال جعل البعد التجريبي بعدا محوريا لها - يصبح هذا ممكنا. وأخيرا، الشخص الذي يريد رؤية البوذية باعتبارها مجموعة من القيم الأخلاقية الإنسانية سوف يجد أيضا مبررا لهذه النظرة من خلال إعطاء الأولوية للبعد الأخلاقي والتشريعي.
الثقافة المادية
على الرغم من أن البوذية يمكن دراستها من خلال الأبعاد السبعة المذكورة في هذا الفصل كلها؛ فقد اعتمد الباحثون الغربيون الأوائل اعتمادا يكاد يكون حصريا على النصوص البوذية في استقاء المعلومات، ومالوا إلى التأكيد على البعد العقائدي أكثر من بقية الأبعاد. وحتى العصور الحديثة كان البعد المادي بصفة خاصة مهملا إلى حد كبير؛ مما أعطى انطباعا عن البوذية مشوها ومنزوعا من سياقه. وقد أوضح الباحثون أن هذا التوجه ربما يكون متأثرا بالنزعة البروتستانتية التي تهتم كثيرا بالنصوص باعتبارها موضع «الدين الحقيقي» وما تبع هذه النزعة من عدم تقدير للمقتنيات الدينية والممارسات الشعبية. وعلى الرغم من أن دراسة النصوص الدينية ما زالت مهمة، فإن باحثي البوذية يحولون اهتمامهم اليوم على نحو متزايد إلى المقتنيات المادية ودورها في الممارسة الدينية. وتشمل هذه المقتنيات: النقوش، والعملات المعدنية، والصور، والرموز، وأدوات الطقوس، والمسابح، والتمائم، والأضرحة، وصناديق الذخائر الدينية، وملابس الطقوس، وشهادات الترسيم، والسجلات، ومحفوظات الأديرة مثل إيصالات التبرعات وإقرارات التركات. إن مثل هذا النوع من المقتنيات والسلع يشيع وجوده في الحياة الدينية ويلعب دورا مهما في بناء الهوية البوذية. وفي أغلب الأحيان تخبرنا هذه المقتنيات عن الممارسات والمعتقدات البوذية الحقيقية على نحو أكبر مما تخبرنا به الروايات المحفوظة في النصوص الدينية.
لقد ذكرت تلك التفسيرات المحددة للبوذية لأنها التفسيرات التي لاقت رواجا لدى الغرب خلال القرن الأخير. وعلى الرغم من أن تلك التفسيرات ليست غير مشروعة بالكلية، فإنها تعاني من النقصان، وتمثل عادة رد فعل تجاه أحد جوانب النقص الملحوظة في الدين لدى الغرب. وإذا ركزنا فقط على أحد هذه الجوانب في البوذية، فإننا بهذه الطريقة سنرتكب الخطأ نفسه الذي ارتكبه العميان عندما أمسكوا جزءا واحدا فقط من الفيل.
بعد أن استنتجنا أن البوذية دين من الأديان، مهمتنا في الفصول التالية استعراض بعض أبعادها بمزيد من التفصيل. والأبعاد التي ستحظى بالقدر الأكبر من الاهتمام في هذا الكتاب هي: البعد العقائدي والبعد التجريبي والبعد الأخلاقي، على الرغم من أنه سيشار إلى الجوانب الأخرى في المواضع المناسبة. ورغم ذلك يجب أولا أن نتعرف على حياة مؤسس البوذية سيدهاتا جوتاما.
الفصل الثاني
بوذا
ولد بوذا في منخفضات تيراي بالقرب من سفح جبال الهيمالايا داخل حدود ما يعرف اليوم بدولة نيبال. وكان شعبه يعرف باسم شعب ساكيا؛ ولهذا السبب يشار أحيانا إلى بوذا باسم «ساكياموني» أو «حكيم شعب ساكيا». وكان معروفا لدى أتباعه باسم «باجوات» أو «السيد». وكلمة «بوذا» ليست اسما لشخصه، بل لقب شرفي يعني «المتيقظ». وعلى الرغم من أنه - تحريا للدقة - يمكن استخدام اللقب للإشارة فقط إلى الشخص بعد أن يبلغ مرحلة التنوير، فإنني سوف أستخدمه للإشارة إلى بوذا في الجزء المبكر من حياته أيضا. أما اسم بوذا كما أشرنا في السابق فهو سيدهاتا جوتاما (بالسنسكريتية: سيدهارتا جوتاما).
الفترة المتعارف عليها باعتبارها فترة ممثلة لحياة بوذا هي ما بين 566 و486 قبل الميلاد، على الرغم من أن الأبحاث الحديثة تشير إلى أن وفاة بوذا على الأرجح كانت في وقت قريب من عام 410 قبل الميلاد (الترتيب الزمني في هذه الفترة يكون دقيقا فقط في نطاق عشر سنوات). وترجح المصادر التقليدية أن بوذا وعائلته ينتمون إلى الطبقة الثانية من الطبقات الهندية الأربع - أي طبقة المحاربين الأرستقراطية المعروفة باسم الخطيين (بالسنسكريتية: الكشاتريون)، على الرغم من عدم وجود دليل على وجود النظام الطبقي بين شعب ساكيا.
أما الإشارات المتعلقة بالمكانة الملكية لوالد بوذا، سودهودانا، ومظاهر العظمة والأبهة في بلاطه الملكي، كما ترويها نصوص لاحقة على وجه الخصوص، فهي من باب المبالغة على الأرجح. ورغم ذلك، فإن كون بوذا من النبلاء سببه حكم مولده، وكذلك مكانته الرفيعة تعد من الموضوعات الشائعة في الفن البوذي والأدب البوذي، كما أن خلفيته الأرستقراطية - على الرغم من أنها قد لا تكون على القدر الرفيع الذي تصوره لنا المصادر - قد ساعدته بلا شك في ترك انطباع مقبول لدى ممالك شمال شرق الهند التي زارها باعتباره معلما متجولا.
قدر معين من المعلومات المتعلقة بحياة بوذا محفوظ في قانون بالي (انظر مربع النص)، لكن لم توجد أي محاولة لجمع هذه التفاصيل معا في عمل سردي متواصل إلا بعد خمسمائة عام من وفاة بوذا. وفي السابق، أي خلال قرنين من رحيل بوذا، بدأت سير جزئية عن حياته في الظهور، ويرى البعض أن هذا الأمر زاد من فضول الناس ورغبتهم في معرفة حياة ذلك الرجل المميز. وأشهر السير التي تناولت حياة بوذا وأكثرها أناقة هي قصيدة ملحمية معروفة باسم «بوداكاريتا» أي «أفعال بوذا»، وألفت تلك القصيدة في القرن الأول بعد الميلاد على يد الأديب البوذي الشهير «أشفجهوشا». وفي ذلك الوقت أضيفت إلى السير غير المكتملة المكتوبة في السابق تفاصيل مثيرة على نحو أصبح من الصعب فيه الفصل بين الحقيقة والأسطورة. وربما ألهمت هذه السير السردية لحياة بوذا صنع صور لبوذا لم تكن موجودة حتى حلول القرن الثاني من الميلاد تقريبا. وقبل ذلك كان يتم تمثيل بوذا في الرسوم من خلال الرموز فقط، كأن يرمز إليه بشجرة أو عجلة أو مظلة، إما بسبب التبجيل وإما لصعوبة إعطاء تعبير جمالي لحالة السمو التي اكتسبها . وبعد فترة بدأ الفنانون في تجسيد صورة بوذا في الحجر أو في غيره من المواد، وأصبحت هذه الصور التجسيدية نقطة تركيز الممارسات الدينية لدى العامة.
حياة بوذا
تتسم المعلومات المتعلقة بحياة بوذا التي تتناولها المصادر الأولية بالتناثر وعدم الاكتمال؛ فعندما كان بوذا يلقي تعاليمه حول موضوع ما، كان يتذكر جزءا من حياته الأولى ثم يبدأ في سرده. وبعض هذه السير مذكور بالتفصيل، والبعض الآخر يغلب عليه الغموض، فضلا عن أن الترتيب الزمني لتلك الأحاديث لا يكون واضحا دائما. ولمثل هذه الأسباب فإن مهمة وضع سيرة حياتية لبوذا معتمدة على المصادر الموجودة ليست بالمهمة السهلة. علاوة على ذلك، فإن مفهوم السيرة الحياتية هو اختراع غربي حديث نسبيا، ولم تكن السيرة الحياتية نوعا أدبيا موجودا في الهند القديمة. وقد أعاقت صعوبات مماثلة محاولات تقديم سير حياتية للشخصيات الدينية القديمة الأخرى مثل المسيح، ومن غير المحتمل أن يحظى السعي وراء تقديم «السيرة التاريخية لبوذا» بنجاح أكبر. وما يزيد الأمر تعقيدا هو إيمان البوذيين بتناسخ الأرواح؛ ومن ثم فإن تقديم سيرة حياتية كاملة لبوذا يستلزم تضمين حيواته السابقة! وعلى الرغم من عدم وجود سرد متواتر قديم لحياة بوذا، فإنه يوجد اتفاق على الترتيب الزمني التقريبي لبعض المحطات المهمة في حياته المهنية. وباختصار، فإن الحقائق المتعلقة بحياته هي كالتالي: تزوج وهو في السادسة عشرة من فتاة تدعى ياشودار، أنجبت له فيما بعد صبيا يدعى راهولا (يعني «القيد»)، وبعد فترة قصيرة من ميلاد ابنه، ترك بوذا المنزل في سن التاسعة والعشرين للبحث عن المعرفة الدينية، وبلغ مرحلة التنوير في سن الخامسة والثلاثين. وقضى الخمس والأربعين سنة المتبقية من حياته في إعطاء التعاليم الدينية، وتوفي في سن الثمانين. ويركز البوذيون عادة على أحداث رئيسية معينة في الحياة المهنية لبوذا باعتبارها الأهم، ويحتفون بها بعدة طرق في الأدب والأسطورة والطقوس والحج للأماكن التي حدثت فيها. والأحداث الأربعة الأهم في حياة بوذا هي: ميلاده، وتنويره، وأول خطبة ألقاها، ووفاته.
النصوص الأولى
تعاليم بوذا مسجلة في مجموعات مختلفة من النصوص تعرف باسم «القوانين». وهذه النصوص مأخوذة من تقليد شفهي يعود إلى زمن بوذا، وحفظت عن طريق الإنشاد الجماعي. النسخة الوحيدة من هذه القوانين القديمة التي ظلت محفوظة بلا تحريف هي قانون بالي، وترجع تسميتها إلى اللغة البالية المكتوبة بها، وهي لغة عامية قريبة من اللغة السنسكريتية التي تحدث بها بوذا. دون قانون بالي كتابة في سريلانكا في حوالي منتصف القرن الأول قبل الميلاد، ويتكون من ثلاثة أجزاء أو ثلاث «سلال» (بالسنسكريتية: بيتاكا)، وهي: (1) الأجزاء (سوتا بيتاكا) أو خطب بوذا المقسمة إلى خمسة أقسام معروفة باسم «نيكايا». (2) لائحة قواعد الرهبنة (فينايا بيتاكا) التي تضم قواعد الانضباط في حياة الرهبنة. (3) الأطروحات الفلسفية (أبهيداما بيتاكا)، وهي تكملة متأخرة نسبيا للأعمال الفلسفية. يفترض غالبا أن لكل دين نصا مقدسا واحدا خاصا به، لكن هذا لا ينطبق على البوذية. إن قانون بالي يمثل مرجعية لمدرسة التيرافادا فقط. أما المدارس البوذية الأخرى فقد جمعت قوانينها التشريعية الخاصة بلغات مختلفة، وغالبا ما تنطوي على اختلاف كبير في المحتوى.
ميلاد بوذا
يقال إن ميلاد بوذا، الذي لا يختلف عن ميلاد المسيح، كان محاطا بأحداث خارقة. وتصف نصوص لاحقة كيف حملت والدة بوذا مايا به؛ فلقد حلمت مايا بأن فيلا أبيض يدخل في جانبها. والصورة
2-1
توضح ذلك الحلم. وفسر لها المفسرون معنى هذا الحلم، فقالوا إنها ستحمل ولدا سيصبح إما إمبراطورا عظيما (شاكفاتي) أو معلما دينيا عظيما. وكما جرت العادة عندما اقترب الحمل من أجله، شرعت مايا في رحلة من كابيلافاتو، عاصمة جمهورية ساكيا، إلى بيت أقاربها للولادة. وعندما وصلت الملكة ومرافقوها إلى بستان جميل في لومبيني جاءها المخاض، وولدت وهي واقفة مستندة إلى جذع شجرة شالا. ويقال إن سكان السماء وصلوا للتعجب من هذا الحدث الرائع؛ لأن ميلاد بوذا واقعة سماوية ومهمة. واهتزت الأرض ووضعت الآلهة الطفل على الأرض وغسلوه في حمام ماء معجز. ووقف الصبي على الفور وخطا سبع خطوات وأعلن أن هذه هي آخر مرة يولد فيها. وسمي الولد سيدهاتا جوتاما. ومعنى سيدهاتا هو «الشخص الذي حقق هدفه» أما جوتاما فهو اسم عشيرة مشتق من اسم حكيم هندي قديم. وبعد سبعة أيام فقط من ميلاد بوذا توفيت والدته، وتربى الطفل على يد أخت والدته باجاباتي التي أصبحت الزوجة الثانية لوالده سودهودانا.
قليلة هي التفاصيل التي يقدمها قانون بالي عن طفولة بوذا، لكن الانطباع الذي تركه هو أنه عاش حياة مترفة داخل جدران قصور والده الثلاثة، التي كان كل قصر منها مخصصا لأحد الفصول الثلاثة في السنة الهندية. كان بوذا الشاب يرتدي أفخر الثياب، ويتعطر بالعطور، ويحاط بالموسيقيين والخدم الذين يلبون كل احتياجاته. وعلى الرغم من أن تلك الظروف يظن أنها قد تسفر عن «طفل مدلل» من الطراز الأصلي، فإن شخصية بوذا يبدو أنها لم تتأثر تأثرا مفرطا. ويوصف بوذا بأنه كان طفلا سابقا لسنه يتصرف كالكبار، لكنه كان يراعي مشاعر الآخرين، فضلا عن تمتعه بذكاء حاد وقوى روحانية كامنة.
شكل 2-1: الحمل ببوذا: والدة بوذا، الملكة مايا، تحلم بأن بوذا المستقبلي يدخل جانبها في شكل فيل أبيض صغير؛ رمز مبارك للغاية. جزء من إحدى لوحات تانكا في التبت.
العلامات الأربع
على الرغم من أن حياة القصر كانت مريحة، فإنها لم تكن مرضية، وحن بوذا إلى أسلوب حياة أعمق وأكثر إشباعا من الناحية الروحية. وتمثل الأساطير الأخيرة هذا السخط من خلال قصة يقوم فيها بوذا بأربع زيارات خارج القصر وهو في عربة. لقد كان والده المفرط في حمايته يخشى باستمرار أن يترك ابنه البيت ليحقق مصيره باعتباره معلما دينيا كما تنبئ له في حلم مايا؛ فجهز الشوارع لتعج بالأشخاص الأصحاء المبتسمين كي لا ينزعج سيدهاتا من أي منظر بغيض، وأخلاها من المسنين والعجزة، لكن المصادفة - أو تدخل الآلهة، كما تقول مصادر لاحقة - جعلت بوذا يقابل رجلا مسنا، فأمر بوذا قائد العربة بالعودة على الفور إلى القصر، وفي القصر تفكر في معنى أن يصبح الإنسان عجوزا. وفي رحلته الثانية قابل رجلا مريضا، وفي الرحلة الثالثة رأى جثة محمولة إلى أرض حرق الجثث. وهذه التجارب جعلته يدرك في المقام الأول الطبيعة الزائلة للوجود البشري، وعلم أنه حتى جدران القصر لا يمكنها أن تمنع المعاناة والموت. وفي رحلته الرابعة خارج القصر قابل بوذا ناسكا متسولا (سامانا)، وورد على فكره أنه نفسه يمكن أن يسلك طريقا روحانيا لحل مشكلات الطبيعة البشرية. وفي تلك الليلة قرر ترك القصر، وألقى نظرة أخيرة على زوجته وطفله النائمين، وتركهما ليصبح ناسكا متسولا لا مأوى له.
هذه القصة البسيطة المؤثرة من غير المحتمل أن تكون حقيقية بالمعنى الحرفي؛ فمن الصعب تصديق أن بوذا كان بالسذاجة التي تصوره بها القصة، أو أن زهده في حياة القصر كان أقرب إلى المفاجأة. وقد يكون من المفيد على نحو أكبر لو قرأنا القصة باعتبارها أمثولة تمثل فيها حياة القصر دعة العيش وخداع الذات، وتمثل فيها رؤية العلامات الأربع بداية إدراك طبيعة الحياة البشرية. لو كان بوذا حيا في عصرنا هذا لرأى العلامات الأربع في كل مكان حوله؛ فكل رجل مسن وكل مستشفى وكل جنازة ستظهر قصر وهشاشة الحياة، بينما ستكون كل كنيسة وكل رجل دين إثباتا لفكرة أن الحل الديني لهذه المشكلات من الممكن إيجاده. ويبدو أن الأمثولة توضح أنه على الرغم من وجود تلك العلامات في كل مكان، فإن معظم الناس - مثل بوذا الشاب - يبنون حواجز عقلية (جدران القصر) لحجب تلك الحقائق البغيضة. وحتى في هذه الحالة، ستمر أوقات تفرض فيها تلك الحقائق غير المرغوبة نفسها علينا بطريقة من المستحيل تجاهلها، مثل حالات المرض أو الوفاة، مثلما حدث عندما خرج بوذا في عربته.
الزهد والتقشف
بعد أن أفاق بوذا من دعة العيش، قرر على الفور أن يدير ظهره لحياته العائلية وأن يذهب بحثا عن المعرفة الروحية. ولم يكن هذا القرار غير مسبوق في الهند؛ فحركة سامانا - ثقافة مضادة مكونة من نساك متسولين لا مأوى لهم - كانت متأصلة في وقت بوذا. وكثير من الناس كانوا قد اتخذوا قرارات مماثلة بأن يزهدوا في العالم، وأصبح بوذا عضوا في فرق الشحاذين والفلاسفة المتجولين.
كان المعلم الأول لبوذا رجلا يدعى آلارا كالاما، وعلمه طريقة تأمل تضع المرء في حالة غشية عميقة. وكان بوذا تلميذا نجيبا، وسرعان ما أتقن القدرة على الدخول في حالة استغراق تسمى «مجال العدمية» والاستمرار فيها. وعندما أتقن بوذا هذا الأسلوب بسرعة وبدقة عرض عليه آلارا أن يشترك معه في قيادة المجموعة، ورفض بوذا طلبه؛ فعلى الرغم من أن التجربة اتسمت بالسكينة والمتعة، فإنها لم تكن الحل الدائم الذي كان يسعى إليه؛ إذ إن المرء يخرج من هذه الحالة في النهاية ويعود إلى الوعي اليقظ العادي، ولا تزال مشكلاته الأساسية المتمثلة في الميلاد والمرض والهرم والموت قائمة.
واستمر بوذا في سعيه ودرس بعد ذلك على يد معلم آخر اسمه أوداكا رامابوتا. وعلم أوداكا بوذا أسلوبا أكثر تعقيدا يسمح لممارسه بالدخول في مجال «لا هو واع ولا هو غير واع»، وهي حالة ذهنية أكثر تساميا يبدو فيها الوعي نفسه كأنه اختفى تقريبا. كان أوداكا منبهرا للغاية بتلميذه لدرجة أنه عرض أن يكون من أتباع بوذا، لكن بوذا رفض؛ لأنه شعر أن القدرة على الوصول لحالات الوعي الصوفية كانت جيدة وقيمة إلى حد ما، لكنها لم تكن الهدف الذي يسعى إليه.
وبعد تجارب التأمل هذه وجه بوذا انتباهه إلى أساليب من نوع مختلف. وتضمنت هذه الأساليب التقشف الشديد، وكان الهدف من ذلك هو كبح الشهوات والعواطف. في البداية مارس بوذا تمرينا للتحكم في التنفس، وتضمن هذا التمرين كتم النفس لمدة أطول وأطول من الوقت. وبدلا من اكتساب المعرفة الروحية كان كل ما جناه من هذا التمرين هو الصداع المؤلم. وترك بوذا هذا الأسلوب وجرب طريقة أخرى تضمنت تقليل استهلاكه من الطعام إلى جرعات قليلة، تعادل فقط ملعقة من حساء الفول يوميا. ولم يمر وقت طويل حتى أصابه الهزال وأصبح عاجزا عن الجلوس وظهره منتصب، وبدأ شعره في السقوط. وأصبح واضحا له أن هذا النوع من إهلاك الذات لا يسفر عن نتائج أيضا؛ فتركه. ورغم ذلك فإن جهود بوذا لم تذهب هباء تماما؛ فتجربته علمته أن التطرف بأي نوع كان لا طائل من ورائه . إن حياته في السابق، التي كانت مغموسة في الملذات، لم تكن مرضية، والأمر نفسه ينطبق على السنوات الست التي جرب فيها التأمل من خلال التقشف. وأدرك بوذا أن الطريق الأكثر جدوى هو «الطريق الوسطي» بين هذين النقيضين المتطرفين. ومن هذا المنطلق سيكون نمط الحياة الأكثر ملاءمة هو الاعتدال، فلا حرمان من الشهوات ولا انغماس مفرطا فيها.
التنوير
انطلاقا من هذا المبدأ، عاد بوذا إلى تناول الطعام ورجع إلى ممارسة التأمل. وقد أحرز تقدما سريعا، وفي أثناء ليلة من الليالي التي كان فيها جالسا تحت شجرة كبيرة، عرفت فيما بعد بشجرة بوذا (شجرة التين المقدسة)، اكتسب حالة اليقظة الكاملة التي كان يسعى إليها. خلال الثلث الأول من الليل، اكتسب القدرة على النظر إلى حيواته السابقة، وتذكرها بتفاصيلها الكاملة. وفي الثلث الثاني من الليل، اكتسب نوعا من البصيرة مكنه من رؤية موت وميلاد كل أنواع الموجودات في الكون على حسب أفعالهم الجيدة والسيئة. وخلال الثلث الأخير من الليل، اكتسب معرفة أنه تخلص من مدنسات الروح وأنه استأصل الشهوة والجهل للأبد. لقد «فعل كل ما يلزم فعله»، لقد وصل للنيرفانا ووضع نهاية لإعادة الميلاد، تماما مثلما تنبأ عندما ولد.
يعرف المكان الذي حصل فيه بوذا على التنوير باسم بود جايا، وظل بوذا في ذلك المكان لمدة سبعة أسابيع يفكر في مستقبله. وتساءل عن وجوب أن يصبح معلما دينيا لكن أثناه عن ذلك صعوبة توصيل الإدراك العميق الذي اكتسبه للآخرين. ولفترة من الوقت مال إلى حياة الانزواء والعزلة، لكن بعد طلب من أحد الآلهة (تزخر البوذية بعدد هائل من الآلهة التي تشبه إلى حد ما الملائكة في المسيحية) تأثر من باب الشفقة وقرر نشر تعاليمه - الدارما (بالبالية: «الداما») - للعالم. وعندما أدرك من خلال قدراته الروحية أن معلميه السابقين قد ماتا، ذهب بوذا إلى بيناريس على نهر الجانج، حيث علم أنه سيجد في هذا المكان مجموعة من خمسة زملاء سابقين أداروا ظهورهم له في السابق عندما رفض طريق التقشف.
الخطبة الأولى والحياة المهنية باعتباره معلما
بعد أن وصل بوذا إلى حديقة مخصصة للأيائل الملكية قريبة من بيناريس، وبعد بعض التردد المبدئي، رحب به زملاؤه السابقون الذين سرعان ما أدركوا التحول الذي حدث له. وأعلن بوذا نفسه «تاتاجاتا» (أي «الشخص الذي وصل إلى الحقيقة») وألقى أولى خطبه، وهذا حدث عظيم في البوذية. والخطبة الأولى محفوظة في صورة نص ديني (سوتا) يسمى «إدارة عجلة الدارما». وتحتوي هذه الخطبة على التعاليم الأساسية للبوذية موضوعة في شكل صيغة تعرف باسم الحقائق الأربع النبيلة، التي سنناقشها بمزيد من التفصيل في الفصل الرابع. والعجلة رمز مهم في البوذية، وتستخدم غالبا لتمثيل الدارما. وكانت الخطبة الأولى هي الحدث الذي أعطى الدفع المبدئي لعجلة الدارما؛ تلك العجلة التي سوف تدور للأمام بلا توقف مع انتشار البوذية في أنحاء آسيا.
شكل 2-2: بوذا يكتسب التنوير: بوذا مصورا هنا في وضعية اللوتس بعد اكتسابه التنوير مباشرة، يطلب من الأرض أن تشهد على إنجازه، وذلك من خلال لمسها بيده اليمنى. التبت الغربي، في القرنين الحادي عشر والثاني عشر بعد الميلاد.
عند سماع الخطبة الأولى أدرك الحقيقة على الفور أحد أعضاء الجمهور، وأصبح «على الطريق» أو شخصا حقق الدرجة الأولى من الفهم الروحاني. ومع شرح بوذا لتعاليمه على نحو موسع حقق النساك الأربعة المتبقون هذه الحالة أيضا. وأصبح النساك الخمسة حوارييه ومنحوا صفة الرهبنة («بيكو») خلال مراسم بسيطة. وعند سماع الخطبة الثانية لبوذا، اكتسب النساك الخمسة التنوير الكامل. وعرف كل واحد من هؤلاء الخمسة وآخرون على شاكلتهم باسم آرهات (القديسين) ولم يعرفوا باسم البددة؛ لأن لفظة البد (بوذا) تقتصر فقط على الشخص الذي اكتشف طريق التنوير بنفسه وليس من خلال السماع عنه من شخص آخر.
شكل 2-3: الخطبة الأولى: بوذا رافعا يديه في إيماءة (مودرا) ترمز إلى العجلة، في إشارة إلى الخطبة الأولى المعروفة باسم «إدارة عجلة الدارما». وتظهر قاعدة التمثال عجلة الدارما في المنتصف وعلى يمينها ويسارها أيل يرمز إلى حديقة الأيائل القريبة من بيناريس حيث ألقيت الخطبة.
شكل 2-4: قمة ستوبا سوايامبونات، كاتماندو، نيبال. ويوجد غالبا في قبة ستوبا الرفات المقدس أو غيره من الأشياء المقدسة.
سرعان ما انتشرت التعاليم، وخلال وقت قصير اكتسب التنوير عدد كبير من الأشخاص. وتحكي النصوص الأولى عن مجموعة من قديسين (آرهات) يصل عددهم إلى ستين قديسا، وقد كلف بوذا هؤلاء بالذهاب باعتبارهم مبشرين ونشر تعاليم البوذية إشفاقا على العالم. وبعد خمس سنوات عندما تكونت مجموعة الرهبان، أقنعوا بوذا بتأسيس مجموعة مماثلة من أجل الراهبات. وعلى الرغم من تردد بوذا في البداية - لأن الرهبنة نفسها كانت تطورا جديدا، وتأسيس جماعة للراهبات كان شيئا غير مسبوق - فإنه وافق في النهاية. ولم تتوسع جماعة الراهبات بالقدر نفسه الذي شهدته جماعة الرهبان، وعلى العموم، في الوقت الحاضر تمجد «سانجا» جماعة الرهبان في الأساس.
هناك ندرة في تفاصيل السيرة الحياتية لبوذا في النصف الثاني من حياته. ورغم ذلك، من الواضح أنه قضى وقته في السفر سيرا على الأقدام، متجولا في المدن والقرى في شمال شرق الهند، مخاطبا أنواعا عديدة من الأشخاص من خلفيات دينية واجتماعية واقتصادية مختلفة. وغطت رحلات بوذا منطقة بلغ طولها 150 ميلا، وبلغ عرضها 250 ميلا؛ أي منطقة أصغر إلى حد ما من أيرلندا أو ولاية بنسلفانيا. وغالبا ما يصور بوذا وهو يخاطب الجمهور في الموضوع الذي يلقي فيه تعاليمه ويجيب عن الأسئلة وينخرط في مناقشات مع أشخاص من مختلف المستويات. كان أسلوبه يتسم دائما باللطف والهدوء، وكثير من أتباعه المذكورين في النصوص الدينية يشهدون على قدرته على الإقناع وجاذبية شخصيته. وفي بعض الأحيان يصور بوذا وهو يصنع المعجزات؛ تلك القدرة التي تعود إلى القوى الروحية التي اكتسبها من خلال ممارسة التأمل. ومع ازدياد شعبيته وتزايد عدد أتباعه، أسست مراكز سكنية يمكن للرهبان المكوث فيها لجزء من العام، ولا سيما في موسم المطر الذي يصعب فيه السفر. وغالبا ما كان الملوك أو المناصرون الأثرياء هم من يتبرعون لجماعة الرهبان بمساكن الإقامة، وتحولت تلك المساكن فيما بعد إلى مؤسسات دائمة تعرف باسم «فيهارا» أو الأديرة.
وفاة بوذا
يقدم أحد النصوص المهمة التي تحمل عنوان «خطبة الرحيل الكبير » سردا للأحداث في الشهور القليلة السابقة على وفاة بوذا. وفي ذلك الوقت كان بوذا قد ناهز الثمانين من عمره وتدهورت صحته، لكنه استمر في ترحاله سيرا على الأقدام مثلما فعل طوال حياته، معتمدا على قدراته العقلية في كبح آثار الوهن الذي انتابه. وفي هذه المرحلة ظهرت الحاجة إلى اتخاذ عدة قرارات مهمة تمثلت في التساؤلات التالية: هل سيعين خليفة له؟ من سيقود الجماعة بعد رحيله؟ وفي حوار مع أناندا، ابن عمه وخادمه الشخصي المخلص، قال بوذا إنه لا توجد حاجة لخليفة له لأنه لم يعتبر نفسه قط «قائد» الجماعة. وبدلا من ذلك، يجب أن تبقى تعاليم الدارما هي الدليل بعد رحيله، ويجب أن يتمسك الرهبان بها بقوة، وأن يتمسكوا كذلك بمجموعة قواعد «فينايا» التي أرساها لإدارة حياة الرهبان. علاوة على ذلك، نصح كل شخص بأن يفكر بنفسه في الأمور المتعلقة بالعقيدة، وأن يقارن وجهات النظر والآراء بالنصوص المقدسة قبل أن يقرر قبولها أو رفضها. واتباعا لنصيحة بوذا، لم يظهر مطلقا مصدر سلطة مركزي في البوذية فيما يتعلق بأمور العقيدة، ولا توجد مؤسسة أو هيئة مخولة بإعلان مبادئ أو معتقدات للدين ككل.
توفي بوذا في بلدة صغيرة اسمها كوشينارا، مستلقيا على جنبه الأيمن بين شجرتي تين، وتقول النصوص المقدسة إن هاتين الشجرتين أزهرتا في غير موسمهما على نحو خارق للعادة. وعلى الرغم من أنه يقال غالبا إن بوذا مات بسبب تسمم الطعام بعد تناول وجبة لحم خنزير قدمها له أحد أتباعه من العوام، فإنه من الواضح من خلال الرواية المذكورة في «خطبة الرحيل الكبير» أن الوفاة حدثت في وقت لاحق، ومن الواضح أنها كانت لأسباب طبيعية. وأعطى بوذا توجيهات بأن تحرق جثته وأن تعامل مثل رفات ملك عظيم (شاكفاتي)، وذلك بأن تحفظ في ضريح مقدس على شكل جرس يعرف باسم «ستوبا» (بالبالية: «توبا») بحيث يمكن استخدام هذا النصب كمكان لتقديم العطايا والتعبد. وقبل وقت قليل من وفاته، جمع بوذا الرهبان ومنحهم فرصة لطرح أسئلة أخيرة. ولم يطرح أي منهم أي سؤال ، وهذا يشير إلى أنه في ذلك الوقت كانت كل تعاليمه مشروحة بالكامل ومفهومة على نحو جيد بين أتباعه. وبعد ذلك نطق بوذا كلماته الأخيرة فقال: «الفناء متأصل في كل شيء؛ فاحرص على أن تسعى جاهدا بذهن صاف (للوصول إلى النيرفانا).» وبعدها في سكينة وهدوء مر بمستويات عديدة من الغشية التأملية (جاهانا) قبل أن يدخل النيرفانا النهائية.
الفصل الثالث
الكارما والميلاد المتكرر
تقول النصوص إن بوذا في ليلة حصوله على التنوير اكتسب القدرة على تذكر حيواته السابقة. ويقال إنه لم يتذكر حياة واحدة أو اثنتين فحسب، بل تذكر عددا هائلا من الحيوات، بالإضافة إلى التفاصيل المتعلقة باسمه وطبقته ومهنته، وهكذا كانت الحال في كل حياة. وفي مواطن أخرى يقول بوذا إنه استطاع تذكر «ما يعادل إحدى وتسعين فترة من فترات حياته السابقة» (كتاب ماهايانا)، وإحدى هذه الفترات تساوي تقريبا عمر مجرة. وعلى الرغم من أن العقيدة البوذية تقول إن بداية عملية الولادة المتكررة، وكذلك نهايتها، لا يمكن معرفتها على وجه التحديد، فمن الواضح أن عدد مرات الولادة المتكررة للشخص هو عدد غير نهائي. وتعرف عملية الولادة المتكررة باسم «سامسارا» أو «التجوال اللانهائي»، وهو مصطلح يوحي بالحركة المستمرة مثل جريان النهر. وكل الكائنات الحية جزء من هذه الحركة الدائرية المتكررة، وسوف تستمر الولادة المتكررة لهذه الكائنات إلى أن يحصلوا على حالة النيرفانا.
لم تنشأ فكرة تناسخ الأرواح مع البوذية، بل كانت موجودة في الهند منذ عدة قرون قبل عصر بوذا. وهذا المعتقد مألوف في كثير من الثقافات، وكان منتشرا في الغرب قديما قبل أن ينظر إليه باعتباره متعارضا مع العقيدة المسيحية في حوالي القرن السادس. ورغم ذلك، فمعتقدات الهند المتعلقة بالولادة المتكررة تتسم بطبيعة مميزة بسبب ارتباطها بمعتقد الكارما، وينص هذا المعتقد على أن ظروف الولادات المستقبلية تتحكم فيها الأفعال الأخلاقية التي يقوم بها الشخص في حياته الحالية. وللكارما (بالبالية: «كاما») أهمية أساسية في المعتقد البوذي، ومن أجل فهمها لا بد من استعراض مجموعة من المفاهيم الوثيقة الصلة والمتعلقة بتصور الكون والزمن .
الكون من المنظور البوذي
يقسم المعتقد البوذي الكون إلى قسمين: قسم الكون المادي، ويعتبر وعاء أو «حاوية» (بهاجانا)، وقسم «الكائنات» (ساتفا) أو أشكال الحياة المقيمة فيه. ويتكون الكون المادي من تفاعل العناصر الخمسة، وهي: الأرض والماء والنار والهواء والفضاء (أكاسا). والعنصر الأخير من هذه العناصر، أي عنصر الفضاء، يعتبر عنصرا مطلقا، وينظر إليه في الفكر الهندي على أنه ليس مجرد غياب للعناصر الأربعة الأخرى لكنه عنصر في حد ذاته. ومن خلال التفاعل بين العناصر الخمسة تتكون «أنظمة العالم» (وهو تقريبا مرادف لمفهوم المجرة في وقتنا المعاصر)، تلك الأنظمة الموجودة في جميع الاتجاهات الستة للكون (الشمال والجنوب والشرق والغرب والأعلى والأسفل).
ويعتقد أن أنظمة العالم تشهد دورات تطور واضمحلال تستمر لمليارات السنين؛ فهي تأتي إلى الوجود وتستمر لبعض الوقت، ثم تتحلل تدريجيا قبل أن تدمر في كارثة هائلة. وفي الوقت المناسب سوف تتطور مرة أخرى لإكمال دورة كبيرة تعرف باسم «الفترة الكبرى». وبطبيعة الحال، الكائنات التي تسكن هذه الأكوان المادية تتأثر بهذه الأحداث، وبالفعل يوجد اعتقاد بأن الحالة الأخلاقية للسكان تحدد مصير نظام العالم؛ فالعالم الذي يسكنه أشخاص جهلاء وأنانيون على سبيل المثال سوف ينهار بمعدل أسرع من العالم الذي يسكنه سكان حكماء وفضلاء. إن فكرة أن الكائنات ليست مجرد رعاة للطبيعة، بل تخلق الطبيعة إلى حد ما، لها انعكاسات مهمة على الفكر البوذي بشأن النظام البيئي.
سيكون واضحا بالفعل أن الكون في البوذية يختلف في جوانب مهمة عن الفكر الديني السائد في الغرب؛ فسفر التكوين يصور الخلق كحدث فريد، ويعلمنا الكتاب المقدس أن العالم سوف ينتهي يوم القيامة. وبين هذين الحدثين انفتحت في الأبدية نافذة زمنية مؤقتة، وخلال هذه النافذة تحدث دراما مسرحية فريدة؛ دراما السقوط والخلاص. وهذه الدراما هي ما يشكل «التاريخ» الذي يتكون من مجموعة أحداث خطية تقدمية بوجه عام. وفي هذه الدراما (النسخة العلمانية منها تستعيض عن الخلاص ب «التقدم») تكون العلاقات الإنسانية هي دائما المحور. ولعل أوضح مثال لهذا التصور هو الاعتقاد الذي كان سائدا في علم الكونيات قبل كوبرنيكوس الذي كان يضع الأرض في مركز الكون. على الجانب الآخر، ترى وجهة النظر الهندية أن مثل هذا التصور عن العالم يتسم بالتمركز حول الإنسان وبضيق الأفق؛ فالأرض ليست على الإطلاق المركز الذي يدور حوله الكون، والبشر ليسوا الممثلين الوحيدين على المسرح. علاوة على ذلك، يرى المنظور الهندي الزمن دائريا وليس خطيا؛ فالتاريخ ليس له اتجاه أو غرض شامل، وقد تكرر أنماط متشابهة من الأحداث نفسها مرات عديدة.
شكل 3-1: «عجلة الحياة» (بهافاشاكرا) أو العوالم الستة للميلاد الجديد.
تخبرنا أسطورة الخلق المذكورة في خطبة «أجانيانيا سوتا» قصة مختلفة عن تلك المذكورة في سفر التكوين، وتصف الأسطورة كيف أنه بعد تدمير أحد أنظمة العالم يولد تدريجيا سكان ذلك العالم في عالم جديد ناشئ آخذ في التطور. في البداية، تكون أجسامهم شفافة ولا يوجد فرق بين الجنسين، وعندما يصبح نسيج نظام العالم الجديد أكثر سمكا تنجذب إليه تلك الكائنات الشبيهة بالأرواح وتبدأ في استهلاكه مثل الطعام، وببطء تصبح أجسادها أقل أثيرية إلى أن تشبه الأجسام المادية الكبيرة التي لدينا الآن. وتؤدي المنافسة على الطعام إلى المشاجرات والنزاعات، وينتخب الناس ملكا لحفظ السلام، وهذا الحدث يمثل أصول الحياة الاجتماعية. وعلى الرغم من أن هذه الأسطورة يمكن اعتبارها سخرية من المجتمع البشري بقدر ما يمكن اعتبارها سردا لقصة الخلق، فإنها تمثل تناقضا مثيرا مع سفر التكوين، فبينما يرجع التراث اليهودي المسيحي سقوط الإنسان إلى التكبر والعصيان، ترجع البوذية أصل معاناة البشر إلى الرغبة.
العوالم الستة للميلاد الجديد
في كل نظام عالمي توجد عدة «عوالم» مختلفة للميلاد الجديد. وتدون المصادر الأولى خمسة عوالم، لكن العوالم المتأخرة تضيف عالما آخر - عالم الجبابرة - لتصبح ستة في الإجمال، وسوف أعتمد هذا النسق في هذا الكتاب. هذه العوالم الستة هي موضوع شائع في الفن البوذي وتصور في أغلب الأحيان في «عجلة الحياة» («بهافاشاكرا»). ويمكن رؤية هذه العوالم في الشكل
3-1 . والعوالم الثلاثة الموجودة أسفل خط المركز تعتبر سيئة الحظ تماما. ومن حيث ترتيبها، فهي تعتبر نسخة موسعة من النسخة المسيحية التقليدية المتمثلة في الجحيم والمطهر والأرض والجنة، مع الفارق المتمثل في إمكانية ميلاد الشخص من جديد على نحو متكرر من عالم إلى آخر. أما المصادر المتأخرة (فيما بعد القرن الخامس الميلادي) فتقسم الجنة البوذية، التي تظهر في أعلى الشكل، إلى ستة وعشرين مستوى أو «منزلا» مختلفا؛ ولذلك، عند ضم العوالم الخمسة الأولى نصل إلى واحد وثلاثين مصيرا ممكنا للميلاد الجديد.
وأسهل طريقة لتصور هذا الترتيب هو التفكير في مبنى إداري مكون من واحد وثلاثين طابقا. في الطابق السفلي يوجد الجحيم؛ مكان الشقاء الذي تعاني فيه الكائنات نتائج أفعالهم الشريرة التي اقترفوها في الحيوات السابقة. وفي أثناء وجودهم في الجحيم يخضعون لأنواع مختلفة من العذاب - صور تصويرا واضحا في الرسوم الشعبية - مثل الغلي في الزيت أو تقطيع الأطراف. بيد أن الجحيم في البوذية (أو بالأحرى «أنواع الجحيم»؛ نظرا لوجود العديد منها) يختلف عن الجحيم من المنظور المسيحي في أمرين؛ الاختلاف الأول هو أنه ليس مكان لعن أبدي، ومن هذا الجانب يتشابه إلى حد كبير مع المطهر المسيحي، فهو مرحلة مؤقتة سوف يحرر منها الشخص في النهاية. ويأتي التحرير عندما تنقضي الكارما الشريرة التي أرسلت الشخص إلى الجحيم. والاختلاف الثاني هو أنه في البوذية يوجد جحيم حار وجحيم بارد، وفي الجحيم البارد يكون العذاب بفعل التجميد بدلا من الشي.
وفوق الجحيم يوجد عالم الحيوانات. والميلاد من جديد على هيئة حيوان أمر غير مرغوب لأسباب بديهية؛ فالحيوانات تحكمها الغريزة الوحشية وتفتقر إلى الملكة العقلية اللازمة لفهم طبيعة موقفها، أو لفعل أمور كثيرة من أجل تحسين ذلك الموقف. بالإضافة إلى ذلك، فإن الحيوانات تتعرض للقنص كي تكون طعاما للإنسان أو لغيره من المفترسات. وفوق الحيوانات يوجد عالم الأشباح. وهؤلاء هم الأرواح التعيسة التي تحوم حول حواف عالم البشر، ويمكن رؤيتها أحيانا كأشكال ظلالية. وعادة ما تكون الأشباح بشرا سابقين كونوا ارتباطات قوية تجعلهم محتجزين في الأرض. لقد استهلكتهم رغباتهم التي لا يمكنهم إشباعها مطلقا، ويظهرون في الرسوم الشعبية في صورة مخلوقات طيفية ذات معدة كبيرة وفم صغير في رمزية إلى الجوع النهم الذي يفتقر دائما إلى الإشباع. أما المستوى الرابع فهو عالم الجبابرة، وهم سلالة من الكائنات الشيطانية المحاربة يقعون تحت رحمة نوازعهم العنيفة، فتحفزهم شهوة السلطة ويسعون دائما إلى الحروب التي لا يجدون فيها أي إشباع.
وفي المستوى الخامس يوجد عالم البشر. ويعتبر الميلاد الجديد على هيئة بشر أمرا مرغوبا للغاية وصعب المنال للغاية أيضا؛ فعلى الرغم من وجود العديد من المستويات الأعلى التي يمكن أن يحدث الميلاد الجديد في ظلها، فمن المحتمل أن تعيق هذه المستويات التقدم الروحي. فإذا ولد المرء من جديد على هيئة إله في جنة مثالية، فمن الممكن أن ينزلق الإنسان بسهولة إلى حياة الدعة ولا يبصر الحاجة إلى السعي وراء النيرفانا. على النقيض من ذلك، يذكر الوجود البشري باستمرار بمآسي الحياة (على سبيل المثال «العلامات الأربع» التي رآها بوذا مثل الهرم والمرض) بالإضافة إلى فرصة الوصول إلى حل دائم لمشكلات الحياة؛ فالبشر لديهم العقل والإرادة الحرة، ويمكنهم استخدام هذه الملكات لفهم الدارما وتطبيق تعاليم البوذية؛ ولذلك تعتبر الحياة في هيئة بشرية «حلا وسطا» يقدم توازنا مناسبا بين النعيم والمعاناة.
شكل 3-2: الكون في المنظور البوذي: تمثل الدائرة الموجودة في المنتصف السطح المسطح للأرض الذي كان يعتقد أنه يحمل أربع قارات كبرى مختلفة الأحجام. وفوق ذلك توجد المنازل السماوية التي تسكنها الآلهة، وبالأسفل توجد أنواع الجحيم وعوالم المعاناة الأخرى. تايلاند، تقريبا عام 1820 ميلاديا.
أما الأدوار العليا الستة والعشرون من هذا المبنى (المستويات من 6 إلى 31)، فهي مساكن أو منازل الآلهة (ديفا). والآلهة الدنيا هم أشخاص، نظرا لأدائهم أعمالا حسنة، ينعمون الآن بحالات وجود تتسم بالتناغم والنعيم. وتضم هذه الآلهة شخصيات مهمة من الآلهة الهندوسية مثل إندرا وبراهما، وقد أصبحا يلعبان الآن دورا مهما في النصوص البوذية، بالإضافة إلى آلهة «سماء الثلاثة والثلاثين»، وهي هيئة مكونة من ثلاثة وثلاثين إلها يحكمهم ملكهم ساكا (بالسنسكريتية: شاكيا). وتسكن هذه الآلهة على قمة جبل ميرو الأسطوري وتشبه آلهة جبل الأوليمبوس. وتظهر هذه الآلهة على الأرض كثيرا وتزور بوذا وتستمع إلى تعاليمه. وعلى قدر من الأهمية أيضا ديفات توسيتا، ويقال إن البددة المستقبليين يعيشون وسط هذه الديفات في انتظار آخر ميلاد جديد لهم على الأرض، ويشيع حاليا معتقد يقول إن هذا هو موطن البوذا القادم، ميتيا (بالسنسكريتية: مايتريا). وتوجد آلهة عليا عديدة، لكنها كائنات بعيدة ومتسامية لا تتدخل في شئون البشر إلا قليلا. وعلى الرغم من ذلك، فإن هذه الآلهة العليا خاضعة للكارما وتولد مجددا في نهاية الأمر مثل أي شخص آخر. والجنات الخمس العليا (المستويات من 23 إلى 27) تعرف باسم «المساكن النقية»، ولا ينالها غير أولئك المعروفين باسم «غير العائدين». تلك كائنات على وشك اكتساب التنوير، وهي لن تولد من جديد في هيئة بشر. أما المستويات العليا من الجنان فتزداد رفعتها، وتزيد فيها أعمار الآلهة في كل مرحلة، لتصل إلى مليارات السنوات بمقياس الزمن لدى البشر. إلا أن الزمن نسبي ومفهومه يختلف باختلاف الكائنات؛ فعمر البشر على سبيل المثال يبدو كيوم واحد بالنسبة إلى الآلهة الموجودة في المستويات الدنيا.
عوالم الوجود الثلاثة
فكرة العوالم الستة والمستويات الإحدى والثلاثين تتداخل مع فكرة أخرى تتمثل في أن الكون مقسم إلى ثلاثة عوالم. العالم الأدنى في تلك العوالم هو «عالم الرغبات الحسية» («كامافاكارا») الذي يشمل كل المستويات حتى الجنة السادسة التي تعلو عالم البشر. والعالم التالي هو «عالم الشكل النقي» («روبافاكارا»)، وهو حالة روحانية علوية فيها تدرك الآلهة ويتواصل بعضها مع بعض من خلال نوع من التخاطر. ويمتد هذا العالم حتى المستوى السابع والعشرين. وأعلى هذه العوالم هو «عالم اللاشكلية» («أروبافاكارا»)، وهو حالة روحانية مهيبة يكاد يستحيل وصفها، وبعيدة عن أي شكل ونمط توجد على أساسه الكائنات في صورة طاقة ذهنية صافية.
والآلهة في المستويات الأربعة لعالم اللاشكلية تدرك الظواهر بأساليب تتزايد في غموضها تدريجيا؛ ففي المستوى الأدنى (المستوى 28) تدرك الظواهر كفضاء لا متناه، وفي المستوى الثاني (المستوى 29) تدرك الظواهر كوعي لا متناه، وفي المستوى الثالث (المستوى 30) تدرك الظواهر كأنها «عدم»، أو فكرة أن الغموض الشديد لهذا النوع من الوجود يشبه اللاوجود. وأخيرا، تتلاشى فكرة «العدم» وتظهر حالة ذهنية لا توصف تعرف باسم «حالة الإدراك واللاإدراك» (المستوى 31)؛ وهذه أعلى حالة يمكن لأي شخص أن يولد فيها من جديد. وإذا بدت أسماء الحالتين العلويتين مألوفة، فإن السبب يرجع إلى أنهما تحملان نفس أسماء مراحل التأمل التي اكتسبها بوذا على يد معلميه. وقد وصل بوذا إلى هاتين الحالتين من خلال التأمل. وكما سنرى، فإن الأفكار البوذية المتعلقة بتصور الكون تتطابق مع نظرية التأمل البوذية.
شكل 3-3: مخطط الكون من المنظور البوذي يوضح المستويات الواحد والثلاثين، وعوالم الوجود الثلاثة، ومستويات التأمل الثمانية (جاهانا).
الكارما
في التصور الكوني المذكور في السابق، تعمل الكارما بمنزلة المصعد الذي يحمل الناس من أحد الطوابق في أحد المباني إلى طابق آخر؛ فالأفعال الحسنة تؤدي إلى حركة صاعدة، والأفعال الخبيثة تؤدي إلى حركة هابطة؛ فالكارما ليست نظام ثواب وعقاب ينفذه الرب، بل هي نوع من القوانين الطبيعية تشبه قانون الجاذبية. وعلى هذا النحو، الأفراد وحدهم هم من يصنعون حظهم الحسن أو السيئ. وفي الاستخدام الشعبي يعتقد أن الكارما هي فقط الأمور الجيدة والأمور السيئة التي تحدث للأشخاص، وهذا تصور يشبه إلى حد ما فكرة الحظ الجيد والحظ السيئ. أما المعنى الحرفي لكلمة كارما السنسكريتية فهو «الفعل»، لكن الكارما كمفهوم ديني لا ترتبط بأي نوع من الأفعال فحسب، بل ترتبط بأفعال ذات طبيعة خاصة. إن أفعال الكارما هي أفعال «أخلاقية»، وقد حدد بوذا الكارما بالإشارة إلى الخيارات الأخلاقية والأفعال المترتبة عليها، فقال: «إن الاختيار («تشيتانا») أيها الرهبان هو ما أطلق عليه كارما، إنه اختيار أحد الأفعال من خلال الجسم أو الكلام أو العقل» (كتاب أنجوتارا). وتختلف الأفعال الأخلاقية عن غيرها من الأفعال في أنها ذات نتائج مباشرة ونتائج غير مباشرة. ونرى النتيجة المباشرة في الأثر المباشر لهذه الأفعال الأخلاقية على الآخرين؛ فعلى سبيل المثال، عندما نقتل أو نسرق، يحرم أحد الأشخاص من حياته أو ممتلكاته. والنتيجة غير المباشرة تظهر في طريقة تأثير الأفعال الأخلاقية على فاعلها. ووفقا للبوذية ، يتمتع البشر بالإرادة الحرة، وعند ممارسة هذه الإرادة فإنهم يمارسون تقرير المصير. في الواقع، يخلق الأفراد أنفسهم من خلال خياراتهم الأخلاقية؛ فمن خلال اختيار أنواع معينة من الأشياء بحرية وعلى نحو متكرر، يشكل الفرد شخصيته، ومن خلال تشكيل شخصيته يتشكل مصيره. وكما يقول المثل: «ازرع فعلا تحصد عادة؛ ازرع عادة تحصد شخصية؛ ازرع شخصية تحصد مصيرا.»
تشرح البوذية هذه العملية في ضوء «السانكاراس» (بالسنسكريتية: سامسكاراس)، وهو مصطلح صعب يترجم عادة بمعنى «التشكيلات الذهنية». و«السانكاراس» هي السمات والطباع الشخصية التي تكونت عند اتخاذ الخيارات الأخلاقية («تشيتانا») وتنفيذها عمليا. ويمكن تشبيه العملية بعمل صانع الأواني الفخارية الذي يشكل الصلصال ويكسبه شكلا نهائيا؛ فالصلصال الطري هو شخصية المرء، وعندما نتخذ خيارات أخلاقية فإننا نمسك أنفسنا في أيدينا ونشكل طبائعنا على نحو جيد أو سيئ. وليس من الصعب أن نرى حتى خلال حياة واحدة لأحد الأشخاص كيف تؤدي حتما مجموعة معينة من السلوكيات إلى نتائج محددة. وتظهر الأعمال الأدبية الرائعة كيف أن القدر الذي ينزل بالأبطال لا يكون محض مصادفة، بل يكون وليد عيب في شخصية الأبطال، ويقود هذا العيب إلى سلسلة من الأحداث المأساوية. ويشار إلى الآثار البعيدة للخيارات الكارمية باسم «النضج» (فيباكا) أو «الثمرة» (بالا) للفعل الكارمي. والاستعارة المجازية هنا تشبه الأمر بالزراعة؛ فالقيام بالأفعال الجيدة والسيئة يشبه زرع البذور التي سوف تثمر لاحقا. فغيرة عطيل وطموح ماكبث الجامح وتردد هاملت وشكه في ذاته ستعتبر من منظور البوذية «سانكاراس» (تشكيلات ذهنية)، وستكون النتيجة المأساوية في كل حالة هي «الثمرة» (بالا) المحتومة للخيارات التي دفعت السمات الشخصية هؤلاء الأفراد لاختيارها.
شكل 3-4: صبي صغير يعتبر تناسخا لروح اللاما التبتي كينزور رينبوتشي. مشهد من فيلم «تناسخ روح كينزور رينبوتشي» (الهند 1991).
ولا يشهد المرء كل عواقب ما اقترفه في حياته التي قام فيها بهذه الأفعال؛ فالكارما التي تراكمت ولم يشهدها صاحبها تنتقل إلى الحياة التالية، أو ربما لحيوات كثيرة مستقبلية. ويختلف البوذيون حول كيفية حدوث ذلك تحديدا، وأحد الاحتمالات يقول بأن القيام بالأفعال الجيدة يشبه شحن البطارية بطاقة الكارما، وتحفظ هذه الطاقة بعد ذلك إلى وقت مستقبلي. ويعتقد أن الكارما تحدد جوانب معينة أساسية متعلقة بالميلاد التالي للشخص. وتشمل هذه الجوانب العائلة التي سيولد فيها، ومكانته الاجتماعية، ومظهره الخارجي، وبالطبع طبعه وشخصيته؛ لأن هذه الأمور يحملها معه من حياته السابقة. ويتبنى بعض البوذيين نظرة قدرية ويرون أن كل حظ جيد وسيئ يكون راجعا إلى سبب متعلق بالكارما. ورغم ذلك، فإن مبدأ الكارما لا يزعم أن كل شيء يحدث للإنسان يكون محتوما من قبل الكارما؛ فكثير من الأمور التي تحدث في الحياة - مثل الفوز بورقة اليانصيب أو كسر الساق - من الممكن أن تكون مجرد مصادفة؛ فالكارما لا تحدد بالضبط ما سيحدث أو كيف سيكون رد فعل أي شخص تجاه ما يحدث؛ فالأفراد أحرار في مقاومة طبائعهم السابقة وتكوين أنماط سلوكية جديدة من شأنها أن توقف دورة الميلاد المتكرر التي لا تنتهي.
إذن ما الذي يجعل الفعل جيدا أو سيئا؟ من تعريف بوذا الموضح أعلاه يمكن أن يعد الأمر في الأساس مسألة نية واختيار. وتصف البوذية مصادر التحفيز النفسي بأنها «جذور»، ويقال إنه توجد ثلاثة جذور خيرة وثلاثة جذور سيئة؛ فالأفعال التي يكون باعثها الطمع والكراهية والوهم هي أفعال سيئة («أكوسالا»، بالسنسكريتية: «أكوشالا»)، بينما الأفعال التي يكون باعثها عكس هذه الصفات - أي عدم التعلق والإحسان والفهم - تكون أفعالا جيدة («كوسالا»، بالسنسكريتية: «كوشالا»). ورغم ذلك، فالمضي قدما نحو التنوير ليس مجرد مسألة تحل بنيات طيبة؛ فالشر أحيانا من الممكن أن يقترفه أناس يتصرفون من منطلق بواعث غاية في النبل؛ ولذلك لا بد من التعبير عن النيات الطيبة في صورة أفعال صحيحة، والأفعال الصحيحة في الأساس هي تلك التي لا تسبب الضرر للنفس أو للآخرين. أما الأفعال التي لا تلبي هذين المطلبين فهي محظورة بموجب مجموعة مختلفة من القواعد التي سنقول عنها الكثير عند مناقشة الأخلاقيات.
الاستحقاق
يمكن أن تكون الكارما جيدة أو سيئة. ويطلق البوذيون على الكارما الجيدة اسم «الاستحقاق» («بونيانيا»، بالسنسكريتية: «بونيا»)، ويبذلون جهودا كبيرة في الحصول عليها. ويصورها البعض كنوع من رأس المال الروحي - مثل المال الموجود في حساب بنكي - بموجبه يزيد الحساب ليصبح وديعة تحت حساب ميلاد سماوي تال. ومن أفضل الطرق التي يمكن للعوام كسب الاستحقاق من خلالها دعم جماعة الرهبان. ويمكن فعل ذلك من خلال وضع الطعام في أطباق الرهبان أثناء مرورهم في جولاتهم اليومية لجمع الصدقات، ومن خلال إعطاء ملابس للرهبان، ومن خلال الاستماع إلى الخطب وحضور الطقوس الدينية، ومن خلال التبرع بأموال لصيانة الأديرة والمعابد، فضلا عن أن الاستحقاق يمكن صنعه من خلال مباركة المتبرعين الآخرين والاحتفاء بكرمهم. ويجعل بعض البوذيين تجميع الاستحقاق غاية في حد ذاته، ويتمادون إلى درجة حمل دفتر لإحصاء مجموع «الحساب» الكارمي. وهذا الأمر يجعلهم يغفلون حقيقة أن الاستحقاق يكتسب باعتباره نتيجة فرعية لفعل الصواب؛ ففعل الأفعال الجيدة لمجرد الحصول على كارما جيدة سيكون فعلا أناني النزعة، ولن يكسب صاحبه الكثير من الاستحقاقات.
في كثير من الثقافات البوذية يوجد معتقد «تحويل الاستحقاقات»، أو فكرة إمكانية مشاركة الكارما الجيدة مع الآخرين، تماما مثل المال. إن التبرع بالكارما الجيدة له نتيجة سعيدة؛ فبدلا من استنزاف رصيد الكارما التابع لأحد الأشخاص، كما هي الحال مع المال، فإن هذا الرصيد يزداد نتيجة لحافز المشاركة الكريم. وكلما زاد عطاء المرء زاد ما يحصل عليه! وليس معروفا على نحو مؤكد إن كانت توجد مرجعيات في القوانين التشريعية البوذية تؤيد مثل هذا النوع من الأفكار أم لا. ورغم ذلك، فإن التحمس لمشاركة الاستحقاق الفردي للشخص في ضوء روح الكرم لهو أمر سليم من الناحية الكارمية؛ لأنه سيؤدي إلى تكوين شخصية كريمة ومحبة للخير.
وجهة نظر غربية
في الغالب يجد الغربيون فكرة الكارما وفكرة الولادة من جديد أمرا محيرا. ويرجع هذا، نوعا ما، إلى الاختلاف الثقافي في الافتراضات السابقة المتعلقة بالزمن والتاريخ كما أشرنا في السابق؛ ففي ظل ثقافة ترى الزمن يسير بطريقة دائرية تبدو فكرة الميلاد من جديد فكرة طبيعية. لكن إذا ولد الأشخاص من جديد فقد يعترض البعض قائلا: «لماذا قليل من الأشخاص يتذكرون حيواتهم السابقة؟» يمكن أن يتمثل التفسير في جانب منه في أن السمات الثقافية تؤثر على التجارب الفردية. وفي ظل غياب إطار يؤمن بتناسخ الأرواح قد لا تلاحظ ذكريات الحيوات السابقة أو لا يعترف بها. وقد يكون الأفراد غير راغبين في تعريض أنفسهم لسخرية الآخرين إذا ما أفصحوا عن تلك الذكريات. وعندما يتحدث الأطفال عن هذه الذكريات عادة يتجاهلها المعلمون والآباء بدعوى أنها نتيجة للخيال فائق النشاط. ورغم ذلك، تكثر الشهادات من قبل أفراد يزعمون تذكر حيواتهم السابقة، وكثير من هذه الشهادات من الصعب تفسيرها إلا إذا كانت الذكريات حقيقية. ومع ذلك، مثل هذه الذكريات نادرة، حتى في الثقافات التي ترى الميلاد من جديد أمرا مقبولا. ولعل التفسير الممكن الذي قد تقدمه البوذية هو أن تجربة الموت والميلاد من جديد تمحو مثل هذه الذكريات من المستويات العليا للعقل، وأن تلك الذكريات يمكن استرجاعها فقط في حالات الوعي المتغيرة مثل ذلك النوع الذي يستثار من خلال التأمل أو التنويم المغناطيسي.
شكل 3-5: لاما تبتي يصحبه مترهبن صغير في طريقهما لرعاية عجوز محتضر في القرية المحلية. المترهبن يحمل نص «كتاب الموتى التبتي». مشهد من فيلم «كتاب الموتى التبتي» (كندا، 1994).
ثمة سؤال شائع آخر متعلق بالميلاد من جديد، وهو: «إذا كان الناس يولدون من جديد، فلماذا لا يتزايد عدد السكان على نحو أسرع؟» مرة أخرى نجد أن هذا السؤال ناشئ عن افتراضات تتمحور حول الإنسان. إن عالم البشر هو مجرد عالم من عوالم الميلاد من جديد، ونظرا لأن الكائنات من الممكن أن تولد في أي عالم من العوالم الستة، فثمة حركة دائمة فيما بين هذه العوالم. وتعتقد بعض المذاهب البوذية، وأشهرها تلك المذاهب الموجودة في التبت، أنه توجد حالة وسيطة تمثل فاصلا بين الحياتين، وخلالها تبقى روح المتوفى لمدة تسعة وأربعين يوما قبل الميلاد من جديد. وخلال هذه الفترة تشهد الروح كل العوالم الستة للميلاد من جديد قبل الانجذاب - كما لو كان جذبا مغناطيسيا - إلى العالم الأنسب لحالتها الكارمية. رغم ذلك، ووفقا لمذاهب أخرى ، فإن الانتقال من حياة إلى أخرى يكون فوريا، والموت يتبعه على الفور ميلاد في حياة جديدة.
هل من الضروري الإيمان بوجود العوالم الستة والجنان والجحيم ليصبح المرء بوذيا؟ ليس بالضرورة؛ فعلى الرغم من أن معظم البوذيين يقبلون التعاليم التقليدية، فإنه من الممكن إعادة تفسيرها بطرق مختلفة؛ فمثلا من الممكن الإشارة إلى الأبعاد الأخرى للوجود، أو الأكوان الموازية أو مجرد الحالات الذهنية المختلفة. أما مناصرو «الحداثة البوذية»، التي سأقول عنها المزيد في الفصل الأخير، فيميلون إلى رفض عناصر «القرون الوسطى» التابعة لهذا النظام التقليدي، والاستعاضة عنها بأفكار أكثر توافقا مع العصر الحديث. وقد يكون من الممكن أيضا أن يصبح المرء بوذيا مع رفض فكرة الميلاد من جديد رفضا تاما، على الرغم من أن ذلك سيكون على حساب اختزال البوذية في شيء مثل الإنسانية العلمية. إن الإيمان باستمرار الوجود البشري في شكل أو آخر بعد الموت سيبدو مطلبا قليل الأهمية بالنسبة إلى معظم تقاليد الفكر البوذي.
إذن، هل هدف البوذية هو الميلاد من جديد في حالة أوفر حظا؟ على الرغم من أنه من الناحية العملية يرغب كثير من البوذيين - كل من الرهبان والعوام - في هذا الأمر بشدة، فإنه ليس الحل النهائي للمعاناة الذي تنشده البوذية؛ فبوذا لم يكن قانعا بالنعيم المؤقت الذي حصل عليه من خلال الغشيات التي تعلمها على يد أستاذيه، والوجود الروحاني الجليل الذي تستمتع به الآلهة ما هو إلا إطالة لهذه التجربة. وعاجلا أم آجلا فإن الكارما الجيدة التي تسفر عن الميلاد السماوي سوف تقضي أجلها، وحتى الآلهة سوف تموت وتولد من جديد. إن طاقة الكارما محدودة وتنتهي في نهاية المطاف؛ فهي لا تختلف عن طاقة المركبة الفضائية في مدار متلاش.
إن حل مشكلة المعاناة لا تكمن في ميلاد جديد أفضل من سابقه في عجلة التناسخ (سامسارا)، بل النيرفانا وحدها هي ما تقدم حلا حاسما.
الفصل الرابع
الحقائق الأربع النبيلة
الهدف النهائي للبوذية هو وضع نهاية للمعاناة والميلاد المتكرر. وقد قال بوذا: «في كل من الماضي والحاضر أطرح هذا فقط: المعاناة وإنهاء المعاناة.» وعلى الرغم من أن هذا التصور سلبي، فإن الهدف له جانب إيجابي أيضا؛ لأن الطريقة التي يضع بها المرء نهاية للمعاناة تتمثل في إطلاق قدرة البشر على تحقيق الخير والسعادة؛ فالشخص الذي يحقق حالة كاملة من تحقيق الذات يقال عنه إنه اكتسب النيرفانا. والنيرفانا هي «الخير الأسمى» بالنسبة إلى البوذية؛ فهي الخير النهائي والأعلى. إنها مفهوم وتجربة في آن واحد؛ فالنيرفانا باعتبارها مفهوما تقدم رؤية خاصة لتحقيق الإنسان ذاته وتعطي إطارا وشكلا للحياة المثالية. أما النيرفانا باعتبارها تجربة فهي تتجسد مع مرور الوقت في الشخص الذي يسعى إليها.
يجب أن يكون واضحا سبب الرغبة في الحصول على النيرفانا، لكن كيف يمكن الحصول عليها؟ إن النقاش الذي طرح في الفصول السابقة يشير إلى جزء من الإجابة؛ فنحن نعلم أن البوذية تهتم اهتماما بالغا بالحياة الفاضلة؛ ومن ثم فإن الحياة الأخلاقية ستبدو مطلبا أوليا للحصول على النيرفانا. ورغم ذلك، يرفض بعض الأكاديميين هذه الفكرة. ويقول هؤلاء إن الاستحقاقات المتراكمة من خلال فعل الأفعال الخيرة تعترض طريق الوصول إلى النيرفانا. ويوضحون أن الأفعال الخيرة تنتج الكارما، والكارما تربط المرء بدائرة الميلاد المتكرر. ويستنتجون قائلين: إذن، فالأمر يتمثل في أنه لا بد من تجاوز الكارما - وغيرها من الاعتبارات الأخلاقية الأخرى - للحصول على النيرفانا. وثمة مشكلتان في هذا الرأي؛ أما المشكلة الأولى فتتمثل في تفسير سبب حض النصوص باستمرار على فعل الأفعال الخيرة إذا كانت الأفعال الأخلاقية تعيق الوصول إلى النيرفانا. وأما المشكلة الثانية فتتمثل في صعوبة تفسير سبب استمرار الأشخاص الذين اكتسبوا التنوير، مثل بوذا، في عيش حياة أخلاقية نموذجية.
قد يكمن حل هذه المشكلات في الفكرة القائلة بأن عيش حياة مثالية هو مجرد جزء من نموذج الكمال البشري الذي تمثله النيرفانا. من ثم، وبينما تمثل الفضيلة («سيلا»، بالسنسكريتية: «شيلا») مكونا أساسيا في هذا النموذج، فإنها غير مكتملة في حد ذاتها، وتحتاج إلى إكمالها بشيء آخر. والمكون الآخر المطلوب هو الحكمة («بانيانيا»، بالسنسكريتية: «برانجانيا»). و«الحكمة» في البوذية تعني الفهم الفلسفي العميق للحالة البشرية. وتتطلب فهما لطبيعة الواقع من النوع الذي يأتي من خلال التأمل الطويل والتفكير العميق؛ فهي نوع من «المعرفة الروحية»، أو الفهم المباشر للحقيقة، الذي يزداد عمقا مع الوقت ويصل في النهاية إلى تمام النضج في اليقظة الكاملة التي شهدها بوذا.
ومن هذا المنطلق، فإن النيرفانا هي مزيج من الفضيلة والحكمة. ويمكن التعبير عن العلاقة بينهما بلغة فلسفية من خلال القول بأن الفضيلة والحكمة كلتيهما شرط «ضروري» للنيرفانا، لكن كل واحدة منهما على حدة «غير كافية»، وفقط عند تقديم الاثنين معا توجد الشروط الضرورية والكافية للنيرفانا. ويشبههما أحد النصوص القديمة باليدين اللتين تغسل كل منهما الأخرى وتطهرها، ويوضح النص جيدا أن الشخص المفتقر إلى إحدى يديه هو شخص غير كامل وغير محقق لذاته (كتاب ديجا).
بعد أن علمنا أن الحكمة هي نظير أساسي للفضيلة، ما الذي يجب أن يعلمه المرء كي يحظى بالتنوير؟ الحقيقة التي يجب معرفتها هي بالضرورة تلك التي أدركها بوذا في ليلة تنويره، ثم أعلن عنها في خطبته الأولى التي ألقاها في حديقة الأيائل بالقرب من بيناريس. وتشير هذه الخطبة إلى أربع أطروحات مترابطة تعرف باسم الحقائق الأربع النبيلة. وتؤكد هذه الحقائق على أن: (1) الحياة معاناة. (2) المعاناة سببها الشهوة. (3) المعاناة من الممكن أن تنتهي. (4) يوجد طريق يقود إلى نهاية المعاناة. وأحيانا يستخدم تشبيه مجازي متعلق بالطب لتوضيح العلاقة بين تلك الحقائق، ويشبه بوذا بالطبيب الذي وجد علاجا لأمراض الحياة؛ فأولا: يشخص المرض، وثانيا: يشرح سببه، وثالثا: يقرر وجود علاج، ورابعا: يبدأ في العلاج. (1) حقيقة المعاناة (دوكها)
ما هي، أيها الرهبان، الحقيقة النبيلة للمعاناة؟ الميلاد معاناة، المرض معاناة، الهرم معاناة، الموت معاناة، الألم، والحزن، والأسى، والحسرة، واليأس معاناة، التعلق بالأمور البغيضة معاناة، عدم التعلق بالأمور الطيبة معاناة، عدم الحصول على ما يرغبه المرء معاناة؛ باختصار، العوامل الخمسة المكونة لحياة الفرد معاناة.
يفتتح الطبيب النفسي الأمريكي إم سكوت بيك كتابه الأكثر بيعا «الطريق الأقل ارتيادا» بهذه الجملة: «الحياة صعبة!» ويشير إلى الحقيقة النبيلة الأولى فيضيف قائلا : «هذه حقيقة كبيرة، واحدة من كبرى الحقائق.» وهذه الحقيقة المعروفة في البوذية باسم «حقيقة المعاناة» هي حجر الأساس في تعاليم البوذية. وتنص حقيقة المعاناة على أن تلك المعاناة («دوكها»، بالسنسكريتية: «دوهكا») هي جزء أساسي من الحياة، وتشخص الحالة البشرية بأنها في الأساس حالة «عدم راحة». وتشير إلى معاناة متعددة الأنواع، بداية من التجارب البدنية أو البيولوجية مثل الميلاد والمرض والهرم والموت. وعلى الرغم من أن تلك الأمور تتضمن في الغالب ألما بدنيا، فإن المشكلة الأعمق هي حتمية الميلاد «المتكرر» والمرض والهرم والموت في حياة بعد أخرى، بالنسبة إلى المرء وإلى أحبائه. والبشر عاجزون عن مواجهة تلك الحقائق، فعلى الرغم من التقدم في العلوم الطبية لا يزالون عرضة للمرض والحوادث بسبب طبيعتهم البدنية. وبالإضافة إلى الألم البدني، تشير حقيقة المعاناة إلى أنواع الضيق العاطفي والنفسي مثل «الحزن والأسى والحسرة واليأس». وتلك الأمور في بعض الأحيان من الممكن أن تمثل مشكلات أصعب في حلها من المعاناة البدنية؛ فقليلة هي الحيوات الخالية من الحزن والأسى، وثم الكثير من الحالات النفسية العضال، مثل الاكتئاب المزمن، التي لا يمكن الشفاء منها على نحو تام.
بخلاف أمثلة المعاناة الواضحة، تشير حقيقة المعاناة إلى نوع من المعاناة خفي إلى حد كبير يمكن أن نطلق عليه «وجودي»، ويلحظ هذا في عبارة: «عدم الحصول على ما يرغبه المرء معاناة.» فنوع المعاناة المتصور هنا هو الإحباط وخيبة الأمل والتحرر من الوهم الذي نشهده عندما تفشل الحياة في أن تكون عند توقعاتنا ولا تسير الأمور كما نرغب. بوذا لم يكن متشائما على نحو مرضي كما أنه علم بالتأكيد من تجربته الشخصية باعتباره أميرا شابا أن الحياة يمكن أن تكون بها لحظات سعيدة. رغم ذلك فالمشكلة هي أن الأوقات الجميلة لا تدوم، وعاجلا أو آجلا سوف تتلاشى، أو يمل المرء من الأمور التي بدت في السابق جديدة ومليئة بالوعود. وفي هذا السياق فإن كلمة «دوكها» لها معنى أكثر تجريدا وشمولية؛ فهي تلمح إلى أنه حتى عندما لا تكون الحياة مؤلمة فإنها من الممكن أن تكون غير مرضية وغير مشبعة. وفي هذا السياق وغيره من السياقات توضح كلمة «عدم الرضا» معنى كلمة «دوكها» على نحو أفضل من كلمة «معاناة».
وقرب نهاية هذا التصور، تشير حقيقة المعاناة إلى السبب الذي يحول دائما دون أن تكون الحياة مرضية تماما. إن جملة «العوامل الخمسة المكونة لحياة الفرد معاناة» هي إشارة لأحد التعاليم التي شرحها بوذا في الخطبة الثانية (كتاب «فينايا») الذي يحلل الطبيعة البشرية إلى خمسة عوامل، هي: الجسد المادي («روبا»)، والأحاسيس والمشاعر («فيدانا»)، والمعارف («سانيانيا»)، والسمات الشخصية والطبائع («سانكارا»)، والوعي أو الحس («فينيانيانا»). ولا حاجة للدخول في تفاصيل كل عامل من العوامل الخمسة على حدة؛ نظرا لأن الفكرة المهمة هنا ليست العوامل المذكورة والعوامل غير المذكورة في هذه القائمة. وعلى وجه التحديد، لم يذكر هذا المعتقد الروح أو النفس؛ فهي مفهومة أنها جوهر روحاني خالد ولا يتغير. ومن خلال تبني هذا الموقف، فصل بوذا نفسه عن التقليد الديني الهندي المحافظ المعروف باسم البراهمانية، الذي يزعم أن كل شخص يمتلك روحا خالدة («أتمان») تكون جزءا من مطلق ميتافيزيقي - أو متطابقة معه - يعرف باسم «براهمان» (نوع من الآلهة ليس له صفات بشرية).
قال بوذا إنه لم يستطع إيجاد أي أدلة على وجود الروح البشرية («أتمان») ولا نظيرتها الكونية («براهمان»). وبدلا من ذلك سلك نهجا عمليا وتجريبيا، أكثر قربا لعلم النفس منه إلى علم اللاهوت. وأوضح أن الطبيعة البشرية تتكون من خمسة عوامل مثلما تتكون السيارة من العجلات وناقل الحركة والمحرك والمقود والهيكل. بطبيعة الحال، وعلى عكس العلم، اعتقد أن الهوية الأخلاقية للشخص - ما يمكن أن نطلق عليه «الحمض النووي الروحي» للفرد - تبقى بعد الموت وتولد من جديد. وعلى الرغم من أن بوذا قال إن العوامل الخمسة المكونة للفرد كلها معاناة، فإنه كان يوضح أن الطبيعة البشرية لا يمكنها تقديم أساس للسعادة الدائمة؛ لأن مبدأ العوامل الخمسة يوضح أن الفرد ليس له جوهر حقيقي. ونظرا لأن البشر يتشكلون من هذه المكونات الخمسة التي تتغير باستمرار، فإنه لا مفر من أن المعاناة سوف تظهر عاجلا أو آجلا، تماما مثلما ستتعرض السيارة في نهاية المطاف إلى التهالك والتعطل؛ ولذلك فإن المعاناة متأصلة في صميم تكويننا.
إن محتوى حقيقة المعاناة مأخوذ إلى حد ما من رؤية بوذا لأول ثلاث علامات من العلامات الأربع - الرجل العجوز والرجل المريض والجثة - وإدراكه أن الحياة تعج بمختلف أشكال المعاناة والتعاسة. وكثير ممن يتعرفون على البوذية يجدون أن هذا التقييم للحالة البشرية تقييم متشائم. ويميل البوذيون في الرد على ذلك قائلين إن دينهم ليس متشائما ولا متفائلا، بل واقعي، وإن حقيقة المعاناة تقدم ببساطة حقائق الحياة بطريقة موضوعية. وإذا بدا هذا التقييم متشائما، فهذا راجع إلى الميل المتأصل لدى البشر الذي يدفعهم إلى تجنب الحقائق الكريهة «والنظر إلى الجانب المشرق». ولا شك أن هذا هو السبب الذي جعل بوذا يلاحظ أن حقيقة المعاناة كانت صعبة الفهم للغاية؛ فالأمر أشبه باعتراف المرء بإصابته بمرض خطير؛ فهذا أمر لا يرغب أحد في الاعتراف به. ورغم ذلك، ما لم يعترف المرء بمرضه، لا يمكن أن يكون هناك أمل في العلاج.
أما بعد الإقرار بأن الحياة معاناة، فكيف تنشأ هذه المعاناة؟ تفسر الحقيقة النبيلة الثانية - حقيقة النشأة («سامودايا») - أن المعاناة تنشأ من الشهوة أو «التعطش» («تانها»، بالسنسكريتية: «ترسنا»)؛ فالشهوة تذكي المعاناة بالطريقة نفسها التي يذكي بها الخشب النار. وفي استعارة بليغة في خطبة النار (كتاب ساميوتا) قال بوذا إن التجربة البشرية كلها «مشتعلة» بالرغبة. والنار تشبيه مناسب للرغبة؛ لأنها تستهلك ما تتغذى عليه دون أن تشبع؛ فهي تنتشر سريعا وتتعلق بأشياء جديدة، وتحرق بألم الشهوة التي لا تشبع.
إن الرغبة، في شكل الإدمان القوي للحياة والتجارب الممتعة التي تقدمها، هي سبب الميلاد المتكرر. فإذا كانت العوامل الخمسة للفرد تشبه السيارة، فإن الشهوة ستكون الوقود الذي يدفعها إلى الأمام. وعلى الرغم من أن الميلاد الجديد يعتقد أنه يحدث عادة من حياة إلى أخرى، فإنه يحدث أيضا من لحظة إلى أخرى، فيقال إن الشخص يولد من جديد من ثانية إلى أخرى مع تغير وتفاعل العوامل الخمسة للفرد، بسبب التعطش للتجارب الممتعة. إن استمرار انتقال الفرد من حياة إلى حياة تالية هو مجرد نتيجة زخم الرغبة المتراكمة. (2) حقيقة نشأة المعاناة (سامودايا)
أيها الرهبان، هذه هي حقيقة نشأة المعاناة؛ إنها ذاك التعطش أو تلك الشهوة («تانها») التي تؤدي إلى الميلاد المتكرر، إنها الشهوة المرتبطة بالمتعة الحسية التي تسعى إلى الملذات الجديدة تارة هنا وتارة هناك في شكل: (1) التعطش للمتعة الحسية. (2) التعطش للوجود. (3) التعطش للاوجود.
تنص حقيقة النشأة على أن الشهوة أو التعطش يظهر في ثلاثة أشكال أساسية؛ أولها: التعطش للمتعة الحسية. وتتخذ هذه المتعة شكل التعطش للإشباع من خلال أشياء تدرك بالحواس، مثل الرغبة في الاستمتاع بمذاقات وأحاسيس وروائح ومناظر وأصوات جميلة. وثانيها: التعطش للوجود. ويشير هذا التعطش إلى رغبة «الوجود» الغريزية العميقة التي تقودنا إلى حيوات جديدة وتجارب جديدة. أما الشكل الثالث الذي تظهر فيه الشهوة نفسها فهو الرغبة، ليس في الامتلاك ولكن في التدمير. وهذا هو الجانب المظلم للشهوة، الذي يظهر في الميل إلى نفي وإنكار ورفض الأمور غير الجميلة وغير المرغوبة. والرغبة في التدمير يمكن أن تؤدي أيضا إلى سلوكيات تتسم برفض الذات. إن انخفاض التقدير الذاتي وأفكارا من قبيل «أنا لست جيدا» أو «أنا فاشل»، يعدان تجسيدا لهذا الموقف العقلي عند توجيهه نحو الذات. أما في الحالات المتطرفة، فمن الممكن أن يؤدي إلى سلوكيات مؤذية جسديا مثل الانتحار. إن هذا النوع من التقشف المادي الذي رفضه بوذا في نهاية المطاف يمكن أن نرى فيه أيضا تعبيرا لهذا الميل نحو رفض الذات.
إذن، هل يعني هذا أن كل أنواع الرغبة خاطئة؟ يجب أن نتوخى الحذر قبل التوصل إلى هذا الاستنتاج. فعلى الرغم من أن كلمة «الرغبة» تستخدم غالبا كترجمة لكلمة «تانها»، فإن هذه الكلمة تحمل نطاقا من المعاني أكثر اتساعا. إن كلمة «تانها» أكثر تحديدا في معناها من كلمة الرغبة؛ فهي تعبر عن الرغبة التي أصبحت منحرفة إلى حد ما، وعادة ما يحدث ذلك عندما تصبح الرغبة مفرطة أو موجهة في الاتجاه الخاطئ. وعادة ما يكون هدف تلك الرغبة هو الإثارة والمتعة الحسية. رغم ذلك، ليست كل الرغبات من هذا النوع؛ فالمصادر البوذية تتحدث كثيرا عن الرغبة على نحو أكثر إيجابية باستخدام مصطلح «تشاندا»؛ فامتلاك أهداف إيجابية لنفسك وللآخرين (مثل بلوغ النيرفانا) والرغبة في ضرورة أن ينعم الآخرون بالسعادة، وتمني أن تترك العالم مكانا أفضل حالا مما وجدته عليه؛ كلها أمثلة للرغبات الإيجابية والأخلاقية التي لا تعد رغبة من نوع «تانها».
وفي حين تكون الرغبات الخاطئة مقيدة ومكبلة، تكون الرغبات الصحيحة معززة ومحررة. ويمكننا استخدام التدخين باعتباره مثالا لتوضيح الفرق. إن رغبة المدخن الشره في المزيد من السجائر تندرج تحت فئة «تانها»؛ لأنها لا تهدف إلى شيء أكثر من مجرد إشباع قصير الأجل. ومثل هذه الرغبة القهرية والمقيدة والدورية لا يؤدي إلا إلى تدخين السيجارة التالية (وإلى اعتلال الصحة باعتباره أثرا جانبيا لذلك). أما رغبة المدخن الشره في الإقلاع عن التدخين، فستكون رغبة محمودة؛ لأنها ستكسر هذه الوتيرة الدورية للعادة القهرية السيئة وستعزز الصحة والسلامة.
في حقيقة النشأة، تمثل «تانها» «أصول الشر الثلاثة» المذكورة سابقا، وهي الطمع والكراهية والوهم. وتصور هذه الأصول في الرسوم البوذية في صورة ديك وخنزير وثعبان يطارد بعضها بعضا في دائرة صغيرة في مركز «عجلة الحياة» الموضحة في الفصل الثالث، وكل منها ذيله في فم الآخر. ونظرا لأن الشهوة لا تؤدي إلا إلى إثارة شهوة أخرى، تستمر دورة الميلاد المتكرر، ويولد الأفراد مرارا وتكرارا. أما عن كيفية حدوث ذلك، فهذا مشروح بالتفصيل في أحد التعاليم المعروفة باسم «النشأة المعتمدة» («باتيكا ساموبادا»، بالسنسكريتية: «براتيتيا ساموتبادا»). ويوضح هذا المعتقد كيف أن الشهوة والجهل يؤديان إلى الميلاد من جديد في سلسلة مكونة من اثنتي عشرة مرحلة. بدلا من مناقشة هذه المراحل الاثنتي عشرة بالتفصيل، الأهم بالنسبة إلى أهدافنا الحالية هو فهم المبدأ الأساسي الذي لا ينطبق فحسب على علم النفس البشري، بل ينطبق على الواقع إلى حد كبير.
يمكن تلخيص أساس هذا المعتقد بأنه الزعم القائل بأن لكل نتيجة سببا ؛ أي إن كل شيء يأتي إلى الوجود ينشأ معتمدا على شيء آخر (أو على عدد من الأشياء الأخرى). وفي ضوء وجهة النظر تلك، فإن كل الظواهر تنشأ كجزء من سلسلة سببية، ولا شيء يوجد بنفسه ولأجل نفسه على نحو مستقل؛ ولذلك، فالكون لا ينظر إليه باعتباره مجموعة أشياء ثابتة إلى حد ما، بل باعتباره شبكة نشطة تتكون من الأسباب والنتائج المترابطة. علاوة على ذلك، ومثلما يمكن تحليل الإنسان إلى العوامل الفردية الخمسة دون أن يتبقى منه شيء، يمكن بالمثل تحليل كل الظواهر إلى أجزائها المكونة دون أن نجد أي شيء «جوهري» في تلك الأجزاء. ويقال إن كل شيء يأتي إلى الوجود يحمل ثلاث خصائص أو «علامات»، هي: عدم الإشباع («دوكها»)، وعدم الديمومة («أنيكا»)، وغياب الجوهر الذاتي («أناتا»). والأشياء غير مرضية لأنها غير دائمة (ومن ثم فهي غير ثابتة ولا يعتمد عليها)؛ وهي غير دائمة لأنها تفتقر إلى الطبيعة الذاتية المستقلة عن العملية السببية الكونية.
يمكن ملاحظة أن الكون في المنظور البوذي يتسم في الأساس بالتغير الدوري، ويتمثل هذا من الناحية النفسية في عملية الشهوة والإشباع اللانهائية. أما من ناحية الأشخاص، فيتمثل ذلك في تعاقب الموت والميلاد من جديد. وأما من ناحية الكون، فيتمثل ذلك في خلق المجرات وتدميرها. والسبب وراء كل ذلك هو مبدأ السبب والنتيجة الموضح في معتقد النشأة المعتمدة، وقد تطورت تداعياته على نحو أعمق فيما بعد في البوذية المتأخرة.
الحقيقة النبيلة الثالثة هي حقيقة الإيقاف («نيرودا»). وتقول هذه الحقيقة إنه عند التخلي عن الشهوة تتوقف المعاناة وتكتسب النيرفانا. وكما ورد في قصة حياة بوذا، تتخذ النيرفانا شكلين؛ الشكل الأول يحدث خلال الحياة، والشكل الثاني يحدث عند الممات. لقد اكتسب بوذا ما يطلق عليه «النيرفانا في هذه الحياة» عندما كان جالسا أسفل الشجرة في سن الخامسة والثلاثين. وفي سن الثمانين رحل إلى «النيرفانا النهائية» التي لا يمكن أن يولد منها من جديد.
المعنى الحرفي لكلمة «نيرفانا» هو «الإطفاء» أو «الإخماد»، مثلما ينطفئ لهب الشمعة. لكن ما هو الشيء الذي «ينطفئ»؟ هل هو روح المرء أم كبرياؤه أم هويته؟ لا يمكن أن تكون الروح هي ما ينطفئ؛ لأن البوذية تنكر وجود مثل هذا الشيء من الأساس. ولا يمكن أن يكون غرور الشخص أو إحساسه بهويته هو ما يختفي، على الرغم من أن النيرفانا تتضمن بالتأكيد حالة تغيير جذرية للوعي خالية من هوس «أنا كذا وأمتلك كذا». أما ما ينطفئ في واقع الأمر، فهو ثالوث نيران الطمع والكراهية والوهم الذي يؤدي إلى الميلاد المتكرر. وبالفعل، فإن أبسط تعريف للنيرفانا في هذه الحياة هو «نهاية الطمع والكراهية والوهم» (كتاب ساميوتا). من الواضح أن النيرفانا في هذه الحياة عبارة عن واقع نفسي وأخلاقي؛ فهي حالة تحول للشخصية تتسم بالسلام والسعادة الروحانية العميقة والشفقة والوعي الدقيق والفطن. أما الحالات والمشاعر الذهنية السلبية مثل الشك والقلق والتوتر والخوف، فتختفي من الذهن الذي حظي بالتنوير. والقديسون في كثير من الثقافات الدينية يظهرون بعض هذه الصفات أو كلها، كما أن الأشخاص العاديين يمتلكونها أيضا إلى حد ما، لكنهم لم يكتسبوها على نحو كامل. بيد أن الشخص الذي حظي بالتنوير، مثل بوذا أو الآرهات، يمتلكها كلها على نحو كامل. (3) حقيقة الإيقاف (نيرودا)
أيها الرهبان، هذه هي حقيقة إيقاف المعاناة. إنه الإيقاف الكلي لتلك الشهوة («تانها»)، الانسحاب منها، نبذها، رفضها، التحرر منها، عدم التعلق بها.
ما الذي يحدث للمرء عند الممات؟ فيما يتعلق بالنيرفانا النهائية فإنها تثير مشكلات الفهم؛ فعندما تنطفئ جذوة الشهوة، ويتوقف الميلاد المتكرر، لا يولد الشخص الذي حظي بالتنوير من جديد؟ إذن، ما الذي يحدث له؟ لا يوجد جواب واضح لهذا السؤال في المصادر الأولى. قال بوذا إن التساؤل عن مكان «الشخص الذي حظي بالتنوير» بعد الممات يشبه التساؤل عن المكان الذي يذهب إليه اللهب بعد انطفائه. بالطبع لم «يذهب» اللهب إلى أي مكان؛ كل ما في الأمر أن عملية الاحتراق توقفت. إن إزالة الشهوة والجهل تشبه إزالة الأكسجين والوقود اللذين يحتاجهما اللهب كي يشتعل. ورغم ذلك، يجب ألا تؤخذ صورة انطفاء اللهب باعتبارها إشارة إلى أن النيرفانا النهائية هي الفناء؛ فالمصادر توضح تماما أن هذا الاستنتاج سيكون خاطئا، وكذلك الحال بالنسبة إلى استنتاج أن النيرفانا هي الوجود الأبدي للروح البشرية.
نهى بوذا عن التكهن بطبيعة النيرفانا، وبدلا من ذلك أكد على الحاجة إلى السعي وراء اكتسابها. وشبه من يطرح أسئلة فضولية عن النيرفانا برجل مجروح بسهم مسموم يصر بدلا من سحب السهم للخارج على طلب معلومات لا فائدة منها عمن رماه بالسهم، مثل اسمه وعشيرته، وبعد المسافة عن النقطة التي كان واقفا عندها ... وهكذا (كتاب ماهايانا). وتماشيا مع هذا التردد من جانب بوذا في تفسير السؤال، وصفت المصادر الأولى النيرفانا بمصطلحات سلبية في الغالب، مثل: «غياب الرغبة»، و«خمود التعطش»، و«الانطفاء»، و«التوقف». ويوجد أيضا عدد قليل من الصفات الإيجابية، من بينها «البركة»، و«الخير»، و«الصفاء»، و«السلام»، و«الحقيقة»، و«الشاطئ البعيد». وتوجد فقرات معينة يبدو أنها تشير إلى أن النيرفانا هي حقيقة علوية «غير مولودة»، و«غير مجبولة»، و«غير مخلوقة»، و«غير مشكلة» (كتاب أودانا)، لكن من الصعب معرفة تفسير مثل هذه التصورات. وفي التحليل الأخير، تظل طبيعة النيرفانا النهائية لغزا، إلا بالنسبة إلى الذين وصلوا إليها. رغم ذلك، ما يمكن أن نكون متأكدين منه هو أنها تعني نهاية المعاناة والميلاد من جديد.
الحقيقة النبيلة الرابعة، التي تتحدث عن الطريق أو الدرب («ماجا»، بالسنسكريتية: «مارجا»)، تشرح كيفية التحول من «السامسارا» إلى النيرفانا. وسط صخب الحياة اليومية، قليلون هم من يتوقفون للتفكير في طريقة العيش الأفضل إشباعا. وقد راود مثل هذه الأسئلة الفلاسفة الإغريق، وأدلى بوذا بدلوه أيضا في هذا الصدد؛ فاعتقد أن أسمى أشكال الحياة هو ذلك الذي يقود إلى اكتساب الفضيلة والمعرفة، وأن الطريق الثماني يقدم أسلوب حياة مصمما لاكتساب الفضيلة والمعرفة المنشودتين. (4) حقيقة الطريق (ماجا)
أيها الرهبان، هذه هي حقيقة الطريق الذي يقودنا إلى إيقاف المعاناة؛ إنه الطريق الثماني النبيل، الذي يتكون من: (1) الرؤية الصحيحة. (2) العزم الصحيح. (3) الكلام الصحيح. (4) الفعل الصحيح. (5) العيش الصحيح. (6) الجهد الصحيح. (7) الوعي الصحيح . (8) التأمل الصحيح.
يعرف الطريق الثماني باسم «الطريقة الوسطى»؛ لأنه يختار طريقا بين حياة الانغماس في الشهوات وحياة التقشف الشديد. ويتكون من عوامل ثمانية مقسمة إلى ثلاث فئات، هي: الأخلاق والتأمل والحكمة. وتحدد هذه العوامل معايير ما فيه خير للبشر، وتوضح أين يكمن النطاق الذي يزدهر فيه الإنسان. وفي القسم المعروف باسم الأخلاق (سيلا)، تصقل الفضائل الأخلاقية إلى حد الكمال، وفي القسم المعروف باسم الحكمة (بانيانيا)، تكتسب الفضائل الفكرية. وماذا عن التأمل؟ سنتناول دور التأمل بمزيد من التفصيل في الفصل التالي؛ ولذلك لن أتحدث عنه كثيرا في هذه المرحلة باستثناء الإشارة إلى أنه يدعم القسمين الآخرين.
وعلى الرغم من أن الطريق يتكون من ثمانية عوامل، يجب ألا تعتبر تلك العوامل مراحل يتم خوضها وصولا إلى النيرفانا ثم يتم تركها وراء ظهورنا. وبدلا من ذلك، تمثل العوامل الثمانية الطرق التي يجب بها غرس مبادئ الأخلاق والتأمل والحكمة على نحو مستمر. «الرؤية الصحيحة» تعني أولا قبول التعاليم البوذية، ولاحقا إثباتها تجريبيا. و«العزم الصحيح» يعني الالتزام الجاد باكتساب التوجهات الصحيحة. و«الكلام الصحيح» يعني قول الحقيقة والتحدث بطريقة تراعي مشاعر الآخرين. و«الفعل الصحيح» يعني الإحجام عن السلوكيات الجسدية الخاطئة مثل القتل أو السرقة، أو التصرف على نحو خاطئ فيما يتعلق بالمتعة الحسية. و«العيش الصحيح» يعني عدم ممارسة مهنة تسبب الأذى للآخرين. و«الجهد الصحيح» يعني اكتساب المرء السيطرة على أفكاره وتهيئة حالات ذهنية إيجابية لديه. و«الوعي الصحيح» يعني اكتساب الوعي الدائم. و«التأمل الصحيح» يعني اكتساب مستويات عميقة من الهدوء الذهني من خلال أساليب مختلفة تجعل العقل يفكر بوضوح عال وتعمل على تكامل الشخصية.
جدول 4-1: الطريق الثماني وتقسيماته الثلاثة. (1) الرؤية الصحيحة
الحكمة (بانيانيا) (2) العزم الصحيح (3) الكلام الصحيح
الأخلاق (سيلا) (4) الفعل الصحيح (5) العيش الصحيح (6) الجهد الصحيح
التأمل (سامادهي) (7) الوعي الصحيح (8) التأمل الصحيح
وبهذا الصدد، فإن ممارسة الطريق الثماني هي بمنزلة عملية إعادة تشكيل؛ فالعوامل الثمانية تكشف كيف سيعيش أتباع بوذا، ومن خلال العيش مثل بوذا يصبح المرء بوذيا مع مرور الوقت . وهكذا فإن الطريق الثماني هو طريق للتحول الذاتي؛ فهو تغيير فكري وعاطفي وأخلاقي يعاد فيه توجيه الشخص من الأهداف الأنانية والمحدودة إلى أفق إمكانيات وفرص تحقيق الذات. ومن خلال السعي وراء المعرفة («بانيانيا») والفضيلة الأخلاقية («سيلا»)، يقهر الجهل والأنانية، ويتخلص من سبب نشأة المعاناة، وتكتسب النيرفانا.
الفصل الخامس
الماهايانا
لم يعين بوذا خليفة له، وترك أتباعه يفسرون الدارما بأنفسهم. ولم يمض وقت طويل حتى نشبت الخلافات. في البداية، كانت الخلافات تدور حول ممارسة الرهبنة، وفيما بعد أصبحت الخلافات متعلقة بالعقيدة، وفي ظل غياب مرجعية مركزية، كان نشوء تقاليد مختلفة من البوذية أمرا حتميا تماما. أما أكبر هذه الخلافات فحدث بعد قرن تقريبا من وفاة بوذا بين طائفة سميت فيما بعد «الأقدمين» («ستافيراس»)، وطائفة أخرى اسمها «الجمعية العامة» (ماهاسانجيكاس).
الانقسام الكبير
ما الأمر الذي اختلفت عليه الطائفتان؟ تروي السجلات روايات متناقضة حول هذا الخلاف؛ فبعضها يعزو هذا الانقسام إلى خلاف في العقيدة نشأ حول مكانة بوذا مقارنة بمكانة الآرهات. ووفقا لهذه الرواية للأحداث، فقد قدم أحد الرهبان، ويدعى ماهاديفا، «أطروحات خمسا» تقول إن الآرهات أقل مكانة من بوذا في عدة أمور، مثل عدم الاقتلاع الكامل للشهوة، والافتقار إلى المعرفة التامة التي يزعم الآن أن بوذا كان يمتلكها (رغم أن بوذا نفسه لم يزعم ذلك). أما السبب الأرجح لهذا الانقسام فيبدو أنه كان محاولة الأقدمين لتعديل قواعد الرهبنة من خلال تقديم قواعد سلوكية إضافية.
يعود السبب وراء الانقسام إلى الصعوبات والتوترات العامة التي حدثت عندما بدأت البوذية تنتشر خارج حدود وطنها الأم إلى بقية أجزاء الهند. ومع توسع البوذية، قابلت عادات وأفكارا جديدة؛ فكيف يجب أن تكون استجابتها؟ هل يجب أن تتمسك بقوة بالطرق القديمة، أم يجب أن تتغير للتكيف مع المعتقدات والممارسات الجديدة؟ في النهاية، تباينت الآراء في عدة موضوعات ومضت كل طائفة من الطائفتين في طريق مختلف، وهو ما أصبح معروفا ب «الانقسام الكبير». ومع مرور الوقت انقسمت كل من طائفة الأقدمين وطائفة الجمعية العامة إلى عدد من المذاهب الفرعية . وقد اندثرت كل هذه المذاهب منذ ذلك الحين، باستثناء مذهب تيرافادا، المأخوذ من تقليد الأقدمين. ورغم ذلك، فكثير من هذه المذاهب الأولية أسهمت في التراث الذي قدموه لحركة جديدة ثورية أصبحت معروفة باسم «ماهايانا».
الماهايانا: التأكيد الجديد
ماهايانا تعني «العربة الكبرى»، وتسمى بهذا الاسم لأنها تعتبر نفسها الطريقة الشاملة للخلاص. ووقعت فترة التكوين الأولى لهذه الحركة تقريبا في وقت المسيح، وقد يرجع تاريخها بالتقريب إلى ما بين عامي 100 قبل الميلاد و100 بعد الميلاد. وعلى الرغم من عدم وجود دليل دامغ على التأثير المتبادل بين المسيحية والبوذية، فثمة بعض أوجه شبه بين المسيحية وبوذية الماهايانا، وقد يكون من المفيد ذكرها. أول هذه التشابهات يتعلق بمفهوم المخلص؛ فمثلما تعتبر المسيحية تضحية المسيح بنفسه نموذجا لخدمة المسيحية للآخرين، فإن المبدأ الأعلى في الماهايانا هو عيش حياة وهبت من أجل تحقيق السعادة للعالم. وبدلا من السعي وراء تحقيق الخلاص للفرد، مثلما تنصح التعاليم الأولى، فإن الماهايانا تؤكد بشدة على العمل على إنقاذ الآخرين. ويتجلى هذا الأمر في مبدأ البوديساتفا، وهو شخص يتعهد بأن يعمل دون كلل أو ملل على مدار حيوات لا تعد ولا تحصى كي يقود الآخرين إلى النيرفانا. وكل شخص يعتنق الماهايانا يصبح بطبيعة الحال بوديساتفا، لكن بالنسبة إلى معظم معتنقي الماهايانا، تكون هذه مجرد نقطة بداية طريق التطور الروحي الطويل. ونظرا للأهمية الشديدة لمبدأ البوديساتفا، ولا سيما في مراحله الأولى، عرفت الماهايانا فقط باسم «بوديساتفانيا»، أو «عربة البوديساتفا».
ويرتبط بفكرة خدمة الآخرين مفهوم الحب الإيثاري؛ فالمسيح أعطى الحب («أجابا») أهمية كبيرة في تعاليمه، وفي الماهايانا تحتل الشفقة («كارونا») مكانة محورية. وفي واقع الأمر، فإن الشفقة إزاء معاناة الآخرين هو ما يحفز البوديساتفا للتضحية بنفسه نيابة عنهم. وبطبيعة الحال، لا يستطيع البوديساتفا «فداء» الآخرين مثلما فعل المسيح. وبدلا من ذلك، فإنه يكرس جهوده ليصبح «صديقا جيدا» لجميع الناس؛ فهو يساعدهم من خلال كونه قدوة لهم، ومن خلال تقليل معاناتهم بطرق عملية، ومن خلال تشجيعهم، ومن خلال تعليمهم طرق التحرر.
أفكار جديدة عن بوذا
مع تصدر صورة البوديساتفا الساحة، بدأت صورة بوذا في التراجع وأصبحت أكثر روحانية. وعند ظهور الماهايانا، كان بوذا قد مات منذ عدة قرون، ومع تزايد المبالغة والتفاصيل المثيرة غير الحقيقية في الروايات التي تقص حياته، أصبح الناس يعتقدون أنه نصف إله. وزاد من هذه الهالة الصوفية الغموض الذي اكتنف وضع بوذا في النيرفانا الأخيرة؛ فعلى الرغم من أن طائفة الأقدمين قالوا إنه رحل من هذا العالم إلى النيرفانا النهائية، كان هناك اعتقاد أيضا بأنه يوجد في عالم روحاني متسام. واستنتج أتباع الماهايانا أن كائنا رحيما مثل بوذا لا يمكن أبدا أن يعزل نفسه عن الآخرين، واعتقدوا أنه ما زال «موجودا» في مكان ما، يعمل بفعالية من أجل سعادة الكائنات، تماما مثلما كان يفعل على الأرض. وتماشيا مع هذا المعتقد، ظهرت طوائف دينية متشددة تمجد وتبجل بوذا وتطلب منه الشفاعة. وإذا كان البوديساتفا يشبه المسيح في الحب والخدمة التي يقدمها للبشر، فإن بوذا يمثل الأب الرب والكائن الروحاني الكريم، غير الموجود في العالم لكنه موجود في مكان قريب في عالم سماوي، ويهتم بحرص أبوي برفاهية أبنائه.
شكل 5-1: «الأجسام الثلاثة» (تريكايا) لبوذا.
وفي نهاية الأمر، أسفرت هذه الأفكار عن تصور كامل للكون من منظور الماهايانا، وكذلك أنتجت «بوذية» جديدة تتصور أن بوذا له «ثلاثة أجسام» («تريكايا») أو أنه يوجد في ثلاثة أبعاد: بعد أرضي، وبعد سماوي، وبعد متسام. أما الجسم الأرضي («نيرماناكايا») فهو الجسم البشري الذي كان يمتلكه عندما كان على الأرض. أما الجسم السماوي («سامبوجاكايا») فكان في عالم منعم يوجد في مكان «مغاير» للعالم الذي نسكنه الآن، ولا يختلف عن الجنة في المفهوم المسيحي. أما الجسم المتسامي («دارماكايا») فهو يمثل بوذا الذي اعتقدوا أنه يساوي الحقيقة المطلقة، وهذا المنظور لا يختلف في عدة أمور عن الطريقة التي تحدث بها الصوفيون المسيحيون والفلاسفة عن الرب باعتباره المطلق أو الحقيقة المطلقة (مذاهب الماهايانا تفهم هذه المصطلحات بتفسيرات شتى). أما آخر تشابه مع العقيدة المسيحية يمكن ذكره، فهو أنه مثلما سيكون «مجيء ثان» قبل يوم القيامة، نشأ اعتقاد بأن أحد البددة (جمع بد؛ أي بوذي) واسمه مايتريا سوف يظهر في نهاية العصر الحالي، وعندها سيسود عصر مثالي يكتسب فيه الناس التنوير. وهذه الفكرة (الموجودة أيضا في بوذية تيرافادا) وضعت الأساس لعدد من الطوائف المسيحية التي لاقت رواجا من وقت لآخر في أنحاء كل من شمال آسيا وجنوبها.
إن أهمية الانقسام الذي حدث في البوذية مع ظهور الماهايانا لا يختلف عن الانقسام الذي حدث في عصر الإصلاح عندما انقسمت المسيحية اللاتينية إلى الكنيسة الكاثوليكية والكنيسة البروتستانتية؛ فكلا الانقسامين ترك أثرا طويل المدى على الساحة الدينية، ويعرف البوذيون أنفسهم باعتبار انتمائهم للماهايانا أو للتيرافادا مثلما يعرف المسيحيون أنفسهم على أنهم كاثوليك أو بروتستانت. علاوة على ذلك، توجد تشابهات عقائدية بين كل من البروتستانتية والبوذية القديمة تتمثل في أن كلتيهما ترى أن الخلاص مسئولية الفرد في الأساس، بينما الكاثوليكية (وأيضا الكنائس الأرثوذكسية)، وكذلك بوذية الماهايانا تعتقد أن المساعدة والشفاعة أمران ممكنان الحدوث من خلال وساطة القديسين والبوديساتفا. ومن غير الحكمة التوغل في سرد أوجه الشبه؛ لأنه يوجد أيضا الكثير من الاختلافات؛ فعلى سبيل المثال، كانت الماهايانا في بدايتها حركة غير واضحة المعالم، ولم تكن منظمة عبر طوائف مختلفة، ولم يكن يوجد فاصل جذري بين أتباع الماهايانا وأتباع المذاهب الأخرى، وكثيرا ما كان الرهبان المرسمون في الجمعية العامة، أو حتى في فروع تقليد الأقدمين، يتعاطفون ويتجاوبون مع أفكار الماهايانا رغم عيشهم في جماعة مع إخوة لا يؤمنون بها.
نصوص الماهايانا
كانت نواة الماهايانا سلسلة من النصوص الحديثة ظهرت في القرون الأولى للحقبة المسيحية. وعلى الرغم من أن النصوص القديمة (يسمى النص بالسنسكريتية: «سوترا») الموجودة في قانون بالي يعتقد أنها كلام بوذا نفسه، فإن النصوص («السوترات») الجديدة لا يمكن عزوها بسهولة إلى المؤسس. ورغم ذلك، فإن هذه النصوص - التي كانت مجهولة المؤلف ويظهر في الغالب أنها أعمال لعدة مؤلفين - اكتسبت مرجعية كبيرة لأنها بدت حالمة وملهمة. علاوة على ذلك، فإن التصور الكوني الجديد الذي قدمته الماهايانا، جعل من الممكن الزعم بأن بوذا إن لم يكن المؤلف البشري ل «السوترات» الجديدة، فإنه على الأقل مؤلفها الروحي؛ لأن حكمته ظلت تنبعث من المستويات العليا للكون إلى العالم البشري.
بقايا مخطوطات خاروستي
على مدار ما يزيد على نصف قرن كان الباحثون يتكهنون بوجود قانون بوذي مفقود من منطقة جاندارا الواقعة شمال غرب الهند. وثبت وجود هذا القانون ثبوتا قاطعا عقب استحواذ المكتبة البريطانية في عام 1994 على مجموعة بقايا مخطوطات عددها تسع وعشرون، موجودة في ثلاث عشرة لفافة مصنوعة من جذع شجر القضبان. كانت المخطوطات مدفونة في قدر من الطمي لمدة ألفي سنة تقريبا، وهذا يجعلها أقدم المخطوطات البوذية (والجنوب آسيوية) المتبقية. وما زال الموقع المحدد الذي عثر فيه على القدر غير معلوم، لكنه على الأرجح في هدا أو بالقرب منها، وهدا هو موقع مجمع دير قديم بالقرب من جلال آباد في شرق أفغانستان. وتحمل القدر نقشا مهدى إلى معلمي إحدى المدارس القديمة المهمة المعروفة باسم دارماجوبتاكا؛ مما يرجح أن المخطوطات جاءت من مكتبة دير يتبع مدرسة دارماجوبتاكا. لغة النصوص هي اللغة الجاندارية، والنقش المكتوبة به هو الخاروستي؛ ولهذا السبب يشار إلى المخطوطات أحيانا باسم «بقايا مخطوطات خاروستي» أو «مخطوطات خاروستي». وما زالت مخطوطات جاندارية أخرى تابعة لفترات مختلفة موجودة ضمن مجموعات أخرى؛ مما يوفر بيانات مقارنة مثيرة.
ازدهر الفن البوذي والثقافة البوذية في منطقة جاندارا (وتوجد تقريبا في الموقع الحالي لباكستان وأفغانستان) على مدار نحو ثمانية قرون، من القرن الثالث قبل الميلاد فما يليه. في أوجها، من نحو عام 100 قبل الميلاد إلى عام 200 ميلاديا، كانت العاصمة المزدهرة والمرموقة للسلالات الثرية، وكانت على الأرجح أهم مركز للبوذية في العالم القديم. ونظرا لوقوعها على جانبي طرق التجارة الرئيسية، فقد مثلت البوابة الرئيسية لنقل البوذية من الهند إلى آسيا الوسطى والصين. لطالما كانت المنطقة غنية بالبقايا الأثرية، والنقوش، والأعمال الفنية، لكن حتى وقت قريب لم يكن معروفا إلا القليل عن قانونها التشريعي المكتوب. إن أهمية مجموعة مخطوطات خاروستي لفهم البوذية القديمة قد تشبه أهمية مخطوطات البحر الميت لفهم المسيحية. وقد بدأ الباحثون في إعادة التفكير في كثير من الافتراضات المتعلقة بتشكيل ونقل التعاليم البوذية القديمة. ويبدو الآن، على سبيل المثال، أن النصوص تمثل «حلقة مفقودة»؛ لأن كثيرا من الترجمات الصينية للنصوص البوذية أقرب إلى النسخ المكتوبة باللغة الجاندارية منها إلى النسخ المشابهة المكتوبة باللغة السنسكريتية أو باللغة البالية. ونشر كثير من هذه النصوص كجزء من مشروع مشترك بين المكتبة البريطانية وجامعة واشنطن، وهذه النصوص بالإضافة إلى بقايا أخرى متبقية تعود إلى فترات مختلفة تقدم رؤى جديدة عن وضع وتوحيد ونشر القوانين التشريعية البوذية عبر التاريخ.
بدأت سوترات الماهايانا الكبرى، مثل «سوترا اللوتس» (تقريبا عام 200 بعد الميلاد) مراجعة جذرية للتاريخ البوذي القديم. وزعم أصحابها في الأساس أنه على الرغم من أن بوذا المشهور تاريخيا يبدو أنه قد عاش ومات مثل أي شخص عادي، فإنه في واقع الأمر كان قد اكتسب التنوير منذ زمن سحيق. ورغم ذلك فإنه، باعتباره معلما حكيما ورحيما، قام بتمثيلية متقنة لمواءمة توقعات الناس في ذلك الزمان. وكما أنه لن يقدم معلم متمرس على تدريس مادة متقدمة مثل حساب المثلثات لطلاب بدءوا لتوهم في تعلم الرياضيات، فقد كشف بوذا عن تعاليم محدودة - أبجدية روحانية - علم أن أتباعه الأولين سيتمكنون من استيعابها. وسبب هذا التصرف هو أن العمق والنطاق الحقيقيين للدارما - التي أصبحت الآن واضحة تماما في الماهايانا - كانا عميقين على نحو لا يمكن قياسه، وبدلا من تشويش الناس وإرهاقهم بما يفوق طاقتهم، استخدم بوذا «وسائل ماهرة» («أوبايا كوشاليا») لتقديم الحقيقة لهم بطريقة مبسطة.
شكل 5-2: مخطوطة مكتوبة باللغة السنسكريتية على سعفة نخل تعود إلى القرن السادس الميلادي تحكي أسطورة الإمبراطور أشوكا.
توجد فقرة شهيرة في «سوترا اللوتس» - أمثولة البيت المشتعل - حيث يتشبه بوذا بأب حكيم يرى أن البيت الذي يقيم فيه أبناؤه يحترق، فيفكر في أفضل طريقة يقودهم بها إلى الأمان. ونظرا لانشغال الأطفال بألعابهم، فإنهم لم يدركوا الخطر المحدق بهم وترددوا في مغادرة المنزل؛ ولذلك، وعد بوذا الأطفال بلعب جديدة في انتظارهم خارج المنزل، وتبعه الأطفال المتحمسين للخارج وأنقذهم من النيران. في هذه الأمثولة يمثل البيت المشتعل «السامسارا» - عالم المعاناة واللاديمومة - والأطفال هم الأتباع الأولون. ونظرا لأنهم كانوا طفوليين ومنكبين على ذواتهم، فقد جذب بوذا انتباههم بأن وعدهم بتعاليم من نوع علم أنهم سيجدونه جذابا. والآن بما أن الأطفال قد أنقذوا من الخطر المباشر، فإن الحقيقة الكاملة أصبح من الممكن كشفها؛ ومن ثم، فإن وجهة نظر الماهايانا هي أن المعتقدات الأولية - على الرغم من أنها ليست مزيفة - غير كاملة، وأنه ثمة حاجة إلى «دورة ثانية لعجلة الدارما» كي تكتمل تلك المعتقدات. وغالبا ما سخرت سوترات الماهايانا من المذاهب الأولى، وقد أطلقت عليها وصفا مهينا، هو «هينايانا»؛ أي «العربة الصغرى». وتصور بعض التعاليم، مثل «تعاليم فيمالاكيرتي» (تقريبا عام 400 بعد الميلاد)، الرهبان المتعلمين المنتمين إلى التقليد القديم في حيرة من أمرهم أمام أحد العوام («فيمالاكيرتي») وهو يكشف ببراعة التعاليم العليا للماهايانا.
إن أهم ما سعى إليه أتباع الماهايانا من خلال ممارستهم الدينية هو اتباع طريق البوديساتفا. وعلى مدار عدة قرون تحددت المراحل المتعددة ل «مهنة» البوديساتفا على نحو مفصل. وكانت المرحلة الأولى المهمة هي نشأة ما يعرف باسم «فكر التنوير» أو «بوديتشيتا». ويمكن تشبيه هذه المرحلة بتجربة تحول، كما أنها النقطة التي ينشأ عندها الحافز الأولي لأن يصبح المرء بوديساتفا لكي ينقذ الآخرين. وبعد ذلك يسعى الفرد إلى أن يصبح بوديساتفا، وفي هذه الأثناء يقطع على نفسه عهد («برانيدانا») بأن ينقذ كل الأشخاص وأن يقودهم إلى النيرفانا، مهما استغرق هذا الأمر من وقت.
وتوجد ست فضائل مهمة لممارسة البوديساتفا، وتعرف بالمثاليات الست (انظر مربع النص). وكلما مارس البوديساتفا هذه المثاليات أحرز تقدما في نظام المراحل العشر («بومي»)، وكل مرحلة من هذه المراحل تعد خطوة مهمة على طريق الوصول إلى النيرفانا. وعلى الرغم من أن هذا النظام يمثل إعادة صياغة للتعاليم الأولى، فإن الطريق الجديد للنيرفانا لا يختلف اختلافا جذريا عن ذلك الموجود في الطريق الثماني، ويمكن أن نرى أن التقسيمات الثلاثة للطريق الثماني - الأخلاق والتأمل والحكمة - تظهر بين المثاليات الست.
فضائل الماهايانا
المثاليات الست (باراميتاس) للبوديساتفا هي: (1) الكرم (دانا). (2) الأخلاقية (سيلا). (3) الصبر (كسانتي). (4) الشجاعة (فيريا). (5) التأمل (سامادي). (6) الحكمة (براجنيا).
شكل 5-3: البوديساتفا أفالوكيتشفارا، تجسيد الشفقة. الأذرع المتعددة للبوديساتفا ترمز إلى شفقته. الذراعان الممتدتان تحملان مسبحة وزهرة لوتس. أحيانا يصور بأذرع ووجوه عديدة للدلالة على أن شفقته شاملة ولا تفنى. تشاهار، منغوليا الداخلية، تقريبا عام 1700 ميلاديا.
أما رهبان البوديساتفا الذين وصلوا إلى المراحل العليا في حياتهم المهنية، فاعتبروا كائنات هائلة القوة، مماثلة فعليا لبوذا في هيئته السماوية. وفي واقع الأمر، أصبح الفرق بين بوذا ورهبان البوديساتفا المتقدمين غير واضح إلى حد كبير. وتوجد رتبتان من هذه الرتب «الكهنوتية» بالغتا الأهمية لرهبان البوديساتفا، وهما: أفالوكيتشفارا «الإله الذي ينظر للأسفل (في شفقة)» (انظر الصورة
5-3 )، ومانياجوشري «المجد اللطيف». أما الرتبة الأولى (التي يقال إن رهبان دالاي لاما التبتيين يمثلون تناسخا عنها) فتمثل الشفقة («كارونا»)، وأما الرتبة الأخرى فتمثل الحكمة («براجنيا»). ويصور أفالوكيتشفارا بأذرع متعددة تمتد لتساعد الأشخاص الذين يعانون، بينما يحمل مانياجوشري سيف الحكمة المشتعل الذي يقطع به الجهل. بالإضافة إلى ذلك، ظهرت مجموعة غنية من البددة والبوديساتفا، يعتقد أنها تسكن في كون مهيب غير مرئي. ومثلما تشرف نظامنا العالمي بوجود بوذا، بدا من المنطقي افتراض وجود بددة في العوالم الأخرى؛ ولذلك أخذت الماهايانا تخترع أسماء وشخصيات لهؤلاء البددة المتخيلين ووضعتهم في عوالم بوذية رائعة. وأصبح من المسلمات وجود «عائلة» من خمسة بددة، تصور غالبا في مخططات صوفية دائرية تعرف باسم «ماندالاس». أما الترتيب الشائع لهذه المخططات الملونة فيوجد فيه بوذا الشهير تاريخيا شاكياموني (بالبالية: ساكياموني) في مركز الدائرة محاطا بأربعة بددة غير معروفين تاريخيا يحدونه من الشمال والجنوب والشرق والغرب.
وبوذا الموجود في الجهة الغربية يعرف باسم «أميتابا» («الضوء اللانهائي»). وفي بوذية شرق آسيا، أصبح بوذا مركز طائفة شهيرة قامت على أساس جنة رائعة أو «أرض نقية» كان يعتقد أنه يسكنها. وقد قطع أميتابا (يعرف في اليابان باسم أميدا) على نفسه عهدا أنه إذا اكتسب التنوير فسوف يساعد أي شخص يتوسل باسمه بروح من الإيمان، وتتمثل هذه المساعدة في أن يضمن له أنه سيولد من جديد في أرضه النقية المعروفة باسم «سوكافاتي» («المباركة بالسعادة»). ومن الواضح أنه مع مثل هذه التطورات، التي حدثت خلال القرون الميلادية الأولى، ابتعدت الماهايانا إلى حد ما عن التعاليم الأولى لبوذا التي تقول إن الخلاص مسئولية الفرد، واقتربت من قبول أن الخلاص يمكن الحصول عليه من خلال الإيمان والعفو. وكذلك في مذهب الأرض النقية - الذي ظهر في ظله مثل هذا النوع من الأفكار - لم تكن الجنة الغربية لأميتابا مثل النيرفانا، والشخص الذي يولد من جديد في تلك الجنة يظل في حاجة إلى بذل جهد أخير لاكتساب التنوير بنفسه.
تطورات فلسفية
مع تعدد «السوترات» الجديدة، بدأ المعلمون البوذيون تأليف تعليقات وأطروحات تقدم الأساس الفلسفي لمعتقدات الماهايانا. وأشهر هؤلاء الفلاسفة كان ناجارجونا الذي عاش تقريبا في عام 150 ميلاديا، وأسس مذهبا يعرف باسم مادياماكا أو «المذهب الوسطي». وقد استخدم مفهوم «الطريقة الوسطى» التقليدي بأسلوب جدلي معقد؛ وبذلك قاد النتائج المؤكدة للتعاليم الأولى إلى استنتاجها المنطقي. عند مناقشة حقيقة النشأة في الفصل الرابع أشرنا إلى معتقد النشأة المعتمدة. لقد فهم تقليد مذهب التيرافادا القديم، الذي يعرف باسم أبهيداما («الدارما العليا») أن معتقد النشأة المعتمدة يشير إلى نشأة وتدمير العناصر الحقيقية، التي أطلق عليها «الدارمات». لقد اعتقدوا أن الدارمات هي المكونات التي تتألف منها كل الظواهر. واعتقدوا أنها غير دائمة لكنها حقيقية. وعلى هذا الأساس، حللوا أشياء مثل الطاولات والكراسي على أنها مكونات لعناصر بدلا من اعتبارها كيانات ذات طبيعة مستقلة دائمة؛ فالكرسي على سبيل المثال يمكن أن يرى في ضوء أنه مكون من أرجل ومقعد وظهر فحسب، وأنه لا يزيد عن كونه مكونا من تلك الأجزاء.
ورغم ذلك، فإن ناجارجونا فسر معتقد النشأة المعتمدة بطريقة جديدة إلى حد كبير. فعلم أتباعه أن الدارمات لا تتسم بالديمومة فحسب، لكنها أيضا تفتقر تماما إلى الواقعية المتأصلة. ولخص ذلك قائلا إن كل الظواهر - الطاولات والكراسي والجبال والناس - ببساطة «خالية » من أي كيان واقعي. ومع ذلك أكدت المادياماكا بشدة على أن هذا المعتقد لا يعني العدم؛ فالمبدأ لا يزعم أن هذه الأشياء غير موجودة؛ فهي ببساطة لا توجد باعتبارها كيانات واقعية مستقلة على النحو الذي يفترضه الناس عادة. وزعمت المادياماكا أن الوضع الحقيقي للظواهر هو شيء بين الوجود واللاوجود، ومن منطلق هذا التفسير ل «الطريقة الوسطى» اكتسب المذهب اسمه.
هذا الفكر له نتيجة أخرى مهمة تتمثل في إمكانية عدم وجود اختلاف بين النيرفانا وبين عالم الميلاد المتكرر الدوري («سامسارا»). لقد قال ناجارجونا إنه إذا كان كل شيء خاليا من الوجود الحقيقي، فمن خلال نظرة عميقة سندرك أن كل الأشياء على قدم المساواة. إذن على أي أساس يمكن التفريق بين النيرفانا و«السامسارا»؟ لا يمكن إيجاد اختلاف بين الأشياء في حد ذاتها؛ لأنها كلها «خالية» تماما؛ ولذلك فالفرق الوحيد يكمن في تصورنا لها. وأعطى مثالا لشخص يظن خطأ في ضوء الغسق أن لفة الحبل ثعبان ويصيبه الهلع. وعندما يدرك هذا الشخص خطأه ينزوي خوفه وتختفي رغبته في الهروب. واستنتج ناجارجونا أن ما نحتاجه للتحرر هو بالضرورة الرؤية الصحيحة - أن نرى الأشياء على حقيقتها - بدلا من الشروع في الهروب من الواقع الذي نفترض أنه معيب («سامسارا») إلى واقع أفضل (النيرفانا). وبهذه الطريقة أعادت المادياماكا تفسير النيرفانا بوصفها رؤية منقاة لما يرى الجاهل أنه «سامسارا». وتمثل هذا التعريف في أن النيرفانا توجد في المكان والزمان الحاليين فقط إذا أمكن لنا رؤيتها. إن التخلص من الجهل الروحي («أفيديا») وإدراك أن الأشياء خالية يدمر الخوف - أو الشهوة - الذي نكنه تجاهها. وأطلق ناجارجونا وأتباعه على مجموعة الأفكار المعقدة التي قدموها اسم «معتقد الخواء» («شونيافادا») وأصبح هذا المعتقد مصدر إلهام لفكر الماهايانا عبر القرون فجعلهم يكتبون عددا لا حصر له من التعليقات والأطروحات.
بالإضافة إلى معتقد الخواء، ظهر العديد من الأنظمة الفلسفية المعقدة الأخرى، مثل معتقد «العقل فقط» («تشيتاماترا»)، وهو نوع من المعتقدات المثالية يرى أن الوعي هو الواقع الوحيد، وينكر الوجود الموضوعي للأشياء المادية. ويبدو أن التجربة التأملية لعبت دورا مهما في تطور هذا المذهب كما يمكن أن يرى من اسمه البديل - يوجاكارا أو «ممارسة اليوجا». ولا يسعنا المجال في هذا الكتاب لاستعراض مدى تعقيد هذه الأفكار، ولا لتوضيح ثراء وتنوع فكر الماهايانا في العموم، وسوف نحيل القارئ في آخر الكتاب إلى مصادر للاطلاع عليها للحصول على تفاصيل إضافية.
ملخص
لا ترفض الماهايانا أيا من التعاليم الأولى لبوذا، على الرغم من أنها في بعض الأحيان تعيد تفسيرها بطرق جديدة تماما. وترى الماهايانا أنها تسترجع المعنى الحقيقي للتعاليم الأولى التي تزعم أن التقليد القديم عجز عن إدراكها. وفي واقع الأمر، كثير من الأمور الموجودة في الماهايانا ليس بجديد؛ فعلى سبيل المثال، فكرة الشفقة الإيثارية - التي تعبر عنها مثالية البوديساتفا - واضحة بالفعل في حياة بوذا التي قضاها في خدمة الآخرين. ويمكن رؤية مبدأ الخواء في صورته البدائية في تعاليم عدم الديمومة واللاذات. وأخيرا، فإن تجربة التأمل التي يدخل فيها العقل في غشيات عليا وتوصف بأنها تجربة منيرة ونقية يمكن أن تتنبأ بسهولة بالاستنتاج القائل إن الوعي نفسه هو الحقيقة الأساسية.
حققت الماهايانا قدرا كبيرا من التجديد في عدة مجالات، كان أبرزها تجديد علم البوذية وطوائف المريدين التي ظهرت حول العديد من البددة ورهبان البوديساتفا. وكان شمال غرب الهند نواة مبكرة للماهايانا، وقد خمن الباحثون إمكانية وجود تأثير للهلنستية والزرادشتية على البوذية، ذلك التأثير الذي قد يكون مسئولا عن تلك التطورات؛ فهذه المنطقة كانت بوتقة ثقافية تدفق فيها العديد من الأفكار والبضائع والسلع من طرق التجارة الآسيوية. وعلى الرغم من جاذبية هذه التصورات، فلا توجد حاجة حقيقية لاستدعاء فكرة التأثير الخارجي لتفسير الزيادة المفاجئة للطوائف الدينية في البوذية. وأحد أسباب ذلك هو أن طوائف المريدين كانت رائجة في الهند أيضا، وأن عبادة الإله الهندي كريشنا تسبق المسيح بقرون عدة. وأما السبب الآخر فهو أنه من الممكن رؤية علامات وجود طائفة مريدين لبوذا ولغيره من القديسين أصحاب الشخصيات الجذابة حتى في العصور الأولى. وبعد وضع كل هذه الأمور في الاعتبار نجد على الأرجح أن طوائف المريدين - بالإضافة إلى غيرها من التجديدات المذكورة في هذا الفصل - كانت تطورا مستقلا نشأ بصورة طبيعية في دورة معينة خلال تطور البوذية عندما شرحت الأفكار التي لم تكن واضحة في التعاليم الأولى.
الفصل السادس
انتشار البوذية
أشوكا
كانت البوذية منذ بداياتها ديانة تبشيرية؛ فقد تجول بوذا في منطقة كبيرة ناشرا تعاليمه، وحض أتباعه بوضوح على أن يحذوا حذوه من خلال هذه الكلمات: «اذهبوا أيها الرهبان وتجولوا من أجل خير ورفاهية الناس.» شهد انتشار البوذية زخما كبيرا في القرن الثالث قبل الميلاد عندما أصبح واحد من أعظم الشخصيات في التاريخ الهندي - ويدعى أشوكا موريا - إمبراطورا للهند في حوالي عام 268 قبل الميلاد. من خلال الغزو، وسع أشوكا رقعة الإمبراطورية المورية وجعلها أكبر إمبراطورية شهدتها الهند حتى الحكم البريطاني. وبعد حملة دموية على الساحل الشرقي في المنطقة التي تعرف اليوم باسم أوريسا، شعر أشوكا بالندم وتحول إلى البوذية. وطوال بقية حكمه الطويل حكم أشوكا وفقا لتعاليم البوذية، وازدهرت البوذية تحت رعايته. وبالإضافة إلى المساعدة في ترسيخ قواعد البوذية في الهند، أرسل أشوكا أيضا المبعوثين إلى ممالك حكام الشرق الأدنى ومقدونيا، ووفقا للسجلات السنهالية، إلى جنوب شرق آسيا. وتوجد أخبار هذه البعثات الأولية في النقوش الحجرية التي تركها أشوكا في أنحاء مملكته، وتقدم هذه النقوش بيانات موثوقة إلى حد كبير عن تاريخ الهند القديم. ولا يعرف بأي قدر من التأكيد ماذا كان مصير تلك البعثات، لكن يبدو أن البعثات التي أرسلت إلى الغرب كان تأثيرها ضئيلا؛ نظرا لأن أقدم ذكر باق للبوذية في الوثائق الغربية يوجد في كتابات إكليمندس الإسكندري في القرن الميلادي الثاني (والإشارات الكلاسيكية القديمة إلى «السارمانيون والسامانيون» الهنود قد تشير أيضا إلى البوذية).
البوذية في الهند
في الهند نفسها، أسست جامعات عريقة مثل تلك الجامعة الموجودة في نالاندا بالقرب من موقع مدينة باتنا الحالية، وقد ازدهرت تلك الجامعات ما بين القرنين السابع والثاني عشر من الميلاد. وكان عدد كبير من الطلاب، يقدر بنحو عشرة آلاف طالب ، يلتحقون بتلك الجامعات في أي وقت لتلقي دورات دراسية في مختلف فروع البوذية مثل المنطق والقواعد اللغوية ونظرية المعرفة والطب ودراسة المادياماكا وغيرها من الفلسفات. وانتشرت أيضا مراكز بوذية مهمة في كل من الجنوب وأقصى الشمال الغربي، وكان أقصى الشمال الغربي بوابة مهمة لانتشار البوذية في آسيا الوسطى والشرق الأقصى.
وخلال النصف الأول من الألفية الأولى من الميلاد، ازدهرت البوذية، على الرغم من أنها عانت من عقبة في حوالي عام 450 من الميلاد على يد قبيلة من آسيا الوسطى تعرف باسم الهون البيض عندما دمرت الأديرة البوذية في أفغانستان وفي شمال غرب الهند. وفي النصف الثاني من الألفية، اختلطت حظوظ البوذية، وفي نهاية هذه الفترة شهدت البوذية تراجعا في الهند. وفي أواخر القرن العاشر، تعرض شمال الهند للهجوم مرة أخرى. وفي هذه المرة كان الغزاة مسلمين أتراكا شنوا سلسلة طويلة من الحملات في غضونها توغلوا إلى عمق شمال شرق الهند؛ مما جعلهم يحتكون بالموطن القديم للبوذية. واتخذت هذه الحملات شكل الغارات التي كان دافعها الرغبة في الغنيمة ومبررها مبدأ «الجهاد». وعانت البوذية بشدة من هذه الغارات؛ لأن الأديرة غير المحصنة مثلت غنيمة سهلة. اعتبر البوذيون «وثنيين» في نظر المسلمين بسبب صور البددة ورهبان البوديساتفا التي كانت تزين أديرتهم، ودمرت الأعمال الفنية وأحرقت المكتبات بالكامل. وفي عام 1192 بسطت قبيلة تركية حكمها في شمال الهند، وتعرف السلسلة الأولى من السلالات المسلمة باسم سلاطين دلهي. وكانت القرون القليلة التالية عصر تقلبات وتشوش، إلى أن بدأ المغول عصر استقرار نسبي وتسامح ديني في القرن السادس عشر. ولكن لم يحدث ذلك إلا بعد فوات الأوان. وكما لو كانت البوذية تجسد حقيقة تعليمها القائل بأن كل ما يظهر سوف يختفي، فقد اختفت البوذية تقريبا من الأرض التي شهدت مولدها.
ويمكن مناقشة تاريخ البوذية بسهولة في بقية آسيا في سياق وجودها في الشمال والجنوب. وعلى العموم، فإن بوذية الماهايانا يشيع وجودها في الشمال، ويشيع تقليد الأقدمين في الجنوب. ونظرا لبقاء مذهب واحد فقط من الاثني عشر مذهبا من التقليد القديم ، الذي يعرف بمذهب التيرافادا، سوف أتحدث من الآن فصاعدا عن الشكلين الرئيسيين المتبقيين من البوذية المعروفين باسم الماهايانا والتيرافادا.
سريلانكا
بدءا بدول الجنوب، التي تنتشر بها بوذية التيرافادا، نجد أن جزيرة سيلون - موطن دولة سريلانكا الحالية - قد لعبت دورا أساسيا في الحفاظ على التراث البوذي وتطويره. ووفقا لسجلات البوذية المحفوظة في سريلانكا، فقد دخلت البوذية إلى سيلون في عام 250 قبل الميلاد على يد راهب يدعى ماهيندا، مبعوث من قبل الإمبراطور أشوكا. أسس ماهيندا ورفاقه الرهبان مجتمعا للرهبان في ماهافيرا («الدير الكبير») في العاصمة أنورادابورا. وفي سريلانكا في وقت يقرب من عام 80 قبل الميلاد، دون قانون بالي للمرة الأولى كتابة؛ وكان ذلك نتيجة للمخاوف من اندثار طريقة النقل الشفهي للتراث بسبب الحرب والمجاعة.
وكان من أشهر سكان الجزيرة الراهب الهندي بوداجوزا الذي وصل في القرن الخامس من الميلاد. وجمع بوداجوزا ودقق وحرر التعليقات الأولى على القانون وترجمها إلى اللغة البالية. ويمكن تشبيه مكانته وتأثيره بمكانة وتأثير أب الكنيسة القديس جيروم (347-420) الذي عاش قبله بفترة قصيرة وترجم الإنجيل إلى اللغة اللاتينية. وظل عمل بوداجوزا الكلاسيكي المعروف باسم «فيسوديماجا» أو «طريق التطهير» - كتاب يجمع كل ما هو متعلق بالمعتقد والممارسة - علامة مميزة في أدبيات التيرافادا.
منذ القدم امتزجت البوذية والسياسة في تاريخ سريلانكا، ووجدت علاقة تبادلية وثيقة بين المعبد البوذي والدولة، أو بين «السانجا» والملك. وكان الملوك يحظون بالرسامة من قبل الرهبان، وكان الرهبان يعملون باعتبارهم مستشارين يفسرون التعاليم البوذية للحاكم. وعلى الرغم من أن الرهبان في الوقت الحالي ممنوعون بموجب الدستور من تقلد أي منصب سياسي، فإنهم يحظون بنفوذ كبير في الشئون العامة. ومرت البوذية بفترات عديدة من الاضمحلال على مدار تاريخها في سريلانكا. وفي أغلب الأحيان، حدثت هذه الفترات في أعقاب الغزو - مثل غزو التاميل الهنود - أو في فترات الاضطرابات الأهلية. وفي مرات عديدة، اندثر تقليد ترسيم الرهبان، وكان لزاما الإرسال في طلب الرهبان من بورما في عام 1065، وفيما بعد من تايلاند في عام 1753 من أجل استئناف تقليد الترسيم . حصلت سريلانكا على استقلالها من البريطانيين في عام 1948، لكن في العصور الحديثة ما زالت تعاني من مشكلات سياسية وحروب أهلية متقطعة بين الأغلبية البوذية السنهالية (مثلت نحو 70 بالمائة) والأقلية التاميلية من سكان الشمال. وفي بعض الأوقات، زود الرهبان البوذيون سخونة الأحداث بتشبيه الخلاف بالحرب المقدسة والمطالبة بإجراء تعديل دستوري تمييزي. وبلغ هذا الأمر ذروته في عام 1959 عند اغتيال رئيس الوزراء إس دبليو آر دي باندارانايكي على يد أحد الرهبان البوذيين الذي شعر بأن موقفه تجاه التاميليين يميل كثيرا إلى المصالحة. وفي عام 2009، هزمت القوات الحكومية السنهالية جبهة نمور تحرير تاميل إيلام، لكن ما زالت الدولة جريحة من آثار العنف والاضطرابات السياسية في العقود الأخيرة.
جنوب شرق آسيا
من دول التيرافادا المهمة الأخرى الموجودة في جنوب شرق آسيا بورما (المعروفة رسميا الآن باسم ميانمار) وتايلاند (سيام سابقا). ربما قدمت بوذية التيرافادا إلى هذه المنطقة على يد إحدى إرساليات أشوكا، وظلت بوذية التيرافادا حاضرة بين السكان الأصليين من شعب المون منذ القرون الأولى للحقبة المسيحية. كان جنوب شرق آسيا يتطلع عادة إلى الهند؛ نظرا لإلهامها الثقافي، وظل تأثير كل من البوذية والهندوسية قويا في كل أنحاء المنطقة. ومنذ القرن الخامس حتى القرن الخامس عشر، كانت القوة المسيطرة على المنطقة هي إمبراطورية الخمير التي كانت تشيع فيها أشكال مختلفة من الهندوسية وبوذية الماهايانا. وتزعم سجلات بورما أن بوداجوزا زار بورما ووضع تقليد الدراسة البحثية في النصوص البوذية المكتوبة باللغة البالية. وازدهر العديد من المذاهب البوذية إلى أن وحد الملك أناوراتا (1044-1077) البلاد عن طريق غزو الجزء الجنوبي ومنح ولائه للتيرافادا، على الرغم من أنه يرجح أن التيرافادا كانت مسيطرة حتى قبل ظهوره في ذلك الوقت؛ ومن ثم استعاد شعب المون استقلاله، ولم يحدث أن قمعوا حتى القرن السابع عشر. نهب المغول عاصمة أناوراتا، باجان، في عام 1287، وأصبحت المدينة بما فيها من مباني الباجودا ومعابدها التي تعد بالآلاف مهجورة. وعلى الرغم من هذه النكبة، فقد تعافت البوذية وازدهرت، وحاليا نحو 89 بالمائة من السكان يتبعون بوذية التيرافادا.
كانت التيرافادا موطدة الأركان في أجزاء من الأرض المجاورة المعروفة باسم تايلاند، ولا سيما مملكة المون المعروفة باسم هاريبونياجايا ومملكة دفارافاتي، وفي القرن الحادي عشر أرسلت الإرساليات من بورما إلى المنطقة. ووجد التايلانديون الذين وصلوا إلى المنطقة في القرن الثالث عشر بعد طردهم من الصين على يد المغول أن تراث التيرافادا أبسط من أشكال بوذية الماهايانا المعقدة التي عرفوها في الشمال. وتلقت التيرافادا رعاية ملكية، ولم يمر وقت طويل حتى حلت محل منافسيها من الديانات. واليوم يدين 95 بالمائة من سكان تايلاند بالبوذية.
لا يختلف تاريخ البوذية في كامبوديا ولاوس وفيتنام عنه في بقية أجزاء آسيا، على الرغم من أن بوذية التيرافادا تفسح الطريق على نحو متزايد أمام أنواع بوذية الماهايانا كلما اتجهنا ناحية الشرق. وتوجد أشكال كثيرة للتوفيق بين المعتقدات الدينية في هذه المناطق على هيئة مزيج من التيرافادا والماهايانا والأديان المحلية للسكان الأصليين. وعندما تنتشر البوذية لا تميل إلى استئصال المعتقدات الموجودة، بل تدمجها في عالمها جنبا إلى جنب مع الآلهة والأرواح المحلية. ومن الشائع للغاية أن تجد البوذيين في القرى يلجئون إلى آلهتهم المحلية بحثا عن حلول لمشكلاتهم اليومية - مثل علاج أحد الأمراض أو إيجاد شريك حياة - ويلجئون للبوذية بحثا عن إجابات لأسئلة كبرى متعلقة بمصير البشر.
وفي شمال آسيا أيضا، حيث تسيطر بوذية الماهايانا، يتم احتواء معتقدات السكان الأصليين. وقد ازدهرت بوذية الماهايانا في أنحاء آسيا الوسطى، وكذلك في التبت والصين واليابان وكوريا. وهنا سوف أقدم استعراضا مختصرا فحسب للتطورات الأساسية في الصين واليابان والتبت.
انتشار البوذية
ثلاث موجات دافعة رئيسية حملت البوذية من موطنها في الهند إلى بقية آسيا. انطلقت إحدى هذه الموجات إلى الشمال، والثانية إلى الجنوب الشرقي، والثالثة إلى الشرق الأقصى. والآليات الثلاث الرئيسية لانتشار البوذية كانت كالتالي: (1) البعثات الدينية والدبلوماسية. (2) أعمال الباحثين والمفكرين. (3) المقايضة والمتاجرة. (4) الهجرة. (5) الإعلام وشبكات التواصل. (1) سار الملوك في سائر أنحاء آسيا على نهج الملك أشوكا، وأصبح من العادات مرافقة الرهبان للبعثات الدبلوماسية، ومع ازدياد الدول المعتنقة للبوذية أرسلت تلك الدول بدورها سفراء إلى الدول المجاورة لها. وبهذه الطريقة قدمت البوذية إلى المستويات العليا، وانتشرت بين طبقات الصفوة ذات النفوذ. وفي أغلب الأحيان كانت التماثيل والنصوص وغيرها من المقتنيات الدينية ترسل باعتبارها هدايا؛ مما أثار الفضول لدى متلقي تلك الهدايا. وفي إحدى البعثات من هذا النوع، وكانت قادمة من كوريا في عام 538 ميلاديا، قدمت البوذية إلى البلاط الإمبراطوري الياباني واعتنقها بحماس الأمير شوتوكو، وقد تكررت هذه الوتيرة في عدة مناسبات في دول أخرى. (2) إن أعمال الباحثين والفلاسفة على مر القرون حولت البوذية إلى تقليد دائم التغير من الناحية الفكرية وتراث ثري يضم أفكارا ونظريات جذبت المفكرين من أنحاء أخرى من آسيا. وكان الشكل الأساسي الذي اتخذته هذه الجهود هو تجميع النصوص، على الرغم من أن تعاليم معينة كانت محفوظة أيضا في صورة شفهية فحسب. ووقعت مسئولية التعليق على النصوص وتفسيرها أو شرح تعاليمها الشفهية الغامضة على عاتق أجيال من الباحثين الذين درسوا على يد معلمين يتمتعون بمعرفة متخصصة في الموضوع. ومع انتشار البوذية، ظهر تحد جديد تمثل في ترجمة المفاهيم الفلسفية الهندية الغامضة إلى اللغات المختلفة تماما عن اللغات التي ألفت فيها تلك النصوص. وقد استغرق الأمر في بعض الأحيان قرونا من العمل، وصورا كثيرة من سوء الفهم، قبل التمكن من ابتكار كلمات مناسبة تجعل الأفكار البوذية مفهومة لدى الأشخاص الذين لا يعتنقون وجهة النظر نفسها عن العوالم المفترضة سلفا في الكتابات البوذية. وفي أغلب الأحيان كانت المناظرات والنقاشات بين المفكرين البوذيين وأصحاب الثقافات الأخرى (مثل الصين) تؤدي إلى نهضة تثري كلا طرفي الحوار. (3) كان من أهم وسائل انتشار البوذية طرق التجارة القديمة التي قطعت آسيا برا وبحرا. وفي أغلب الأحيان كان الرهبان البوذيون يرافقون القوافل في رحلاتها البرية من واحة إلى واحة، أو يسافرون بحرا حول المياه الساحلية لآسيا. وكانت المدن التي تقام فيها أسواق كبيرة منتشرة على طول هذه الطرق، ولا سيما في بدايتها ونهايتها، تستضيف جماعات حيوية مكونة من أعراق وجنسيات عديدة؛ مما ضمن انتقال الأفكار سريعا. وكثير من التجار كانوا أثرياء وكان لديهم الوقت لإشباع فضولهم بشأن المعتقدات الجديدة، وكانوا يمتلكون الموارد المالية لتقديم التبرعات ورعاية الأنشطة الدينية. وكثير منهم أصبحوا رعاة للبوذية؛ فشيدوا الأضرحة، وساهموا في بناء الأديرة وصيانتها، إما بدافع التقوى وإما بتوقع الفوز بميزة كارمية نتيجة لأفعالهم الخيرة. والبعض الآخر استأجر فنانين لصنع أعمال فنية دينية، مثل عمل تماثيل للبوذا والبوديساتفات، ومنحوتات حجرية أو خشبية، وتزيين الكهوف والمزارات المقدسة بالصور البوذية. (4) على الرغم من أنه كثيرا ما حدثت تحركات للسكان على مر التاريخ، فإن تأثيرها على انتشار البوذية كان أكبر في العصور الحديثة؛ والسبب في ذلك يعود إلى حد كبير إلى اختراع وسائل المواصلات الحديثة. علاوة على ذلك، فإن أعدادا كبيرة من البوذيين العرقيين اضطروا إلى ترك أوطانهم في آسيا، إما نتيجة للحاجة الاقتصادية وإما نتيجة للصراعات الإقليمية. وعلى مدار القرنين الماضيين، هاجرت أعداد كبيرة من الصينيين واليابانيين البوذيين إلى أمريكا وأوروبا، مصطحبين دينهم معهم. وبعد فترة ليست ببعيدة انضم إليهم بوذيون من فيتنام ومن أجزاء أخرى في جنوب آسيا. وفي النصف الثاني من القرن العشرين، هربت أعداد كبيرة من اللاجئين من التبت ليشكلوا جزءا مما أصبح معروفا باسم «الشتات التبتي». وقد اتخذت أعداد كبيرة من لامات التبت من الغرب موطنا لهم وأسسوا مجتمعات مخصصة لدراسة هذا الشكل المميز من البوذية الخاصة بهم والحفاظ عليه. (5) إن اختراع الصحف، والتصوير الفوتوغرافي، وأجهزة التليفون، والتليفزيون، والفاكس، والكمبيوتر الشخصي، والإنترنت؛ غير جذريا طريقة الحصول على المعلومات في كل أنحاء العالم. وكان معنى هذا التطور التكنولوجي أنه أصبح من الممكن تقريبا لأي شخص الحصول على معلومات عن موضوعات مثل البوذية التي كانت في السابق متاحة فقط لقلة من البشر. وتحتوي المواقع الإلكترونية على مستودعات كبيرة تضم النصوص والمعلومات، فضلا عن وجود مجموعات عبر الإنترنت لمناقشة وتفسير التعاليم البوذية للوافدين الجدد. وقد قدمت السينما الكثير من الجهود لرفع الوعي بالبوذية من خلال أفلام، مثل فيلم «بوذا الصغير» للمخرج بيرتولوتشي، وغيره الكثير من الأفلام. كما أصبح بوذا بمنزلة أيقونة شائعة ويستخدم باعتباره علامة تجارية للكثير من الشركات، مثل مجموعة «بوذا بار»؛ مما يثير استياء البوذيين المحافظين.
الصين
انتشرت البوذية شمالا من الهند إلى آسيا الوسطى ووصلت الصين في منتصف القرن الأول. وفي هذا الوقت كانت سلالة هان الأخيرة (206 قبل الميلاد-220 من الميلاد) قد عززت النفوذ الصيني في آسيا الوسطى، وكان الرهبان البوذيون يسافرون في قوافل تعبر طريق الحرير؛ الطريق الأساسي لنقل البضائع الفاخرة من الصين إلى الغرب. وبالنسبة إلى الصينيين البراجماتيين، بدت البوذية غريبة ومبهرة أيضا. وكانت الأيديولوجية السائدة في الصين هي الكونفوشيوسية، وهي نظام مبادئ اجتماعية أخلاقية مأخوذة من تعاليم الحكيم كونج فو تسو أو كونفوشيوس (550-470 قبل الميلاد). وبدا في أمور معينة أن البوذية تتعارض مع القيم الكونفوشيوسية؛ فلقد اعتبرت الكونفوشيوسية أن الأسرة هي أساس المجتمع، وكانت دعوة البوذية الأبناء والبنات لترك عائلاتهم والتخلي عن العالم السبب في النظر إلى البوذية بعين الريبة مثلما ينظر اليوم إلى بعض طوائف معينة. علاوة على ذلك، بدت «السانجا» (جماعة الرهبان البوذية) أشبه بدولة داخل دولة، وقد مثل هذا تحديا لسلطة الإمبراطور وتهديدا لنسيج الحياة الاجتماعية المتجانس الذي كان يمثل النموذج الكونفوشي. بالإضافة إلى ذلك رفض الرهبان الانحناء أمام الإمبراطور؛ حيث إن الرهبان في الهند يحظون بالتبجيل من قبل العوام. وأدى مثل هذا النوع من الاختلافات الثقافية إلى الصراع وسوء التفاهم، وأشعل العداوة تجاه الدين الجديد.
شكل 6-1: سوترا الماسة: أقدم نص مطبوع في العالم هو نسخة من «سوترا الماسة»، وهو أحد نصوص الماهايانا المهمة. يعود تاريخ النسخة إلى عام 868 ميلاديا.
على الجانب الآخر وجدت أمور كثيرة جذبت الصينيين. لقد بدا أن البوذية تحل محل الكونفوشيوسية في الأمور التي تركتها الأخيرة، وتصف العالم غير المرئي الذي لم تقل عنه الكونفوشيوسية سوى القليل. ذات مرة سأل أحد التلاميذ كونفوشيوس فقال: «أيها المعلم، كيف يجب أن نتعامل مع الأرواح والآلهة؟» فكان الجواب: «لا يمكنك التعامل مع الأرواح والآلهة على نحو لائق قبل أن تتعلم كيف تعامل رفاقك من البشر على نحو لائق.» وعندما استفسر السائل عن الموت، رد كونفوشيوس برد مماثل، فقال: «لا يمكنك أن تعرف ماهية الموت قبل أن تعرف ماهية الحياة» («تعاليم كونفوشيوس»). قللت الكونفوشيوسية من مكانة عالم ما وراء الطبيعة وجعلته في المرتبة الثانية، وتركت أسئلة كثيرة دون إجابات؛ مما أثار فضول الكثير من الصينيين. وكان لدى البوذية إجابات عن هذه الأسئلة، ولا سيما المتعلقة بالموت والحياة الآخرة، وهو موضوع ذو أهمية خاصة للصينيين نظرا للإجلال الكبير الذي يكنونه للأسلاف؛ وبذلك، في حين تقبل الكثير من الصينيين الكونفوشيوسية باعتبارها دليلا موثوقا لهذا العالم، فإنهم التجئوا إلى البوذية باعتبارها دليلا لعالم الآخرة.
شكل 6-2: راقص مقنع، بوتان.
تتشابه البوذية في عدة أمور مع فلسفة صينية أخرى، هي الفلسفة الطاوية، وهي نوع من الصوفية الطبيعية أسسها الحكيم الأسطورة لاو تسو (ولد عام 604 قبل الميلاد). وهدف الطاوية هو العيش في تناغم مع الطبيعة من خلال تعلم تحقيق التوازن بين قوتي الين واليانج اللتين تكمل كل منهما الأخرى، واللتين يعتقد أنهما تسودان الكون. الين هو المبدأ الأنثوي الذي يعبر عن نفسه في الرقة والسلبية، بينما اليانج هو المبدأ الذكوري الذي يظهر نفسه في الصلابة والقوة. وكلتا الصفتين حاضرتان في الأفراد وفي كل الظواهر بمستويات متباينة، والتفاعل بين هاتين القوتين يؤدي إلى التغيير في هذا العالم. والحكيم هو الشخص الذي يعرف كيف يجعل الين واليانج في حالة توازن ويعيش في تناغم مع ظروف الحياة المتغيرة. والشخص الذي يستطيع الجمع بين هاتين القوتين في نفسه كان يعتقد أنه يكتسب سلاما روحانيا عميقا، وكذلك قوى سحرية وطول العمر. ويقدم كتاب «داو دي جينج» الكلاسيكي («كتاب الطريق وفضيلته») المنسوب إلى لاو تسو مبادئ خوض هذه الحياة العليا.
تداخلت البوذية والطاوية في أمور معينة، وبدا أن التأمل البوذي موجها نحو الهدف نفسه المتمثل في السلام الداخلي و«الفعل اللافاعل» الذي سعى إليه الحكيم الطاوي. ونشأ عن هذا التفاعل مذهب بوذية صينية عرف باسم تشان (سلف بوذية الزن اليابانية). إلا أنه على الرغم من أن التعاليم الطاوية كانت غير منظمة وأكدت على الهدوء والإلهام ، فقد قدمت البوذية إطارا فلسفيا منهجيا وتراثا من النصوص لدراستها. وراق هذا الجانب من البوذية للصينيين بسبب حبهم للدراسة والتعلم، وبعد فترة أصبحت البوذية ثالث «الأديان الثلاثة» للصين، على الرغم من أنها لم تنجح مطلقا في التخلص من ارتباطاتها الأجنبية. وذهب عدد من الرهبان الصينيين في رحلات حج إلى الهند بحثا عن المخطوطات الدينية، ومن أشهرهم فاكسيان (399-413)، وتشيونتسانج (630-644) وإي تشينج (671-695).
انتشرت وانحسرت حظوظ البوذية في الصين على مر القرون، وبلغت ذروتها تحت حكم سلالة تانج (618-907 ميلاديا)، على الرغم من انتشار العديد من معلمي التانترا فيما بعد خلال فترة حكم المغول (القرنين الثالث عشر والرابع عشر). وأدى قدوم الشيوعية إلى انحسار البوذية وغيرها من أشكال الديانات الأخرى خلال الثورة الثقافية عام 1966. ورغم ذلك، توجد الآن علامات على إحياء هذه الديانة في جمهورية الصين الشعبية، كما ظلت البوذية قوية في تايوان.
اليابان
تعد اليابان من المراكز البوذية المهمة في الشرق الأقصى. وصلت البوذية إلى اليابان في القرن السادس عن طريق كوريا، لكنها استقت الكثير من الإلهام من الصين. وشهدت فترة هييان (794-1185) ظهور مذاهب عدة مثل بوذية تينداي الاصطفائية وبوذية شينجون الباطنية، وكلا المذهبين قدما من الصين. وبدأ أيضا مذهب الأرض النقية - نوع مميز من البوذية اليابانية قائم على الولاء للبوذا أميدا - في التكون في ذلك الوقت وبلغ ذروته خلال فترة كاماكورا (1185-1333).
شكل 6-3: بوديدارما: يرجع الفضل إلى بوديدارما في نقل بوذية تشان (التي منها اشتق الزن) من الصين في أوائل القرن السادس. تقول الأسطورة إنه قضى تسع سنوات يمارس التأمل أمام أحد الجدران. وهذا الرسم بريشة المعلم هاكوين الذي عاش في اليابان في القرن الثامن عشر.
واجه نيتشيرين (1222-1282) ما رآه خنوعا وتهربا في مذهب الأرض النقية، وأسس حركة دينية جديدة جعلت «سوترا اللوتس» مركز ممارسات الطائفة بدلا من البوذا أميدا. وبدلا من تلاوة الشعار «نامو أميدا بوتسو» أو «الالتجاء إلى البوذا أميدا» ضمانا للميلاد مرة أخرى في جنة أميدا، تلا أتباع نيتشيرين تعويذة (مانترا) «نامو ميوهو رينجي كيو» وتعني «المجد لسوترا اللوتس التابعة للدارما الحقيقية». وشعر الناس بأنهم من خلال التركيز على هذه الكلمات بإيمان وولاء يمكنهم تحقيق كل أهدافهم المادية والروحية. وسعى نيتشيرين إلى وضع برنامج إصلاح اجتماعي ديني على مستوى الأمة، ورأى دورا عظيما لليابان باعتبارها مركزا تنتشر منه تعاليمه، وقد حقق أهدافه إلى حد ما. واليوم تتلى كلمات «نامو ميوهو رينجي كيو» يوميا باعتبارها جزءا من الممارسة الدينية لملايين من أتباع مذهب نيتشيرين شوشو وحركة سوكا جاكاي الدولية المنشقة عنه.
وعلى النقيض من البوذية الهندية، فإن البوذية اليابانية تتسم بالتوجه الاجتماعي القوي وتؤكد على القيم المجتمعية والجماعية. وقد رفض بعض المعلمين المؤثرين مثل شينران (1173-1262) الرهبنة، وشجع الرهبان على الزواج ولعب دورا رئيسيا في الحياة الاجتماعية (ويروي التراث أنه نفذ ما وعظ به وتزوج راهبة وأنجب منها خمسة أطفال).
الراهبات البوذيات
تظهر المصادر البوذية القديمة أن بوذا كان مترددا في السماح بإنشاء أخوية للراهبات، لكنه عدل عن رأيه بعد توسلات مستمرة من عمته وزوجة أبيه للسماح لهما بالانضمام إلى «السانجا». وعلى الرغم من أن ترسيم النساء باعتبارهن راهبات كان تطورا ثوريا في الهند؛ فقد فرض بوذا بعض الشروط المقيدة التي جعلت رهبنة النساء في مكانة تابعة لرهبنة الرجال. إن فرع الرهبنة النسائي الذي تأسس في الهند، وانتقل بعد ذلك إلى أجزاء أخرى في جنوب آسيا؛ انتهى خلال فترة العصور الوسطى، لكنه في البلدان الواقعة في شمال آسيا، مثل الصين والتبت واليابان وكوريا، ما زال موجودا حتى الوقت الحاضر. وقوبلت محاولات إحياء رهبنة النساء في جنوب آسيا بالمقاومة، وقال المحافظون إنه نظرا لانتهاء تقليد الترسيم لم يعد موجودا النصاب الضروري وجوده من الراهبات لإجراء طقس الترسيم لقبول الوافدات الجديدات. وفي ضوء هذه المعضلة التي لا حل لها، كانت الراهبات في جنوب آسيا بالفعل نوعا منقرضا. إلا أن هذا الاعتراض قوبل جزئيا بدعوة راهبات من سلالات شمالية لأداء مراسم الترسيم، وبهذه الطريقة جرى ترسيم 135 امرأة في بودا جايا في الهند باعتبارها جزءا من برنامج الترسيم الكامل الدولي الذي يرعاه مركز فو جوان شانج في تايوان. وأجريت مراسم ترسيم بعد ذلك في سريلانكا في العام نفسه، وفرع واحد على الأقل من الفروع الثلاثة (نيكايا) ل «السانجا» السريلانكية (أمارابورانيكايا) يعترف بالترسيم الكامل للراهبات. وبحلول عام 2005، كان قد تم ترسيم نحو 400 امرأة، ولاقى إحياء أخوية الراهبات دعما شعبيا كبيرا. أما في البلدان الأخرى التي تدين ببوذية التيرافادا، مثل تايلاند وبورما، فلم يتحقق تقدم كبير. وقد سجنت امرأة بورمية رسمت راهبة خارج البلاد في عام 2005 بتهمة «امتهان الدين»، وقامت السلطات بترحيلها بعد ذلك خارج البلاد، ومنذ عام 1928 منع المجلس الأعلى للسانجا في تايلاند الرهبان من ترسيم الراهبات، وأصبح الدور الوحيد المتاح للنساء في تايلاند هو دور «ماي تشي»: أي النساء اللاتي يحلقن رءوسهن، وينتسبن إلى العمل الديني ويرتدين ملابس بيضاء. وهؤلاء النساء لا يتبعن طبقة الكهنوت ولسن من العوام، وليس لهن أية مكانة رسمية. وعلى الصعيد التاريخي، فإن هؤلاء النساء كن نساء ريفيات لم يتلقين إلا قدرا ضئيلا من التعليم، ونساء مسنات فرصهن قليلة في الحياة. وفي بعض الأحيان، يعيش هؤلاء النسوة في المعابد ويخدمن الرهبان. وعلى الرغم من أن معهد «ماي تشيز» يعترف بهن ويساعدهن، لا يوجد معيار للتدريب والتعليم مقبول على نطاق واسع، وقد سجل المعهد فقط نحو 4 آلاف امرأة من عدد محتمل يبلغ 100 ألف امرأة أو أكثر. ولا يتلقى هؤلاء النسوة احتراما أو دعما في العموم، ولا ينظر إلى دور «ماي تشي» باعتباره أساسا مناسبا لممارسة وتعليم الدارما؛ ولذلك، فقد سعى عدد قليل من نساء تايلاند إلى الترسيم، سواء باعتبارهن مبتدئات أم باعتبارهن راهبات. إحدى هؤلاء النسوة، الدكتورة تشاتسومارن كابيل سينج، أستاذة جامعية سابقة ومؤسسة منظمة ساكياديتا («بنات بوذا»)، رسمت باعتبارها راهبة في عام 2003 باسم داماناندا. وتستمر في العمل من أجل ترسيم النساء في تايلاند من خلال مركزها في دير سونجداماكالياني (سونج داما كالياني) في ناخون باتوم، بالقرب من بانكوك. وفي مارس 2004، فازت بجائزة «النساء المتميزات في البوذية» من الأمم المتحدة نظير أعمالها.
بالإضافة إلى مذهب الأرض النقية ومذهب نيتشيرين، فإن ثالث أهم مذاهب البوذية اليابانية هو الزن، ذلك المذهب الذي جاء إلى اليابان من الصين (وكان معروفا هناك باسم تشان) وكوريا في أوائل القرن الثالث عشر. وكلمة «زن» مشتقة من الكلمة السنسكريتية «ديانا» (باللغة البالية: «جهانا») وتعني «الغشية»، ويلعب التأمل دورا محوريا في ممارسة الزن. وفقا لأحد التفسيرات المهمة التي تعود إلى دي تي سوزوكي (1870-1966)، وهو شارح بارز لفلسفة الزن في الغرب، يرى مذهب الزن أن التنوير يحدث في لحظة يقظة حدسية لا يدركها المنطق. ويلاحظ المذهب أن ومضات التبصر - التي يطلق عليها اسم «ساتوري» - تثار غالبا أثناء النشاط الدنيوي عندما يكون العقل هادئا ومسترخيا، وليس أثناء انشغاله بالدراسة أو بالتحليل الفكري. وتشبه هذه التجربة انفصال قاعدة الدلو تحت ثقل الوزن؛ فهذا الأمر يحدث فجأة وعلى نحو غير متوقع بالمرة. إنه يرى أن الزن لديه ميل واضح إلى تحطيم المعتقدات التقليدية، وتعتبر دراسة النصوص والمعتقدات والعقائد عقبة محتملة في طريق الصحوة الروحية، ويعتمد بدلا من ذلك على الدعابة، والعفوية، واللاتقليدية، والشعر، وغيرها من أشكال التعبير الفني لتوصيل فكرة مفادها أن التنوير صحوة لا يمكن إدراكها عن طريق المنطق، ويمكن نقلها من المعلم إلى تلميذه، لكنها في النهاية لا يمكن فهمها من خلال مجرد «كلمات وحروف». أما الباحثون المعاصرون، فعلى الرغم من أنهم لم يعتبروا عرض سوزوكي للزن عرضا مزيفا تماما، فإنهم انتقدوه بحجة أنه عرض رومانسي، وسعوا إلى إعادة ربط الزن بسياقه الثقافي والأخلاقي بصفته تقليدا رهبانيا يتضمن دراسة مكثفة للنصوص والعقائد على نحو مشابه للمدارس البوذية الأخرى. وعلى الرغم من السلوك المتناقض أحيانا والأقوال المقتضبة العسيرة الفهم، فإن المعلمين القدماء لفلسفة التشان وفلسفة الزن في الصين واليابان كانوا على أتم معرفة بالنصوص البوذية.
للزن فرعان رئيسيان؛ أحدهما مذهب سوتو الذي يعتقد أن التأمل الباعث على الهدوء هو كل ما يلزم، بينما يستخدم المذهب الآخر، زن رينزاي، أساليب أخرى باعتبارها مركزا للتأمل. ومن أشهر هذه الأساليب استخدام ألغاز لا يمكن حلها تعرف باسم ألغاز «كوان». ومن أشهر أمثلة ألغاز كوان ذلك الذي يطرح هذا السؤال: «ما صوت تصفيق اليد الواحدة؟» ويعطي معلم الزن هذا اللغز لأحد الطلاب ليتأمل فيه، ويطلب منه أن يعود بعد فترة معينة ومعه الحل. ولا يقبل من الطالب أي حل منطقي (كأن يجيب على السؤال قائلا: «السكون.») وما تسعى إليه فلسفة الزن بدلا من دراسة النصوص هو أن يظهر الطالب على نحو عفوي أنه أدرك حقيقة التعاليم على مستوى شخصي عميق من الناحية الوجودية.
التبت
آخر مركز للثقافة البوذية سيذكر في هذه الدراسة هو التبت. ونظرا لصعوبة الوصول إلى هذه المنطقة الجبلية وغياب طرق التجارة المعبدة، لم تصل البوذية إلى التبت إلا في القرن الثامن. ويعرف نوع البوذية الذي انتشر في التبت بأسماء عدة، هي التانترا أو فاجرايانا («عربة الصاعقة»)، أو مانترايانا - بسبب كثرة استخدامها للصيغ والترانيم السحرية.
تتبنى الفاجرايانا فلسفة الماهايانا وتصورها للكون وتضيف إليها الكثير من الرموز ومجموعة ممارسات دينية خاصة بها. وجوهر هذه الحركة هو مجموعة من الأطروحات السرية التي تعرف باسم تانترات، تكونت في الهند في الجزء الأخير من الألفية الأولى. وتستخدم التانترات مخططات صوفية («ماندالات») وتعاويذ سحرية («مانترات»)، وتكتب ب «لغة الشفق» («ساندياباسا») الغامضة التي يملك مفاتحها المنتسبون فقط. ويمنح الانتساب على يد المعلم الروحي (بالتبتية: لاما) الذي يعلم المعنى الباطني للكلمات ورموزها لطلابه. وتشبه التانترا في أشكالها الخارجية مدارس السحر الطقسي الغربي التي تستخدم الدوائر والنجوم الخماسية والعزائم والتعاويذ. واعتمادا على اعتقاد أنه لا اختلاف بين النيرفانا و«السامسارا» تعلم التانترات أن أي شيء - حتى الرغبة - يمكن استخدامه على نحو مفيد كوسيلة للتحرر. ولا تعتبر الشهوات شريرة بطبيعتها، بل تعتبر مجرد شكل قوي من أشكال الطاقة التي يمكن استخدامها لأغراض كثيرة - كما هي الحال مع الكهرباء. والرغبة الجنسية، على وجه الخصوص، التي كانت تعتبر في السابق أكبر عقبة في سبيل التقدم الديني بالنسبة إلى الرهبان، أصبحت تعد قوة كامنة إذا ما استخدمت على النحو الصحيح؛ فمن الممكن أن تعجل من التطور الروحي. ونظرا إلى ميل التانترا إلى تبني العديد من الطرق والأساليب المختلفة ، فقد اعتبرت طريقا سريعا أو «طريقا مختصرا» للوصول إلى حالة البوذية التي تمنح التنوير «في هذا الجسم» وليس بعد حيوات من الممارسة لا تعد ولا تحصى يستخدم فيها الفرد الطرق الأكثر بطئا وتقليدية.
شكل 6-4: ماندالا رملية: هذه الماندالا مصنوعة من حبات الرمل المخلوط بأصباغ معدنية، وتصنع باستخدام قمع مخروطي الشكل ذي نهاية ضيقة. ويتطلب صنع الماندالا قدرا فائقا من الصبر والمهارة، وتدمر الماندالا عند انتهاء الطقوس التي صنعت من أجلها.
يظهر الكثير من الرسوم والأيقونات التبتية محتوى جنسيا واضحا، لكنها تفسر عادة بطريقة رمزية تقول إن الشريك الذكري يمثل الوسيلة الماهرة (الأساليب المتعددة التي يقود بها البوديساتفا الناس إلى التنوير)، بينما يمثل الشريك الأنثوي الحكمة، ويمثل اتحادهما الجنسي السعيد النيرفانا. أما مذهب البوذية التبتية الأكثر تأثيرا المعروف باسم جيلوجبا الذي أسسه تسونجكابا في القرن الرابع عشر، فيرى أن التانترا بالطريقة الثانية هي وسيلة لتجسيد الحقيقة الروحية العميقة وليست دعوة للناس للانقلاب على الأعراف الأخلاقية. ويتمسك رهبان هذا المذهب، مثل نظرائهم الهنود القدماء، بقواعد الرهبنة تمسكا شديدا، وتصر هذه القواعد، ضمن متطلباتها الكثيرة الأخرى، على تبتل الرهبان. ورغم ذلك، فإن أحد المذاهب، يعرف باسم نينما («القدماء»)، يسمح بزواج الكهنة.
والدالاي لامات التبتيون هم أعضاء مذهب جيلوجبا. و«دالاي» كلمة مغولية تعني «محيط» («الحكمة»)، وهو لقب أطلقه الحاكم المغولي ألتان خان في القرن السادس عشر. ويشمل منصب الدالاي لاما كلا من النطاق الديني والنطاق الدنيوي. وكان يحكم التبت سلسلة من الدالاي لامات حتى العصور الحديثة، عندما أجبر الكاهن الحالي - الدالاي لاما الرابع عشر تينزين جياتسو - على الهروب من البلاد في عام 1959 نتيجة للغزو الصيني في عام 1950؛ واستقر منذ ذلك الحين في دارماسالا، في شمال غرب الهند. وفي الوقت نفسه، ظل التبت تحت حكم الشيوعيين، وأدى برنامج «تطهير عرقي» ممنهج ووحشي إلى هروب ما يزيد على مليون لاجئ تبتي. ودمر الكثير من الأديرة البوذية القديمة بمخطوطاتها وأعمالها الفنية التي لا تقدر بثمن، ورغم ذلك فقد أعيد بناء عدد محدود من هذه الأبنية بين الحين والآخر.
إن تاريخ البوذية في آسيا وطريقة تفاعلها مع الثقافات الأخرى لهو أمر مدهش بقدر ما هو معقد. وحاولت في هذا الفصل أن أترك مجرد انطباع عن ثراء وتنوع البوذية في القارة الآسيوية. أما عن الإسهامات المهمة التي قدمتها الثقافات الآسيوية الأخرى، مثل كوريا، للتطور التاريخي للبوذية، فقد حذفتها لضيق المساحة. وستجدون دراسات أكثر تفصيلا عن الثقافات المذكورة في هذا الفصل في الجزء المعنون ب «قراءات إضافية» في نهاية الكتاب.
الفصل السابع
التأمل
التأمل («سامادي») هو واحد من الفروع الثلاثة للطريق الثماني؛ ومن ثم يحتل مكانة محورية في الممارسة البوذية. أما المصطلح الأعم الذي يشير إلى التأمل في البوذية، فهو «بهافانا» ويعني «الغرس» أو حرفيا «تحقيق المرغوب». والمعنى الحرفي مناسب تماما؛ لأن التأمل هو الاستراتيجية البوذية الأساسية لجعل المرء قادرا على تحقيق ما يريده لنفسه.
يمكن إدراك مدى أهمية التأمل بتذكر أنه خلال التأمل اكتسب بوذا التنوير. وتعد صورة بوذا وهو جالس يتأمل في وضع القرفصاء (انظر الصورة
7-1 ) من أكثر الموضوعات شيوعا في الفن البوذي، وتعد تذكيرا مستمرا للارتباط الوثيق بين التأمل والتنوير؛ فتقريبا كل مذاهب البوذية ترى أن التأمل هو الطريق السريع للتنوير، ويمثل التأمل جزءا أساسيا في البعد «التجريبي» للبوذية بوصفها أحد الأديان. لكن على الرغم من أهمية التأمل للتقليد البوذي، وصولا إلى القرن الماضي على الأقل، أصبح هذا التأمل ممارسة ماهرة مقتصرة على الرهبان والراهبات، بل أصبح بعد ذلك مقتصرا على أقلية منهم؛ فقد يقضي معظم الرهبان والراهبات في ممارسة أحد الأنشطة الطقوسية، مثل إنشاد النصوص الدينية، وقتا أكبر من الوقت الذي يقضونه في ممارسة التأمل. وكانت الممارسة الأساسية لعوام البوذيين على مدار القرون هي السلوك الأخلاقي من خلال الوفاء بالنذور وإسداء المعروف من خلال العطايا الخيرية الموجهة إلى «السانجا». ورغم ذلك، فقد شهدت القرون الأخيرة زيادة في الاهتمام بالتأمل بين الممارسين العاديين في كل من آسيا والغرب.
الخلفية الهندية
كانت أساليب التأمل المستخدمة في وقت بوذا جزءا من مجموعة أساليب روحانية شائعة يتشارك فيها رافضو الدين الهندي («نساك السامانا») وممارسو الديانة الذين يتبعون التقليد الأصلي للديانة الهندية («البراهمانا»). وقبل قدوم بوذا بعدة قرون، زاد الاهتمام بالبعد الداخلي للحياة الروحانية على نحو أدى إلى تأليف مجموعة من الكتابات الدينية تعرف باسم «الأوبانيشاد». وسعت هذه الأطروحات إلى شرح العلاقة بين الذات الداخلية («أتمان») وأساس الوجود الكوني، ووصفت الأساليب الصوفية التي من خلالها يمكن للنفس أن تدرك تطابقها مع الحقيقة العليا («البراهمان»). وعلى الرغم من اختلاف بوذا مع الفلسفة الأساسية لهذه النصوص، فإنه كان متعاطفا مع رسالتها التي تقول إن الخلاص يمكن البحث عنه داخل النفس، ويمكن أن يأتي فقط من خلال الفهم العميق لطبيعة المرء.
بالإضافة إلى تعاليم «الأوبانيشاد»، ربما كان بوذا على علم بمعتقدات وممارسات تقليد اليوجا؛ فعلى الرغم من أن معتقدات وممارسات اليوجا تقوم على تعاليم فلسفية رفضها بوذا، فقد طور ممارسو اليوجا مجموعة أساليب معقدة للسيطرة على كل من العقل والجسم. وترتبط اليوجا لغويا بكلمة «السيطرة»، وممارسة اليوجا تتضمن تقنية روحانية معقدة للسيطرة على قدرات العقل والتحكم فيها. ومعظم القراء على علم بالتمارين البدنية المختلفة والوضعيات الخاصة باليوجا، التي تهدف إلى جعل الجسم مرنا ولينا وصحيا. وأساليب التأمل المستخدمة في اليوجا تفعل تقريبا الأمر نفسه بالنسبة إلى العقل، وتوفر مجموعة إحماء شاملة لأداء ذهني فائق. وعلى هذا النحو، فإن بوذا لم يخترع التأمل، لكنه، كما سنرى فيما يلي، قدم تعديلات مهمة للطرق التي استخدمها معاصروه، وهذه التعديلات تجعل التأمل البوذي مميزا من الناحية النظرية ومن الناحية العملية أيضا.
شكل 7-1: بوذا يتأمل: يوضح هذا التمثال المنحوت العملاق بوذا وهو يتأمل في وضعية اللوتس ويداه موضوعتان على رجليه المربعتين. أميدا بوذا، كاماكورا، اليابان، القرن الثالث عشر الميلادي.
طبيعة التأمل
لكن ما هو التأمل بالضبط؟ يمكن تعريف التأمل بأنه حالة تغيير للوعي تستثار بطريقة محكومة. لا يوجد أي شيء غامض بشأن التأمل، والناس يدخلون ويخرجون من حالات شبيهة بالغشية مماثلة للتأمل على نحو عفوي خلال حياة اليقظة. ويتخلل حياة اليقظة قدر كبير من أحلام اليقظة والتخيلات والتصورات التي ينسحب العقل خلالها ليتأمل مشهدا داخليا. وفي بعض الأحيان من الممكن أن تستحوذ هذه التخيلات على الانتباه تماما، كما هي الحال عندما يقود المرء سيارته ويجد نفسه فجأة وصل إلى وجهته المقصودة، ولا يذكر سوى القليل عن رحلة القيادة. ويمكن أن يتسبب تعاطي العقاقير في حدوث نتائج لا تختلف عن تلك التي يشعر بها المرء أثناء التأمل.
الفروق الأساسية بين التأمل والحالات المذكورة سلفا هي درجة التحكم التي تتم ممارستها، وعمق التجربة ومدتها. علاوة على ذلك، وعلى عكس العقاقير، لا يسبب التأمل أي آثار جانبية أو «هلاوس»، كما أن فوائده تراكمية وتدوم لمدة طويلة. وفي أثناء حالات اليقظة العادية يدخل العقل في حالات شبيهة بالغشية ويخرج منها على نحو مستمر. وإذا قاطعت شخصا أثناء تخيلات اليقظة فقد يقول إن ذهنه كان «في مكان آخر». وهدف التأمل ليس أن يكون الذهن «في مكان آخر»، بل أن يكون «هنا» بكامل وعيه وإدراكه. الهدف هو «استجماع القوى العقلية» والتركيز الذهني بدلا من التشتت. أفضل طريقة لتقريب هذا الأمر هو شعاع الليزر، فعند تشتيت الضوء يصبح ضعيفا نسبيا، لكن عند تسليطه وتركيزه يمكنه قطع الفولاذ. أو يمكننا استعمال الصوت بدلا من الضوء في هذه الاستعارة؛ ومن ثم يكون هدف التأمل هو حجب «الضوضاء» الذهنية وتقليل «الثرثرة» الذهنية التي تستنزف الطاقة الروحية.
ممارسة التأمل
شكل 7-2: مراحل الغشية (جاهانا) الثماني وسماتها المميزة.
تقر نظرية التأمل بوجود علاقة وثيقة بين الجسد والعقل؛ ومن ثم، قبل أن يتمكن العقل من أن يصبح هادئا تماما، لا بد أن يكون الجسد هادئا. والوضعية التقليدية للتأمل هي جلوس القرفصاء، باستخدام وسادة إذا اقتضت الضرورة، مع فرد الظهر، وإمالة الرأس قليلا، ووضع اليدين على الحجر؛ وتعرف هذه الوضعية ب «وضعية اللوتس» (انظر بوذا جالسا بهذه الوضعية في الصورة السابقة). وعلى الرغم من أن المبتدئ سيشعر بأن الجلوس بهذه الوضعية أمر غير طبيعي، فإنه مع قليل من الممارسة سيتمكن من الجلوس في هذه الوضعية لوقت أطول. وهذه الوضعية تسمح للمتأمل بالتنفس بعمق وبطريقة هادئة، وبأن يظل مستريحا مع الاحتفاظ بانتباهه. يمكن ممارسة التأمل في أي وضعية مريحة، لكن إذا كانت الوضعية مريحة للغاية فهناك احتمال بأن تتسبب في نوم المتأمل. من الواضح أن السيطرة على العقل أثناء النوم أمر صعب جدا، ورغم ذلك توجد ممارسة في التبت تعرف باسم «يوجا الحلم» ينمى فيها الوعي خلال الأحلام الواضحة.
وبمجرد التوصل إلى وضعية مريحة، يلزم اختيار موضوع للتأمل. عندما ترك بوذا منزله درس التأمل على يد معلمين، ومن الممكن أن نفترض على نحو عقلاني أن ما علماه إياه - كيفية الدخول في حالة غشية عميقة على وجه التحديد - كان مطابقا للتأمل الذي كانت ممارسته سائدة في ذلك الوقت. فما هي التعليمات التي قدمها معلما بوذا لتلميذهما؟ لا يمكن معرفة ذلك على نحو مؤكد، لكن ربما نصحاه بالتركيز على تنفسه، أو بتكرار «مانترا» لنفسه وهو صامت. أو من الممكن أن يكونا قد وضعا شيئا على بعد عدة أقدام من بوذا - شيئا صغيرا من الأشياء التي نستخدمها في حياتنا اليومية مثل أصيص أو زهرة - وطلبا منه دراستها على نحو دقيق، وملاحظة كل تفصيلة إلى أن يتمكن من إعادة تكوين صورة ذهنية مثالية لهذا الشيء وعيناه مغمضتان. والهدف من هذه التمارين هو أن يستغرق العقل تماما في الشيء المتأمل إلى أن يذوب وعي الفاعل والمفعول في مجال وعي موحد.
إن التأمل ليس من السهل إتقانه بكل تأكيد؛ نظرا لأن العقل يثير مشتتات باستمرار. وتشبه المصادر البوذية العقل بالقرد الذي يتأرجح بين الأشجار، ممسكا بالغصن تلو الآخر. ويمكن للقارئ تجربة ذلك من خلال التركيز على إحدى الصور الموجودة في هذا الكتاب، وهي صورة الماندالا (انظر الفصل السابق)، وملاحظة أن العقل لا يستغرق سوى وقت ضئيل ليشعر بالاضطراب ويتحول إلى وجهة أخرى. إن التركيز الثابت والمتواصل يأتي فقط من خلال الممارسة المنتظمة ويستغرق الأمر عادة عدة أشهر قبل تحقيق النتائج. إن تعلم التأمل أشبه إلى حد ما بتعلم العزف على آلة موسيقية؛ فهو يتطلب الإصرار والالتزام والممارسة اليومية .
وفي النهاية تظهر النتائج نفسها في صورة قدرات التركيز القوية وزيادة الإحساس بالهدوء والسكون الداخلي الذي يمتد ليشمل الحياة اليومية. وتفقد المشتتات والمقلقات والشكوك والمخاوف سيطرتها على العقل، وتدريجيا «يستجمع» المتأمل شتات أمره على نحو أكبر، ويعيش على نحو كامل في المكان والزمان الحاليين. أما المتأملون الماهرون إلى حد كبير فقد يحققون في النهاية حالة جلية من الاستغراق المنتشي يطلق عليها «سامادي»، وهي حالة سكون داخلي تام وثابت. وعلى يد معلميه تمكن بوذا من تحقيق حالتين متقدمتين إلى حد كبير من هذا النوع، وفيما بعد أدمجت هاتان الحالتان ضمن الإطار الرسمي للتأمل البوذي وأصبحتا تمثلان المستوى السابع والثامن من غشية «جاهانا».
مستويات غشية جاهانا
أساس هذا الإطار هو «جاهانا» (بالسنسكريتية: «ديانا») وتعني مستويات الغشية. في المستوى الأول والأدنى من غشية «جاهانا»، يفكر العقل باستطراد، لكنه يكون حافلا بالانفصال والنشوة والبهجة. وفي المستوى الثاني من غشية «جاهانا»، يتنحى التفكير الاستطرادي ويحل محله الاستغراق («سامادي») ويزيد الإحساس بالوعي. وفي المستوى الثالث من غشية «جاهانا»، يحل الاتزان محل النشوة. وفي المستوى الرابع يفسح الاتزان الساحة لحالة توصف بأنها «تتجاوز الإحساس بالمتعة والألم». ويبدو أن هذه التجارب الصوفية تتجاوز التصنيفات اللغوية، وليس من السهل إيجاد الكلمات المناسبة لوصفها. ورغم ذلك، يمكن ملاحظة أن الأمور تسير على النحو التالي: حالات الغشية العليا يزداد فيها الغموض والروحانية، أما العناصر الأكبر الأكثر عاطفية مثل الإثارة والنشوة فيحل محلها استغراق أعمق وأكثر تقدما. وهذا يقود إلى حالة تسمى «أحادية التوجه» («إكاجاتا») وفيها ينصب تركيز العقل حصريا على موضوع التأمل على غرار طريقة شعاع الليزر الموضحة في السابق.
ويعتقد أنه في المستوى الرابع لغشية «جاهانا» يمكن أن يكتسب المتأمل قدرات روحية متعددة تساوي تقريبا ما يعرف في الغرب بالإدراك الحسي الفائق. وتشمل هذه القدرات القدرة على رؤية أحداث في أماكن بعيدة (الاستبصار)، وسماع أصوات بعيدة (الجلاء السمعي)، واسترجاع حيوات سابقة (الإدراك الاسترجاعي)، ومعرفة أفكار الآخرين (التخاطر). وبالإضافة إلى ذلك، يكتسب المتأمل مجموعة متنوعة من قدرات التحريك العقلي، مثل القدرة على الطيران في الهواء والسير على الماء وصنع نسخ من الأجسام. لا يوجد أي شيء متعلق بالبوذية بصفة خاصة في تلك القدرات، وهذه القدرات معترف بها على نطاق واسع في الفكر الهندي، ويمكن أن يكتسبها أي شخص يرغب في استثمار الوقت والجهد اللازمين في اكتسابها. وعلى الرغم من أنه يقال إن بوذا نفسه كان يمتلك هذه القدرات، فإنه في بعض الأحيان كان يسخر من الأشخاص الذين يقضون وقتا طويلا في اكتساب هذه القدرات، موضحا أنه بدلا من تكريس سنوات من عمر المرء في تعلم السير على الماء، فإنه من الأسهل الاستعانة بخدمات البحارين!
البوذية والعلوم العصبية
إن العلوم العصبية المتعلقة بالوعي أو العلوم العصبية التأملية تعد مجال بحث علمي جديدا مثيرا تمثل فيه البوذية مشاركا فعالا. ويوجد برنامج يدعي تقليل التوتر المعتمد على الانتباه، يقوم إلى حد كبير على أساس الممارسات البوذية، وقد ظهرت نتائج مشجعة في إطار التعامل مع الألم المزمن، واضطرابات القلق، والاكتئاب، والصدفية، وتعزيز السلامة العقلية العامة، وقد بدأ علماء الأعصاب إجراء أبحاث حول تأثير التأمل على تغيير أنماط نشاط الدماغ. تقوم الممارسات التأملية البوذية على مبدأ مرونة الذهن، وعلى أساس أن التضاريس العقلية الداخلية للشخص يمكن صياغتها وتشكيلها باستخدام أساليب معينة. ويبدو أن العلوم العصبية تقدم تأكيدا تجريبيا لهذه الظاهرة - المعروفة باسم اللدونة العصبية - من خلال تحديد التغيرات الوظيفية والجزيئية في الدماغ الناتجة عن المدخل التجريبي المحدد؛ فعلى سبيل المثال، اتضح أن الحصين لدى سائقي سيارات الأجرة في لندن أكبر حجما ربما بسبب الممارسة المستمرة لمهارات الملاحة، وأظهر المشتركون في برنامج تقليل التوتر المعتمد على الانتباه تغيرات في النشاط الدماغي أمام الفص الجبهي من النوع المرتبط بالحالات الذهنية الإيجابية. ورصدت الدراسات أيضا قوة الجهاز المناعي بالإضافة إلى تغيرات إيجابية أخرى في الجهاز العصبي الذاتي. وعلى الرغم من أن العلم ما زال في مراحله الأولى، فإن هذه النتائج يبدو أنها تؤيد المزاعم التي طالما رددها التقليد البوذي وغيره من التقاليد التأملية، المتمثلة في أن السعادة والسلامة النفسية إنما هي مهارات يمكن التدرب عليها. وإذا كان الأمر كذلك، فإن الأساليب والاستراتيجيات الكثيرة التي طورت في هذه التقاليد على مدار القرون يمكن أن تقدم مجموعة أدوات مفيدة في تحقيق الاستفادة المثلى للإمكانات البشرية.
خلال مراحل التأمل الأعمق، تهدأ وظائف الجسم الأساسية، ويتوقف التنفس تماما. وتشير الأبحاث إلى أن المخ يولد قدرا أكبر من موجات ألفا في هذه الحالة، في إشارة إلى حالة إبداع مرتبط بالاسترخاء. وقد يحدث العديد من الأحاسيس الغريبة؛ فمن الشائع رؤية أشكال ضوئية، وكذلك الشعور بطفو أو بخفة في أطراف الجسم. وفي مستويات الغشية الأكثر عمقا، يقال إن الصفاء الذهني الطبيعي الذي يكون محجوبا عادة بضوضاء الوعي اليقظ، يظهر نفسه بوضوح كامل. والعقل في هذه الحالة يشبه الذهب أثناء عملية تنقيته؛ حيث يكون لينا ومطواعا، ويمكن تشكيل المشغولات النفيسة منه على يد فنان ماهر. وفي هذه الحالة يكون الفنان هو المتأمل، الذي تواصل مع مستويات النفس العميقة حتى أصبح مؤهلا للقيام بعملية إعادة تشكيل نفسه.
وتقدم الأدبيات اللاحقة قائمة مكونة من أربعين موضوعا للتأمل. واختيار الموضوع الصحيح يتطلب المهارة والتمييز، ويعد وجود معلم أمرا ذا أهمية بالغة في تقييم شخصية الطالب وتحديد الموضوع الصحيح الذي يناسب شخصيته واحتياجاته الروحية؛ فعلى سبيل المثال، قد يوجه الشخص المتعلق بالمتعة الجسدية إلى التأمل في الجسم من حيث عدم ديمومته وتعرضه للشيخوخة والمرض والخبائث التي يعج بها، من أجل تقليل تعلقه به. على الجانب الآخر، الشخص القليل التقوى يمكن أن يوجه إلى التأمل في بوذا وفضائله، أو في «الجواهر الثلاثة» وهي بوذا والدارما و«السانجا». وتوجد أيضا موضوعات أكثر ترويعا مثل الجثث المتفحمة والمقطعة الأوصال التي يراها المرء في ساحة حرق الجثث. الغرض من هذا التأمل هو مواجهة الموت وجها لوجه وإدراك الحاجة الملحة للاستغلال الأمثل للفرص النفيسة التي قدمها الميلاد البشري المتكرر.
حالات التأمل المطلق الأربع
من بين موضوعات التأمل الأكثر رواجا تبرز «حالات التأمل المطلق الأربع»، وهي: («براهما فيهارا») وتعني الحنان الناشئ عن الحب («ميتا»)، والشفقة («كارونا») والفرح المتعاطف («موديتا »)، والاتزان («أوبيكا»). وتتضمن ممارسة الحنان الناشئ عن الحب اكتساب توجه يكن اللطف والصداقة وحسن النية لكل الكائنات الحية. ويبدأ المتأمل بنفسه باعتباره موضوعا لحسن النية. وهذا المطلب لا يعني النرجسية، بل يقوم على ملاحظة ذكية تتمثل في أن الشخص يمكن أن يحب الآخرين فقط عندما يستطيع أن يحب نفسه؛ فالشخص الذي يعاني تدنيا في تقدير الذات، أو الذي أضناه كره نفسه، لن يكون قادرا على حب الآخرين حبا كاملا. ويجب أن يراجع المتأمل نقاطه الجيدة والسيئة بموضوعية قدر الإمكان، ويضع في اعتباره في الوقت نفسه فكرة «تمني نيل السعادة والتحرر من المعاناة». وبعد ذلك سيوسع تدريجيا دائرة الإحسان لتشمل الآخرين «مثلما يحدد الحراث الماهر أرضه ثم يغطيها»، فتضم العائلة والحي والمدينة والبلد والأمة، ومع مرور الوقت ستشمل كل المخلوقات الموجودة في العوالم الستة. ويجب أن يتذكر المتأمل في كل فرصة سانحة الأفعال الطيبة التي قدمها له الآخرون، حتى في الحيوات السابقة؛ فإنماء حسن النية الشامل على هذا النحو يحرر العقل من التحيز والهوى، ويبدأ المتأمل في التصرف تجاه الآخرين بحنان ودون تفرقة. أما إنماء الحالات المطلقة الثلاث المتبقية، فيتم على نحو مشابه؛ فمن خلال الشفقة يتوحد المتأمل مع الآخرين في معاناتهم، ومن خلال الفرح المتعاطف يبتهج لسعادتهم وحسن حظهم. ويضمن إنماء الاتزان أن تظل هذه الحالات المزاجية متوازنة دائما ومتوائمة مع الظروف.
التأمل وتصور الكون
كما أوضحنا في الفصل الثاني، في التقسيم الثلاثي للكون الذي يتكون - من منظور التصور البوذي - من عالم الرغبات الحسية وعالم الشكل النقي وعالم اللاشكلية، تتداخل طبوغرافية العالم الروحي والعالم المادي. وفي هذا المخطط الذي يوضح التصور البوذي للكون يوجد عالم البشر وعالم السموات الدنيا في الأسفل ضمن عالم الرغبات الحسية، في حين توجد مستويات «الجاهانا» المذكورة آنفا في المستوى الثاني من المخطط؛ أي في عالم الشكل النقي. وعلى هذا النحو، فإن الآلهة الموجودة في المستويات المختلفة لعالم الشكل النقي تعيش في الحالة الذهنية نفسها التي يستشعرها المتأمل في مستوى «الجاهانا» المرادف لهذا العالم . والنتيجة المباشرة لذلك تتمثل في أن التأمل يشعر المتأمل بحالة الوجود في السماء. وأضيفت إلى المخطط الأساسي لمستويات غشية «جاهانا» أربعة مستويات أخرى ووضحت في عالم اللاشكلية. وهذه المستويات الأربعة العليا أو «اللاشكلية» من غشية «جاهانا» (تسمى بهذا الاسم نظرا لأن وجودها في العالم اللاشكلي يجعل موضوعها ذهنيا تماما، بعيدا عن كل الأشكال) ترادف العوالم الكونية العليا الأربعة التي يمكن أن يحدث فيها الميلاد الجديد؛ ومن ثم فإن المخطط البوذي النهائي للكون التأملي يتكون من المستويات الثمانية لغشية «جاهانا» الموجودة في الثلثين العلويين للكون. على يد المعلم الأول اكتسب بوذا المستوى السابع من غشية جاهانا، وعلى يد معلمه الثاني اكتسب المستوى الثامن، وهو أعلى هذه المستويات. أما المستوى التاسع المعروف باسم «حالة التوقف» («نيرودا ساماباتي»)، فمذكور أيضا في بعض المصادر. وفي هذا المستوى تتعطل تماما كل العمليات الذهنية، بل يتوقف أيضا نبض القلب والتنفس. وتستمر الحياة ببساطة في صورة حرارة جسم متبقية. وقيل لنا إن الشخص يمكن أن يظل على هذه الحالة لعدة أيام، ويخرج منها في نهاية الأمر بطريقة عفوية في الوقت الذي حدده سابقا. وتعتبر هذه الحالة أقرب حالة يمكن لأي شخص الوصول إليها للشعور بالنيرفانا الأخيرة وهو لا يزال على قيد الحياة، وتوصف هذه الحالة بأنها «ملامسة النيرفانا بالجسد».
تأمل التبصر (فيباسانا)
إذا كان التأمل أسلوبا قويا لهذه الدرجة، فلماذا أدار بوذا ظهره لمعلميه؟ سبب ترك بوذا للتأمل هو أنه وجد أن الدخول في حالة غشية رغم ما يكسبه من حالة نعيم وصفاء لا يعدو كونه مجرد سلوى مؤقتة وليس حلا دائما للمعاناة؛ فحالات التأمل، مثل أي شيء آخر في «السامسارا»، منتهية وغير دائمة. أما ما فشل في تقديمه هذان المعلمان وأساليبهما التأملية، فهو توفير رؤية فلسفية عميقة عن طبيعة الأشياء، تلك الرؤية المطلوبة للتحرر الكامل.
ولذلك وضع بوذا أسلوبا تأمليا جديدا تماما لإكمال الأساليب التي تعلمها من معلميه. وأضاف بوذا إلى نوعية الأساليب الموصوفة للتو، التي يطلق عليها في البوذية اسم عام هو «التأمل الباعث على الهدوء» («ساماتا »)، نوعا جديدا يسمى «تأمل التبصر» («فيباسانا»). ولم يكن الهدف من هذا النوع من التأمل هو السلام والسكينة، بل توليد بصيرة نافذة وناقدة («بانيانيا»). وفي حين أنه في التأمل الباعث على الهدوء يتراجع النشاط الفكري في مرحلة مبكرة (عند الوصول إلى المستوى الثاني من غشية «جاهانا»)، فإنه في تأمل التبصر يكون هدف التمرين هو الاستغلال الكامل للملكات النقدية في تحليل ذاتي للحالة الذهنية للمتأمل. وعمليا، فإن كلا من أسلوب التأمل الباعث على الهدوء وأسلوب تأمل التبصر يستخدمان عادة واحدا تلو الآخر في الجلسة نفسها، وقد يستخدم أسلوب التأمل الباعث على الهدوء في البداية لتحقيق الصفاء الذهني، وبعد ذلك يستخدم أسلوب التبصر في الاستقصاء والتحليل. إن أسلوب تأمل الاستبصار مذكور في مصدر قديم كلاسيكي يعرف باسم «الأسس الأربعة لليقظة» (ماهاساتيباتهانا سوتا)، وروجها في القرن الماضي المعلم العلماني البورمي «أو با كين» (1899-1971) وتلميذها «إس إن جوينك» (ولد في عام 1924).
في تأمل التبصر يتفقد المتأمل كل وجه من وجوه تجربته الذاتية ويقسمها إلى أربع فئات، هي: الجسم وأحاسيسه المادية، والمشاعر، والحالة المزاجية، والأنماط الذهنية والأفكار. وقد تبدأ جلسة التأمل التقليدية بتوسيع نطاق الوعي بصعود وهبوط التنفس ليشمل بقية أجزاء الجسم. ويجب أن يلاحظ كل إحساس صغير من أحاسيس الجسم مثل الوخزات والآلام والحكات والنبضات والرغبة في الحركة وحك الجلد. ويجب ألا يستجيب المتأمل لهذه المثيرات؛ لأن الهدف من التمرين هو ملاحظة كيف تظهر وتتراجع أحاسيس الجسم بمنتهى الانتباه ودون اتخاذ أي رد فعل تجاهها بالطريقة العادية شبه التلقائية. ومن خلال تعلم الملاحظة دون الانهماك يمكن أن تنفك وتيرة المثير-الاستجابة التي تسيطر على السلوك البشري. وتدريجيا يدرك المتأمل أن المرء حر في اختيار طريقة رد فعله تجاه المواقف كلها، بصرف النظر عن الأساليب المستخدمة في استثارته. وبهذه الطريقة ستضعف سيطرة العادات المتأصلة منذ وقت طويل وكذلك الدوافع القهرية، وسيحل محلها إحساس جديد بالحرية. وسيمتد هذا التحليل تدريجيا ليشمل كل الجسم، وسيحمل المتأمل عقله مثل مشرط الجراح ليشرح أجزاء ووظائف الجسم المختلفة. ومن هذا الوعي يتضح أن الجسم ليس أكثر من مجرد تركيبة مؤقتة مكونة من عظام وأعصاب وأنسجة، وليس بالتأكيد شيئا يستحق الافتتان به أو التعلق به تعلقا مفرطا.
وبعد ذلك يوجه الانتباه نحو مختلف أنواع المشاعر التي تراود المرء؛ فيلاحظ المتأمل المشاعر الجميلة والبغيضة عند ظهورها ورحيلها. وهذا الأمر يعزز إدراك عدم الديمومة ويؤدي إلى معرفة أنه حتى هذه الأمور التي تبدو لصيقة بنا وأقرب إلينا - مثل عواطفنا - هي حالات عابرة تأتي وترحل. وبعد ذلك يلاحظ المتأمل حالته المزاجية الحالية والتقلبات المستمرة في سمتها وطابعها ككل، وفي النهاية يتأمل فيض الأفكار الذي يجول بخاطره. ويجب أن يقاوم المتأمل الرغبة في الاستغراق في أحلام اليقظة والتخيلات؛ فهذا أمر حتمي الحدوث. وبدلا من ذلك، يجب أن يلاحظ بتجرد تام الأفكار والصور وهي تتبع إحداها الأخرى، وأن يعتبرها مثل السحب التي تمر عبر سماء زرقاء صافية، أو أن يعتبرها مثل الفقاقيع التي تطفو إلى سطح الكوب. ومن خلال هذه الملاحظة المتجردة سيتضح تدريجيا أنه حتى العقل الواعي للإنسان ليس إلا عملية مثل غيره من الأمور الأخرى. ويعتبر معظم الناس أن حياتهم العقلية هي جوهرهم الداخلي الحقيقي (فالمرء منهم يتمثل المقولة الشهيرة لديكارت: «أنا أفكر إذن أنا موجود.») لكن تأمل التبصر يكشف أن تيار الوعي هو مجرد أحد أوجه التفاعل المعقد بين عوامل الفردية الخمسة، وليس «الحقيقة الفعلية» للفرد.
إن إدراك عدم وجود فاعل خفي يمتلك هذه الأحاسيس والمشاعر والحالات المزاجية والأفكار المختلفة، وأن كل هذه الموجودات هي التجارب ذاتها؛ لهو تبصر يمثل نقطة تحول تؤدي إلى التنوير. علاوة على ذلك، فإن يقين المرء بأنه لا يوجد في نهاية المطاف كائن «لديه» رغبات يضعف ويدمر في النهاية الشهوة إلى الأبد؛ فيجعلها «مثل نخلة دمرت جذورها ولن تنمو مجددا أبدا.» ومن الناحية التجريبية، يبدو الأمر كأنه حمل ثقيل قد أسقط عن كاهل المرء، فتصمت صيحات الأنا بأباطيلها وأوهامها وشهواتها وخيبات أملها. ولا تتمثل النتيجة في نوع من السلبية الرواقية؛ لأن العاطفة لم تكبح، بل ببساطة تحررت من قوة جذب الأنا المشتتة. وتبدأ مشاعر أخرى في الظهور على نحو أكثر اكتمالا في الأفق العاطفي للمرء مع تباطؤ وتوقف دوامة الشهوة والإشباع الأنانية، ويحل محلها إحساس عميق ودائم بالسلام والرضا.
تطورات الماهايانا
يمكن أن نجد في الماهايانا مجموعة معقدة من أساليب التأمل، كما صاحب الطرق القديمة تأكيد جديد على التمكين والفعل. ويمكن تحديد ثلاثة أنواع رئيسية في الممارسة التأملية. في النوع الأول، استمر النظام القديم المتمثل في التأمل الهادئ المستبصر الذي يتميز بالسكون والانسحاب، لكنه أصبح مشحونا الآن باعتقاد قوي جديد يجعل التأمل أساس الفعل الأخلاقي في هذا العالم. ويمثل النوع الثاني استعادة للأساليب الحالمة والمنتشية السابقة لعهد البوذية التي كانت تهدف إلى تكوين أشكال من الواقع البديل واكتساب قوة سحرية. واعتمدت هذه الأساليب على عملية التخيل؛ حيث ينتج المتأمل لنفسه بالفعل واقعا بديلا مثل «الأرض النقية» التي يتخيل نفسه فيها قد ولد من جديد (انظر رؤية «الأرض النقية» التأملية أدناه)، وهذه الأساليب نفسها هي أساس تأملات «التانترات» المعقدة. وفي هذا الصدد، يخلق المتأمل عالما يرى نفسه فيه بمنزلة البوذا الرئيسي؛ حيث يعيش داخل مسكن علوي للمعرفة يعرف باسم «ماندالا». وداخل هذا الواقع التأملي الجديد، يتحكم المرء على نحو خارق في الرموز القوية لتحوله الذاتي، ويدفع نفسه إلى تحقيق التنوير الأمثل.
ويتضمن النوع الثالث من التمرين التأملي اكتساب أساليب جديدة عفوية لتحقيق تجربة حرة مباشرة. وهذا الازدهار الأخير للعبقري المتأمل البوذي يحدث خارج الأكاديميات. وفي هذا الصدد، كان البحث يسعى إلى أسلوب يهدف مباشرة إلى التنوير في العالم من خلال نوع فعل متحرر وسط أحداث الحياة اليومية. ويبدو أن هذا البحث عن العفوية وثيق الارتباط بتقليد التانترا، وكان مصطلح «الرمز العظيم» («ماهامودرا») يستخدم باعتباره مصطلحا عاما للدلالة على مجموعة كاملة من مثل هذه الأساليب التأملية. وفي هذا النوع لا يركز المتأمل على شيء خارجي، بل يركز على أفكاره، التي تعد المصدر الفعلي لضلاله؛ فيراقب وميض أفكاره، ولا يحاول السيطرة عليها ولا الوقوع تحت سيطرتها. وتدريجيا يتعلم أن يجعل عقله في حالة تدفقه الطبيعي؛ فيطرح كل التصنيفات ويتخلى حتى عن فعل الانتباه، بحيث يترك عقله في حالته الأصلية؛ وبذلك يتعلم أن يدرك كل حدث عقلي على طبيعته الحقيقية؛ وهي الخواء. ومن خلال إدراك كل فكرة يتحرر تلقائيا من كل فكرة؛ فيدرك أن كل حدث يمر به إنما هو فطري وعفوي، وأن كل حدث - نظرا لأنه خاو - تنوير في حد ذاته. وفي هذه المرحلة، لم يعد الشخص يمارس «التأمل» باعتباره ممارسة رسمية، بل يسكن عفويا في فيض الحياة اليومية.
رؤية «الأرض النقية» التأملية
يجلس المتأمل موليا وجهه صوب الغرب، ويتخيل أولا غروب الشمس إلى أن يستطيع رؤية الغروب إما وعيناه مفتوحتان وإما وهما مغمضتان. يحدق في الماء، ويتخيل أن الماء أصبح ثلجا، وأن ذلك الثلج أصبح بلورا، وأنه على هذه الأرضية البلورية يوجد برج من الضوء الساطع. ويتخيل أن الأرض مملوءة بالذهب والجواهر اللامعة، وأن كلا منها واضح للغاية لدرجة أنها تظل دائما أمام عينيه. ويتخيل أشجارا مرصعة بالجواهر ذات أوراق وزهور لامعة، حيث توجد مساكن أبناء الآلهة. ويتخيل جداول وبحيرات بلورية مملوءة بأزهار اللوتس، تتدفق على قيعان ذات رمال ذهبية وماسية. ويتخيل أن الأرض النقية كلها مملوءة بخمسمائة مليون خيمة مرصعة بالجواهر تمتلئ بالآلهة الذين يعزفون موسيقى سماوية مدحا للقانون ... وأخيرا يتخيل نفسه يولد في أرض السعادة الغربية هذه، وهو جالس داخل زهرة لوتس. لقد اكتنفته الزهرة داخلها، لكنها الآن تفتح بتلاتها. وتسطع أشعة الضوء على جسده عندما يفتح عينيه ويرى البددة والبوديساتفات يملئون السماء!
من «سوترا أميتايوس التأملية» (أميتايورديانا سوترا)
والبحث نفسه عن كل ما هو طبيعي وعفوي يميز أيضا تقليد الزن، كما أشرنا في الفصل السابق. ويبدو أن المعلمين الأوائل قد علموا أساليب شديدة الشبه بتلك المستخدمة في أسلوب الرمز العظيم. وأصبحت حكايات الأفعال الغريبة والرائعة التي قام بها المعلمون بمنزلة النماذج الأولى للأصالة التي يتم تقليدها ثم أصبحت بمنزلة موضوعات للتأمل في حد ذاتها؛ حيث اعتقد أنها تشتمل على مفتاح الوصول إلى الحقيقة.
ملخص
للتأمل أهمية كبرى، ويعد محور ممارسة الطريق الثماني. ومن خلال إنماء توجهات مثل الإحسان، باستخدام أساليب التأمل الباعث على الهدوء، تتعزز المسئولية الأخلاقية العميقة تجاه الآخرين. واعتمادا على هذه المسئولية يبدأ المرء عفويا في العمل على رفاهية الآخرين ووضع مصالحهم على قدم المساواة مع مصالحه الخاصة. وتوصي النسخة البوذية من القاعدة الذهبية القائلة أحب لأخيك ما تحب لنفسك بما يلي: «نظرا لأن كل الكائنات تسعى إلى السعادة وتتجنب المعاناة، يجب ألا يفعل المرء أبدا بالآخرين ما لا يرغب في أن يفعلوه به.» ومن خلال التصرف وفقا لمثل هذا النوع من المبادئ يصبح المرء مثاليا في الفضيلة («سيلا»). وعن طريق إنماء الفهم التحليلي، من خلال تأمل التبصر، تظهر الحكمة («بانيانيا»)، ويبدأ المرء في فهم حقيقة المعاناة، وحقيقة نشأة المعاناة، وحقيقة إيقاف المعاناة، وحقيقة الطريق.
وهكذا فإن المكونات الثلاثة للطريق الثماني - الأخلاقيات والتأمل والحكمة - تشبه الجوانب الثلاثة للمثلث. ورغم ذلك، فالتأمل ليس مجرد وسيلة للحصول على الفضيلة والحكمة، ولو كان كذلك لأصبح مجرد أسلوب يمكن التخلي عنه بمجرد الوصول إلى الفضيلة والحكمة. ونظرا لأن بوذا استمر في ممارسة التأمل حتى بعد تنويره، فمن الممكن أن نستنتج بكل أريحية أن الحالات التي يشهدها المرء في التأمل هي في حد ذاتها تجارب إنسانية قيمة.
الفصل الثامن
الأخلاقيات
الدارما
الأخلاقيات («سيلا») هي القسم الأول من الأقسام الثلاثة للطريق الثماني وأساس الحياة الدينية. وتعد التنمية الأخلاقية متطلبا أساسيا لإنماء التأمل («سامادي») والحكمة («بانيانيا»). وعيش حياة أخلاقية يعني العيش وفقا للدارما. ومصطلح «دارما» له معان كثيرة، لكن الفكرة الأساسية له هي القانون الكوني الذي يحكم كلا من العالم المادي والأخلاقي للكون. والدارما ليست ناشئة عن كائن أسمى ولا تخضع لسيطرة أي كائن أسمى، حتى الآلهة أنفسها تخضع لقوانينها. وفي البوذية يستخدم المصطلح للإشارة إلى كل من النظام الطبيعي وإلى مجموعة التعاليم الأخلاقية الدينية البوذية كاملة، كما لاحظنا بالفعل. ويوجد شعور بحالة الارتباط بين الأمرين يتمثل في أن التعاليم البوذية تعتبر حقيقية على نحو موضوعي ومتفقة مع طبيعة الأشياء.
يمكن أن تترجم كلمة الدارما إلى مصطلح «القانون الطبيعي»، وهذا المصطلح يتضمن كلا المعنيين الأساسيين للكلمة، وهما مبدأ النظام والانتظام الذي نراه في سلوك الظواهر الطبيعية، وأيضا فكرة وجود قانون أخلاقي شامل اكتشف متطلباته كائنات حظيت بالتنوير مثل بوذا (لاحظ أن بوذا اكتشف الدارما ولم يبتكرها). وكل جانب من جوانب الحياة يخضع لحكم الدارما؛ مثل القوانين الطبيعية التي تنظم شروق الشمس، وتعاقب الفصول وحركة البروج. وعلى صعيد النظام الأخلاقي تظهر الدارما في قانون الكارما الذي يحكم طريقة تأثير الأفعال الأخلاقية على الحياة الحالية والحيوات المستقبلية للأفراد. إن العيش وفقا للدارما وتنفيذ متطلباتها يقود إلى السعادة والإنجاز والخلاص، أما إهمالها أو انتهاك حدودها فيؤدي إلى معاناة لا نهائية في دورة الميلاد المتكرر («سامسارا»).
وتشترك البوذية مع التراث الأخلاقي الهندي ككل في أنها تعبر عن متطلباتها الأخلاقية في صورة واجبات. والواجبات الأخلاقية الأعم في البوذية هي تلك الموجودة في الوصايا الخمس، مثل واجب الامتناع عن القتل والسرقة وهكذا (انظر الإطار التالي). وتنطبق هذه الوصايا على الجميع بلا استثناء. وعند اعتناق البوذية يأخذ (أو يقبل) المرء هذه الوصايا في احتفال شعائري، وتقر طريقة صياغة الكلمات المستخدمة الطابع الحر والتطوعي للواجب المفترض أن يؤديه الشخص.
أهيمسا أو حرمة الحياة
حجر الأساس في الأخلاقيات البوذية هو معتقد حرمة الحياة. ولاقى هذا المبدأ ترويجا شديدا على يد حركات («السامانا») غير التقليدية البائدة مثل البوذية والجاينية (تقليد منشق عن الهندوسية شبيه بالبوذية في عدة جوانب ونشأ قبلها بوقت قليل)، لكنه أثر على المذاهب التقليدية تأثيرا متزايدا. ورفضت كل من البوذية والجاينية التضحية بالحيوانات التي لعبت دورا مهما في الطقوس الدينية في الهند منذ الأزمان القديمة، وكان أساس الرفض هو اعتبار أنها ممارسة قاسية وبربرية. وإلى حد ما بسبب تأثير البوذية والجاينية تزايدت الاستعاضة عن قرابين الدم في التقليد البراهمي التقليدي بعطايا رمزية مثل الخضراوات والفاكهة واللبن.
الوصايا البوذية
ثمة خمس وصايا أساسية في البوذية: (1) الوصايا الخمس («بانياكاسيلا»). (2) الوصايا الثماني («أتانجاسيلا»). (3) الوصايا العشر («داساسيلا»). (4) طرق الأفعال الخيرة العشر («داساكوسالاكاماباتا »). (5) قانون الانضباط في حياة الرهبنة («باتيموكا»).
القانون الأكثر لفتا للانتباه بين هذه القوانين هو القانون الأول المتعلق بالوصايا الخمس الخاصة بالعوام. وتمنع هذه الوصايا الخمس ما يلي: (1) القتل. (2) السرقة. (3) الفساد الجنسي. (4) الكذب. (5) تناول المسكرات. يكمن جوهر الأخلاق البوذية في الوصايا الأربع الأولى. ويكمل هذه القواعد مجموعة أخرى أكثر صرامة تتوقف على مكانة الممارس لهذه الوصايا أو تلائم مناسبات شعائرية معينة؛ فعلى سبيل المثال، يعتقد أن الوصية الخامسة المتعلقة بحظر تناول المسكرات مناسبة إلى حد كبير للعوام، بينما الوصايا الثماني والوصايا العشر اللتان تكملان الوصايا الخمس الأساسية بقيود إضافية، كتلك المتعلقة بالأوقات التي قد يسمح فيها بتناول الوجبات، يشيع تطبيقها باعتبارها التزامات إضافية في الأيام المقدسة. وطرق الأفعال الخيرة العشر هي تصور يشيع وجوده في مصادر الأبهيدارما والماهايانا بصفة خاصة ويحكم أفعال الجسد (1-3)، والكلام (4-7)، والعقل (8-10). وهذه الوصايا العشر هي: (1) عدم القتل. (2) عدم السرقة. (3) تجنب الإباحية الجنسية. (4) عدم الكذب. (5) الامتناع عن قول الافتراءات. (6) الامتناع عن الكلام القاسي. (7) الامتناع عن اللغو. (8) عدم الطمع. (9) عدم الكراهية. (10) تبني الآراء الصحيحة. وتختص العناصر الثلاثة الأخيرة بالعقل وتوضح أنه حتى الأفكار الجيدة والسيئة يمكن أن تكون لها آثار كارمية. أما قانون الانضباط في حياة الرهبنة الموجود ضمن قواعد الرهبنة («فينايا») فهو مجموعة قواعد تزيد عن مائتي قاعدة (يختلف العدد المحدد للقواعد اختلافا طفيفا بين المذاهب المختلفة)، وتوضح تلك القواعد بالتفصيل ضوابط حياة مجتمع الرهبان.
وفي التقاليد المنشقة عن الهندوسية اتخذ مبدأ حرمة الحياة أو «أهيمسا» صورة متطرفة في بعض الأحيان؛ فعلى سبيل المثال، كان الرهبان الجاينيون يتخذون إجراءات احتياطية هائلة للحيلولة دون تدمير أشكال الحياة الدقيقة كالحشرات حتى ولو بغير قصد. وكان لممارساتهم بعض التأثير على البوذية، وفي الغالب يستخدم الرهبان البوذيون مصفاة حرصا على عدم تدمير الكائنات الدقيقة أثناء شربهم للماء. كما تجنبوا أيضا السفر خلال فصل الرياح الموسمية لتفادي السير على الحشرات والمخلوقات الصغيرة التي تتزايد أعدادها بعد الأمطار. وترفض بعض الثقافات البوذية ممارسة الزراعة بسبب التدمير الحتمي للحياة الذي يحدث بسبب حرث الأرض. عموما ، وعلى الرغم من أن البوذية شاركت الموروث الهندي (والهندوأوروبي) نظرة حرمة الحياة، فإنها تعتبر تدمير الحياة خاطئا من الناحية الأخلاقية فقط عندما يحدث التدمير عن قصد أو نتيجة للإهمال.
الفضائل
على الرغم من أن هذه القواعد مهمة للغاية في الأخلاق البوذية، فإن الحياة الأخلاقية في البوذية ترتبط بأمور أكبر من مجرد اتباع تلك القواعد؛ فيجب ألا تتبع الوصايا فحسب، بل يجب أن تتبع الأسباب الصحيحة وبالحافز الصحيح. وفي هذا السياق تتجلى أهمية دور الفضائل، ويمكن تشبيه الأخلاقيات البوذية في مجملها بالعملة ذات الوجهين؛ فأحد هذين الوجهين يوجد عليه الوصايا، وعلى الوجه الآخر توجد الفضائل. وقد تعتبر الوصايا، في واقع الأمر، مجرد قائمة بالأمور التي لن يقترفها أبدا الشخص الشريف.
تؤكد المصادر البوذية القديمة على أهمية اكتساب التوجهات والعادات الصحيحة كي يكون السلوك الأخلاقي تجليا طبيعيا وعفويا للمعتقدات والقيم الراسخة والمتأصلة على نحو صحيح، وليس مجرد اتباع لقواعد خارجية. ويوضح هذا الأمر صياغات كثيرة لهذه القواعد. وتقول إحدى صياغات النصوص عن الشخص الذي يتبع الوصية الأولى: «عندما يتخلى المرء عن الهراوة والسيف فإنه يحيا متعاطفا مع كل الكائنات الحية ويحنو عليها» (كتاب ديجا). ومن ثم يصبح الامتناع عن إزهاق الروح من الناحية المثالية ناتجا عن التعاطف القائم على الرفق بالكائنات الحية، وليس مجرد تقييد مفروض مناهض للنزعة الطبيعية. ويتطلب الامتثال التام للقاعدة الأولى فهما عميقا للعلاقة بين الكائنات الحية (وفقا للبوذية، كلنا كنا آباء وأمهات وأبناء ... إلخ بعضنا لبعض في دورة التناسخ الطويلة)، بالإضافة إلى ميل ثابت للإحسان والشفقة على جميع الكائنات. وعلى الرغم من أن قليلا من الناس هم من أجادوا هذه القدرات، فإن احترام هذه القواعد يجعل الأشخاص يألفون حالة أولئك الذين أجادوا هذه القدرات؛ ومن ثم يقتربون خطوة من التنوير. في الجماعة البوذية القديمة لم يضع بوذا أية قواعد؛ لأنه لم تكن توجد حاجة لأي منها؛ نظرا لأن كل أعضاء «السانجا» كانوا «آرهات». فقط عندما انضم غير المتنورين إلى الجماعة كان لزاما وضع قوانين لضبط السلوك.
والفضائل، كما يوضح أرسطو ، تتعلق بالأمور الصعبة؛ فتتمثل مهمة الفضائل في مواجهة الطبائع السلبية (أو الرذائل) مثل الغرور والأنانية. وقوائم الفضائل والرذائل المطولة التي تظهر في الأدبيات اللاحقة استنبطت من مجموعة أساسية لفضائل ثلاث، هي «الفضائل الأساسية» البوذية الثلاث المتمثلة في عدم التعلق («أراجا»)، والإحسان («أدوسا»)، والفهم («أموها»). وهي أضداد «جذور الشر» الثلاثة المذكورة في الفصول السابقة، وهي الطمع («راجا»)، والكراهية («دوسا»)، والوهم («موها»). وعدم التعلق يعني غياب رغبة الأنانية التي تلطخ السلوك الأخلاقي عن طريق تخصيص المكانة المرموقة لاحتياجات المرء الشخصية. والإحسان يعني توجها يقوم على المودة تجاه كل الكائنات الحية، والفهم يعني معرفة الطبيعة البشرية والمصلحة البشرية كما هو موضح في معتقدات مثل الحقائق الأربع النبيلة.
أخلاقيات الرهبنة
تحكم حياة الراهب البوذي أو الراهبة البوذية لائحة قواعد الرهبنة («فينايا»). ولائحة قواعد الرهبنة هي جزء من قانون بالي، وهي عبارة عن كتاب جامع للمعلومات المتعلقة بكل جوانب جماعة الرهبان. وتصف أصول الرهبنة وتاريخها والمجالس الأولى، والخلافات التي نشبت حول سلوكيات الرهبنة، وتروي كيف نشأت تقاليد الجماعة. ويوجد في لائحة قواعد الرهبنة قانون مكون من 227 مادة يعرف باسم «الباتيموكا» يقدم تعليمات مفصلة حول الطريقة التي يجب أن يعيش بها الرهبان في الجماعة. وتشبه لائحة قواعد الرهبنة في كثير من النواحي قاعدة القديس بنيديكت التي قدمت في القرن السادس باعتبارها نموذجا للحياة اليومية للرهبان المسيحيين، غير أن لائحة قواعد الرهبنة أطول بكثير من قاعدة القديس بنيديكت. وتروي ضمن أمور أخرى الظروف التي كانت سببا في إضافة كل قاعدة من قواعد الرهبنة، وتحكي أيضا عن التعديلات التي أجريت عليها عندما طرأت ظروف جديدة. ويقدم بوذا على أنه مؤلف القواعد، على الرغم من أن الدليل الداخلي يشير إلى أن كثيرا من هذه القواعد يعود تاريخه إلى ما بعد وفاته. وتقدم اللائحة الكثير من المعلومات الفنية المتعلقة بأنواع المعاطف التي يرتديها الرهبان، والطريقة التي يلزم تشييد الأديرة بها، ومدى ارتفاع الأسرة عن الأرض، وأنواع البسط المستخدمة، وهكذا.
وبالإضافة إلى الكثير من التفاصيل المتشابكة عن الحياة اليومية للرهبان، تتضمن لائحة قواعد الرهبنة الوصايا الأخلاقية الأساسية مثل تلك المتعلقة بحظر إزهاق الأرواح والسرقة والكذب. علاوة على ذلك، تعد السجلات التي ترصد انتهاكات معينة لهذه الوصايا مصدر معلومات ثريا للغاية من الناحية الأخلاقية؛ فكثير من الوقائع التاريخية المذكورة يسلط الضوء اللازم إلى حد كبير على المبادئ الأخلاقية التي تشكل أساسا للقواعد نفسها. وبينما تقدم القواعد الأخلاقية في كتابات بوذا بشكل مقتضب وبقليل من التفسير، يمكن أن نلاحظ في لائحة قواعد الرهبنة طبيعة الجرم المقترف بقدر كبير من الوضوح. إن التعليقات والمناقشات المتعلقة بتفسير قواعد الرهبنة هي أقرب نقطة التقاء بين البوذية وبين مبحث فلسفة الأخلاق، كما أنها تقدم مصدرا مهما للغاية لتوضيح كثير من النقاط الأخلاقية.
ولذلك، يمكن اعتبار الوصايا المتعددة لحياة الرهبنة المذكورة سلفا مزيجا من الوصايا «الأخلاقية» والممارسات الإضافية الهادفة إلى اكتساب رباطة الجأش وضبط النفس. إن العدد الكبير لقواعد الرهبنة يضمن الانصياع والالتزام داخل مجتمعات الرهبان؛ بحيث تكون النزاعات والخلافات في أدنى مستوياتها، ولتقدم الجماعة نفسها باعتبارها نموذجا أخلاقيا مصغرا للعالم ككل.
الوسيلة الماهرة
كان من أهم الابتكارات في أخلاقيات الماهايانا مبدأ الوسيلة الماهرة («أوبايا كوشاليا»). وجذور هذه الفكرة متأصلة في مهارة بوذا في تعليم الدارما، وتظهر هذه المهارة في قدرته على تكييف رسالته مع السياق الذي يقدمها فيه؛ فعلى سبيل المثال، عند التحدث مع البرهمن، يشرح بوذا في أغلب الأحيان تعاليمه في ضوء الإشارة إلى طقوسهم وتقاليدهم، فيقود جمهوره تدريجيا نحو حقيقة المعتقد البوذي. وكونت الحكايات الرمزية والاستعارات والتشبيهات جزءا مهما من أسلوبه التعليمي، وكانت مصممة بمهارة بما يتناسب مع مستوى جمهوره.
طورت الماهايانا هذه الفكرة بطريقة جديدة تماما عن طريق التصريح، في نصوص مثل «سوترا اللوتس»، بأن التعاليم الأولى لم تقدم فحسب بطريقة ماهرة، بل كانت في مجملها «وسيلة ماهرة». وكان لهذه الفكرة انعكاسات معينة على الأخلاقيات؛ فلو كانت التعاليم الأولى مؤقتة وليست مطلقة، لأصبحت الوصايا التي تضمها تلك التعاليم هي أيضا ذات طبيعة مؤقتة وليست مطلقة. وبهذه الطريقة أصبحت القواعد الواضحة والصارمة التي يجدها المرء مرارا وتكرارا في المصادر الأولية التي تحظر أنواعا معينة من التصرفات؛ يمكن تفسيرها إلى حد كبير على أنها تعليمات إرشادية للأشخاص في المرحلة التمهيدية وليست ملزمة على نحو مطلق. واستطاع رهبان البوديساتفا، الأبطال الأخلاقيون الجدد للماهايانا، أن يزعموا أنهم حققوا زيادة في مساحة الحرية والمرونة الأخلاقية اعتمادا على إدراكهم لأهمية الشفقة. ونظرا لتعهد البوديساتفا بإنقاذ كل البشر، فقد سجل كثير من النصوص أدلة واضحة على تذمر البوديساتفا من ضرورة اتباع القواعد والتعليمات التي تبدو كأنها تحول دون تنفيذه لمهمته. وأدت الحاجة إلى كسر القواعد أو تعليقها لصالح الشفقة إلى تأليف نصوص معينة ترسي قوانين سلوكية جديدة لرهبان البوديساتفا تسمح لهم في بعض الأحيان بعدم اتباع الوصايا. وفي الصور الأكثر تطرفا لهذا الأمر، أصبح حتى القتل مبررا لمنع شخص من ارتكاب جريمة شائنة (مثل قتل شخص حظي بالتنوير) سيعاني بسببها القاتل من القصاص الكارمي. وأصبح الكذب أيضا، وغيره من الأمور التي تنتهك الوصايا، مسموحا به في ظروف استثنائية.
الحقوق
على الرغم من ذكر الواجبات، فإنه لم يذكر أي شيء حتى الآن عن الحقوق. إن شعارات مثل «حق الاختيار» و«حق الحياة» و«حق الموت» (في سياق القتل الرحيم) هي العملة الرائجة في الجدل المعاصر. ورغم ذلك، لم تذكر المصادر البوذية الأولى أي كلمة مرادفة لفكرة «الحقوق» على النحو المفهوم في الغرب. وقد ظهر مفهوم الحق في الغرب نتيجة لمزيج معين من التطورات الاجتماعية والسياسية والفكرية لم تتكرر في أي مكان آخر. ومنذ عصر التنوير في القرن الثامن عشر احتل هذا المفهوم الصدارة في المشهد القانوني والسياسي، وقدم لغة سهلة ومرنة يمكن للأفراد من خلالها التعبير عن مطالبهم الرامية إلى تحقيق العدالة. ويمكن تعريف الحق بأنه قوة يمتلكها الفرد ويستطيع استخدامها. وقد تتمثل هذه القوة في فائدة أو استحقاق يسمح لحامل الحق بمطالبة الآخرين أو تحصين نفسه ضد المطالب التي يسعى الآخرون إلى فرضها عليه.
إذا كانت البوذية لا تحتوي على أي مفهوم للحقوق، فكيف يمكن للبوذيين استخدام لغة الحقوق عند مناقشة الأمور الأخلاقية؟ قد يقول البوذي إن لغة الحقوق ليست مستغربة في البوذية؛ لأن الحقوق والواجبات كلتاهما مرتبطة بالآخر. ويمكن اعتبار الحق مقابلا للواجب. فإذا كان «أ» لديه واجب تجاه «ب»، فإن «ب» يقف في موقف المستفيد وله «حق» في أي نوع من أنواع المنفعة الصادرة عن أداء «أ» لواجبه. وعلى الرغم من أن الحقوق ليست مذكورة صراحة في المصادر البوذية، فمن الممكن اعتقاد أنها مذكورة بطريقة ضمنية في فكرة الواجبات الدارمية. فإذا كان من واجب الملك أن يحكم بالعدل، فإذن يمكن القول بأن للمواطنين «الحق» في معاملة عادلة. وبقدر أكبر من التعميم، إذا كان من واجب الجميع ألا يزهقوا الأرواح، فإن كل الكائنات الحية تتمتع بحق الحياة؛ وإذا كان من واجب الجميع الامتناع عن السرقة، فللجميع الحق في ألا يحرموا ظلما من ممتلكاتهم؛ وبذلك يمكن القول إن مفهوم الحقوق مذكور بطريقة ضمنية في الدارما، وأن الحقوق والواجبات تشبهان فرصتين منفصلتين تؤديان إلى تحقيق المصلحة العامة على صعيد العدالة.
حقوق الإنسان
تضع مواثيق حقوق الإنسان المعاصرة، مثل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة عام 1948، قائمة بالحقوق الأساسية التي يجب أن يمتلكها كل البشر دون تمييز على أساس العرق أو المعتقد. وكثير من البوذيين ينضم إلى مثل هذه المواثيق، وفي أغلب الأحيان يمكن السماع عن قادة بوذيين، مثل الدالاي لاما، يتبنون المبادئ التي تجسدها هذه المواثيق. ويبدو أن المصادر البوذية الأولى تنبأت ببعض هذه الحقوق؛ فمثلا يمكن رؤية أن حق عدم الاستعباد موجود في حظر قانون بالي الاتجار في الأحياء (كتاب أنجوتارا). ويمكن القول أيضا إن حقوق الإنسان الأخرى مذكورة على نحو ضمني في الوصايا البوذية؛ فعلى سبيل المثال، حق عدم التعرض للقتل أو التعذيب يمكن اعتبار أنه مذكور ضمنيا في الوصية الأولى.
ورغم ذلك، وبوجه عام، لا يوجد لدى المصادر البوذية التقليدية سوى القليل كي تقوله حول المسائل التي تعتبر اليوم قضايا متعلقة بحقوق الإنسان. وفي ظل غياب مفهوم واضح للحقوق، وبالطبع هذا ليس من غير المتوقع ، لا بد للبوذية من تقديم فكرة عن كيفية تأصيل فكرة حقوق الإنسان في المعتقد البوذي. كيف يمكن للبوذية فعل ذلك؟ من الممكن أن تبدأ بالإشارة إلى أن حقوق الإنسان ترتبط ارتباطا وثيقا بفكرة الكرامة الإنسانية. وفي واقع الأمر، يشتق كثير من مواثيق حقوق الإنسان على نحو واضح فكرة الحقوق من فكرة الكرامة الإنسانية. وفي كثير من الأديان يقال إن الكرامة الإنسانية نابعة من حقيقة أن البشر خلقوا على صورة الإله. وبطبيعة الحال، لا تقدم البوذية مثل هذا الزعم. وهذا يصعب من رؤية المصدر المحتمل للكرامة الإنسانية في البوذية. وإذا كان من غير الممكن البحث عن الكرامة الإنسانية من منطلق ديني، فمن الممكن البحث عنها من المنطلق الإنساني. وفي البوذية يبدو أن الكرامة الإنسانية تنبع من قدرة البشر على اكتساب التنوير، كما هو واضح من الشخصية التاريخية لبوذا والقديسين في التراث البوذي. إن بوذا احتفاء حي بالقدرة الإنسانية، وفي المعرفة العميقة والشفقة اللتين يمثلهما - وهذه صفات يمكن لكل البشر محاكاتها - يمكن أن توجد الكرامة الإنسانية. تعلمنا البوذية أن جميعنا بددة محتملون (بعض مذاهب الماهايانا تعبر عن ذلك بقول إن كل البشر يمتلكون «طبيعة بوذا» أو بذرة التنوير). وبموجب هذه القدرة المحتملة على اكتساب التنوير التي يتشاركها البشر، فإن كل الأفراد يستحقون الاحترام؛ ولذلك يقتضي العدل وجوب حماية حقوق كل فرد.
الحرب والإرهاب
كما لاحظنا، فإن التعاليم البوذية تناهض العنف بشدة وتعتبره نتيجة لحالات ذهنية مرتبطة بالطمع («راجا»)، والكراهية («دوسا»)، والوهم («موها»). وتعتبر أن العدوان يذكيه الاعتقاد الخاطئ في وجود الذات («أتمان») والرغبة في حماية تلك الذات من الضرر. وهذا الإحساس القوي بالذات وما يرتبط به من أمور (مثل: «ممتلكاتي»، «بلدي»، «عرقي») يولد إحساسا قويا بالانقسام يؤدي إلى الشك والكراهية تجاه كل ما هو «غريب» أو «آخر». إن هدف التعاليم البوذية هو إذابة الإحساس بالذات، ومعه الخوف والكراهية اللذان يسببان نشوب الصراع.
ويعد الصبر («كهانتي») من الفضائل المهمة في هذا الصدد؛ نظرا لأن انعدام التسامح وانعدام الحلم هما غالبا سبب النزاعات العنيفة . ويوجد الكثير من القصص البوذية التي تضرب مثلا على ممارسة الصبر، مثل قصة «كهانتيفادي جاتاكا». وفي هذه القصة يظهر «كهانتيفادي»، أحد النساك، الجلد عندما لم يغضب حتى بعد أن قطعت أطرافه واحدا تلو الآخر بناء على أوامر أحد الملوك. وتعتمد ممارسة الصبر على رباطة الجأش («أوبيكها») أو الرزانة تجاه كل الناس، سواء أكانوا أصدقاء أم أعداء. ومن الواضح أن الأشخاص الذين يمثلون أعداءنا حاليا كانوا على نحو شبه أكيد أصدقاءنا في حياة أخرى، فلا أحد سيظل عدوا للأبد.
عندما تتحدث المصادر القديمة عن الحرب فإنها تدينها تماما دون استثناء؛ لأن الحرب تتضمن القتل، والقتل يعد خرقا للوصية الأولى. ولا يمثل سبب الحرب قيمة كبيرة سواء أكانت الحرب تخاض لسبب هجومي أم دفاعي؛ لأن خسارة الأرواح ستحدث نتيجة لها. وفي تناقض واضح مع وجهة نظر الإسلام حول مصير المحاربين الذين يموتون في حرب مقدسة، يعبر بوذا عن وجهة نظره في «سوترا نيباتا» (كتاب ساميوتا نيكايا) فيقول إن الجنود الذين يموتون في المعركة لا يدخلون إلى جنة خاصة، بل يدخلون إلى جحيم خاص؛ إذ في لحظة موتهم كانت عقولهم مصممة على القتل. وتؤكد بعض المصادر أنه حتى القتل دفاعا عن النفس أو دفاعا عن الأسرة أو الأصدقاء يعد خطأ، وتمدح في العموم توجه عدم المقاومة عند التعرض للعنف. ويروي التعليق على مجموعة أقوال «دامابادا» كيف أن أقارب بوذا، شعب ساكيا، عندما تعرضوا للهجوم في إحدى المرات، رضوا بأن يقتلوا بدلا من أن يخرقوا الوصية الأولى. وتوجد أمثلة أخرى في حكايات «جاتاكا» وغيرها تتحدث عن أمراء وملوك تنازلوا عن عروشهم بدلا من اللجوء إلى العنف للدفاع عن ممالكهم.
وفي أغلب الأحيان، يشير البوذيون إلى الملك أشوكا باعتباره نموذجا يوضح كيف يجب أن يحكم الحكام من خلال وسائل سلمية. وكما هو موضح في الفصل السادس، فقد حكم أشوكا إمبراطورية كبيرة في الهند في القرن الثالث الميلادي. وبعد ثماني سنوات من تتويجه أمر جيوشه بمهاجمة كالينجا، وهي منطقة على الساحل الشرقي نجحت في مقاومته. كانت الحملة دموية وكانت الخسائر في الأرواح كبيرة. وفي أحد الإعلانات العديدة (الإعلان الصخري الرابع عشر) المحفورة على الصخور والأعمدة في كل أنحاء المملكة، قال أشوكا إنه في حملة كالينجا هجر 150 ألف شخص، وقتل 100 ألف في المعركة، ومات عدد أكبر من ذلك في الاضطرابات التي صاحبت الحملة. وتحدث عن ضيقه من معاناة أناس عاديين مهذبين («براهمة، ونساك، وأتباع أديان مختلفة») أصيبوا أو قتلوا أو افترقوا عن أحبائهم. لقد أخافته خسارة الأرواح في الحرب وأدت إلى تغير كامل في قلبه؛ ونتيجة لذلك تخلى عن استخدام الحملات العسكرية، وقرر الحكم منذ ذلك الوقت بالدارما، وقال: «إن الغزو بالدارما أفضل أنواع الغزو.» ومن الواضح أن أشوكا تمنى محاكاة التصور الكلاسيكي المتمثل في تشاكرافارتين، الملك البوذي الصالح. ورغم ذلك، فمن الملاحظ أنه على الرغم من أن تشاكرافارتين، تلك الشخصية الأسطورية، يصور على أنه يغزو سلميا من خلال قوة الدارما، فإنه رغم ذلك يحتفظ بجيشه ويصطحبه معه في كل أسفاره إلى الممالك المجاورة. في ضوء هذه الأمور الغريبة، راود بعض الباحثين الشك حول كون موقف البوذية من استخدام القوة محددا كما بدا في البداية أم لا. وهذه التحفظات عززتها المصادر اللاحقة. وقد وضع أحد مصادر الماهايانا القديمة، الذي يحمل اسم «ساتياكاباريفارتا»، والذي يعود على الأرجح إلى القرن الثاني الميلادي، نوعا أوليا من فلسفة الحرب العادلة التي تقول إنه يمكن اللجوء إلى الحرب في حالة فشل الوسائل الأخرى، بشرط ضرورة أن يجرب الملوك في البداية الصداقة، ثم المساعدة، ثم الترهيب قبل اللجوء إلى الحرب. ويستخدم النص مفاهيم من بوذية الماهايانا مثل الشفقة والوسائل الماهرة لتبرير الحرب والتعذيب والعقوبات القاسية دعما لحملات الغزو من أجل نشر نفوذ البوذية. إن هذه الفكرة الجديدة المتمثلة في أن العنف السياسي يمكن كذلك التفكير في استخدامه تأخذنا بعيدا عن بوذا المسالم الذي يصوره لنا قانون بالي بأنه لم يغفر مطلقا استخدام العنف تحت أي ظروف. ونص «كالاتشاكرا تانترا»، وهو نص مفضل للدالاي لاما الحالي، يحتوي على فقرات مثيرة للجدل تتنبأ باندلاع «حرب مقدسة» بين البوذيين و«البربريين» (بالسنسكريتية: «ملكشا») وتتوقع قدوم تشاكرافارتين الذي سوف يهزم البربريين في المعركة. ويحدد بعض الباحثين هوية هؤلاء «البربريين» قائلين إنهم القوات المسلمة التي هاجمت الأديرة البوذية في شمال غرب الهند في أواخر العصور الوسطى، بينما يفسر آخرون هذه الفقرات تفسيرا نفسيا ويقولون إنها تصف الصراع الداخلي الذي يشنه ممارسو الدين ضد قوات الظلام المتمثلة في الكراهية والغضب والعدوان.
وأيا كانت طريقة تفسير النصوص، فإن التاريخ يظهر أن كثيرا من الحكام البوذيين قد فشلوا في اتباع مثال أشوكا المسالم. وفي التاريخ القديم لسريلانكا، نشب العديد من المعارك بين السنهاليين والغزاة التاميل القادمين من الهند. ويعتبر الملك السنهالي دوتهاجاماني (القرن الأول الميلادي) بطلا قوميا لأنه هزم الجنرال التاميلي إلارا، وذكرى هذا الانتصار مخلدة في السجل السنهالي «ماهافانسا»، وهو سجل تاريخي للقرنين الخامس والسادس الميلاديين يروي تاريخ جزيرة سريلانكا. ويصور السجل الصراع بأنه نوع من «الحرب المقدسة» بين البوذيين والهندوس ويمجد النصر البوذي. ويروي كيف شعر دوتهاجاماني بالندم بعد الانتصار (تماما مثل أشوكا)، لكن طمأنه الرهبان المتنورون («الآرهات») بأنه ما دام يدافع عن «الدارما» فإنه لم يفعل شيئا مخالفا للوصايا البوذية. وفي العصور المعاصرة تحدث رهبان بارزون، مثل الراحل والبولا راهولا، مستحسنين «الوطنية الدينية»، ووصفوا حملة دوتهاجاماني بأنها «حرب مقدسة». وأثناء الحرب الأهلية الأخيرة في سريلانكا، أقام الرهبان البوذيون بانتظام طقوسا دينية من أجل الجيش، واليوم يوجد رهبان بوذيون يخدمون في القوات المسلحة التايلاندية والكورية والأمريكية.
في الفترة المعاصرة، كثيرا ما شن الرهبان البوذيون حملات هجومية صريحة ضد خصومهم، وطالبوا بمحوهم باستخدام القوة. وفي سبعينيات القرن العشرين نادى الراهب التايلاندي كيتيفودو، المعارض القوي للشيوعية، في تصريحات علنية بإبادة الشيوعيين، وزعم أن هذا واجب ديني وضروري لحماية الأمة التايلاندية، ومملكتها، ودينها القومي (البوذية). وحسب وجهة نظره، فإن قتل 5 آلاف شيوعي ثمن يستحق دفعه لضمان سلامة 42 مليون تايلاندي.
لم يكن جنوب آسيا المنطقة الوحيدة التي نشبت فيها الحروب؛ فأثناء بعض الفترات التاريخية، كانت بعض أجزاء من شرق آسيا ساحة قتال مستمر إلى حد كبير، وتورطت البوذية، وكانت في أغلب الأحيان شريكا نشطا في أحداث العنف. وفي اليابان، في العصور الوسطى، أصبحت الأديرة البوذية مؤسسات كبيرة تمتلك الأراضي، وجندت رهبانا محاربين («سوهي») لحماية أراضيها ولتهديد أعدائها. وكانت المعارك تنشب بين الطوائف البوذية بعضها وبعض، وأيضا بينها وبين الحكام العسكريين («شوجون») والبلاط الإمبراطوري. ووجد كثير من محاربي الساموراي معتقدات وممارسات بوذية الزن تناسب نظمهم العسكرية إلى حد كبير؛ حيث دربوا عقولهم للوصول إلى حالة عالية من اليقظة مكنتهم من الاحتفاظ بتركيزهم وانضباطهم في ساحة المعركة. وتأثرت الفنون القتالية مثل المبارزة بالسيوف والرماية بمبادئ الزن، ومثل المعتقد الفلسفي المتمثل في اللامثنوية أو الخواء («شونياتا») أيديولوجية مناسبة ترافق تعطيل الأعراف الأخلاقية؛ ذلك الأمر الذي اعتقد الكثيرون أنه مناسب في أوقات الفوضى والاضطراب الاجتماعي.
وكانت هذه النزعة العسكرية واضحة أيضا في الفترة الحديثة؛ حيث قدمت الجماعات البوذية دعما فعالا للوطنية اليابانية. وقدمت مدارس الزن ومدارس الأرض النقية الدعم المالي أثناء الحرب مع الصين في الفترة من 1937 إلى 1945، وفي الحرب العالمية الثانية دعمت معظم المدارس البوذية (باستثناء مدرسة سوكا جاكاي) الحملة اليابانية على الحلفاء. وقد اشترك أيضا الرهبان والراهبات الصينيون في الحرب الكورية. وقد ألقى أحد الرهبان، المبجل شينداو، خطابا في عام 1951 قال فيه: «إن إبادة الشياطين الأمريكيين الإمبرياليين الذين يدمرون السلام العالمي تتفق مع المعتقدات البوذية؛ فهو أمر لا يستحق اللوم، لكنه في واقع الأمر سوف يجعلنا نستحق المكافأة.» وعلى الرغم من تأكيد التعاليم البوذية على السلمية، فإن التاريخ يكشف التورط المستمر للبوذيين، العوام والرهبان على حد سواء، في الحروب على مدار قرون كثيرة.
وفي الوقت نفسه، أدت أيضا الفترة المعاصرة إلى ظهور معارضة شديدة لاستخدام القوة العسكرية؛ ففي اليابان، تأسست طائفة نيبونزان ميوهوتي على يد نيتشيداتسو فوجي في عام 1947 في أعقاب الهجوم النووي على ناجازاكي وهيروشيما. وبوصفها منبثقة عن بوذية نيتشيرين، تعمل الجماعة على دعم السلمية ومعارضة استخدام الأسلحة النووية، وبنت ما يزيد على ستين «ستوبا» أو «باجودات السلام» في اليابان، بالإضافة إلى خمسة في الهند واثنين في كل من سريلانكا، والمملكة المتحدة والولايات المتحدة. ومن الجماعات البوذية المؤثرة أيضا سوكا جاكاي الدولية، وتحت قيادة رئيسها الحالي، دايساكو آيكيدا، ظلت تسعى نحو تحقيق هدفها المتمثل في «تحقيق السلام من خلال مناهضة كافة أشكال العنف». وتوجد طائفة يابانية ثالثة نشطة على هذه الجبهة، هي ريشو كوسي كاي التي أنشأت مؤسسة نيوانو للسلام في عام 1978 من أجل «الإسهام في تحقيق السلام العالمي». والسؤال حول إن كانت السلمية خيارا واقعيا في العالم المعاصر الذي يتزايد فيه العنف يعد سؤالا مثيرا للجدل على نطاق واسع. وكثير من الجماعات البوذية تؤمن بوجود بدائل فعالة غير عنيفة لاستخدام القوة في معظم المواقف. ولطالما قيل على نطاق عريض إن «السلمية لا تعني السلبية»، وإنه ربما لو استخدمت الموارد التي أنفقت على الحروب في العمل على تحقيق السلام لما نشب كثير من النزاعات المستعصية إلى حد كبير، أو لتوصلنا إلى حلها منذ زمن بعيد.
الإرهاب
على نطاق وثيق الصلة بالمعضلة الأخلاقية المسماة الحرب، تأتي مشكلة كيفية التعامل مع الهجمات الإرهابية، مثل الهجوم على مركز التجارة العالمي في 11 سبتمبر 2001. هل الطريقة الصحيحة للتعامل مع الانتهاكات الإرهابية هي محاربة النار بالنار؟ مال القادة البوذيون الذين تحدثوا علنا عن مسألة «الحرب على الإرهاب» إلى الإشارة إلى ثلاثة أمور؛ الأمر الأول هو التأكيد على الحاجة إلى الفهم الكامل للأسباب التي أدت إلى وقوع أحداث 11 سبتمبر. وفي إشارة إلى معتقد النشأة المعتمد («براتيتيا ساموتبادا»)، أوضحوا أن تلك الأحداث لا تنشأ عشوائيا، لكنها نتيجة لتفاعلات معقدة على مستويات عديدة. وإلى أن تفهم الظروف التي أدت إلى الهجمات ويجرى التعامل معها، فإن التوصل إلى حل دائم ليس بالأمر الممكن. أما الأمر الثاني فيتمثل في أن الرد على القوة بالقوة يعد خطأ. وتعد كلمات «الدامابادا» وثيقة الصلة في هذا الصدد:
لقد امتهنني، لقد ضربني، لقد قهرني، لقد سرقني. إن أولئك الذين يحملون مثل هذه المشاعر لا يوقفون كراهيتهم. (فينايا)
الكراهية لا تهدئها الكراهية أبدا. وبعدم الكراهية فقط تهدأ الكراهية. هذه حقيقة أبدية. (فينايا )
وعبرت أون سان سو تشي، قائدة الحركة الديمقراطية في بورما والفائزة بجائزة نوبل للسلام في عام 1991، عن وجهة نظرها حول الإرهاب فقالت:
كما تعلمون، أنا بوذية. وباعتباري بوذية، فإن الجواب بسيط وواضح جدا، وهو أن الشفقة والرحمة هما الحل الشافي الحقيقي. أنا متأكدة من أنه عندما يكون لدينا شفقة ورحمة في قلوبنا، فإننا لن نتمكن من التغلب على الإرهاب فحسب، بل سنتغلب على كثير من الشرور التي تجتاح العالم.
أما الأمر الثالث الذي يتحدثون عنه غالبا، فهو الحاجة إلى التأمل ونقد الذات حول الدور الذي من الممكن أن نكون لعبناه بأنفسنا، سواء على نحو مباشر أو غير مباشر، في إثارة الصراع؛ فبعد هجوم 11 سبتمبر، قال الراهب الفيتنامي والقائد البوذي النشط تيك نيت هان إنه كان من الأفضل لأمريكا أن تلجأ إلى الحوار بدلا من القوة العسكرية. وبالنسبة إليه كان السؤال المحوري هو: «لماذا يكرهنا أحد لدرجة تدفعه لفعل ذلك؟» وكان جوابه: «إذا كنا قادرين على الاستماع إليه، فإنه سوف يخبرنا.»
من المحتمل أن تتزايد أهمية البعد الأخلاقي والتشريعي للبوذية مع انتشارها في الغرب. وستكون طريقة تكيفها مع الأخلاقيات الغربية والقانون الغربي وتأثيرها عليهما من الجوانب الأكثر إبهارا في المواجهة الثقافية المعاصرة، وهذا هو موضوع الفصل القادم.
الفصل التاسع
البوذية في الغرب
الاحتكاكات الأولى
على الرغم من انتشار البوذية في آسيا، فإنها ظلت مجهولة على نحو شبه تام في الغرب حتى أوقات حديثة. لم تسفر البعثات الأولية التي أرسلها الإمبراطور أشوكا إلى الغرب عن نتائج، ولم يترك الزوار الغربيون الذين جاءوا إلى الهند القديمة سوى آثار ضئيلة في التاريخ.
وقد توغلت الحملة العسكرية للإسكندر الأكبر في آسيا في القرن الرابع قبل الميلاد إلى نهر السند، في باكستان الحالية. وعبر الإسكندر نهر السند في عام 326 قبل الميلاد، لكنه عاد نحو الغرب ومات في بابل بعد ذلك بفترة ليست بطويلة؛ في عام 323 قبل الميلاد. وسرعان ما وجد سلوقس الأول المنصور - خليفة الإسكندر على الجزء الشرقي من إمبراطورية الإسكندر - نفسه في صراع مع السلالة الماورية (321-184ق.م) الموجودة في الهند. وفي النهاية، في عام 303 قبل الميلاد، اتفق الطرفان على معاهدة سلام، وزار سفير إغريقي يحمل اسم ميجاستينيس بلاط تشاندراجوبتا موريا، جد أشوكا، في العاصمة الماورية باتاليبوتا (باتنا حاليا). وبعد هذه الاحتكاكات الأولية، بدأت حكايات عن رجال الهند المقدسين، المعروفين باسم «فلاسفة الهند العراة» في الانتشار في العالم الهيليني. ورغم ذلك، فقد كانت المعلومات المفصلة المتوافرة عن الدين الهندي ضئيلة، وإلى حد كبير كان الحديث يدور عن العجائب المتمثلة في الرجال الذين يسيرون وكل منهم رأسه تحت إحدى ذراعيه؛ ولذلك، ظلت البوذية مجهولة على نحو شبه تام للعالم الكلاسيكي.
وفي القرن الثالث عشر، عبر ماركو بولو آسيا الصغرى متجها إلى الصين، وجعلته هذه الرحلة يتعرف على بوذية الماهايانا. وكتب عن بوذا فقال: «لكن من المؤكد أن بوذا لو كان عمد مسيحيا لأصبح قديسا عظيما إلى جانب الرب يسوع المسيح.» وفي الوقت نفسه تقريبا، أصبحت حكاية «بارلام وجوزيفات» واحدة من أشهر قصص العصور الوسطى، بيد أن قراء العصور الوسطى لم يعرفوا مطلقا أن هذه القصة تقوم على إحدى حيوات بوذا، وألفت في الهند قبل ألف سنة تقريبا. وكلمة جوزيفات هي تحريف لكلمة «بوديساتفا».
ولم تبرز إمكانية وجود تواصل مستمر بين الشرق والغرب إلا مع اكتشاف البرتغاليين لطريق بحري مؤد إلى الهند في عام 1498. ورغم ذلك، لم يكن يولي سكان الإمبراطوريات الآسيوية المزدهرة اهتماما كبيرا بالأوروبيين أو بهذه القارة البعيدة قليلة السكان التي جاءوا منها؛ فالزوار الأوائل من هؤلاء الأوروبيين الذين جاءوا إلى آسيا كانوا يحرصون على العثور على الذهب أو تحويل السكان إلى المسيحية أكثر من حرصهم على دراسة الأديان «الوثنية». وعلى الرغم من أن اليسوعيين الذين احتكوا بالبوذية في الصين واليابان منذ القرن السادس عشر افتتنوا بها، فلم يحدث اهتمام جاد بالبوذية، ولم تتوافر المعلومات التفصيلية المتعلقة بتعاليمها إلا في منتصف القرن التاسع عشر.
وجاءت معرفة البوذية عبر ثلاث قنوات أساسية، هي: جهود الأكاديميين الغربيين، وأعمال الفلاسفة والمفكرين والكتاب والفنانين، ووصول المهاجرين الآسيويين الذين حملوا معهم أنواعا مختلفة من البوذية عند قدومهم إلى أمريكا وأوروبا.
الدراسة الأكاديمية
كان إيبوليتو ديزيدري (1684-1733) المبشر اليسوعي الإيطالي الذي سافر إلى لاسا عام 1716 من أوائل الأوروبيين الذين درسوا النصوص البوذية. درس النصوص التبتية في جامعة سيرا الرهبانية وناقش العقيدة البوذية والمسيحية مع باحثي التبت. وظهر مزيد من الاهتمام الأكاديمي بالبوذية خلال الفترة الاستعمارية؛ حيث بعث مسئولون أوروبيون - كثير منهم كانوا باحثين هواة أكفاء - إلى مناطق مختلفة في آسيا؛ فعدد كبير من مخطوطات الماهايانا المكتوبة باللغة السنسكريتية جمعه في نيبال المندوب السامي البريطاني بي إتش هودجسون. ومن الموظفين الحكوميين البريطانيين الذين قدموا إسهاما رائعا في دراسة بوذية التيرافادا تي دبليو ريس (1843-1922). أصبح ريس دافيدس مهتما بالبوذية أثناء إقامته في سريلانكا، ووصل إلى درجة تأسيس جمعية النصوص البالية في عام 1881. وما زالت هذه الجمعية إلى يومنا هذا أهم منافذ طباعة نصوص وترجمات التراث البوذي المكتوب باللغة البالية.
لعب أكاديميون محترفون من بلدان عديدة دورا مهما في نقل البوذية إلى الغرب؛ ففي عام 1844، نشر الفرنسي يوجين بيرنوف كتاب «مقدمة لتاريخ البوذية الهندية»، وأتبعه بعد سبع سنين بترجمة «سوترا اللوتس». وحفز الاهتمام بالبوذية في ألمانيا كتاب هيرمان أولدنبيرج الذي حمل عنوان «بوذا: حياته ومعتقده ومجتمعه» والذي نشر في عام 1881. وقرب نهاية القرن، نشر الأمريكي هنري كلارك وارين كتاب «البوذية مترجمة» (1896)، وهو عبارة عن مجموعة مقتطفات لنصوص من قانون بالي، وما زال هذا الكتاب يحظى بالشعبية حتى يومنا الحاضر. وفي نفس التوقيت تقريبا، انعقد البرلمان الأول لأديان العالم في شيكاجو في عام 1893، وهو حدث مصمم لتجميع ممثلي أديان العالم المختلفة لاستكشاف الأرضية المشتركة بينها. وكان من بين الممثلين البوذيين أناجاريكا دارمابالا (1864-1933) وهو سريلانكي ترك انطباعا كبيرا في أحاديثه واجتماعاته العامة. وقام بزيارتين أخريين في السنوات العشر التالية، وأسس فرعا أمريكيا لجمعية ماها بودي الحديثة التأسيس، وكانت تلك أول جمعية بوذية دولية، وكان مقرها كلكتا. وكان الفرع الأمريكي لهذه الجمعية أول منظمة بوذية في الغرب. وبعد فترة قصيرة من بداية القرن الجديد اتسع نطاق الاهتمام بالبوذية، منطلقا من بوذية الجنوب الآسيوي لتشمل دراسته بوذية الماهايانا من خلال المصادر التبتية والصينية. وقدم الباحثان البلجيكيان العظيمان لويس دي لا فاليه بوسان و(لاحقا) إتيان لاموت إسهاما هائلا في هذا المجال. ولا بد أيضا من ذكر دي تي سوزوكي (1870-1966) البوذي الياباني الذي عزز الوعي ببوذية الزن من خلال محاضراته وكتبه المؤثرة.
الفلسفة والثقافة والفنون
القناة الثانية التي وجدت من خلالها البوذية سبيلها إلى الثقافة الغربية كانت من خلال الفلسفة والثقافة والفنون. وكان الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور (1788-1860) أول مفكر غربي كبير يهتم بالبوذية. ونظرا لعدم وجود مصادر موثوقة، لم يكن لدى شوبنهاور سوى معرفة معيبة عن البوذية، ورأى أنها تتفق مع فلسفته المتشائمة نسبيا. ومن بين كل أديان العالم بدت البوذية بالنسبة إليه الدين الأكثر عقلانية وتطورا من الناحية الأخلاقية، وأدت الإشارات المتكررة إلى البوذية في كتاباته إلى إثارة اهتمام المفكرين الغربيين بالبوذية في الجزء الأخير من القرن التاسع عشر.
وفي إنجلترا نشر السير إدوين أرنولد (1832-1904) قصيدته المشهورة «ضوء آسيا» في عام 1879. ووصفت القصيدة حياة بوذا وتعاليمه بطريقة ميلودرامية جعلتها تلقى رواجا كبيرا بين جماهير الطبقة الوسطى في العصر الفيكتوري في البلدان الواقعة على جانبي الأطلنطي. وكان أرنولد مسيحيا يرى الكثير من الأمور المشتركة بين تعاليم المسيح وتعاليم بوذا. وقد زار المكان الذي حظي فيه بوذا بالتنوير في بودا جايا في عام 1885، ونظم حملة لجمع تبرعات من أجل ترميم الموقع بسبب حالته المزرية. وفي أثناء ذلك كان اهتمام الفيكتوريين بالخوارق قد بلغ ذروته. وفي عام 1875، أسس الكولونيل هنري أولكوت (1832-1907) ومدام بلافاتسكي (1831-1891) الجمعية الثيوصوفية التي كانت مخصصة لكشف الحقيقة الباطنية التي يعتقد أنها تكمن في صميم كل الأديان. وأصبح الاهتمام مسلطا في الأساس على أديان الشرق، وأصبحت البوذية على وجه الخصوص موضوعا رائجا يحظى بالدراسة والمناقشة في الصالونات وقاعات الاستقبال.
شكل 9-1: الدالاي لاما الرابع عشر، صاحب القداسة تينزين جياتسو.
وكان الروائي الألماني هيرمان هيسه يشير في أغلب الأحيان إلى موضوعات بوذية في كتاباته، ولا سيما في روايته «سيدهارتا» التي نشرت عام 1922، والتي ترجمت إلى لغات كثيرة. وفي السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، حظيت رواية «متشردو الدارما» ورواية «على الطريق» للكاتب جاك كيرواك برواج بين جيل «بيت» (مجموعة من الكتاب، والجيل الذي تأثر بكتاباتهم في الولايات المتحدة الأمريكية ظهر في عقد خمسينيات القرن العشرين بعد الحرب العالمية الثانية)، وكانت مصدر إلهام للثقافات المضادة على مدار العقود اللاحقة. وكتب المفكر والفيلسوف الانتقائي آلان واتس عددا من الكتب عن الزن جذبت الكثير من القراء، لكن لعل كتاب «الزن وفن صيانة الدراجات البخارية» (1974) للكاتب روبرت إم بيرسيج - رغم اهتمامه بالفلسفة الغربية أكثر من اهتمامه بالزن - هو الكتاب الذي ضمن، أكثر من أي عمل آخر، أن تعرف هذه المدرسة من البوذية على نطاق واسع في الغرب ولو بالاسم على أقل تقدير. ولعبت السينما أيضا دورا في بث الأفكار البوذية في الثقافة الغربية. وتحولت رواية «سيدهارتا» للكاتب هيسه إلى فيلم حقق رواجا كبيرا في الأوساط الجامعية في سبعينيات القرن العشرين. وفي وقت لاحق، أوضحت حبكة فيلم «بوذا الصغير» للمخرج بيرتولوتشي، الذي صور جزء منه في الهند وجزء آخر في أمريكا، إلى أي مدى كانت البوذية تسير باتجاه أن تصبح جزءا من الثقافة الغربية. وتمزج حبكة الفيلم قصة حياة بوذا مع رحلة بحث لاما تبتي ولد من جديد في سياتل لأبوين أمريكيين. ومن ضمن الإسهامات الأخرى الأكثر حداثة فيلم «كوندون» (1997) للمخرج مارتن سكورسيزي وفيلم «سبع سنوات في التبت» (1997) للمخرج جون جاك أنو.
هجرة البوذيين
أما القناة الثالثة التي من خلالها قدمت البوذية إلى الغرب فكانت الهجرة. وأثرت هذه الظاهرة على الولايات المتحدة وأوروبا بطرق مختلفة. توجهت الغالبية العظمى من المهاجرين البوذيين إلى الولايات المتحدة، وبدأت تلك الهجرة مبكرا في ستينيات القرن التاسع عشر مع قدوم العمالة الصينية للعمل في السكك الحديدية وفي مناجم الذهب. استقر المهاجرون القادمون من كل من الصين واليابان في هاواي قبل ضمها رسميا إلى الولايات المتحدة في عام 1898. وشهدت العقود الحديثة تدفقا للمهاجرين القادمين من شبه الجزيرة الصينية الهندية في أعقاب حرب فيتنام، وربما استقر نصف مليون بوذي من جنوب شرق آسيا في الولايات المتحدة الأمريكية. وكانت مجتمعات المهاجرين تميل إلى تأسيس معابد محلية خاصة بهم باعتبارها وسيلة لحفظ هويتهم الثقافية المميزة وليس لأغراض نشر الدين. فقط بعد قدوم الجيل الأول أو الجيل الثاني من هؤلاء المهاجرين ظهر نوع من التفاعل مع المجتمع المضيف؛ حيث أصبح الأفراد المنتمون إلى خلفيات ثقافية مختلفة يتقابلون باعتبارهم «بوذيين» وليس باعتبارهم أعضاء لمجموعة عرقية معينة.
وعلى الرغم من أن المملكة المتحدة استقبلت أعدادا كبيرة من المهاجرين الآسيويين، فإن هؤلاء المهاجرين أتوا في الغالب من شبه القارة الهندية، وأغلبهم إما هندوس أو مسلمون. ويوجد نحو 19 ألف لاجئ من الهند الصينية في بريطانيا، و22 ألف لاجئ في ألمانيا، و97 ألف لاجئ في فرنسا. وأغلبية البوذيين في أوروبا قوقازيون تحولوا إلى البوذية وليسوا مهاجرين حملوا معهم معتقداتهم. وعلى الرغم من صعوبة معرفة الأعداد الحقيقة للبوذيين في المملكة المتحدة، فإنه يوجد نحو مائة مركز تبتي، ونحو تسعين مركزا للتيرافادا، ونحو أربعين مركزا للزن، بالإضافة إلى ما يقرب من مائة جماعة بوذية إضافية من ضمنها أصدقاء الجمعية البوذية الغربية. ومعتنقو البوذية في كل من أوروبا والولايات المتحدة يكونون في الغالب من الطبقات الوسطى البيضاء.
وعلى الرغم من أن كل الأنواع الرئيسية للبوذية ممثلة في الغرب حاليا، فإنه من الصعب الحصول على إحصائيات تبين معدل نمو البوذية في الغرب، فضلا عن الاختلاف الكبير في الأرقام المقتبسة. وفي دراسة رائدة تحمل عنوان «البوذية الأمريكية» قدر تشارلز بربيش عدد البوذيين في الولايات المتحدة في عام 1979 بمائة ألف، وبعد أقل من عشر سنوات تالية، في عام 1987، صرح الكونجرس البوذي الأمريكي، وهو هيئة تأسست في العام نفسه على يد خمسة وأربعين جماعة بوذية مندمجة، أن عدد البوذيين يتراوح بين ثلاثة ملايين وخمسة ملايين. ولم يجر أي إحصاء لأعداد المجموعات والمنظمات البوذية في الولايات المتحدة حتى الآن، لكن بربيش يقدر أنه يوجد حاليا نحو ألف مجموعة من هذه المجموعات. ويمكن مشاهدة زيادة شعبية البوذية في أماكن أخرى أيضا في الغرب، على الرغم من أن نموها في أوروبا أقل لفتا للانتباه منه في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث يوجد ما يزيد على مليون بوذي في أوروبا.
المذاهب البوذية في الغرب
حتى وقتنا الحاضر قدمت البوذية للغرب في صور شتى، وكان الزن أول نوع من أنواع البوذية يلقى رواجا لدى قطاع عريض من الجماهير، وقد أصبح الزن رائجا في أمريكا في أعقاب الحرب العالمية الثانية. واحتك كثير من الأمريكيين بالثقافة اليابانية أثناء وجودهم في اليابان خلال أداء الخدمة العسكرية. ولاقى الزن استحسانا قويا في أمريكا؛ نظرا لأن تأكيده على العفوية والبساطة والتجربة الشخصية المباشرة انسجم مع التوجهات الثقافية التي سادت أمريكا في أعقاب الحرب العالمية الثانية. كما راقت أيضا روح مناهضة القيم المجتمعية ومناهضة السلطوية اللتين تميزان بوذية الزن لجيل «بيت» في خمسينيات القرن العشرين، وكذلك للحركة «الهيبية» في ستينيات القرن العشرين. وفي أغلب الأحيان كان هؤلاء يتعاطون عقار إل سي دي (ثنائي إيثيل أميد حمض الليسرجيك) وغيره من عقاقير الهلوسة في سياق سعي روحاني الدافع يتطلع إلى تجربة «توسيع أفق العقل» التي اعتقدوا أنها تمثل التنوير.
أما المذاهب اليابانية الأخرى، خلافا للزن، فتحظى أيضا بتمثيل جيد في الغرب. وكان أقدم هذه المذاهب وأكثرها رواجا مذهب جودو شنشو (مذهب الأرض النقية الحقيقية) الذي تأسس في هونولولو عام 1899. وكثير من المهاجرين اليابانيين الأوائل الذين قدموا إلى الولايات المتحدة كانوا أتباعا لهذا المذهب، وعلى مدار عقود عديدة مثل أعضاؤها الغالبية العظمى من البوذيين الأمريكيين ذوي الأصول اليابانية. وفي وقت لاحق أصبحت جمعية سوكا جاكاي الدولية واحدة من أسرع الجماعات البوذية نموا في أمريكا وأوروبا. وفي الأصل كانت سوكا جاكاي («منظمة خلق القيم») الجناح العلماني لمذهب نيتشيرين شوشو، لكنها انفصلت عنها في أوائل تسعينيات القرن العشرين. وتسعى سوكا جاكاي الدولية سعيا حثيثا إلى إقناع الناس باعتناق مذهبها، وحققت معدل نمو مشابها لما حققته المسيحية الإنجيلية التي تشبهها إلى حد ما في معتقد «البشارة» الإيجابي والمتفائل. إن تعاليم المذهب التي تقول إن الأفراد يستطيعون تحقيق كل أهدافهم من خلال الترديد المتكرر لتعويذة «نامو ميوهو رينجي كيو»، وتعني «المجد لسوترا اللوتس التابعة للدارما الحقيقية»، بالإضافة إلى التوجه الذهني الإيجابي للمذهب؛ قد أثبتا رواجهما لدى الأشخاص الذين ينجذبون لنوع من البوذية أكثر تفاؤلا و«ميلا للدنيوية». ومطربة الروك تينا تيرنر هي عضوة في هذه الطائفة.
وتقدم البوذية التبتية تناقضا صارخا مع أناقة وبساطة بوذية الزن. تولد الطقوس والرموز والمراسم في بوذية التبت إحساسا قويا لما أطلق عليه رودولف أوتو «الروحانية» أو إدراكا لفكرة أن الخوارق غامضة وعجيبة. وتستحضر الطقوس التبتية حالة الروحانية من خلال استخدام الإنشاد و«الماندالات» و«المانترات» والرموز الصوفية وأدوات الطقوس والشموع والبخور والأصوات المؤثرة مثل ارتطام الصنج (آلة موسيقية). وتتجلى التعاليم تدريجيا من خلال سلسلة الانتساب الهرمي. ولطالما اعتبر التبت في المخيلة الغربية مركز الصوفية الشرقية، كما أن فرصة مقابلة معلمين أصليين من «أرض الثلوج» والمشاركة في طقوس ثقافة قديمة تعد أمرا جذابا للأشخاص الذين يجدون أن الحضارة الغربية تتجرد من المحتوى الروحاني على نحو متزايد.
أدى غزو التبت في عام 1950 إلى شتات سكان التبت وفيهم الكثير من اللامات رفيعي المستوى الذين أعيد توطينهم فيما بعد على يد الجماعات البوذية في الغرب الذي تحظى فيه كل المذاهب البوذية الكبرى بالتمثيل في الوقت الحاضر. وبدأ المعلمون التبتيون أصحاب الكاريزما أمثال تشوجيام ترونجبا (1939-1987) حوارا مع علم النفس الغربي فيما يتعلق بالبعد الروحاني للنفس البشرية. إن إمكانية التعاون بين البوذية وعلم النفس الإنساني هائلة، وقد تكون هذه إحدى القنوات الكبرى التي من خلالها ستصبح البوذية عرفا سائدا في الثقافة الغربية. وقد أسس ترونجبا مراكز مثل ذلك المركز الموجود في بولدر في كولورادو، وتولى ذلك المركز مسئولية معهد آخر تابع له موجود في سامي لينج في اسكتلندا أسسه أناندا بودي.
وقد جعل الإعلام الغربي أيضا التبت متصدرا للعناوين الرئيسية من خلال تغطيته للموضوعات السياسية وتلك المتعلقة بحقوق الإنسان، وشارك كثير من الغربيين في مسيرات ومظاهرات مناهضة للاحتلال الصيني. علاوة على ذلك، فإن الدعم المقدم من المشاهير أمثال ريتشارد جير وهاريسون فورد، فضلا عن الظهور المتكرر لقداسة الدالاي لاما، والتحقيقات التي قامت بها الجهات الحكومية والهيئات الحقوقية الدولية؛ كلها أدت إلى زيادة شعبية التبت في الغرب.
وتحظى أنواع البوذية الصينية على وجه الخصوص بتمثيل جيد في الولايات المتحدة، ويرجع هذا بشكل كبير إلى قدوم المهاجرين كما أشرنا في السابق؛ ففي عام 1962، جاء المعلم هسوان هوا من هونج كونج، وبعد ذلك بفترة قصيرة أسس الجمعية البوذية الأمريكية الصينية في سان فرانسيسكو في عام 1968. ولم يمر وقت طويل حتى أصبحت الغالبية العظمى من الأعضاء مكونة من الأمريكيين القوقازيين، وانتقلت المنظمة إلى مقر أكبر في «مدينة العشرة آلاف بوذا» في شمال كاليفورنيا؛ حيث أسست مدرسة وجامعة بالإضافة إلى معاهد للتدريب على الرهبنة. يحظى معبد هسي لاي الموجود في لوس أنجلوس، التابع لإحدى المنظمات البوذية التي تتخذ من تايوان مقرا لها، بشرف كونه أكبر معبد بوذي في نصف الكرة الأرضية الغربي.
تأسس أول معهد للتيرافادا في الولايات المتحدة في واشنطن العاصمة في عام 1966، ويوجد الآن ما يزيد على عشرين ديرا يسكنها رهبان من سريلانكا وبورما وتايلاند وكمبوديا وأمريكا. وعلى الرغم من وجود بوذية التيرافادا في إنجلترا لما يقرب من مائة عام حتى الآن، فإن أسلوبها المتحفظ وتفضيلها للسلوكيات البسيطة بديلا عن القيادة الملهمة جعل شعبيتها منخفضة. كانت التيرافادا أول أشكال البوذية ظهورا في الغرب، ونظرا لأن الأيام دول بطبيعة الحال، فإن التيرافادا تشهد حاليا نوعا من النهضة؛ فلقد زاد الاهتمام باللغة البالية؛ لغة النصوص المقدسة للتيرافادا، في السنوات الأخيرة، وأدى توافر النسخ الإلكترونية من قانون بالي إلى تحفيز روح البحث لدى الناس. وانتشرت أيضا مراكز جديدة وحيوية للتيرافادا مثل مركز أمارافاتي البوذي الموجود بالقرب من هيميل هيمبستيد في إنجلترا. وقد تأسس هذا المركز عام 1985 تحت قيادة الراهب الأمريكي أجان سوميدو تلميذ الراهب التايلاندي أجان تشاه.
رواج البوذية
لماذا أصبحت البوذية بهذا القدر من الرواج في الغرب؟ الأسباب معقدة ومرتبطة بالتاريخ الثقافي بالغرب قدر ارتباطها بمزايا البوذية. وقد راجت «قراءات» غربية مختلفة للبوذية من وقت لآخر ، لكن هذا يخبرنا في أغلب الأحيان عن الصيحات المتغيرة في الغرب أكثر مما يخبرنا عن البوذية نفسها. ومن أكثر التفسيرات الغربية للبوذية رواجا تقديمها باعتبارها فلسفة عقلانية، كما أن التطورات في الغرب خلقت مناخا يصب في صالح البوذية عند رؤيتها من هذا المنظور. علاوة على ذلك، فإن المؤثرات الثقافية السائدة في الغرب منذ عصر التنوير في القرن الثامن عشر تتمثل في العلم والليبرالية العلمانية. وتبدو البوذية «بوصفها» فلسفة عقلانية متوافقة مع كل من العلم والليبرالية العلمانية، على الأقل بدرجة أعلى من الدين الغربي التقليدي؛ فالاكتشافات العلمية ونظريات مثل نظرية التطور مثلتا تحديا أمام كثير من التعاليم المسيحية التقليدية. كما أن المعركة البائسة الطويلة الأمد التي يخوضها الدين السائد في الغرب في مواجهة «الحقائق» التي انكشفت؛ جعلته يبدو متصلب الرأي وغير عقلاني ورجعي النظرة. بالإضافة إلى ذلك، فإن غياب مفهوم الإله المجسد في صورة بشرية في البوذية يعد سمة أخرى تجعل البوذية أكثر قبولا لدى العقل الحديث.
على النقيض من ذلك، يبدو أن بعض المفاهيم البوذية القليلة تتعارض تعارضا مباشرا مع العلم، وقد قدم المناصرون لفكرة عقلانية البوذية تفسيرات رمزية لهذه المفاهيم المتعارضة مع العلم. ويعد المنظور البوذي للكون أقل محدودية من نظرة المسيحية التقليدية له، بل يبدو أنه يتنبأ بمكتشفات علم الكونيات الحديث بدلا من التناقض معها. بالإضافة إلى ذلك فإن الاكتشافات الحديثة في مجال فيزياء الكم تشير إلى أن العلم يسير ببطء في اتجاه رؤية للواقع لا تختلف عن تلك الموصوفة في الفلسفة البوذية. وقد كشفت كتب مثل كتاب فريتجوف كابرا «طاو الفيزياء» (1976) أوجه تشابه مثيرة بين العوالم المتصورة في الفيزياء النظرية والفكر الشرقي.
حتى معتقد الإيمان بتناسخ الأرواح - الذي ربما يعد المفهوم البوذي الأصعب على الغرب قبوله - قد تلقى دعما تجريبيا في دراسات شبيهة بتلك التي أجراها الطبيب النفسي الأمريكي إيان ستيفنسون، ولا سيما في كتابه «عشرون حالة تشير إلى تناسخ الأرواح» (1974). الإيمان بتناسخ الأرواح منتشر في كثير من الثقافات، وفي غرب ما بعد المسيحية ستصبح هذه الفكرة مرة أخرى جزءا من الثقافة الشعبية. وقد شهد كثير من الناس استرجاع حياتهم السابقة تحت تأثير التنويم المغناطيسي، وزعموا تذكر تجارب من حيواتهم السابقة. وأيا كانت حقيقة الأمر، فإن فكرة تناسخ الأرواح مثيرة وتضيف زاوية جديدة مثيرة للحياة البشرية تلقى استحسان كثير من الناس.
من نتائج تناسخ الأرواح إمكانية انتقال روح الأفراد عبر أجناس مختلفة، كما هي الحال عندما يولد البشري في صورة حيوان أو العكس. وهذا يقدم منظورا جديدا للعلاقة بين الإنسان وبقية الخلق، وهذا المنظور متوافق إلى حد كبير مع علم البيئة المعاصر. ووفقا للمنظور المسيحي التقليدي فإن الإنسان هو راعي العالم الطبيعي أو الأمين عليه، مسئول أمام الرب عن أداء واجبه، لكنه حر في غير ذلك في بسط سيطرته على النظام الطبيعي. ويرى كثير من علماء البيئة أن هذا المعتقد شجع على الإفراط في استغلال الطبيعة وعزز توجه اللامبالاة بسلامة الأنواع الأخرى. إن التعليم المسيحي القائل بأن الإنسان فقط هو صاحب الروح الخالدة، وبأنه لا مكان في الجنة للحيوانات؛ يبدو «تعصبا نوعيا» وانحرافا عن التوجه الشمولي للفكر المعاصر إلى حد كبير. وعلى النقيض من المسيحية، لا ترسم البوذية حدودا ثابتة بين أشكال الحياة المختلفة. وعلى الرغم من أنها تعترف بأن الحياة البشرية لديها قيمة خاصة، فإنها تقر بأن كل الكائنات الحية تستحق الاحترام في حد ذاتها، وليس فقط من منطلق الفائدة التي تمثلها للبشر.
وتبدو البوذية متوافقة أيضا مع الأيديولوجية الغربية المعاصرة السائدة الأخرى المتمثلة في الليبرالية العلمانية. إن البوذية لا تعرف التعصب، حتى إنها تعلم أتباعها عدم التسليم بتعاليمها دون انتقاد، بل يجب أن يختبروها دائما في ضوء تجاربهم الخاصة. وعلى الرغم من أن البوذية تطلب من أتباعها الوثوق في تعاليم أساسية معينة في المراحل الأولية، وتبني توجه يتسم بالإيجابية والانفتاح العقلي، فإنها تهتم بتطوير الفهم أكثر من اهتمامها بقبول الصيغ العقائدية. علاوة على ذلك، ونظرا لأن البوذية لا تشترط سوى عدد قليل من المتطلبات فيما يتعلق بالاعتراف بالذنب والطقوس وغير ذلك، فقد سهل هذا الأمر على أتباعها العيش بسهولة باعتبارهم بوذيين في مجتمع تعددي، وقلل احتمالية حدوث تعارض صريح مع القيم العلمانية. وربما أسهمت هذه السمة من سمات البوذية في انتشارها في الولايات المتحدة الأمريكية التي تنفصل فيها الكنيسة عن الدولة بموجب الدستور.
وتعتبر البوذية أيضا ليبرالية وتقدمية في مجال الأخلاقيات؛ فتعاليمها الأخلاقية لا يعبر عنها في صورة وصايا تتخذ صيغة الأمر «يجب ألا تفعل كذا!» لكنها تقدم باعتبارها مبادئ عقلانية إذا اتبعها المرء فسوف تؤدي إلى الخير والسعادة له ولغيره. ويقف التسامح البوذي مع وجهات النظر المختلفة على طرف النقيض من بعض الفترات الأكثر ظلامية في تاريخ الدين الغربي الذي كان يستخدم الاضطهاد والتعذيب للقضاء على الهرطقة. وفي أغلب الأحيان يرى الغربيون المعارضون للتوجه الأخلاقي المتعصب للدين السائد في الغرب أن البوذية بديل ملائم يمكن تحقيق أهدافهم الدينية من خلاله. كما يحظى التأمل أيضا باستحسان هائل، ويقدم أساليب عملية للتعامل مع الضغط وغيره من المشكلات النفسية الجسدية.
الحداثة البوذية
إن فكرة إمكانية تقديم البوذية باعتبارها متوافقة مع الأيديولوجيات المؤثرة المعاصرة قد ساعدت بلا شك على انتشارها في الغرب. ورغم ذلك، فإن هذه القراءة للبوذية التي سميت اصطلاحا باسم «الحداثة البوذية» تقمع سمات معينة للديانة ظلت حاضرة فيها منذ بداياتها، لكنها أقل توافقا مع التوجهات الغربية المعاصرة. إن الإيمان بالمعجزات وبقدرات «المانترات» والتعاويذ والأسحار يعد أحد أمثلة هذه السمات. وحتى وقتنا المعاصر، ما زالت الحكومة التبتية في منفاها تستشير عراف الدولة طلبا لنصحه حول الأمور المهمة. ويعد الإيمان بوجود عوالم أخرى غير أرضية يسكنها الآلهة والأرواح، والإيمان بقوة الكارما الخفية، من المبادئ الأخرى المحورية في التعاليم البوذية الموجودة منذ بداياتها المبكرة.
إن النظرة البوذية التقليدية لمكانة المرأة تمثل إشكالية أيضا. وكثير من المدافعين عن حقوق النساء يرون أن الدين كله أبوي في الأساس وقمعي، لكن عندما يتعلق الأمر بالبوذية يصبح الوضع أكثر تعقيدا؛ فالبوذية وليدة مجتمع آسيوي تقليدي كان ينظر فيه إلى النساء باعتبارهن خاضعات للرجال. وبسبب هذه الارتباطات الثقافية في الأساس يمكن وصف البوذية على نحو منصف بأنها «ذكورية التوجه»، ويوجد بالتأكيد ميل في مصادر كثيرة إلى اعتبار أن الميلاد مرة أخرى في صورة أنثى يعد سوء حظ إلى حد ما. وقد لا يكون ذلك نتيجة للتمييز الصريح ضد المرأة بقدر ما هو انعكاس لحقيقة وضع النساء في بعض الثقافات الآسيوية الذي كن - وما زلن - لا يحسدن عليه. ورغم ذلك، قد يكون من الخطأ تعميم ذلك على الثقافة الآسيوية في هذا الأمر؛ فمقارنة بوضع أوروبا في فترة ما قبل الحداثة، كان وضع النساء أفضل بكثير فيما يتعلق بالناحية التشريعية ونواح أخرى في بلدان مثل بورما مقارنة بالغرب. علاوة على ذلك، لا تؤمن البوذية بوجود أي عقبات - سوى الطبيعة الاجتماعية - للنساء تحول دون تحقيقهن للتقدم الروحاني. وبالفعل كانت البوذية أولى الديانات التي تؤسس جماعة دينية للراهبات، على الرغم من أن بوذا كان مترددا في السماح بذلك؛ ربما لأنه شعر أن ذلك المجتمع لم يكن جاهزا بعد لمثل هذا التطور المجدد.
ومن منظور فلسفي، كثير من النصوص البوذية المؤثرة ترى أن النوع، مثل بقية السمات الطبيعية الأخرى، يفتقر إلى واقعية أصيلة. وهذا يستأصل أساس التمييز ضد النساء فيما يتعلق بالفلسفة البوذية. لكن على الرغم من قبول البوذية المساواة بين الجنسين على المستوى الفلسفي، فقد تحتاج إلى تعديل بعض طقوسها وعاداتها التقليدية لتلائم الاختلاط الحر بين الجنسين المعتاد في الغرب. وتوجد منظمة تعرف باسم «ساكياديتا» («بنات بوذا»)، وهي مؤسسة دولية للنساء البوذيات، تهدف إلى توحيد النساء البوذيات المنحدرات من بلدان وتقاليد مختلفة.
العرق والطبقة
كان تشارلز بربيش أول من اقترح تصنيف جماعات البوذية الغربية عندما صاغ مصطلح «بوذيتين» في عام 1979. وأقر هذا التصنيف بأنه في ذلك الوقت كان البوذيون في الغرب يتألفون من مجموعتين رئيسيتين، ألا وهما: «بوذيون عرقيون» وهم من أصل آسيوي، وبوذيون أوروبيون بيض اعتنقوا البوذية. وتضمنت التصنيفات التالية للبوذية ما يلي: البوذية التقليدية، والبوذية الحداثية، والبوذية العالمية (حسب تصنيف بومان)، وبوذية النخبة، وبوذية الإنجيليين، والبوذية العرقية (حسب تصنيف ناتييه ). ورغم ذلك، فإن السؤال حول أفضل طريقة لوضع الحركات البوذية في سياق يراعي فعليا التنوع، والتطورات داخل جماعات «السانجا» عبر العصور، وكذلك عمليات التهميش؛ ما زال مطروحا.
معظم معتنقي البوذية في الغرب يكونون من الطبقة الوسطى فضلا عن كونهم بيضا ويشكلون أغلبية عرقية. إن تناول قضايا التنوع العرقي داخل الحركات البوذية الغربية ما زال إلى حد كبير في مراحله الأولية، ويكون في الغالب في صورة مبادرات وقتية تهتم في أغلب الأحيان برفع الوعي ودعم الحوار. ومن أوائل الأمثلة كان ذلك العدد الخاص من المجلة البوذية الأمريكية «ترايسيكل» الذي تناول «الدارما والتنوع والعرق» في عام 1994. وأصدرت أيضا مجلة زمالة السلام البوذية الأمريكية التي تحمل اسم «تيرنينج وييل» (تدوير العجلة) عددا خاصا حول هذا الموضوع في عام 1999، ومنذ ذلك الحين وهي تصدر أعدادا خاصة عن البوذيين من أصل أفريقي، والبوذيين من أصل آسيوي، والبوذية في أمريكا اللاتينية، وأصدرت عددا عن تكوين تحالفات بين البيض والملونين لمكافحة العنصرية.
من المؤثرات الأساسية على تطور البوذية في الغرب أفكار الفردية والاستقلالية والاعتماد على الذات. هذه الأفكار ما زالت تؤثر تأثيرا قويا على طريقة تناول الغربيين للبوذية. وهذا الأسلوب يتعارض مع الطريقة التي يرى بها أفراد مجتمعات الملونين أنفسهم. إن ظروف التمييز والظلم قد تقود الأشخاص الملونين إلى تكوين شبكات تضامن لمواجهة ظروفهم الاجتماعية؛ وبذلك يقل ارتباطهم بفكرة «الفردية» الغربية.
إن نشأة «البوذية المعنية بقضايا المجتمع» قدمت فرصا جديدة لمواجهة مشكلات الإثنية و«العرق»، على الرغم من أنه باستثناء جهود سوكا جاكاي الدولية، فإن العرق والمشكلات الثقافية لم يلعبا دورا كبيرا لدى البوذية المعنية بقضايا المجتمع في الغرب. على النقيض من ذلك، فإن الكنائس المسيحية تمتلك عقودا من الخبرة في مواجهة قضايا الظلم والتمييز العرقي؛ مما أسفر عن مجموعة كبيرة من الأعمال والتأملات الدينية. ومرة أخرى، فإن كثيرا من الموضوعات التي تبنتها البوذية المعنية بالقضايا الاجتماعية مثل حقوق الإنسان، والبيئة، والسلام، اختلفت عن الموضوعات التي تبنتها بوذية جماعات الملونين الذين تناولوا العدالة الجنائية، وسلامة المجتمع، والتعليم ، والحصول على رعاية صحية ذات جودة عالية، والتوظيف. علاوة على ذلك، كثير من حركات اعتناق البوذية تقدم تعاليمها بطريقة تسلم بوجود معرفة وتقدير كبيرين للثقافة الغربية الرفيعة لدى متلقيها. وأدى هذا إلى رواج هذه الحركات على نحو أساسي لدى الأشخاص ذوي المستوى التعليمي فوق المتوسط. وبالنسبة إلى معظم الجماعات البوذية الغربية، فإن قابلية تطبيق تعاليمها على قضايا التمكين الاجتماعي، والتمييز المجتمعي، والاختلافات الثقافية، ما زالت غير مستكشفة إلى حد كبير.
تنوير بوذي؟
ما زالت هناك جوانب أخرى للصراع المحتمل بين البوذية والفكر الغربي، وكثير من الاختلافات أخفاها مفسرو المنهج الحداثي بدلا من مواجهتها على نحو مباشر. أما ما يبدو أننا في حاجة إليه فهو «تنوير بوذي»، أي تحديث منهجي للأسس الفكرية للدين على نحو يسمح بظهور مجموعة تعاليم واضحة ومتسقة متعلقة بقضايا عصرية. وفي العقد الأخير بدأت حركة تضم نطاقا عريضا من الأتباع وتدعى «البوذية المتفاعلة اجتماعيا» محاولة مواجهة مسائل ذات طبيعة اجتماعية وسياسية وأخلاقية. تبحث هذه الحركة القائمة على تعاليم الراهب الفيتنامي تيك نات هان عن طرق لتطبيق التعاليم القديمة على تحديات الحياة المعاصرة. وهذه ليست بالمهمة السهلة؛ فإلى حد كبير تعد البوذية ظاهرة سابقة للحداثة وخبرتها قليلة في المشكلات التي تثيرها الحياة في الغرب. وقد ظل أحد مراكز الثقافة البوذية المهمة - التبت - دولة دينية ثيوقراطية تحكمها روح العصور الوسطى حتى منتصف القرن الماضي؛ إذ كانت منعزلة تقريبا عن العالم الخارجي. أما البوذية في بقية أنحاء آسيا فقد صممت إلى حد كبير بحيث تناسب احتياجات المجتمعات الزراعية التي يعيش فيها الفلاحون وتحيا فيها القرية والدير في تكافل. والمشكلات التي تظهر في هذه المجتمعات لا تشبه تلك التي يواجهها سكان المجتمعات الحضرية في الغرب الذي لا يوجد فيه إجماع حول المسائل الدينية والأخلاقية، ويتصرف فيه الأفراد باعتبارهم وحدة مستقلة لا في إطار شبكة علاقات قرابة أو نسب. إن نجاح البوذية في القدرة على إعادة تشكيل نفسها من أجل الغرب سوف يحدد مدى انتشارها باعتبارها قوة دينية سائدة في المجتمع الغربي .
بوذية جديدة للغرب؟ «لماذا لا تتكون في نهاية المطاف بوذية غربية أو نافايانا أو «مركبة جديدة» ... لا تتكون بهذه الصورة على نحو متعمد، بل تنمو نموا طبيعيا من الجذور نفسها التي نمت منها كل أشكال البوذية الأخرى، ألا وهي سجل تنوير بوذا؟ لا يوجد سبب يحول دون تطورها جنبا إلى جنب مع أفضل ما أنتجه الغرب من علوم طبيعية وعلوم نفسية واجتماعية، بل وحتى الامتزاج بها؛ ومن ثم التأثير على مجال الفكر الغربي المتغير باستمرار. ولن تكون هذه البوذية هي التيرافادا أو الزن ... فما ستكون عليه هذه البوذية بالضبط هو أمر لا نعرفه، ولا يهمنا في الوقت الحاضر. إن الداما في حد ذاتها خالدة، لكن أشكالها يجب أن تتغير باستمرار لخدمة الحاجة البشرية المتغيرة باستمرار.»
الكلمات السابقة تعود إلى كريسماس همفريز (1901-1983)، الرئيس المؤسس للجمعية البوذية في إنجلترا. وهذه الكلمات مأخوذة من كتابه «ستون عاما من البوذية في إنجلترا».
إن المعضلة التي تواجهها البوذية ليست فريدة من نوعها، وتحمل التطورات المعاصرة في الأديان الأخرى تشابها معها على نحو مثير. ولن يكون أمرا فريدا من نوعه لو حدث أن أدت التوترات الموجودة داخل البوذية إلى الانقسام إلى طائفة محافظة وطائفة تقدمية على غرار الانقسام إلى الجناح الأرثوذكسي والجناح الليبرالي في اليهودية. وربما يعيد التاريخ نفسه، ويستحضر وصول البوذية إلى الغرب نسخة معاصرة من «الانقسام الكبير» الذي حدث في البوذية في القرن الثالث قبل الميلاد وقسم البوذيين إلى ليبراليين ومحافظين. ومن المجموعات المكرسة لتطوير نوع غربي مميز من البوذية جمعية أصدقاء الرهبانية البوذية الغربية التي تتخذ من لندن مقرا لها. ويعيش أعضاء هذه المجموعة في مجتمعات، ويعكفون على تطوير مجتمع بديل يدعمه المشاركون فيه ويسير على نحو متفق مع مبادئ البوذية.
ويعد التطور الحديث في مجال تكنولوجيا المعلومات أحد العوامل الأخرى التي سوف تؤثر على انتشار البوذية؛ فظهور «سانجا إلكترونية» - شبكة مجموعات بوذية في الولايات المتحدة مرتبطة بأجهزة الكمبيوتر - وتوافر معلومات عبر الإنترنت عن البوذية من خلال وسائط إلكترونية مثل «دورية الأخلاقيات البوذية »؛ يعني أن الأفراد حول العالم أصبح لديهم الآن عبر الإنترنت نافذة على مجتمع بوذي «افتراضي» على نحو لم يكن موجودا من قبل. إن وجود شبكة معلومات عالمية يجب أن يسهم إلى حد كبير في تقليل أشكال سوء الفهم التي شهدها الرجال العميان عند مقابلتهم للفيل الذي أشرنا إليه في الفصل الأول.
ويصف المؤرخ أرنولد توينبي اللقاء بين البوذية والغرب بأنه «واحد من أهم وأعظم اللقاءات في القرن الحادي والعشرين»؛ فالبوذية تجلب إلى الغرب باعتباره ملتقى الثقافات علم نفس رفيع المستوى وأساليب تأمل وميتافيزيقا عميقة وميثاق أخلاق يحظى بإعجاب عالمي. ويقدم الغرب التجريبية المشككة والعلم البراجماتي والتكنولوجيا والالتزام بالديمقراطية وحرية الفرد. ولو علمنا تاريخ انتشار البوذية في الثقافات الأخرى درسا، فإن هذا الدرس يتمثل في أنه عند التقاء البوذية مع الثقافات الأخرى سوف يولد نوع جديد ومميز تماما من البوذية.
التسلسل الزمني للبوذية
قبل الميلاد
604
ميلاد لاو تسو في الصين
من نحو عام 566 إلى عام 486
فترة حياة بوذا المتعارف عليها
550-470
حياة كونفوشيوس (كونج فوتسي)
من نحو عام 490 إلى عام 410
حياة بوذا وفقا لأبحاث جديدة
نحو عام 410
المجلس البوذي الأول
326
الإسكندر الأكبر يعبر نهر السند
نحو عام 325 «الانقسام الكبير»
323
موت الإسكندر الأكبر
من نحو عام 321 إلى عام 184
السلالة الماورية
من نحو عام 268 إلى عام 239
فترة حكم أشوكا
نحو عام 250
ظهور الانقسام الطائفي في التقليد القديم
بعثات أشوكا
وصول البوذية إلى سريلانكا على يد ماهيندا
نحو عام 80
كتابة قانون بالي في سريلانكا
بعد الميلاد
من نحو عام 100 قبل الميلاد إلى عام 100 ميلاديا
أصول الماهايانا
وصول البوذية إلى الصين
نحو عام 100
وصول البوذية إلى كمبوديا
نحو عام 150
وصول البوذية إلى فيتنام
ناجارجونا، مؤسس مدرسة مادياماكا
نحو عام 200 «سوترا اللوتس»
نحو عام 250
أصول مدرسة يوجاكارا
نحو عام 400 «تعاليم فيمالاكيرتي سوترا»
وصول البوذية إلى بورما (ربما تكون قد وصلت قبل ذلك)
وصول البوذية إلى كوريا
نحو عام 450
غزو شمال غرب الهند من قبل قبيلة الهون البيض
400-500
حياة بوداجوزا
كتابة تعليقات كبرى على قانون بالي
500-600
تكون البوذية التانترا (فاجرايانا)
وصول البوذية إلى اليابان
618-917
سلالة تانج (الصين)
600-700
وصول البوذية إلى التبت
794-1185
فترة هييان (اليابان)
900-1000
غزو شمال الهند من قبل قبائل مسلمة تركية
نحو عام 1000
وصول البوذية إلى تايلاند (ربما وصلت قبل ذلك)
1044-1077
حكم أناوراتا (بورما)
1185-1333
فترة كاماكورا (اليابان)
1173-1262
شينران
نحو عام 1200
تعرض جامعة نالاندا للسلب لأول مرة
من نحو عام 1100 إلى عام 1200
وصول بوذية الزن إلى اليابان قادمة من الصين وكوريا
1222-1282
نيشيرين
1200-1300
اختفاء البوذية من الهند
سفر ماركو بولو إلى الصين
1287
نهب باجان على يد المغول (بورما)
1357-1410
حياة تسونجكابا
نحو عام 1850
بداية الاهتمام الغربي بالبوذية
1868-1871
انعقاد المجلس البوذي الخامس في ماندالاي
1881
تأسيس جمعية النصوص البالية
1907
تأسيس الجمعية البوذية لبريطانيا العظمى وأيرلندا
1950
غزو التبت على يد الصينيين
1952
تأسيس الزمالة العالمية للبوذيين
1954-1956
انعقاد المجلس البوذي السادس في رانجون
1956
ذكرى ميلاد بوذا التي تحيي ذكرى مرور ألفين وخمسمائة عام على البوذية
1959
هروب الدالاي لاما من التبت بعد فشل الانتفاضة
1966
الثورة الثقافية (الصين)
1987
تأسيس المجلس البوذي الأمريكي
1989
فوز الدالاي لاما بجائزة نوبل للسلام
1991
فوز أون سان سو تشي بجائزة نوبل للسلام
قراءات إضافية
There are many good introductory books on Buddhism which can be used to supplement the basic sketch provided in this volume. These include:
An Introduction to Buddhism: Teachings, History and Practices (Cambridge: Cambridge University Press, 2012). *
Damien Keown and Charles Prebish,
Introducing Buddhism (London: Routledge, 2009).
Donald W. Mitchell
Introducing the Buddhist Experience (Oxford: Oxford University Press, 2007).
R. H. Robinson, W. L. Johnson, and Thanissaro Bhikkhu,
Buddhist Religions: A Historical Introduction (Belmont, CA: Wadsworth Publishing Co. Inc., 2003).
A lavishly illustrated introduction with chapters contributed by a range of specialists on the various Buddhist cultures is:
Heinz Bechert and Richard Gombrich (eds.),
The World of Buddhism: Buddhist Monks and Nuns in Society and Culture (London: Thames and Hudson, 1984).
A very good short introduction to the Buddha’s life and social context may be found in:
M. Carrithers,
The Buddha: A Very Short Introduction (Oxford: Oxford University Press, 2001).
For an excellent introduction to Theravāda Buddhism see:
Richard Gombrich,
Theravada Buddhism: A Social History from Ancient Benares to Modern Colombo (London: Routledge, 1988).
For a more detailed account of the formative phase of Buddhism in India see:
Rupert Gethin,
The Foundations of Buddhism (Oxford: Oxford Paperbacks, 1998).
Buddhist Thought: A Complete Introduction to the Indian Tradition (London: Routledge, 2011).
For a more advanced account of Mahāyāna Buddhist thought see:
Mahayana Buddhism: The Doctrinal Foundations (London: Routledge, 1989).
For an illuminating guide to the spread of Buddhism:
E. Zürcher,
Buddhism, its Origins and Spread in Words, Maps and Pictures (New York: Routledge and Kegan Paul, 1962).
The subject of Buddhist art and iconography is addressed in:
D. L. Snellgrove (ed.),
The Image of the Buddha (London: Serindia Publications, 1978).
Tibetan Buddhism is discussed in:
John Powers,
Concise Introduction to Tibetan Buddhism (Ithaca, NY: Snow Lion Publications, 2008). *
Geoffrey Samuel,
Introducing Tibetan Buddhism (London: Routledge, 2012).
On Buddhism in China:
K. K. S. Ch’en,
Buddhism in China: A Historical Survey (Princeton: Princeton University
E. Zürcher,
The Buddhist Conquest of China (Leiden: Brill, 1959).
On Buddhism in its Chinese context see: *
Mario
Introducing Chinese Religions (London: Routledge, 2009).
Buddhism in Japan is treated in:
J. M. Kitagawa,
Religion in Japanese History (New York: Columbia University Press, 1966).
On Buddhism in its Japanese context see: *
Robert Ellwood,
Introducing Japanese Religion (London: Routledge, 2007).
On Buddhist meditation:
Sarah Shaw,
Introduction to Buddhist Meditation (London: Routledge, 2008).
A good, practical guide to Buddhist meditation is:
Kathleen McDonald,
How to Meditate (London: Wisdom Publications, 1984).
An ethnographic account of meditation practice in a Thai monastery can be found in:
Joanna Cook,
Meditation in Modern Buddhism: Renunciation and Change in Thai Monastic Life (Cambridge: Cambridge University Press, 2010).
For information on the link between Buddhism and Neuroscience, consult:
Allan B. Wallace,
Contemplative Science: Where Buddhism and Neuroscience Converge (New York: Columbia University Press, 2006).
James H. Austin,
Zen and the Brain: Toward an Understanding of Meditation and Consciousness (Cambridge, MA: MIT Press, 1999).
Kelly Bulkeley (ed.),
Soul, Psyche, Brain: New Directions in the Study of Religion and Brain-Mind Science (Basingstoke: Palgrave Macmillan, 2005).
On ethics:
Damien Keown,
Buddhist Ethics: A Very Short Introduction (Oxford: Oxford University Press, 2005).
An Introduction to Buddhist Ethics: Foundations, Values and Issues (Cambridge: Cambridge University Press, 2000).
H. Saddhatissa,
Buddhist Ethics: Essence of Buddhism (London: Wisdom Publications, 1987).
Roshi Philip Aitken,
The Mind of Clover: Essays in Zen Buddhist Ethics (Berkeley, CA: North Point Press, 1984).
The subject of Buddhism and war is dealt with in the following:
Brian Daizen Victoria,
Zen at War (Lanham, MD: Routledge, 2006).
Michael K. Jerryson and Mark Juergensmeyer,
Buddhist Warfare (New York: Oxford University Press USA, 2010).
Xue Yu,
Buddhism, War, and Nationalism: Chinese Monks in the Struggle Against Japanese Aggression 1931-1945 (London: Routledge, 2005).
Tessa J. Bartholomeusz,
In Defence of Dharma: Just-War Ideology in Buddhist Sri Lanka (London: Routledge, 2002).
A free online resource providing scholarly articles on Buddhist ethics is
The Journal of Buddhist Ethics (
http://blogs.dickinson.edu/buddhistethics ).
On the role of women in Buddhism:
Rita M. Gross,
Buddhism After
Buddhism (Albany, NY: State University of New York Press, 1993).
Diana Y. Paul,
Women in Buddhism: Images of the Feminine in the Mahayana Tradition (Berkeley, CA: University of California Press, 1985).
Karma Lekshe Tsomo,
Buddhism Through American Women’s Eyes (Ithaca, NY: Snow Lion
On the female founders of the Tantric Buddhist movement:
Miranda Shaw,
Enlightenment: Women in Tantric Buddhism (Princeton, NJ:
On the movement for full restoration of ordination for nuns, see:
Thea Mohr, Ven. Jampa Tsedroen,
Dignity and Discipline: Reviving Full Ordination for Buddhist Nuns (Somerville, MA: Wisdom Publications, 2010).
The following discuss various aspects of the role of Buddhism in the modern world:
H. Dumoulin (ed.),
Buddhism in the Modem World (London: Collier Macmillan Limited, 1962).
The British Discovery of Buddhism (Cambridge: Cambridge University Press, 1988).
Robert Bluck,
British Buddhism: Teachings, Practice, and Development (London: Routledge, 2006).
Ken Jones and Kenneth Kraft,
The New Social Face of Buddhism: A Call to Action (Somerville, MA: Wisdom Publications, 2003). *
Charles S. Prebish,
American Buddhism (Belmont, CA: Duxbury, 1979).
Charles S. Prebish and Kenneth K. Tanaka (eds.),
The Faces of Buddhism in America (Berkeley, CA: University of California Press, 1998).
Charles S. Prebish,
Luminous
(Berkeley, CA: University of California Press, 1999).
Dharmachari Subhuti,
Buddhism for Today: A Portrait of a New Buddhist Movement (Salisbury: HarperCollins Distribution Services, 1983).
The best way to learn about Buddhism is to read the Buddha’s teachings. The standard complete translation of the Pali Canon, by various authors, is that published by the Pali Text Society but more recent translations are available from Wisdom Publications in the
Teachings of the Buddha
Series.
Anthologies of the early scriptures can be found in:
Rupert Gethin (trans.),
Sayings of the Buddha: New Translations from the Pali Nikayas (Oxford: Oxford University Press, 2008).
Bhikkhu Bodhi,
In the Buddha’s Words: An Anthology of Discourses from the Pali Canon (Somerville, MA: Wisdom Publications, 2005). *
Titles marked with an asterisk are also available in ebook format with hotlinks to internet resources, from JBE Online Books (
http://www.jbeonlinebooks.org ).
مصادر الصور
(1-1) © Steven and Yuki Emmet. (2-1) © Godong/Robert Harding World Imagery/Getty Images. (2-2) Photo: akg-images. (2-3) © Steven and Yuki Emmet. (2-4) © Steven and Yuki Emmet. (3-2)
The James Low Album of Thai
reproduced by permission of the British Library, London. (3-4) © White Crane Films. (3-5) © National Film Board of Canada/NHK. (5-2) © The Schøyen Collection, MS 2379/44, Osla and London
www.schoyencollection.com . (5-3) TAO Images Limited/Getty Images. (6-1) Reproduced by permission of the British Library, London. (6-2) © Steven and Yuki Emmet. (6-3) © Eisei Bunko Museum, Tokyo. (6-4) Photo taken by the Ethnographic Museum of the University of Zurich © Ethnographic Museum of the University of Zurich. (7-1) © JoSon/The Image Bank/Getty Images. (9-1) © Manca Juvan/In Pictures/Corbis.
अज्ञात पृष्ठ