كلمة للمؤلف
مقدمة
المصادر التي استوردنا منها كتاب البؤساء في عصور الإسلام
1 - علل البؤس
2 - تعساء الشقاء حلفاء الفقر
3 - بؤساء الحظ
كلمة للمؤلف
مقدمة
المصادر التي استوردنا منها كتاب البؤساء في عصور الإسلام
1 - علل البؤس
2 - تعساء الشقاء حلفاء الفقر
3 - بؤساء الحظ
البؤساء في عصور الإسلام
البؤساء في عصور الإسلام
تأليف
محمود كامل فريد
كتاب أدبي علمي عمراني اجتماعي، محلى بالصور ورسوم علماء الدنيا وفلاسفة الإسلام.
المؤلف: محمود كامل فريد.
كلمة للمؤلف
على البؤساء في كل المواطن
سلام الله ما خفقت سواكن
وألف تحية في كل وقت
لهم تهدى وإن بعدت مساكن
فكم لاقوا من الدهر الرزايا
وبلوى نبهت منهم بواطن
إليكم معشر القراء أهدي
عظات بينت كنه المعادن
كرام حالهم في الدهر بؤس
وهم أصل السعادة إن تقارن
إليكم معشر القراء أقدم كتابي هذا «البؤساء في عصور الإسلام»، وهو غاية ما عثرت عليه من تراجمهم؛ وما ذاك إلا لأني أعتبر نفسي كفرد منهم، ولم أكن مبالغا إذا قلت إنه من الكتب القيمة التي يميل إليها الأديب، ويعجب بها كل قارئ.
ولقد أخذت في تحريره وسرد مدهشات أبطاله، ونفسي نازعة إلى فطاحل العلم والأدب البؤساء، وكأني بهم، وقد شتتهم الدهر ومزقهم كل ممزق فأصبحوا لصروفه هدفا، وباتوا لا يعرفون للحياة طعما ولا للوجود قيمة، وصرت من جراء ذلك أحن إليهم حنينا متواصلا لصلة النسب بيني وبينهم. ومهما أجدت في سرد أخبارهم، وأتيت بالمنقول من رسومهم التي صوروها في بعض مؤرخاتهم؛ فالقريحة جامدة ليس في استطاعتها وصف بلوائهم بالمعنى الحقيقي؛ وكيف أصف مصائب حاقت بهم، لو نزلت برضوى لزلزلته! وليتها مصيبة تزول، ولكنها اقترنت بسوء الطالع، وناهيك بمحن الوجد الذي باتوا فيه، والفقر المدقع الذي عانوه، وشواغل البال التي شغلتهم عن واجباتهم.
أسأل الله أن يجعله خير معين لكل مبتئس، ويهدي تلك الطائفة التعسة سواء السبيل، يرقق عليهم قلوب عباده القاسية.
محمود كامل فريد
مصر، تحريرا في يونيو سنة 1925م
مقدمة
«اللهم عفوا وصفحا» قد قضت حكمتك أيها الخالق منذ الأزل، وجرى القلم بما هو كائن إلى الأبد، ونفذت إرادتك على جميع من أطاع وصخد، خلقت الخلائق بقدر مقدور، ورزق محدود، إلى أجل ممدود، ونفس معدود، وجعلت منهم سعداء وفقراء، وضعفاء وأقوياء، وقد تاهت الأفكار في نظام كونك الباهر، وتدبيرك في أمر خليقتك، وعجزت العقول عن إدراك هذا السر الغامض. اللهم لا اعتراض لحكمك الساري، وعدلك الذي شمل الخلائق، وبلبل ألباب الفلاسفة، وأبكم كل ناطق.
بينما تخلق الطفل فلا يمكث غير يوم، وآخر يقضى عليه وهو جنين، وغيره يعيش أعواما، وذاك يفقد أبويه فيعيش يتيما أو لطيما فيسعد أو يشقى، وهذا قد عاكسه القدر فبلغ من العمر أرذله، وهو سقيم فقير الحال يهرب منه من يراه. ثم نجد شيخا قد بلغ منتهى الأجل وهو في بسطة من العيش، يرتع في بحبوحة الغنى لا يعرف للفقر اسما، ولا للذل رسما، ثم يموت وهو سعيد مرزوق والسعد طوع أمره، وحينا ننظر إنسانا تنغصت عليه حياته ونبذته الأيام؛ فعاش شقيا ومات محروما، وكما نبصر هذا نجد آخر يسعد تارة ويفتقر أخرى، ثم إذا أمعنا النظر يتضح لنا أن كل ذي فكرة وقادة وفكر سليم، لا يخلو من ضنك وبؤس، بينما نجد الأبكم الجاهل يمرح في بحبوحة النعم. سبحانك جل شأنك، كأنك حاسبت القوم على قدر عقولهم، هذا بجهله وذاك بعلمه! وهكذا كان، يسعى البائس وهو العالم الكاتب الفيلسوف الحكيم العاقل المهذب فيشقى بسعيه ويحرم من كده، وكلما وجه أنظاره شطر جهة أغلقت أمامه أبواب رزقك، وكلما أكدى وتعب نأى حظه وغاب سعده وكان نصيبه الإملاق والحرمان.
سبحانك أيها الفتاح! لقد تاهت العقول في نواميس عدلك، وضلت الأفكار في قضائك وقدرك، سبحانك لا علم لمخلوق بمشيئتك، لا إله إلا أنت وحدك لا شبيه لك، ولا يعاندك في حكمك أحد.
المؤلف
المصادر التي استوردنا منها كتاب البؤساء في عصور
الإسلام
لقد اشتهر العرب في العصر العباسي بالتصوير على الجدران، وعلى صفحات الكتب، كحروف تخطيطية كانت ذات إتقان زائد، وبلغت دقة الرسم بالتخطيط مبلغا كان تقريبا للصورة الحقيقية.
وقد اطلعنا على كتاب قديم يرجع تاريخه إلى القرن الثالث الهجري رسم فيه مؤلفه جماعة من النوابغ الأعلام، نقلنا منه بواسطة الكربون طائفة كبيرة ممن نالهم البؤس وعاكسهم الدهر. واطلعنا أخيرا على عدة كتب مصورة يرجع عهدها إلى القرن الرابع والخامس والسادس، أتممنا بها بؤساء العصر العباسي.
ومن قرأ تاريخ الأندلس وجد أن الخليفة عبد الرحمن الناصر بنى قصر الزهراء الذي يضرب بفخامته المثل، وجعله مسكنا للزهراء جاريته وسماه باسمها «الزهراء»، ونقش صورتها على بابه رمزا للرسم التخطيطي.
وقال الشريف أبو عبد الله الجواتي في كتاب «النقط على الخطط» إن الخليفة الآمر بأحكام الله بنى منظرة من الخشب مدهونة بالألوان، فيها طاقات تشرف على خضرة بركة الحبش، وصور فيها الشعراء؛ كل شاعر وبلده، واستدعى من كل واحد منهم قطعة من الشعر في المدح، وكتب ذلك عند رأس كل شاعر، وبجانب صورة كل منهم رف لطيف مذهب. فلما دخل الآمر هذه المنظرة وقرأ الأشعار؛ ابتهجت نفسه، وأمر أن يوضع على كل رف صرة مختومة تحتوي على خمسين دينارا، وأن يدخل كل شاعر ويأخذ صرته بيده، وكانوا عدة شعراء.
وقد بنى الملك الأشرف خليل بن قلاوون الرفرف بالقلعة وجعله عاليا يشرف على الجيزة كلها، وبعد أن طلاه بالدهان الأبيض صور فيه أمراء الدولة وخواصها، وعقد عليه قبة على عمد وزخرفها، وكان يجلس فيه السلطان. وعثر في أطلال الحمراء بغرناطة في الأندلس على صورة تمثل مجلس قضاة على طراز عربي، يظن أنها من آثار القرن الثامن الهجري.
وإن من يزور خرائب الزهراء بإسبانيا، وآثار الفراعنة بمصر، والمعابد الأثرية في العالم يشاهد فوق أحجارها وعلى قوائم جدرانها نقوشا كثيرة من صور الإنسان والحيوان بالخطوط التقريبية.
وليس عهد الرسم التخطيطي عنا ببعيد، فلو نظرنا إلى دار العاديات المصرية، أو دار الآثار والكتب لوجدناها مشحونة بهذه الرسوم والأشكال، ومنها ما هو على ورق الكتان، ومنها ما هو على رق الغزال، أو على قطع تخطيطية بقضبان الذهب على حوانيت المومياء بما يفسر شكل ما فيها. ويعجب الناظر من جمال هذه الأشكال سيما محاسن النساء، وطلاوة الرسم الذي يأخذ بالألباب.
ولا عجب إذا نقلنا من هذه الصور ما طرزنا به هذا الكتاب، إننا رسمناها نقلا بواسطة الورق الشفاف والكربون.
هذا ولا يخفى أن هذا آخر ما وصلت إليه براعة العرب في التصوير التخطيطي؛ لأن الفوتوغرافية (آلة التصوير) كانت لم تكن معروفة في ذلك العهد.
وتناول الرسم الفوتوغرافي رسما أو اثنين هما آخر ما عثرنا عليه من المؤلفات المصدوقة مرسومة بالفوتوغرافية، وإلى هنا أقف عند هذا الحد مقتصرا على ذلك، والله الهادي إلى سبيل الرشاد.
القسم الأول
علل البؤس
البؤس «البؤس» من حيث تعريفه: دمار عاجل، وموت أدبي، ترتاع منه النفوس، وترتعد عند ذكره الأبدان. وهو الغاية التي تزعزع أركان العالم، وتحول القلوب عن أغراضها وميولها، وتجندل الشجعان من غير حرب، وتجعل القادر عاجزا. وربما انقلبت إلى العكس؛ فتهب للعاجز قوة ونشاطا لينتقم من نفسه أو من غيره ليستريح من عوارض الأقدار. والبؤس والأمل ضدان؛ إذا استقوى أحدهما على الآخر ظهرت النتيجة واضحة. ويتضح من ذلك أن اليأس إذا استقوى على الأمل كان البائس من أتعس خلق الله تعالى وأشقاهم، وأصبح الموت إليه أمنية تتوق إليها نفسه؛ فتجده مستبسلا في مواقف الإعدام بغير مبالاة ولا حذر، ولا خوف ولا فزع.
وأما إذا تغلب الأمل على اليأس نفخ الله تعالى في روح هذا البائس أملا يبدد شكوك أوهامه؛ فينشط من عقال اليأس، ويخرج من وهدة الخمول؛ طارحا رداء الكسل والقنوط. وسامرته الأحلام اللذيذة والأوهام المفرحة؛ فيشيد من الأوهام قصورا، ومن الآمال حصونا، ويشعر وكأن الأماني قد انقادت له؛ فيظل متعللا بها، وينتظر ما ستجيء به الأيام يوما بعد يوم، وكأنما تلك الأوهام خففت عليه ويلاته؛ فيناجي السعادة، ويتسلى بتلك التصورات الشائقة التي صار يأتنس بها، وصارت تشجيه وتلهيه، ولو أنها لا تشفيه ولا تنفعه، ويقول - معللا نفسه: «إن المستقبل كفيل براحة الإنسان.»
مع أن الحقيقة فيما قالت الحكماء: «لا يأس مع الأمل، ولا أمل مع اليأس.» وهيهات أن ترى بائسا إلا والقنوط أول دعاويه، وهو العلة التي يبني عليها أسباب يأسه وبؤسه، ولم يقتصر على ذلك حتى يتهم الأقدار في دعوى اعتلاله. «ومن البؤساء» قوم ينسبون أسباب بؤسهم للذات العلية، معترضين على سوء حالهم وسعادة غيرهم.
وهيهات أن ترى بائسا في مكان إلا والشقاء مخيم عليه، وعواصف الأقدار تلعب به كريشة في مهب الريح، لا تستقر على حال، ولا تدري إلى أي جهة أو هاوية تلقيها العواصف.
وكثير من البؤساء عندما يشتد بهم البؤس؛ يرغبون في الموت بكل وسيلة، ويناجون الهلاك بوجدان شديد، وشعور غريب؛ فتنطمس أمامهم الحقائق، وتصغر العوالم، وتضيق عليهم الدنيا على اتساعها؛ فيزدرون بالكون وعظمته، والدنيا وبهجتها، والمجد وأبهته، والسلطان وصولته، وتغيب عنهم الذاكرة فيجحدون الخالق والمخلوق، ويشذون عن طبيعتهم، وينكرون المطامع والآمال، ويرسخ في اعتقادهم أن الله اختصهم بالبؤس دون الناس؛ لأنه تركهم وتخلى عنهم. ثم يعودون إلى هداهم؛ فيعلمون أن الدنيا متاع غرور، وهناء موهوم، وأمل كاذب، وسرور باطل، وظل زائل، يمقتها اللبيب ويحتقرها العاقل.
والبؤس على كل حال مميت الشعور، مذهب الإحساس، مدل على الموت، مجلب للفناء والهلاك. ولهذه الأسباب أصبح البائس يتشجع للردى، ويستهدف للحتف، ويحن إلى الموت، ويعبث بالأهوال، وما هي غير فترة ثم تراه حاقدا على نفسه، ناقما على غيره، ويشعر أن حياته أصبحت حملا ثقيلا عليه، كأنه عالة على المجتمع الإنساني، وتصبح تلك الحياة لا قيمة لها عنده، وتتسرب إلى مخيلته فكرة الموت؛ فيستنبط الحيل التي تسهل له طريق الانتحار، ومتى تهيأت له هذه الحيلة سعى في تنفيذها ليستريح من عذابه، غير هياب من الموت وشناعة الانتحار، وسيان عنده إن لامه الناس أو عذروه، أو أصبح في أفواه الجميع سبة إلى الأبد؛ فيقابل الموت بوجه طلق، ويعاني حشرجته بثغر ضاحك ما تعود الابتسام في ساعة القنوط. وقد جاء في أمثال الحكماء: «خف من البائس فإنه لا يخاف.»
وقال بعضهم:
إني تركت لذي الورى دنياهم
وظللت أنتظر الممات وأرقب
وقطعت عن نفسي المطامع ليس لي
ولد يموت ولا عقار يخرب
أنواع البؤس
والبؤس مهما تنوعت مصائب الناس في أسبابه وحصوله ينقسم إلى ثلاثة أقسام أصلية، وهي:
القسم الأول:
علل البؤس.
القسم الثاني:
تعساء الشقاء حلفاء الفقر.
القسم الثالث:
تعساء الحظ.
هذه هي الثلاثة أقسام الأصلية، وجميع أنواع البؤس ينحصر في هذه الأقسام، وأما ما زاد على ذلك فيعتبر فروعا لها. «والبؤساء» على تباين مقاماتهم وعقولهم يختلفون باختلاف الأطوار والأعمال؛ فمنهم من تلاحظه العناية فيخلق سعيدا مرزوقا من المهد إلى اللحد، ولكنه مصاب بعلة من العلل التي تعترض البؤساء أصبح من أجلها بائسا، مهما كانت درجته وسمو مركزه وعلمه وحظه. «ومنهم» من يرزق الحظ والغنى، ولكنه في حاجة إلى غرض يجد نفسه في شدة الشوق إلى الحصول عليه، وكل ميوله متحولة إليه، وإن لم ينله أصبح منغصا. فإذا اعتبرناه بائسا فما ذلك إلا لأنه يطمح لأمنية، والفرصة غير سانحة له، ونقدر ميول نفسه لهذه الأمنية بقدر درجة بؤسه وتعاسته، مهما كان غنيا ومهما كان سعيدا. «ومنهم» من يكون سعيدا بغناه، يعطي ويتصدق وهو في أمن ودعة ورخاء عيش، يهب ويمنح إلا أنه بعد زمن تزول عنه هذه النعمة فيصبح فقيرا بائسا. «ومنهم» من يخلق سعيدا؛ كأن يكون ابن ملك أو أمير يتمتع بجميع أسباب الغنى والسعادة واليسار، ويتولى الملك بعد أبيه، إلا أنه مصاب بمرض يلازمه من وقت إلى آخر؛ فيقضي على أسباب سعده وينغص عليه هناء عيشه في بحبوحة مجده. وهذا يعتبر من البؤساء لأنه مصاب بعلة تجعله كئيبا فهو بائس، «وفي عرف الفلاسفة» أن من أصيب بعلة أو مرض مهما كان غنيا أو ملكا فهو بائس؛ لأن المعافى من البؤس من كان سليم الجسم سليم البنية سليم العقل، يتمتع بثروة طائلة، وزوجة صالحة، وذرية طيبة، فهذا هو الخالي من البؤس، وأما من كان منغصا في حياته ببعض الطوارئ فهو بائس. «ومنهم» من يسعد تارة ويفتقر أخرى، وهذا أيضا من البؤساء. «ومنهم» من يصادفه البؤس عرضا؛ كأن يكون غنيا فيسرق ماله، أو تاجرا فتلتهم النار تجارته؛ فيجفوه زمانه، وتعاديه إخوانه. «ومنهم» من يجور عليه زمانه، فيغضب عليه سلطانه؛ فينفيه إلى أبعد البلدان ويشرده عن الأوطان، ويشتته عن الإخوان، فيعيش في أسوأ حال. «ومنهم» من يصاب بالجنون فيختل نظامه، ويعتل كيانه. «ومنهم» من يكون ممتعا بالخيرات، محفوظا بالبركات، فيقع في معصية، أو يصادفه البؤس من طريق عدو مباغت، أو عذول مزاحم. «ومنهم» من يباغته الوجدان، فيهيم بمحاسن الجمال الفتان - وهذا النوع من البؤساء بالمعنى الحقيقي؛ لأنهم يتحملون علاوة عن علل الأوصاب عواطف الحب، والميول الغريبة، والأشواق، والغيرة، والهم، والحزن، والقلق، واشتغال القلب بمحاسن المحبوب إلى غير ذلك - وإذا رجعنا إلى سبب البؤس وجدناه لا يكون إلا من علة الفقر.
ومن الغريب المدهش أن البؤس عادة لا يحل إلا بالفطاحل الأعلام - علماء الدنيا - وفلاسفة العالم، ولا يعترض إلا حكماء الكلام، وحملة الأقلام، والحكماء والشعراء، وكل نابغة لا يستهان بعلمه وذكائه.
ولما كان البؤس أصل كل بلية في العالم؛ أصبح لكل فرد منه أكبر نصيب، وهيهات أن يخلو منه مخلوق.
فضائل البؤس
وفضائل البؤس كثيرة، ومنها: الورع، والتقوى، والثبات، والصبر، والتجلد على المصائب، ومكافحة الأهوال، ومعرفة الله جل شأنه والتفرغ إليه سبحانه وتعالى، واليأس من الدنيا، والاهتمام بالآخرة. والبؤس عادة يوجد الطمأنينة في النفوس، ويحض على اعتزال العالم والانفراد عن الناس، والانقطاع إلى عمل واحد، والتبحر في العلوم والمعارف.
ولو نظرنا إلى البؤس من حيث حقيقته وجدناه أقوى سبب في تذليل النفس؛ بل هو الباعث لها على الانقياد والإذعان، والرضوخ والطاعة، والميل إلى حب الخير والعبادة والإحسان ... إلخ.
مساوئ البؤس
ومساوئ البؤس كثيرة، منها: التأفف، والضجر، واحتمال الهم، والكمد، والنزق، وضيق الصدر، وسوء الخلق، وقطع العشرة، والانحراف، والانكماش عن الخلق، والقهر، والإكراه والغلبة، والتطبع بالأخلاق المرذولة، وفساد الطوية، والخديعة، والمكر، والدهاء، والذل، وشدة الغيظ، وعدم المبالاة، واحتقار النفس، والبله، والطيش، والغباوة، والبغض، والعداوة من غير سبب، والعجز، والجموح، ووساوس الصدر، ومعصية الخالق، وشدة الحسد، والحقد، والميل إلى الشر، والمعاكسة، والتطبع بالرذائل، وارتكاب الدنايا، والنقائص، والهذيان، والمرض الذي يؤدي إلى الجنون وينتهي بالتفاني في حب الموت .
الوهم والبؤس
خلق الله الإنسان من ضعف؛ فكان الوهم أول قرين له، والوهم من حيث تكوينه في الإنسان دواء الإهمال المخيف، بل هو العلقة الوحيدة التي تعلق بكل نفس جامحة إذا استولى عليها الضعف وخور العزيمة. بل هو الغاية التي يبني عليها البائس يقينه، ويشيد دعائم أركانه. بل هو الدعوى التي يؤيد بها برهانه، وتجري عليها نواميسه؛ ليوطد بواسطتها أحكام تخيلاته وتصوراته وما يعنو له من علوم مخيلته، ويستنتج منها عاداته وأطواره، وكأنه بتلك الأوهام يحيا، وبها يسمع ويرى، وعليها يموت وتنقضي أيامه.
والأوهام عبارة عن آمال كبيرة تتغلب على العجز والضعف والقوة، وهيهات أن تخلو منها أمة من الأمم، أو شعب من الشعوب. وربما تقف هذه الأوهام في سبيل بعض البائسين في حين من الأحيان؛ فتكون لهم حجابا من الأمل الغرار. وبهذا الوهم الكاذب ترتفع عنهم البلوى، وتنتهي، بل يهون نكد الدنيا، وتندثر جريمة الانتحار من مخيلتهم.
وقد يحدث من الوهم موت عاجل يقتل المتوهم مهما كان رقيق الإحساس، شريف العواطف، أو شجاع القلب، عظيم الجسم. وربما يكون حياة من نكد وبيل، يخلص من الموت كل منغص حزين، وكأن هذا الوهم يمثل للبائس وهو متأهب للانتحار، متقدم للإجهاز على نفسه زينة الحياة الدنيا، ويحبب إليه السعادة والغنى؛ فيتوقف عن إتمام الجريمة، ويبتسم للسعادة، ويستريح بهذه الآمال التي قادها إليه الوهم وهو على هاوية الهلاك؛ فيرجع عن عزمه، ويتوب عن غيه.
وهكذا بني الوهم من قديم الأزل على شرائع الأمم وأعناق البشر في نواميس الوجود، وبرهانا على ذلك غير الدهر وحوادث التاريخ.
والوهم ينقسم إلى قسمين؛ «الأول»: يفني الأمم ويؤدي إلى العدم، حيث تنتهي الحياة على أي حال من الأحوال، «والثاني»: يعود أملا يبعث بنفوس البائسين إلى الجهاد في معترك الحياة؛ ليحصل كل آمل على مناه، ويحظى بالغاية التي يرجوها. وكل أمة فشا فيها داء الوهم أصبحت مزعزعة الأركان، وصار التعلل لها غرضا من الأغراض الدنيوية تغدو وتروح؛ حيث تقودها الأوهام فتسير على غير هدى، وتنقاد في جميع أحوالها بأزمة الوهم الكاذب الغرار.
ولو تمعن العاقل في أطوار هذا الوهم لوجد أن ليس مع السلوان عيش، ولا مع القنوط عمل، ولا مع اليأس حياة، وليس أجلب للشر من وهم يخرج بالنفوس عن أطوارها، أو يأس يقفل باب الرجاء في وجه صاحبه؛ فيمثل له خيال الموت في أجمل صورة، ويصور له الدنيا بأشنع شكل وأقبح هيئة؛ فينتحر تخلصا من شقائه الذي هو فيه ليستريح من بؤس هذا العالم ومتاعبه. «البؤس» كلمة تدل على الشقاء، وهو شكل غير محسوس ولا ملموس، ومعناه الإملاق والعدم والفاقة والضنك والفقر. «والبؤس» أصل تعاسة الإنسان وسبب شقائه ومحنته وبلائه. والبؤس في عرفهم باب كل ويل، وسياج الكرب والقهر والغم؛ إن حل في مخلوق جلب إليه سوء الطالع، وجعله في تعب مستمر غير مرتاح الضمير، ونغص عليه حياته، وفتح له طريق الموت، وصيره على هلاك نفسه قادرا جريئا لا يخاف ولا يفزع.
ولقد خلق الله الموت للحياة ضدا لفني العالم، كما شاءت قدرته العلية في عصر محدود ودهر معدود، وكما خلق جل شأنه الموت للحياة ضدا، خلق الذكاء للشقاء حليفا؛ ولذلك لا تجد ذكيا إلا والشقاء يحدوه، وفي الحديث الشريف: «ذكاء المرء محسوب عليه.» وكما خلق الله الذكاء للشقاء حليفا، خلق الحسد للفضل قرينا؛ ولذلك لم تجد في الناس فاضلا إلا والحساد يحومون حوله، وقال الشاعر:
إني حسدت فزاد الله في حسدي
لا عاش في الدهر يوما غير محسود
لا يحسد المرء إلا من فضائله
بالعلم والحلم أو بالفضل والجود
العالم دولاب دائر لا ينتهي إلا بانقراض الكون، ولو نظرنا إلى أمور هذه الخلائق وجدنا حكما لا تندثر أبدا، ودروسا من الوعظ لا ينتهي منها اللبيب ويرعوي منها العاقل. أيها البؤساء، يا من ألبسكم الدهر ثياب الحزن، وألقاكم في وهاد الهموم؛ عليكم بالصبر وطول الأمل؛ فإنكم إذا ثابرتم عليهما بلغتم كل أمنية. ولا تحجموا عن الإقدام والسعي في معترك الحياة؛ لأنهما أساس عمران هذا العالم. وبالإقدام على عظائم الأمور تنالون الشرف، وتحظون بحظوة المجد، وتخرجون من وهدة اليأس إلى ذروة العلياء، وتصعدون من حضيض الخمول إلى غاية العز والسؤدد. فثبتوا أقدامكم، ووطنوا نفوسكم، تنالوا رغباتكم، والله معكم.
البؤساء
لو نظرنا إلى فلسفة هذا العالم وحكمة المبدع الحكيم في خلقه؛ لوجدنا أن جميع علماء الأرض وفلاسفة الكون على الإطلاق ما هم إلا من وسط ضاق به الحال، وأصبح من شدة الضنك لا يملك درهما، والجميع بحمد الله صفر اليدين من الغنى، وكفى بأنبياء الله حجة على ذلك وبرهانا ناصعا لا مراء فيه. «البؤساء» قوم وضعتهم الدنيا في أخشن مواضعها، وداهمتهم الأيام بالمصائب فاستهانوا بنكباتها، وجفاهم الحظ فرضخوا لأحكام القدر، وصادقهم النكد فحفظوا له واجب الصداقة ولم ينقضوا له عهدا، وسئمت منهم الأيام فكانوا عليها عالة، وأمرتهم الطبيعة بالذل فنبذوا أمرها، وهجروا صفوها؛ فسخرتهم للحياة فساروا في سبيل الموت سراعا. «البؤساء» قوم خلع عليهم الدهر حزنه وجر عليهم فضل بلائه؛ فأوقفوا بعض حنين قلوبهم إلى غير ما تحن إليه من صبابة المحاسن والجمال، وهاموا في وهاد الدنيا وأتوا بأعمال من الأشجان لا تدخل تحت حصر، فتراهم مع ما هم عليه من بواعث الحزن والنكد لا ترتاح نفوسهم الأبية إلا لعمل الخير، وتراهم وهم في أشد حالات المحنة يعطفون على البؤساء أمثالهم، ويميلون من تلقاء أنفسهم إلى من جفاهم الحظ وسحقتهم الهموم. «البؤساء» قوم خطت الطبيعة على جبينهم سطور الشقاء، ومشى الدهر خلفهم يومي للمصائب نحوهم ببنانه؛ فتبعتهم ملبية أمره، وتنقض عليهم منفذة أحكامه. «البؤساء» طائفة رمتهم سهام القدر؛ فباتوا للبلاء عرضا، وأصبحوا في هذا الكون حيارى لا يهتدون إلى منار السعادة، ولم يبلغ بهم سفين الحياة شاطئ السلامة.
ومهما كان من فظاظتهم، ومنتهى ضلالهم في إزهاق أرواحهم؛ تجدهم يستهينون بالموت، ولا لوم عليهم إذا ارتكبوا جريمته؛ لأنهم ما رغبوا في عذابه إلا فرارا من نكد الحياة وشظف العيش المهمين، ولذا تجدهم دائما في كساد حال وتعبيس وجه، إلى شكوى هموم واحتمال أشجان. وهم قوم قد لازمهم سوء الطالع؛ فأصبحوا بين ويلات عديدة تعددت أطوارها، وتراكمت حوادثها؛ من فقر مدقع إلى مرض وبيل، وعذاب مهلك، وحتف مميت، ومن يأس عاجل إلى تكدير صفو، ومحنة دنيا، وبلاء أيام. ولو ساعدهم الحظ لكانوا سعداء، وما في ذلك لوم، وإنما الذنب على الطبيعة الجائرة والقدر المتاح، وما عليهم من وزر إذا أطاعوا القضاء في واجب حكمه، ولاذوا بالفرار من دنياهم؛ ليستريحوا من عذاب البؤس، ويجدوا في الموت راحة بعد ذلك العناء الوبيل. وما هي غير حشرجة الموت، واختلاج الروح في جسم ضعيف؛ ثم تنتهي الحياة بخروج آخر نفس كان يتردد فيه، وفي مدة لا تتجاوز طرفة عين تصعد الروح لباريها العظيم. وأكثر البؤساء يجدون الموت سهلا مع ما فيه من عذاب أليم وهول شديد، وسواء لديهم أن كان قتلا أو خنقا أو غرقا أو حرقا، وفي يقينهم أن الروح دخلت الجسم بسهولة وتخرج منه بسهولة. «قيل» إن عروة بن الزبير لما قطعت رجله وفصلوها عن جسمه لم يعبس وجهه، ونظر إليها وهي بين يديه وقال: أي قدمي، إني سخي بنفسي عنك؛ لأني لم أنقلك إلى خطيئة قط. ثم تمثل بقول معن بن أوس المزني:
لعمرك ما أهويت كفا لريبة
ولا حملتني نحو فاحشة رجلي
ولا قادني سمعي ولا بصري لها
ولا دلني رأيي عليها ولا عقلي
وأعلم أني لم تصبني مصيبة
من الدهر إلا قد أصابت فتى قبلي
ثم قال: ليهنك إن أخذت لقد أبقيت، وإن ابتليت لقد عافيت. وكذلك ما حكي عن الحسين بن منصور الحلاج العابد الناسك الصوفي؛ غضب عليه الخليفة المقتدر العباسي فحبسه سنتين، ثم سلمه إلى حامد بن العباس في دار الشرطة فضربه ألف سوط، ثم أمر بقطع يديه ورجليه، ففعل به ذلك وهو يقول:
أحرقه الود الذي لم يكن
يطمع في إفساده الدهر
ما قد لي عضو ولا مفصل
إلا وفيه لكم ذكر
ولم يتأوه أو يستغيث بأحد، ثم أمر به فصلب على خشبة. «ودخل عليه عمر الصفار الصوفي» وهو مصلوب فوجده ضاحكا مستبشرا لم يتلفظ بألفاظ قبيحة تكره سامعها، فقال له: ما التصوف يا حسين؟ فقال: هذا أوله ، واصبر كما أنت الساعة ليبدو لك آخره. وبينما هما كذلك وإذا بوالي الحبس قد جاء ومعه شرذمة من الجند فأمرهم بإنزاله عن الخشبة المصلوب عليها لتضرب عنقه، فصاح بأعلى صوته: يا ابن الصفار هذا آخر التصوف! ثم ضربت عنقه وعلقت رأسه على سور السجن، وبعدها أحرقوه بالنار. وأمثال هذا النوع من البؤساء كثيرون، وعموم البؤساء يجدون أن النزوح عن الدنيا أمر لا ريب فيه، ومتى حل بهم كرب لا يتطلعون إلى نعيم الحياة، ولا تتوق أنفسهم إلى بهجة الأيام، ولا يدرون لفراق العالم طعما، ولا يضجرون لبعد الأحبة ذلك البعد الطويل، الذي يبتدئ بسفر لا عودة منه. ولا ترهبهم وحشة القبور الدارسة، بين خرائب عاطلة، لا أنيس فيها غير بوم ينعب وغراب ينعق، في سكون هادئ رهيب، ولا يروعهم البلى، ولا يدهشهم توسد الثرى، ولا نهش الحشرات تلك الأجسام الناعمة؛ حيث يذوي ذلك الجمال، وتندثر محاسن ذلك القد الرشيق، والقوام العادل الفتان. ولو تأملنا حالة البؤساء بإمعان شديد وجدنا كل سراء وضراء لا تؤثر عليهم؛ فسيان عندهم الموت والحياة، لا فرق لديهم بين الترف والنعيم، والعذاب والجحيم، وسيان عندهم تمتعوا بالخيرات الوافرة والسعادة الدائمة، أو عانوا أهوال البؤس ودواهيه، والفقر المدقع الوبيل، في شظف العيش ونكد الأيام.
ولا عجب إذا ابتسموا للموت، وهشوا للمصائب، وحنوا للحتف العاجل، واستبسلوا للعناء، ولم يجزعوا وهم في حالة النزع الأخير ... وفي شرعهم الذي شرعوه، وقانونهم الذي نهجوا عليه، أن الموت راحة من كل عناء، وهو الدواء الناجع لكل محزون كئيب، بل هو للبؤساء جل أمانيهم ومنتهى رغباتهم، ومع ما في الموت من عذاب يقابلونه بوجه طلق، ومحيا وضاح، وثغر ضاحك بسام، كأنهم لا يخشون قدرة حاكم سرمدي، لا يرد له حكم، ولا يفلت من قضائه أحد.
نفوس البؤساء
ولما كان البؤس علة الإنسان في هذه الدنيا خلق الله للبؤساء نفوسا تجردت عن الملاهي، فأصبحوا بواسطة هذا التجرد لا يطربون إلا لقصص المنكوبين، ويتلذذون بسماع نوادرهم وأخبارهم، ويجدون في تلك الأنباء ما يعينهم ويسليهم على مصائبهم، ويشعرون عند تلاوة تلك القصص المحزنة بالراحة التامة والعزاء الجميل. وهكذا كل نفس منكودة تحن من طبيعتها إلى ذكر البؤس، والقلوب الموجعة تشتاق إلى الأفعال الطيبة إن لم تنعكس عليها المشاكسات الطبيعية التي تنشأ أحيانا من سوء الخلق وضيق الصدر، وخصوصا مع من نكبهم الدهر بالفقر المدقع.
ومن المقرر الواضح أن النفوس إذا خشعت في عنفوان شبابها، وكبرت على أطوار المحن والرضوح؛ أصبحت ولا شك تميل إلى الخير أكثر منها إلى الشر، وتتحاشى ما يوجب الضرر؛ وحينئذ يكون خشوعها عظيما لأنه صادر من أعماق الضمير. وإذا نالت تلك النفوس التي أدبها الفقر حظها من الغنى؛ انقسمت إلى قسمين: «قسم» يميل إلى عمل الخير جهد استطاعته؛ فيؤاسي البؤساء، «والثاني» يكون شرها شريرا لأنه ما تعود بسطة الكف، ولا وقف وقفة الكريم المتفضل؛ وما ذاك إلا لأنه وجد في عصر مظلم، وجو قاتم لا يعرف فيه نور الهدى. ولما كان كذلك تنوعت أعمال هذه النفوس وتغيرت أطوارها على اختلاف مشاربها وتباين طباعها، وأصبحت الطبيعة كأنها تشارك الإنسان في أحواله وأطواره، وكأن تلك العناصر والجمادات عوامل حية في ذلك المعترك الحيوي، الذي جمع بين طوائفه تهديد الضنك والأسى، ومغانم الحظوة والسرور، وصار بعناصره كالجيش المحارب في ميدان الجهاد؛ بين انتصار وخذلان، وأخذ ورد، وإقبال وإدبار؛ لتقضي كل نفس لبانتها، وتبلغ النفوس السعيدة شأوها من الغنى، ويتأهب البائس لاحتمال ضرورة الفقر والشقاء. ومن أدرك فربما قادته الضرورة إلى اقتحام أهوال الموت، وهو لا يعلم ولا يدري. ولله در الفيلسوف العربي حيث قال:
إذا كانت الأفعال يوما كأهلها
كمالا فحسن الخلق أبهى وأكمل
وإن كانت الأرزاق قسما مقدرا
فقلة جهد المرء في الكسب أجمل
وإن كانت الدنيا تعد نفيسة
فدار ثواب الله أعلى وأنبل
وإن كانت الأبدان للموت أنشئت
فقتل امرئ بالسيف في الله أفضل
وإن كانت الأموال للترك جمعها
فما بال متروك به المرء يبخل
اليأس
اليأس عنوان الشقاء، وأصل كل تعاسة، بل هو فاتحة الشر ودليل الخسران ومنبع الكبائر، كم بدد لذات ، وقوض من آمال، وأوهن من عزائم، وأذل من نفوس! بل هو علة مخلوقات الله تعالى. «اليأس والبؤس» كلمتان متشابهتان؛ فاليأس حليف الموت، والبؤس حليف الفقر. ومن بواعث اليأس: الهم، والغم، والشر، والشقاء.
وموضوع اليأس مريع حير فلاسفة العالم، وأدهش حكماء الكلام، وتاهوا في معنى أسبابه وحصوله. كم من ملوك دوخوا أقطار العالم، ورهبت بأسهم الدنيا! إذا استولى عليهم اليأس تراهم وقد تزلزلوا عن عروشهم، وتقوضت دعائم مجدهم، وفي لحظة واحدة تجدهم تحت رحمة القضاء العاجل والحتف المميت. وكم ملك فتح مدائن الأرض بمرهف سيفه، وهدم القلاع بقوة بطشه، واستعبد الأحرار بجبروته، وأسر الملوك بعزمه وحزمه، وسار القواد تحت أمره ورأيه، ومشت سنابك خيله على جثث العباد، ورفات الخلائق من بني الإنسان! ولو شاء لجرى القضاء طبق ميوله، واستلم النصر بيمينه، ولعب بالخلائق لعب الباشق بالعصفور الحقير، يقلبهم كيف شاء وشاءت أطواره وأفكاره، وبينما جيشه يسد فراغ الأرض، ويحجب غباره ضياء الشمس، وقد سطع شعاع سيفه كبرق لامع أضاء تلك الآفاق ليهتدي ببريقه جيشه وقواده، ومتى لعبت به صروف الدهر أو عاكسته الأيام؛ تجده وقد أشاح عنه القدر تلك العظمة، وزلزلته النكبات فهبط من سماء مجده إلى الحضيض الأسفل من الأرض، بائسا يائسا كأنه قنط من رحمة الله تعالى، وكأنه لم يكن شيئا مذكورا بعد تلك الانتصارات التي سطرتها له الأيام على جبين الدهر، ولم يوطد دعائم مجده وفخاره، وكأنه وهو في تلك الحالة من تقويض الآمال العظيمة ترك عليه الشقاء أثرا من بلائه؛ فأصبح يناجي الموت ليريحه من متاعب الدنيا ونحوسها، بعد أن كان يناجيه الحظ، وتخدمه السعادة، وتنحني أمامه الرءوس رهبة، والهامات هيبة وإجلالا. خانه الدهر وتنكرت عليه الأيام؛ فأصبح وكأنه لم يكن ذلك المخلوق المجدود الذي أسعدته ظروف الولادة. ومن أدراك به فربما مات شريدا عن وطنه، أو حكمت عليه يد غاشمة بالنفي الدائم أو السجن المؤبد؟! وهذا قليل من كثير ممن صادفهم سوء الطالع، وهم من الملوك العظام يضيق بنا المقام عن حصرهم.
القسم الثاني
تعساء الشقاء حلفاء الفقر
«الفقر» هو الفاقة، والفاقة هي البؤس الحقيقي، ومن أصابته علة الفقر صار شقيا. والفقر متى حل بقوم جعلهم في نكد مستمر، وجلب عليهم الهم من كل صوب. ومن نكب بالفقر فهو من بؤساء الدنيا، والبائس من عاش محروما من مشتهيات نفسه. ولقد داهم الفقر طائفة من المشاهير الأعلام، نوابغ الدنيا وحكماء الكلام، وفلاسفة الدهور وعلماء الإسلام.
تراهم وقد حلينا برسومهم هذا الكتاب؛ إتماما للفائدة التي بسببها اعتمدت على الله عز وجل وقمت بواجب طبعه ونشره بين الناس، وأنا على يقين من أنه لم يسبقني في وضعه أحد، بل هو الكتاب الوحيد في هذا الفن.
الفارابي «الفارابي» وهو محمد أبو نصر بن محمد بن أوزلع بن طرخان، من مدينة فاراب ببلاد الترك، كان إماما فاضلا، وفيلسوفا كاملا، برع في الفلسفة وأتقنها وأظهر محاسنها، وتفنن في فن الموسيقى واخترع فيه ما لم يسبقه إليه أحد، وشرح كتب الأوائل. وكان في أول الأمر قاضيا ببلاده، فأودع عنده رجل من التجار جملة من كتب أرسطاطاليس، فتلاها فصادفت عنده قبولا؛ فانكب عليها بجملته. وتجرد عن مركزه وترك القضاء لأجلها وسافر إلى بغداد، وأقام بها. وقرأ المنطق على ابن حبلان، وقرأ النحو على أبي بكر بن السراج، ثم سافر إلى مصر، ومنها رحل إلى الشام وأقام بها إلى أن توفي سنة 1334 هجرية. وكان على ما هو عليه من العلم والحكمة والفلسفة قانعا باليسير من عيشه، ولم يتحصل من الرزق إلا على القليل التافه.
وفي آخر أيامه رتب له الأمير سيف الدولة أربعة دراهم يصرفها في الضروري من حاجاته. وترك من المآثر ما خلد اسمه على ممر الأيام، وهو أحد فلاسفة الإسلام الأعلام. «أخلاقه»: ولقد كان هادئا وديعا عاقلا دمث الأخلاق، حاضر الذاكرة، قوي الذهن، لا يهاب أحدا، وإن كان دائما كثير الصمت إلا أنه شديد الحفظ، وله من عزة نفسه العالية مكانة سامية تقصر عنها همة الملوك، وتسجد لعظمتها العظماء.
الخليل بن أحمد
وهو الخليل بن أحمد بن عمرو الفراهيدي الأزدي، كان إماما في علم النحو، وهو الذي استنبط العروض، وعنه أخذ سيبويه وغيره من العلماء. وكان رحمه الله متقللا من الدنيا، صبورا على العيش الخشن والضيق الشديد، وكان يقول: «لا يجاوز همي ما وراء بابي.» وكان له راتب على سليمان بن حبيب بن المهلب بن أبي صفرة الأزدي والي فارس والأهواز، فكتب إليه سليمان يستدعيه بكتاب شديد اللهجة، فكتب الخليل رد جوابه بقوله:
أبلغ سليمان أني عنه في دعة
وفي غنى غير أني لست ذا مال
سخا بنفسي أني لا أرى أحدا
يموت هزلا ولا يبقى على حال
الرزق عن قدر لا الضعف ينقصه
ولا يزيدك فيه حول محتال
والفقر في النفس لا في المال نعرفه
ومثل ذاك الغنى في النفس لا المال
فلما وقف سليمان على كتابه قطع عنه الراتب فاحتاج إلى ما ينفق، ولما اشتد عليه الحال ارتحل إلى البصرة وأقام في كوخ صغير من أكواخها لا يقدر على نفقة القوت الضروري، وأصحابه يكتسبون بعلمه الأموال، وكان دائما يتمثل بقوله:
وفي الجهل قبل الموت موت لأهله
وليس لهم حتى النشور نشور
وأرواحهم في وحشة من جسومهم
وأجسادهم قبل القبور قبور
وكان إذا قدم على سيبويه يقول له: «أهلا بزائر لا يمل.»
وتوفي إلى رحمة الله فقيرا معدما سنة «170 هجرية» بعد أن ترك في عالم الأدب والعلم ما لا يندثر ويجعله في درجة عالية كأنه لم يمت، وسيبقى اسمه بين الناس ما بقيت مؤلفاته إلى يوم القيامة. ا.ه.
الترمذي «الترمذي» هو الإمام العالم العامل محمد بن أحمد بن نصر أبو جعفر الترمذي الشافعي، كان رحمه الله مطبوعا على الأدب ومكارم الأخلاق، متحليا بالفضائل، سار ذكره مسير الشمس والقمر حتى ملأ الآفاق بعلمه، ولم يكن للشافعية أرأس منه في وقته، ولا أروع ولا أحشم.
وكان مع هذا العلم الفائق على جانب عظيم من الفقر المدقع، وكثيرا ما كان يقول: «إن سعادة الحياة وهم باطل، ونعيمها خيال مائل، ومتاعها عرض زائل، سرورها أحزان، ولذتها آلام، ولو كنت أعجب بشيء فما أعجب إلا بمن تعلقوا بحب الدنيا، وهاموا بسعادتها الموهومة، وأطربهم سماع لفظة «السعادة»، تلك الكلمة الحلوة، حتى تخيلوها نعمة ما فتحت عين ابن آدم على أتم منها حسنا، ولا أجمل منها صورة، وباتوا يتهالكون في السعي خلفها ليدركوها، ولكنهم عجزوا عن لحاقها ولم يجدوها، وأخيرا بحثوا عنها فلم يقفوا لها على أثر، وأين يجدون هذه السعادة؟ أفي قصور الملوك ومقاصف الأمراء، حيث يضرب الهناء قبابه، ويوطد أطنابه، وتتسرب الحظوظ في جميع أماكنها، أم في بيوت الفقراء الحقيرة، حيث يحل الفقر وينيخ ركابه؟» «وله في وصف الحياة»: ما أكثر خداع هذه الحياة! إنها كالسراب يحسبه الظمآن ماء، كلما جد في طلبه ازداد بعدا، وكلما يئس وتوانى عن طلبها؛ أبرقت له وازداد لمعانها، عساه أن يوفق للحاق بها. «وكان دائما يقول وهو في أشد حالات محنته»: ما أضيقك أيتها الحياة لولا فسحة الأمل الكامن في صدورنا!
وكان رحمه الله صبورا على الشدائد والعيش الخشن، حتى إنه ليصح عنه أن يلقب ب «أمير البؤساء». قيل إنه من شدة فاقته مكث سبعة عشر يوما لا يقتات إلا لفتا، كل يوم وليلة يأكل واحدة. وتوفي إلى رحمة الله فقيرا معدما، وعلى منتهى البؤس والفاقة، لا يجد قوت ليلة، وكانت وفاته سنة «295 هجرية».
جحظة البرمكي
وهو أبو الحسين أحمد بن جعفر بن موسى بن يحيى بن خالد بن برمك، كان فاضلا أديبا صاحب فنون وأخبار، ونوادر وأشعار، ومنادمة ومجون، وخلاعة وشجون، نشأ في حجر الخلافة العباسية، وترعرع في مهد العز والرفاهية، وناهيك بآبائه الكرام، بني برمك أشهر كرماء الإسلام. ولد جحظة والدنيا زاهرة زاهية، وعائلته تفوق الملوك بالكرم والسخاء، حتى بات الخليفة يحسدهم ويغار منهم، وسرعان ما أضمر لهم السوء فنكل بهم تنكيلا شديدا.
وأصاب البؤس جحظة كما أصاب أجداده من قبله، وبات لا يملك ما ينفقه، وكان لشدة تعلقه بالعلم يمكث طول ليله يراجع النكات الأدبية، ومباحث العلماء والفقهاء، ولما لم يجد ما يضيء يغتم غما شديدا، وينكب على وجهه من شدة الكدر. ومن لطائف شعره:
وقائلة لي كيف حالك بعدنا
أفي ثوب يسر أنت أم ثوب معسر؟
فقلت لها لا تسأليني فإنني
أروح وأغدو في حرام مقتر «ومن محاسن نثره»: لقد طلبنا السعادة في المال فما وجدنا، وفي الحياة فما استفدنا، وفي الفقر فما استرحنا. وإذا طلبنا السعادة وأردنا أن نعيش سعداء؛ نفرت منا، واحتجبت عنا، وأصبح من المستحيل أن نتمتع بالحياة الحقيقة، والسعادة المرغوبة في هذه الدنيا. ورغما عن العوارض التي تعترضنا فلا بد من الوصول إلى أوهام السعادة، وإذا لم نعثر عليها فلنطلبها في الخيال الوهمي، لنطلبها في الأمل الفسيح الذي نبتهج به، ويسطع لمعانه على نفوسنا فيبدد ديجور ظلامها الحالك. «وله من الحكم المأثورة»: إننا نتوق كثيرا إلى السعادة، ولكننا لا نعرف كيف السبيل إليها.
وتوفي حزينا مكتئبا فقيرا بائسا سنة «326 هجرية».
النضر بن شميل
النضر بن شميل هو العالم المتبحر، الشاعر التميمي المازني النحوي البصري، بل هو أعلم أهل زمانه بفنون العلم والأدب، وهو صاحب «غريب الحديث»، ومن أصحاب الخليل بن أحمد بن عمرو الفراهيدي.
ضاقت به الحال بالبصرة فخرج يريد خراسان عساها أن تكون سببا في اتصال عيشه واتساع رزقه؛ فشيعه من أهل البصرة نحو ثلاثة آلاف رجل ما فيهم إلا محدث أو لغوي أو عروضي أو إخباري. فقال لهم: يا أهل البصرة، يعز علي فراقكم، ولو وجدت ما يسد رمقي بين ظهرانيكم ما فارقتكم.
فلم يتكفل أحد بطعامه، وسار حتى دخل بغداد، فدخل على أمير المؤمنين المأمون في ثوب مرقوع، وهو في شدة الفاقة والفقر، فقال له المأمون: ما هذا التقشف؟! فقال: يا أمير المؤمنين، شيخ ضعيف، وحر شديد؛ فأتبرد بهذه الخلقان. فقال المأمون: لا، ولكنك قشف. ثم تجاذبا أطراف الحديث إلى أن أدى بهما إلى السداد بمعنى البلغة، وسد الثلمة، فأورده المأمون بفتح الثاء، فرده النضر وبين له أن المفتوح إنما هو القصد لا البلغة، فأمر له عند انصرافه بخمسين ألف درهم يقبضها من الفضل بن سهل، فصرفها له الفضل ثمانين ألفا عند وقوفه على سبب الصرف. وتوفي النضر بمرو سنة «402 هجرية» وهو معدم في شدة الإملاق.
النيسابوري
هو الإمام الحافظ الفقيه الورع، العالم العلامة، وحيد دهره، وفريد عصره، أبو بكر عبد الله بن زياد النيسابوري، ولد رحمه الله من أبوين كريمين، وترعرع في نعمتهما، ونشأ في يسار وبسطة وغنى، ولما بلغ العاشرة من عمره توفي والده فاحتضنته والدته، ولكنها بعد سنة لحقت بوالده فأصبح لطيما، ولحقه الإملاق ولم يتركا له من المتاع ما يستعين به؛ فأقام يعاني أهوال الفقر أربعين سنة وهو مكب على دروس العلم في محافل العلماء، ولم يرزق الغنى في حياته، ولم ينم الليل إلا غفوات، ويتقوت كل يوم بخمس حبات، إلى أن انتقل من دار الدنيا. ومن محاسن نثره: «الإنسان بين الأمل واليأس.» «الأمل» قوة عظيمة تسوق الإنسان إلى العمل؛ فينشط من عقال الخمول، ويرتقي ذروة المجد العالية، ومهما صادفه من عقبات توقفه في طريقه، وتعيقه عن إدراك ما يروم؛ فإن عوامل الأمل تدفعه إلى العمل بخطوات واسعة؛ فيتخطى العقبات، ويتسلق الجبال، ويغوص البحار، ويركب كل صعب ما دام الأمل رائده، ولا ينتهي من جهاده إلا إذا بلغ أمنيته وأدرك غايته، أما إذا عصفت عليه زوابع اليأس، ولفحته رمضاء القنوط؛ استولى عليه البؤس، وامتلأ فؤاده حزنا وأسى، وضاق في عينه فضاء الأرض الذي ترامت أطرافه. ومتى بلغ به اليأس حد التعاسة؛ خانه الصبر، وفقد تلك القوة التي تسخر الإنسان إلى الحياة؛ فتراه واقفا يندد على الدنيا، ويتمنى الرحيل إلى الدار الآخرة، ويستعمل كل غاية للقضاء على أجله. ومن البؤساء من يقتل نفسه بخنجره، أو يلقي نفسه من مرتفعات شاهقات. «ومنهم» من يتردد بين الموت والحياة، فيقف على شاطئ نهر يخطب ود أسماكه إشفاقا على جسمه من أنيابها، فإن استقوى عليه اليأس زج بنفسه في اليم وهو يحمل في صدره حقدا على الدنيا المحفوفة بالمكاره والأخطار، ويود لو زالت العوالم معه واندكت دعائم الوجود. أما إذا تغلب الأمل على اليأس؛ فتراه وثب وثبة النمر، وأخذ يخاطب المستقبل الرهيب بألفاظ لا يفهمها سواه، ثم يضم قبضتيه ويهدد الزمن وهو هازئ به، ساخر عليه. وتستحيل أوهامه إلى حقائق فينظر إلى الزمن غاضبا، ويرنو إلى السعادة التي ولدها بقلبه الأمل، وكأنها تدنو منه وتحول بينه وبين الموت. ولولا هذا الأمل العالق بقلوب بني آدم ما غرس غارس، ولا أرضعت أم ولد، ولا طال عهد الإنسان بالدنيا، ولا نفض عن جسمه غبارا أثارته عواصف الأكدار. واليأس من غير شك مهلك الأفراد؛ ما حل بإنسان إلا وتنغصت عليه حياته، وأصبح حبل الموت أقرب إليه من الوريد. وكذلك إذا تسرب بأمة من الأمم فإنه يكتسحها أمامه، ويبيدها عن آخرها.
ومتى عرفنا ذلك وجب علينا ألا ندع لهذا اليأس سلطانا على قلوبنا، ونتخذ الأمل رائدا، ومن الحقائق الطبيعية أن لا يأس مع الأمل، ولا أمل مع اليأس. وتوفي رحمه الله على منتهى البؤس والفقر سنة «322 هجرية».
أبو الحسن بن بوعت
كان رحمه الله شاعرا مجيدا إلا أنه قليل الحظ من الدنيا، عاش طول عمره فقيرا من المال غنيا بالعلم، وكان يرتدي ثوبا من نسيج الوبر الخشن ليس له غيره، ولا يجد ما يقتات به، وربما يطوي طول يومه جوعا، وتأبى عليه عزة نفسه أن يطلب من الناس شيئا، ولم يمتدح أحدا أو يتظاهر بالرياء قط، على أنه لو فعل لكان من أحسن الناس حظا. «قيل» إن الأمير ابن عبد الله الوائلي استدعاه لخدمته فمكث عنده أسبوعا، وتصادف أن ناداه ذات يوم بلهجة استعجال وتهكم كما هي عادة أمراء ذلك العصر؛ فلم يرد عليه ابن بوعت، ولكنه نظر إليه نظرة حوت كل ما في نفسه الكبيرة من العظمة والطمأنينة، وخرج من القصر مرفوع الرأس موفور الكرامة، ولم يتجاسر الأمير ولا أحد أتباعه على سؤاله.
وبعد أيام غادر البلدة قاصدا مصر، فوصلها بعد جهد جهيد وتعب شديد، وعناء ما بعده عناء، ومكث في أحد جوامعها زاهدا متعبدا.
وكان له وهو على هذه الحالة مجلس علم لا يحضره إلا العلماء، وقد انتفع بعلمه وأدبه خلق كثير.
وهو على حالة من الضرورة وشدة الفاقة.
ومن محاسن شعره :
من ظن أن الغنى بالمال يجمعه
فاعلم بأن غناه فقره أبدا
فاستغن بالعلم والتقوى وكن رجلا
لا ترتج غير رزاق الورى أحدا
وقال ابن سلام: كان لأبي الحسن بن بوعت شهرة كبيرة في جميع الممالك الإسلامية، وكان الناس ينظرون إليه نظرة احترام وإعجاب عظيمين، وعلى شدة تقشفه وورعه وانهماكه في طلب العلم والاستزادة منه، كان على جانب عظيم من الذكاء النادر وسرعة الخاطر والنشاط الغريب، وأبدى في الإفتاء في بعض المسائل المعقدة ما يشهد له بالفخر والإعجاب، وكان على هذا النبوغ العظيم، والمواهب السامية، أفقر خلق الله، دام يعاني أهوال البؤس وشقاءه طول حياته.
وقال الإمام الوهابي: ما رأيت مشهدا حافلا أروع وأحشم وأعظم وأكثر جموعا من مشهد ابن بوعت؛ فقد كان في جنازته جموع لا يعلم أحد كيف جاءوا، ولا كيف كانوا، ولا ما هو عددهم بالضبط، ولقد خيل لي أن هذه الجموع كان أولها في القرافة وآخرها عند المسجد. «وكانت وفاته رحمة الله عليه بمصر سنة 416 هجرية.»
أبو الصلت
وهو أمية بن عبد العزيز الأندلسي، كان أديبا ماهرا في علوم الأوائل، عاش فقير الحال معدما محروما من الغنى طول حياته، وذلك بدليل قوله:
وقائلة ما بال مثلك خاملا
أأنت ضعيف الرأي أم أنت عاجز؟
فقلت لها ذنبي إلى القوم أنني
لما لم يحوزوه من الفضل حائز «ومن محاسن نثره يصف الحياة»: الحياة كما يقولون سعادة دائمة، وكل جمال مشتق من جمالها الرائع، وجمال الطبيعة أيضا من بعض جمالها العبقري، وكثيرا ما خدعت الناس بسرابها الكاذب، ونجد فيها السعادة شقاء، أضعنا الوقت في تحصيل العلوم، وفي وقت أخلصنا فيه قلوبنا من مشاغل الحياة، وضحينا على مذبحها المقدس عواطفنا الشريفة؛ ولم نفز بطائل، ولم نتمتع بهناء النفس الذي تعللنا به، وكأننا ونحن في دائرة الحرمان أصبحنا - والدنيا بملاهيها - لا قيمة لها عندنا، وما بأساء الحياة وشظف العيش الذي نحن فيه إلا كسجن، ولا خلاص لنا منه إلا بالموت، فنستريح من مشاغل الحياة، ونطمئن بالراحة في دار الخلود. توفي رحمه الله سنة «538 هجرية». «صفاته»: كان متوسط الجسم، متوسط القامة، حسن الهيئة، محترما من جميع معارفه، وكان على جانب عظيم من الذكاء والفهم وسلامة الذوق. ولقد خدم العلم والأدب خدمات جليلة تشهد له بالفضل والنبوغ، وكثيرا ما سمع بأذنه عبارات المديح والإطراء من أفواه طوائف عديدة من العلماء والشعراء.
القاضي عبد الوهاب
هو القاضي العادل عبد الوهاب بن علي بن نصر المالكي، كان رحمه الله من الأفاضل المشهورين، والعلماء المعدودين، بل هو خيرة الأدباء من الناس، ولسان أصحاب القياس، نبت به بغداد، على حالة البلاد، فخرج منها طالبا مصر فشيعه من أكابرها خلق كثير، فقال لهم لما ودعوه: والله لو وجدت بين ظهرانيكم كل غداة وعشية رغيفين من خبز ما فارقتكم. فلم يكن فيهم من يتكفل له بذلك فأنشد:
بغداد دار لأهل المال طيبة
وللمفاليس دار الضنك والضيق
أقمت فيها مضاعا بين ساكنها
كأنني مصحف في بيت زنديق
ولما شد رحاله أنشد:
سلام على بغداد في كل موطن
وحق لها مني سلام مضاعف
فوالله ما فارقتها عن قلى لها
وإني بشطي جانبيها لعارف
ولكنها ضاقت علي بأسرها
ولم تكن الأرزاق فيها تساعف
وكانت كخل كنت أرجو دنوه
وأخلاقه تنأى به وتخالف
فلما وصل مصر تلقاه أكابرها بالبشر والكرامة، وأنزلوه أحسن بيوتها، وأهدوه كثيرا من الهدايا الفاخرة والعطايا الوافرة والأرزاق الجزيلة؛ فحمل لواء العز فيها، وملأ أرضها وسماءها بمعارفه ولطائفه؛ فتناهت إليه الغرائب، وانهالت عليه الرغائب، ولم يطل عليه هذا الحال غير بضع شهور. وحينئذ ظهرت مواهبه الفائقة ونبوغه العلمي، وقال وهو في مصر في بعض مذكراته يصف عظمة أبناء وادي النيل:
للإحسان طرق متعددة، تختلف باختلاف نواحيها، ومهما كانت نتيجة هذا الاختلاف، فقد تؤدي هذه الطرق إلى غاية واحدة؛ هي تخفيف ويلات الإنسانية المعذبة، وعلى الخصوص طائفة البؤساء، بتجفيف دموع هؤلاء الذين نكبوا في الحياة. ويجب على أهل الخير والإحسان أن يجبروا هذه القلوب المصدوعة التي ضعضعها الزمن.
ولقد وجدت من أبناء مصر، وفي كل ناحية من نواحيها منتهى العناية، ومدارج البر والإحسان في نواح كثيرة، وسبل متعددة. وإن سماء مصر تظل جيشا جرارا، كلهم بل جلهم ليس لهم من مسترزق يتعيشون منه غير إحسان المصريين الكرماء.
ولو كان للإحسان أصل في عالم الوجود؛ فلا شك أن كرماء مصر هم ذلك الأصل ومصدره. •••
وقال من مذكرة أخرى: إن الأمة المصرية الكريمة من خير الأمم، بل الأمة الوحيدة التي ضربت في الحضارة بقسط وافر، وبينها وبين الأمم الأخرى فرق عظيم من حيث السخاء ومكارم الأخلاق وإكرام النزيل، وأين هذه الأمة العظيمة المتمدينة الراقية، التي لا يعلم عصر تمدينها وهو يرجع إلى آلاف الآلاف من السنين، من أهل بغداد على شحهم وبخلهم وحاجتهم إلى العلم بالكرم والجود؟! •••
وفي هذا الوقت القصير الذي مكث فيه بمصر استقامت أحواله؛ فصار كأنه ملك أو أمير، ونسي بل تناسى أيام بؤسه وشقائه.
وكان وديع النفس هادئ الطباع، دمث الأخلاق، قوي الذاكرة، عالما متبحرا في العلم، وكان له في القاهرة مجلس علم حافل لا يجتمع فيه غير العلماء والوجهاء وأعيان الدولة.
وبالجملة فقد كان القاضي عبد الوهاب محترما مهيبا. «ومما روي عنه»: أنه في ذات يوم أمر طاهيه أن يصنع له صنفا من طعام كانت نفسه تشتهيه، فلما جاء الطاهي به أخذ يأكل فوق طاقته (أي أنه أكثر من تناول هذا الطعام) فكانت شهوة نفسه قاضية على حياته، ولم يتمتع بملذاته، وقال وهو يجود بآخر نفسه: «لا إله إلا الله! لما جئنا نعيش متنا.»
وكانت وفاته بمصر سنة «450 هجرية». ا.ه.
ابن الخياط
هو أبو عبد الله محمد الثعلبي المعروف بابن الخياط، الشاعر المفطور، والمتكلم المشهور، رب الأدب، وأبلغ من كتب، حجة الشعراء، وإمام الخطباء، طاف البلاد، وقطع الوهاد، حتى دخل بلاد العجم، وامتدح الملوك والأمراء، وجالس العلماء والعظماء، وكان مع نباهته وبلاغته بائسا فقيرا معدما. «قيل» إنه لما دخل حلب كان فقير الحال لا يقدر على شيء، وليس معه ما ينفقه؛ فكتب رقعة إلى ابن حبوس الشاعر المشهور يقول فيها:
لم يبق عندي ما يباع بحبة
وكفاك مني منظري عن مخبري
إلا بقية ماء وجه صنتها
من أن تباع وأين أين المشتري؟
وكفاه فخرا وتعريفا بالفضل قصيدته البائية التي سارت بها الركبان، وهي:
خذا من صبا نجد أمانا لقلبه
فقد كاد رياها يطير بلبه
وإياكما ذاك النسيم فإنه
متى هب كان الوجد أيسر خطبه
خليلي لو أحببتما لعلمتما
محل الهوى من مغرم القلب صبه
تذكر والذكرى تشوق وذو الهوى
يتوق ومن يعلق به الحب يصبه
غرام على يأس الهوى ورجائه
وشوق على بعد المزار وقربه
وفي الركب مطوي الضلوع على جوى
متى يدعه داعي الغرام يلبه
إذا خطرت من جانب الرمل نفحة
تناول منها داءه دون صحبه
ومحتجب بين الأسنة معرض
وفي القلب من إعراضه مثل حجبه
أغار إذا آنست في الحي أنة
حذارا عليه أن تكون لحبه
وكانت وفاته رحمة الله عليه سنة «517 هجرية».
أبو الطيب الطبري
هو طاهر بن عبد الله بن طاهر بن عمر شيخ الشافعية وإمام عصره، صنف في الأصول والجدل وغير ذلك، وكان له ولأخيه عمامة وقميص إذا لبسهما هذا جلس الآخر في البيت. وقد قال في ذلك القاضي أبو الطيب:
قوم إذا لبسوا ثياب جمالهم
لبسوا البيوت إلى فراغ الغاسل
بلغ مائتين وستين سنة وهو صحيح العقل والفهم والأعضاء، يفتي ويقضي ويشتغل، وليس به إلا علة الفقر.
وكان رحمه الله من نوابغ العلماء، بل هو أول من أفتى الفتاوى الشافعية، وصادقه عليها أشهر علماء ذلك العصر، وكثيرا ما قضى بالحق فكان على الخصوم الإذعان. وعلى بؤسه وسوء حاله كان مغتبطا بروحانيته، يسبح في بحار العلوم لاستخراج الدرر الوهاجة ليبهر بها الناس. وكان لا يسأل الناس فضل نوالهم، ويتباعد عن قصور الأمراء ومحامل الأغنياء؛ لا تكرما منه، بل حرصا على سمعته. وبالجملة فقد كان يمثل في تقشفه وورعه زهد الخلفاء الراشدين، والأولياء والصالحين، كثير العبادة، حسن الاعتقاد، وديع النفس، لا تأخذه في الحق لومة لائم.
وله من تصانيفه العلمية ما تفتخر بها الأجيال، وتتحدث بنفاستها العصور، جزاه الله عن العلم وأهله خير الجزاء .
توفي رحمه الله فقيرا معدما سنة «450 هجرية».
محمد بن عبد الرزاق
وهو ابن رزق أبي بكر العدل العالم، شمس الدين بن محمد الحنبلي، كان من أعيان الشهود تحت الساعات عارضة البؤس، فأصبح في حالة ضنك شديد. «قيل» إنه سافر إلى مصر في شهادة فركب حمارا كان له خاصة، ووضع عليه جعبة فيها ما يحتاج إليه من مال وغيره، وبينما هو في الطريق خرج عليه جماعة من اللصوص فأخذوا منه الحمار بما عليه عنوة، وتركوه في عرض الطريق باكيا جائعا لا يعرف إلى أين يذهب، وبعد أيام وصل مصر شاكيا، وفي حالة من البؤس يرثى لها؛ فلم يحصل على مقصود؛ فخرج إلى دمشق من نفقة قليلة؛ وهناك انتظم حاله، وتعرف بجماعة من أهل الفضل، فاشترى فرسا. وفي ذات يوم خرج بها إلى النهر ليسقيها فغرقت منه، فجاء يسحبها فغمرته الأمواج فمات غريقا سنة «689 هجرية».
ومن محاسن شعره:
ولو أن إنسانا يبلغ لوعتي
ووجدي وأشجاني إلى ذلك الرشا
لأسكنته عيني ولم أرضها له
ولولا لهيب القلب أسكنته الحشا
محمد بن إدريس
هو أبو حاتم محمد بن إدريس بن المنذر الحنظلي الرازي، أحد الحفاظ الأثبات العارفين بعلل الحديث، سمع الكثير، وطاف الأقطار والأمصار، وروى عن خلق كثير من الأكابر والأعلام، وحدث عنه الربيع بن سليمان، ويونس بن عبد الأعلى، وهما أكبر منه. «قيل» إنه مشى في طلب الحديث «ألف فرسخ»، ولم يكن له شيء من المال ينفقه على نفسه في رحلاته، ومكث ثلاثة أيام لا يأكل شيئا، وله صبر على الجوع واحتمال الضنك.
ومن محاسن شعره:
سلام على بؤساء دهر قد اعتدى
وجر عليهم من مصائبه الردى
فعاشوا على خسف وماتوا على نوى
وتاهوا وما لاقوا على غرة هدى
ومما روي عنه:
أنه كان ذات يوم يجوب قفار الأرض من بلدة لأخرى، وصل إلى قرية صغيرة أمسى عليه الليل فيها، فصادفه أحد سكانها، ولما علم أنه غريب أضافه في منزله، وكان وهو بالطريق قد تبعه بعض الأشقياء طامعا في الحقيبة التي يحملها ؛ ظنا منه أن بها أمواله.
وكان من حسن حظه أنه كان يلبس عباءة يعرفها الرجل، فلما انقضت السهرة بعد هجعة من الليل ذهب لينام، فوجد الرجل قد هيأ له فراشا وثيرا، فتمدد عليه ونسي عباءته في غرفة مجاورة؛ فتغطى بها صاحب البيت.
فدخل ذلك اللص، ولما وجد صاحب البيت ملتفا في العباءة ظنه هو فهجم عليه فقتله، وشعر أبناء الرجل بحصول الجريمة فانقضوا على القاتل وقبضوا عليه، ولما وقف ابن إدريس على هذا الاتفاق اغتم غما شديدا وقال: ليتني كنت قدمت فأستريح من هذه الحياة. وتوفي سنة «277 هجرية».
سيبويه
هو أبو بشر عمر بن عثمان بن قنبر البصري، الحجة في علم النحو والعلم، وإمام النحاة قاطبة، ويعتبر سيبويه من العلماء الأعلام، بل هو طود اللغة العربية، ولسانها الناطق، وقلبها الخفاق، علم من الأعلام الخفاقة بالعلوم والمعارف، سطعت أنوار عرفانه على الشرق أجمع، وبعض بلاد الغرب، وإن شئت فقل: إن ذكره سار مع الركبان، وضربت بمتانته الأمثال. وكان على هذا النبوغ العظيم، والشهرة الواسعة التي طبقت الآفاق، وصيته البعيد في العلم والأدب، ورسوخه في علم الاجتماع، بل هو أعلم علماء العصر، وأفضل فضلاء الدهر؛ أدهش الثقاة بعلمه. وشرح النحاة كتابه؛ فانغمروا في لجج بحره، وتاهوا في تيار علمه، وانبهروا من لآلئ جواهره.
كان رحمه الله فقيرا معدما. «قيل» إنه لما قدم بغداد ناظر الكسائي وأصحابه؛ ففاز عليهم وفاقهم، ثم سأل عمن يرغب من الملوك في النحو، فدلوه على طلحة بن طاهر؛ فشخص إلى خراسان عساه ينال شيئا من كرمه، فصادفه سوء طالعه بعد أن قطع القفار، واخترق الوهاد، وجاب الوديان، وكأنما أثر التعب على صحته، وأضناه كثرة السير فشعر بحمى عنيفة.
فلما انتهى إلى ساوة مرض مرضا شديدا، ومات «سنة 180 هجرية» محروما بائسا فقيرا رحمة الله عليه.
ابن النحاس
هو بهاء الدين محمد بن إبراهيم بن محمد الإمام العلامة، كان من أذكياء بني آدم، وله خبرة بالمنطق، وإقليدس مشهور بالدين والصدق مع إطراء التكلف والتجمل وصغر العمامة، فيه ظرف النحاة وانبساطهم ، وكان يحدث في تعليمه وخطابه بلغة عامة الحلسين، ولا يتهوج في أقواله، ولم يتزوج لضيق حاله. توفي فقيرا بائسا سنة «618 هجرية». ومن محاسن شعره:
كحل بعينك أم ضرب من الكحل
ورد بخديك أم صبغ من الخجل
قضيب بان إذا ما ماس ميله
دعص من الرمل أم ضرب من الرمل
يفتر عن سمط در في عقيق فم
عذب المراشف ممنوع من القبل
أقسمت ما روضة بالنيرين إذا
سحت عليها شئون العارض الهطل
شقت شقائقها أيدي الربيع وقد
ماست حدائقها كالشارب الثمل
يوما بأحسن من ورد الخدود على
بان القدود ولا من نرجس المقل
وقائل وشموس الراح قد أفلت
فينا وشمس مدير الراح لم تحل
هذا هو الحب لولا كثرة الرقبا
ولذة العيش لولا سرعة الأجل
وله ديوان شعر جيد.
ابن مالك
هو أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن مالك الطائي الأندلسي الملقب بجمال الدين، صاحب التصانيف المبسوطة والمختصرة، والنظم والنثر، شيخ النحاة في عصره، وإمام اللغة في وقته، كان رحمه الله كثير الاشتغال بالعلم؛ حتى إنه حفظ في اليوم الذي مات فيه خمس شواهد، وكان على تبحره في العلوم فقيرا لا يمتلك شيئا. فمن محاسن نثره: اللهم لا إله إلا أنت سبحانك أنت الفعال لما تريد، لقد أسبغت نعمتك على قوم وأوصدت باب رزقك في وجه آخرين، لا اعتراض في حكمك، ولا تبديل لكلماتك. اللهم لقد أصبحت جميع مشاغل الحياة طالحة فاسدة، وملاهيها قاحلة عقيمة، وخيرات هذا الوجود لا معنى لها ولا طعم للذتها؛ لأني محروم منها، وزينة الحياة الدنيا نازحة عني نافرة مني، حتى صارت في نظري كالعدم، بل هي والعدم سواء ... ولولا الأمل الغريزي في الطبائع الإنسانية ما عرفت لذة العلم، ولا أدركت سبيله، ولا بلغت المقصود منه. ولكني بعدما نهجت طريقه تاقت نفسي لحب الرفعة؛ فخسرت الراحتين معا، وكأن أشعة هذا الأمل انعكست على روح غير روحي؛ فبطل من مخيلتي حب العمل، وضاعت مني عقيدة الرسوخ، وذهبت أغراض الحياة، وأصبحت على كاهلي حملا ثقيلا لا يطاق .
ولقد تحملت غضاضة العيش، وتجرعت مرارة العمر، وما كان لي من غرض في هذه الدنيا إلا أن أكون عالما، وأنهج على منهاج الدين الحنيف؛ أبتغي الدار الآخرة.
اللهم ارزقني نعمة الصبر، واكتبني مع الشاهدين. توفي رحمه الله «سنة 672 هجرية».
ابن الصباغ
هو أبو عبد الله بن عطية الشهير بابن الصباغ، افتقر بعد غناه حتى بات لا يجد قوت ليلة، فشكا حاله إلى بعض إخوانه، فأشاروا عليه بالاغتراب عن وطنه، فتخوف من الرحيل وشعر بهول الغربة، وتمثل بقول الشاعر:
قالوا اغترب عن بلاد كنت تألفها
إن ضاق رزق تجد في الأرض مقترحا
قلت انظروا الريق في الأفواه مختزنا
عذبا فإن بان عنها صار مطرحا
فعارضه في ذلك بعض نصحائه، وحتم عليه بوجوب السفر، وحرضه بعضهم بقوله:
عود ركابك كل يوم منزلا
وتنقلن كي لا تمل وتضجرا
فالماء يعذب ما جرى وتلاطمت
أمواجه فإذا أقام تغيرا
فأطاع وهجر وطنه، ورمته المقادير بأرض العراق.
فصار في نكد؛ يكافح النوب، تارة يشبع وتارة يجوع، وهو لا يعرف حيلة يتوصل بها إلى جلب الرزق، اللهم إلا قوت يوم بعد يومين، ولم يتمكن من شراء كساء يستر جسمه حتى صار في حالة يرثى لها من الفقر المدقع والبؤس الشديد، يمر بين الناس ممزق الثياب حافي القدمين مدة سبع سنوات. ففي سنة «945 هجرية» اتصل بخدمة الأمير محمد الطرابلسي؛ فرق له وأنعم عليه، ورتب له راتبا يتقاضاه ويتعيش منه، ولما توسم فيه النجابة والذكاء والتقوى ألحقه بخاصته، ولم يدم عليه هذا الحال طويلا حتى عزم الأمير على الحج إلى بيت الله الحرام، وأمر بشد الرحال، وأخذ معه أبا عبد الله. ولما أصبحوا على عدة أميال من المدينة عسكرت القافلة تلك الليلة هناك، وفي الصباح قام أبو عبد الله مبكرا ليوقظ مولاه لصلاة الفجر، ويتأهبوا للرحيل مع القافلة، فوجده قتيلا على فراشه؛ فارتاع روعة شديدة، وحصل عنده رعب شديد. وفيما هو في ذهوله حضر بعض الخدم فأبصر الأمير مجندلا، وأبو عبد الله في ذهوله، فألقى عليه جريمة القتل، وصاح بالنجدة ؛ فحضر الناس وأوسعوا ابن الصباغ ضربا وقدموه إلى رئيس القافلة؛ فأمرهم باعتقاله بعد أن ضربه ألف سوط، وصرح بدفن جثة الأمير. ولما دخلوا المدينة سلموه للوالي ليقتص منه ويحاكمه، ولما لم يجد الوالي ما يثبت التهمة عليه أمر بإيداعه السجن. ثم تنوسي أمره فاستمر في سجنه عاما كاملا. ثم تغيرت الأحوال، وعزل الوالي؛ فأطلقوا سراحه، فخرج من السجن خالي الوفاض، فدار في أزقة المدينة يوما لم يتناول فيه طعاما، وأمسى عليه الليل فصار يبحث عن مأوى ينام فيه. وبينما هو يجول حول البيوت وجد امرأة تبكي على باب دارها، فسألها عن سبب بكائها فأخبرته أن زوجها يحتضر، وليس عندها أحد؛ فتعهد بمواساته معها، وأقام ليلته في خدمة المريض. وفي الصباح قضى الرجل نحبه، فجهزه مع المرأة ودفناه. ولما عادا من المقبرة إلى البيت؛ أكرمت المرأة وفادته، ورغبت في وجوده معها؛ فأطاع ومكث عندها إلى أن انتهت مدة العدة أربع أشهر وعشرة أيام، فوجدت فيه مع طول المدة التي عاشرته فيها خصالا كريمة تدل على نبله، وشرف محتده؛ فعرضت نفسها عليه وتزوجت به. وكانت المرأة ذات مال كثير وجمال وأدب، فقدمت له ثروتها ليستثمرها، وكلفته أن يمتهن حرفة التجارة ويطلق العلم؛ فأطاع. وتاجر فربح ربحا عظيما، وصار ذا ثروة وافرة، حتى إن أقرانه اعتبروه من مشاهير تجار عصره. وظن أن الدنيا قد ابتسمت له، وزالت أوقات نحسه، وأيقن بالسعادة بعد البؤس. ولكنه من سوء طالعه اشتاق إلى وطنه، وطلبت منه زوجته أن يعود بها إلى البلاد؛ فجمع أمواله وعبيده وسار بقافلته يقصد الأوطان. وبينما هو في طريق الصحراء خرج عليه كمين لصوص فتمكنوا من نهب القافلة، وقتل العبيد والرجال، وفي الأثناء أصيب أبو عبد الله بطعنة رمح في جنبه ألقته على الأرض بين حي وميت، فتركه اللصوص على حالته بعد أن شتتوا العبيد والرجال، وأخذوا المرأة والأموال، وفروا هاربين.
وفي صباح اليوم التالي استفاق أبو عبد الله لنفسه، فوجد حالته تنذر بالموت، وشعر بالألم الشديد الذي لا خلاص له منه .
ومرت قافلة فأبصر رجالها ما هو فيه؛ فأشفقوا عليه وحملوه معهم، وأخذوا في إسعافه بالعلاج اللازم له مدة أيام، فلم يندمل له جرح، فتركوه في طريق بين مكة والمدينة يتصدق عليه الناس. وأقام في مكانه مدة عامين كاملين.
ووجد له في بعض مؤلفاته قطعا يناجي بها مصر:
مصر أنت الوطن العزيز، ولقد أراك بعين البصيرة وقد سرى في أبنائك المخلصين حب العمل واعتناق الفضيلة، وأنت تدرين عليهم من برك، ورفد نيلك الرزق الجزيل.
وقد وقف الشجعان البواسل أمام من يبتغي لك الشر، ويباغت سكانك بالفظائع والموبقات. «مصر» لقد وصلت في غابر العصور إلى ذروة المجد العالية، حتى تاهت بعظمتك الأجيال، وافتخرت بسعادتك الأيام، وكنت أنت آنث مقدمة الأمم، وسابقة الممالك والشعوب إلى المدينة الصحيحة، والرفاهية الفائقة، وها هي الآثار تنطق لك بتلك العظمة وذاك الفخار.
وها هو الأزهر الشريف ومعاهد العلم يستخرجون علماء قد نبغوا على الفلاسفة، وتفوقوا بمعارفهم على علماء الأرض قاطبة، وقد دونوا بلغتهم الشريفة مؤلفات عظيمة حوت من الفصاحة أبينها، ومن البلاغة أعلاها، ومن الألفاظ أسلسها وأرقها؛ فارتوت منها نفوس علماء الشرق والغرب، ولكني مع الأسف محروم منها غافل، بل غير قادر على ورود هذا المنهل العذب؛ لأني في حالة من الإعياء والتعب، صرت من جرائها لا حي فأرجى، ولا ميت فأنعى.
وله من حكمة أخرى يخاطب العوالم والكائنات:
أيها الكون الحافل المحجوب عنا بظواهر الكائنات، والمتجلي بخوارق العادات؛ مر الشمس أن تطلع فتتهادى على جبال مكة وبطاحها، حيث تتلألأ أنوارها على الأرض، وحينئذ يتبدد هذا الضباب، تاركا على هذه الأرض المقدسة آثار الندى؛ فتتندى الأشجار وتفوح منها روائح الطيب.
أنت تعلم يا رب أنني قد صرت عاجزا واعتراني المرض، فخذ روحي على عجل، ولا تحرمني من النظر إلى وجهك الكريم؛ لأرحل عن هذا العالم المملوء بالمتاعب، ولا تجعلني أهيم بالأمل الغرار، وأطلب الراحة من حيث لا توجد. •••
ومات على أسوأ حال من التعاسة والبؤس والفقر، وقد عانى أهوال الشقاء وغضاضة الدهر، وكانت وفاته سنة «953 ميلادية».
ابن زريق البغدادي
هو أبو الحسن علي بن زريق البغدادي الشاعر المشهور، كان على غاية الفطنة والعلم والأدب، عارفا بفنون الشعر والإنشاء، وكانت له ابنة عم، وقد كلف بحبها كلفا شديدا، ثم ارتحل من بغداد لفاقة أصابته، فقصد أبا الخير عبد الرحمن الأندلسي بالأندلس، ومدحه بقصيدة بليغة فأعطاه عطاء قليلا؛ فقال ابن زريق: إنا لله وإنا إليه راجعون، سلكت القفار والبحار إلى هذا الرجل فأعطاني هذا العطاء! ثم تذكر فراق ابنة عمه وما بينهما من بعد المسافة، وتحمل المشقة مع ضيق ذات يده فاعتل غما ومات. «قالوا» وأراد الأمير عبد الرحمن بذلك أن يختبره، فلما كان بعد أيام سأل عنه، فتفقدوه في الخان الذي كان فيه فوجدوه ميتا وعند رأسه رقعة مكتوب فيها هذه القصيدة:
لا تعذليه فإن العذل يولعه
قد قلت حقا ولكن ليس يسمعه
جاوزت في نصحه حدا أضر به
من حيث قدرت أن العذل ينفعه
فاستعملي الرفق في تأنيبه بدلا
من عنفه فهو مضنى القلب موجعه
قد كان مضطلعا بالخطب يحمله
فضلعت بخطوب البين أضلعه
يكفيه من لوعة التفنيد أن له
من النوى كل يوم ما يروعه
ما آب من سفر إلا وأزعجه
عزم إلى سفر بالرغم يزمعه
تأبى المطامع إلا أن تكلفه
للرزق سعيا ولكن ليس يجمعه
كأنما هو في حل ومرتحل
موكل بفضاء الأرض يزرعه
إذا الزمان أراه في الرحيل غنى
ولو إلى السند أضحى وهو يقطعه
وما مجاهدة الإنسان واصلة
رزقا ولا دعة الإنسان تقطعه
قد قسم الله بين الناس رزقهم
لا يخلق الله من خلق يضيعه
لكنهم كلفوا حرصا فلست ترى
مسترزقا وسوى الغايات يقنعه
والحرص في الرزق والأرزاق قد قسمت
بغي ألا إن بغي المرء يصرعه
والدهر يعطي الفتى من حيث يمنعه
عفوا ويمنعه من حيث يطمعه
أستودع الله في بغداد لي قمرا
بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه
ودعته وبودي لو يودعني
صفو الحياة وأني لا أودعه
وكم تشفع بي ألا أفارقه
وللضرورات حال لا تشفعه
وكم تشبث بي يوم الرحيل ضحى
وأدمعي مستهلات وأدمعه
لا أكذب الله ثوب العذر منخرق
مني بفرقته لكن أرقعه
إني أوسع عذري في جنايته
بالبين عنه وقلبي لا يوسعه
ومن غدا لابسا ثوب النعيم بلا
شكر عليه فعنه الله ينزعه
اعتضت من وجه خلي بعد فرقته
كأسا يجرع منها ما أجرعه
كم قائل لي ذقت البين قلت له
الذنب والله ذنبي لست أدفعه
هلا أقمت فكان الرشد أجمعه
لو أنني حين بان الرشد أتبعه
والله ما وقعت عيني على بلد
في سفرتي هذه إلا وأقطعه
يا من أقطع أيامي وأنفذها
حزنا عليه وليلي لست أهجعه
لا يطمئن لجنبي مضجع وكذا
لا يطمئن له مذ بنت مضجعه
ما كنت أحسب أن الدهر يفجعني
به ولا أن بي الأيام تفجعه
حتى جرى الدهر فيما بيننا بيد
عسراء تمنعني حظي وتمنعه
وكنت من ريب دهري جازعا فرقا
فلم أوق الذي قد كنت أجزعه
بالله يا منزل القصف الذي درست
آثاره وعفت مذ بنت أربعه
هل الزمان معيد فيك لذتنا
أم الليالي التي أمضته ترجعه
في ذمة الله من أصبحت منزله
وجاد غيث على مغناك يمرعه
من عنده لي عهد لا يضيع كما
عندي له عهد صدق لا أضيعه
ومن يصدع قلبي ذكره وإذا
جرى على قلبه ذكري يصدعه
لأصبرن لدهر لا يمتعني
به ولا بي في حال يمتعه
علما بأن اصطباري معقب فرجا
فأضيق الأمر ما فكرت أوسعه
عل الليالي التي أضنت بفرقتنا
جسمي ستجمعني يوما وتجمعه
وإن تغل أحدا منا منيته
لا بد في عده الثاني سيتبعه
وإن يدم أبدا هذا الفراق لنا
فما الذي بقضاء الله نصنعه؟
محمد بن غانم الأهوازي
كان من العلماء البارعين، وكان أبوه من أغنياء الأهواز وأكابرها، أرسله إلى مصر في طلب العلم، فهجر وطنه وحضر إلى الأزهر الشريف، وكان أبوه يمده بالمال الكثير. وبعد خمس سنوات نعي له والده؛ فتوجه إلى الأهواز ليحصر تركته؛ فوجده قد مات معدما ولم يترك له لا مالا ولا عقارا؛ فانصدع قلبه وأصابه مرض ألزمه الفراش ستة أشهر ، وما كاد يتعافى من مرضه حتى قوض رحاله يقصد بيت الله الحرام، ومن هناك يعود إلى مصر. وتصادف أن أحد معارف والده عزم على الحج في تلك السنة، فتوافقا على الرحيل معا، وكان هذا الرجل رث الثياب بشع المنظر، ولم يكن معه من المتاع غير جبة مرقعة، وبعض لوازم تافهة، وكان لمحمد بن غانم جبة جديدة من الصوف حسنة الشكل. فلما وصلا مكة مرض الرجل مرضا شديدا، فواساه محمد بن غانم وقام بتمريضه، غير أن الرجل لم تطل مدته؛ فوافاه أجله فقضى نحبه. ولما علم حاكم المدينة حضر ومعه شرذمة من الجند لحصر تركته والتحقق من موته، فقدم له محمد بن غانم متاع المتوفى، فقال له الحاكم وهو ينظر إلى جبته: ولمن هذه الجبة؟ فقال له محمد: إنها جبتي. فكذبه الحاكم وانتهره وأخذ منه الجبة بدعوى أنها من متاع المتوفى، فأقسم له بكل الأقسام إنها جبته ومن ماله، فلم يصدقه وأخذها منه غصبا، وأعطاه جبة الرجل القديمة. وبعد ذهاب الحاكم جلس محمد في القاعة وهو منقبض الصدر حزين النفس على جبته التي أخذت قهرا عنه، وقد كان عازما على بيعها بخمسة دنانير ينفقها على قوته في غربته فضاعت منه. وأخيرا علل نفسه وقال: لا أسف على ما فات. ثم أخذ الجبة ليبيعها ولو بنصف درهم، فلما رفعها بيده وجدها ثقيلة، ففك الرقع المرقوعة بها؛ فوجد بداخلها مادة صلبة، ففكها وأفرغها، فإذا بها محشوة بالدنانير الذهب؛ فانبسطت أسارير وجهه، وأخذ يفك الرقعات ويخرج منها الدنانير، حتى بلغ ما جمعه منها ألف دينار، ثم فتش فيها فوجد في جيبها صرة مملوءة بالمال، ففرح فرحا شديدا. ولم يمكث بالمدينة غير تلك الليلة، وفي الصباح تأهب إلى الرحيل، وسار يقطع الوديان على ناقة اشتراها، ولما أمسى عليه المساء قصد بعض القرى وترك ناقته عند أهل القرية، ودخل المسجد يصلي العشاء وينام تلك الليلة. وفي نحو منتصف الليل قام يزيل ضرورة، وترك النقود بصرتها عند متاعه، وعاد فوجد المتاع مبعثرا، فافتقد الصرة فلم يجدها؛ فضاع صوابه واعتراه ذهول شديد. وبعد أيام حصل عنده نوع من الجنون فهام على وجهه ممزق الثياب عاري الجسم، ثم وجد ميتا وفي جيب قميصه رقعة مكتوب فيها هذه الكلمات:
متى انتهى العمل ولاقيت حتفي، وفرغت من مأساة الحياة في هذا العالم المحزن، فهناك تسبح روحي في فضاء الأبدية. وإذ ذاك تتبدل وحشة أيامي بالأنس، وتمر حقائق الحق بأنوارها الخلابة، حيث تنطمس رسوم هذه الأيام، وتندثر أحلامها المؤلمة؛ فأنسى ما أثارته تنهدات الأسى في أعماق صدري، ودموع اليأس والأسف من أجفاني.
إن روحي ستكون في العالم الآخر، وراء حجب الغيب تحوطها الأسرار في عالم من العجائب الغريبة، التي ما كنا نعرفها في حقيقة الوجود، ولا ندرك معناها في أوهامنا المضطربة.
لقد تعذبت على الأرض، وكادت تنفجر من نفسي مرارة الكتمان، فعسى أجد الراحة في دار الخلود.
وعمل قليل سأصبح جثة هامدة، وأصير في غيبوبة روحية بانقطاع ذلك السيال المغناطيسي الذي يربط الروح بالجسم، ثم تغمرني الأنوار فأسبح في عوالم الأزل، لا أسمع ولا أرى.
وإن بعد الموت لحالات يجتازها الإنسان وهو غائب بكل مشاعر النفس، لا يعرف أين هو، حتى يناديه الجبار يوم الحساب.
وكانت وفاته سنة «715 هجرية».
ابن بسطام
هو يحيى بن علي بن محمد بن الحسن بن بسطام أبو زكريا الخطيب التبريزي الشيباني، إمام اللغة والنحو، تخرج عليه خلق كثير، وهو الذي شرح الحماسة وديوان المتنبي والمعلقات وغير ذلك، وكان فقير الحال جدا لا يملك ما يقتات به إلا من وجوه الأعيان. «روي عنه» أنه من شدة ملازمة البؤس له تحصل على نسخة من التهذيب في اللغة للأزهري في عدة مجلدات لطاف، فأراد تحقيق ما فيها على عالم من أئمة اللغة، فدلوه على أبي العلاء المعري، فوضع الكتاب في مخلاة وحمله على ظهره من تبريز إلى المعرة، ولم يكن معه ما يستأجر به دابة تحمله. فسار على قدميه يقطع مهاد الأرض، وكان الفصل صيفا والحر شديدا؛ فصهرته الشمس بحرارتها وهو في وقت الهاجرة، فرشح جسمه بالعرق، ونفذ العرق من ظهره إلى المخلاة ووصل إلى نسخ الكتاب؛ فبللها وأثر فيها تأثيرا كثيرا، حتى محا كتابة بعضها.
فاغتم لذلك غما شديدا حتى أثر فيه الحزن؛ فمات فجأة في شهر جمادى الآخرة سنة «502 هجرية». ومن محاسن شعره:
فمن يسأم من الأسفار يوما
فإني قد سئمت من المقام
أقمنا بالعراق على رجال
لئام ينتمون إلى لئام
الأبيوردي «الأبيوردي» هو أبو مظفر محمد بن العباس، ينتهي نسبه إلى معاوية الأصفر بن عنبسة بن الأشرف القرشي الأموي الشاعر المشهور. كان من الأدباء المشهورين، راوية نسابة، وله ديوان شعر جيد، وتصانيف كثيرة منها؛ «تاريخ أبيورد»، وكتاب «ما اختلف وائتلف في أنساب العرب». وله في اللغة مصنفات كثيرة لم يسبق إليها، وكان حسن الاعتقاد، نظيف الثوب دائما، إلا أنه شديد الفاقة جدا. «قيل» إنه مكث سنتين لا يقدر على شراء جبة يلبسها في الشتاء، وكان إذا سأله أحد معارفه عن لبس جبة تقيه شدة البرد يقول: بي علة تمنعني لبس المحشو. وكان يقصد بذلك الإيهام والتورية، «ومعنى العلة هنا» علة الفقر.
توفي في عصر يوم الخميس خامس وعشرين ربيع الأول «سنة 577 هجرية». ومن محاسن شعره:
لك ما يروقه الغمام الهاطل
إن رد عبرته الجموح السائل
وعليك يا طلل الجميع تحية
أصغى ليسمعها المحل الآهل
أمن البلى هذا النحول أم الصبا؟
فالحب من شيمي وأنت الناحل
خلع الربيع عليك من أنواره
حليا توشحه ثراك العاطل
والروض في أفواهه متبرج
والزهر في حلل السحائب رافل
وغنيت في حجر الحيا مسترضعا
يغذوك واشل طله والوابل
كانت أيادي الدهر فيك كثيرة
لكن لياليه لديك قلائل
في حيث يقتنص الأسود ضواريا
لحظ تمرضه المهاة الخاذل
إذ لم يكن والليل يسحب ذيله
لسعاد غير يدي وشاح جائل
فكأننا غصنان يشكو منهما
برح الغرام إلى الرطيب الذابل
هيفاء إن خطرت فقد رامح
نجلاء إن نظرت فطرف نابل
وكأن فاها بعدما نشر الدجى
فرعا يلوح به الخضاب الناصل
صهباء تغشي الناظرين نضت بها
عذب الغرام عن اللطيمة بابل
وأبي اللوائم لا أفقت عن الهوى
ولئن أفقت فأين قلب ذاهل
وله أيضا:
فؤاد دنا منه الغرام جريح
وجفن نأى عنه الرقاد قريح
فللوجد قلبي والمدامع للبكا
إذا لاح برق أو تنفس ريح
أكلف عيني أن تجود بمائها
وإني به لولا الهوى لشحيح
ويعذلني خلي ويزعم أنه
نصيح وهل في العاذلين نصيح؟
ولو أنصف الواشون رق لذي الشجى
خلي وما لام السقيم صحيح
فما لغراب البين ينعب بعدما
أتت دون من أهوى مهامه فيح
وله أيضا:
ونشوانة الأعطاف من ترف الصبا
تغير وشاحيها الخلاخل والقلب
إذا مضغت غب الكرى عود إسحل
وفاح علمنا أن مشربه عذب
وله أيضا:
أمط عن الدرر الزهر اليواقيتا
واجعل لحج تلاقينا مواقيتا
فثغرك اللؤلؤ المبيض لا الحجر ال
مسود لاثمه يطوي السباريتا
واللثم يجحف بالملثوم كثرته
حاشا ثناياك من وصم وحوشيتا
قابلت بالشنب الأجفان مبتسما
فطاح عن ناظريك السحر منكوتا
فكان فوك اليد البيضاء جاء بها
موسى الكليم وهاروتا وماروتا
جمعت ضدين كان الجمع بينهما
لكل جمع من الألباب تثبيتا
جسم من الماء مشروبا بأعيننا
يضم قلبا من الأصلاد منحوتا
فضحت من جيدك الغزلان ملتفتا
ولم تكن عن صياد الأسد ملفوتا
فهن ينفرن من خوف ومن خجل
لنقصهن ويسكن الأماريتا
وقال أيضا:
وسرحة بربا نجد مهدلة
أغصانها في غدير ظل يرويها
إذا الصبا نسمت والمزن يهضبها
مشى النسيم على أين يناجيها
تقيل في ظلها بيضاء آنسة
يكاد ينشرها لينا ويطويها
سود ذوائبها بيض ترائبها
حمر مجاسدها صفر تراقيها
عارضتها فاتقت مني بجارتها
كالشمس عارضها غيم يواريها
ونمت ملقى على سقط النقى لممي
ونفحة المسك تسري في نواحيها
ثم انتبهت ولاح الفجر في ظلم
غدا يقص سناه من حواشيها
وبل درعي ورمحي صوب غادية
والبرق يضحكها والرعد يبكيها
والعين من حب أعرابية عرضت
تعوم في عبرات كنت أذريها
فليتها لي والآمال أكثرها
تعذب الناس بالدنيا وما فيها
القسم الثالث
بؤساء الحظ
ومن البؤساء طائفة عاكسهم الحظ، وعاندهم الدهر؛ فضلوا سبيل القصد، وتاهوا في غياهب الظلم، ولم يبلغوا أملا من دنياهم، وأصابتهم العلل في أجسامهم ، ولم يقف بهم البؤس عند هذا الحد، فسلط عليهم المصائب فانقضت عليهم، ووقف أمامهم سوء الطالع وما استطاع أن يحولهم عن مطامعهم، ولما فقدوا عقيدة الأمل الذي كانوا به يتعللون؛ تركوا دنياهم ليتخلصوا مما هم فيه، وماتوا بحسرة لا تنتهي عنهم، وشجون لا يحصرها عدد.
ابن دريد
هو محمد بن الحسن بن عتاهية الأزدي الملقب بابن دريد، العالم المتفقه اللغوي البصري، إمام عصره في اللغة والأدب والشعر الفائق الذي كان يستهوي القلوب سماعه.
كان رحمه الله كثير الخلاعة والمجون والمنادمة والشجون، رقيقا مبدعا، مع إحكام قوافي الشعر ومبانيه. يضرب بعلمه وفنونه المثل، وله بين إخوانه ليال كلها أسحار، ومجالس كلها طرب.
قيل إنه جاوز التسعين من عمره وهو يشرب الخمر، وكان من بؤسه إدمان داء الخمر الذي هو علته وآفته. «وقال ابن شاهين»: كنا ندخل عليه نستفتيه في فتوى، أو نستفهم منه عن بعض ملتبسات لغوية، فتعترينا هيبته وهو في مجلسه، ولكننا نخجل ونستحي من رؤية العيدان وآلات الطرب المعلقة، وأواني الشراب المصفوفة.
وقال رشيد الدين العناني:
كان ابن دريد علما من أعلام العلم، وطودا من الأطواد الشامخة، يضرب بعلمه وذكائه المثل، كما صار مثلا من الأمثال الشائعة بخلاعته ومجونه.
وكان يحتفل بمجلس أنس تتهافت عليه عشاق الطرب والحظوظ. وفي ذات يوم ذكرناه فوجدنا العلامة المقري عناه في ميميته المشهورة بقوله:
أين الذين تفيئوا
ظل السعادة والزعامه؟
وتعشقوا لما بدا
لهم محيا الأرض شامه
والزاعمون بجهلهم
أن القبور صدى وهامه
والمكثرون من المجو
ن إذا شكا الفكر اغتمامه
أين الغريض ومعبد
أو أشعب وأبو دلامه؟
ومن الأمثال الشائعة فيه ما قاله عنه أبو منصور ظافر الحداد من ذاليته المشهورة:
تالله ما علقت محاسنك امرأ
إلا وعز على الورى استنقاذه
أغريت حبك بالقلوب فأذعنت
طوعا وقد أودى بها استحواذه
ما لي أتيت الحظ من أبوابه
جهدي فدام نفوذه ولواذه
إياك من طمع المنى فعزيزه
كذليله وغنيه شحاذه
ذالية «ابن دريد» أستهوي بها
قوما غداة نبت به بغداذه
دانوا لزخرف قوله فتفرقت
طمعا به صرعاه أو جذاذه
من قدر الرزق السني لك إنما
قد كان ليس يضره إنفاذه
وكان ابن دريد رحمه الله على ما هو عليه من الحظوظ ومعاقرة الراح والإدمان على الخمر وانغماسه في موبقاته عالما خطيبا، بل هو أفقه أهل زمانه وأعلمهم وأزكاهم.
وليس به من نقص يذكرونه فيه إلا تعاطيه الخمر، واندماجه دائما في دائرة المجون، وانكبابه على خلاعته، الأمر الذي نفر العلماء والعظماء منه، حتى تآمر عليه ونفوه من بغداد، وأصابته الفاقة.
شهاب الدين السهروردي
هو أبو حفص عبد الله البكري الملقب ب «شهاب الدين السهروردي»، نسبة إلى بلدة سهرورد التي ولد بها «سنة 539 هجرية»، ويعرف بالشهاب. كان أوحد زمانه في الفلسفة والحكم البالغة، مفرط الذكاء، حسن العبارة، متبحر في العلم والأدب، وله تصانيف كثيرة، منها؛ «الهياكل»، و«التلويحات»، و«الرقم القدسي في تفسير القرآن»، و«اللمحات في المنطق». نال حظه من العلم والذكاء، إلا أنه من سوء حظه رمي بالزندقة عند السلطان صلاح الدين الأيوبي؛ فخاف أن يهدر دمه فهرب إلى الشام.
ولما دخل حلب اجتمع بالملك الظاهر غازي، فأعجبه كلامه ومال إليه؛ فكتب أهل حلب إلى والده السلطان صلاح الدين بما معناه: «أن أدرك ولدك وإلا أتلفه الشهاب السهروردي.»
فكتب السلطان صلاح الدين إلى ولده الظاهر بالابتعاد عن شهاب الدين، وأمره بطرده من حلب فطرده، ثم أمره بقتله فهرب. وكان الشهاب السهروردي على قوة رسوخه في العلم، زرئ الخلقة، دنس الثياب. توفي فقيرا بائسا «سنة 632 هجرية». ومن محاسن شعره في التصوف قصيدته الحائية، وهي:
أبدا تحن إليكم الأرواح
ووصالكم ريحانها والراح
وقلوب أهل ودادكم تشتاقكم
وإلى لذيذ لقائكم ترتاح
وا رحمتا للعاشقين تكلفوا
ستر المحبة والهوى فضاح
بالسر إن باحوا تباح دماؤهم
وكذا دماء البائحين تباح
وإذا هم كتموا تحدث عنهم
عند الوشاة المدمع السفاح
وبدت شواهد للسقام عليهم
فيها لمشكل أمرهم إيضاح
خفض الجناح لكم وليس عليكم
للصب في خفض الجناح جناح
فإلى لقاكم نفسه مرتاحة
وإلى رضاكم طرفه طماح
عودوا بنور الوصل في غسق الجفا
فالهجر ليل والوصال صباح
صافاهم فصفوا له فقلوبهم
في نورها المشكاة والمصباح
وتمتعوا فالوقت طاب لقربكم
راق الشراب ورقت الأقداح
يا صاح ليس على المحب ملامة
إن لاح في أفق الوصال صباح
لا ذنب للعشاق إن غلب الهوى
كتمانهم فنمى الغرام فباحوا
سمحوا بأنفسهم وما بخلوا بها
لما دروا أن السماح رباح
ودعاهم داعي الحقائق دعوة
فغدوا بها مستأنسين وراحوا
ركبوا على سنن الوفا ودموعهم
بحر وشدة شوقهم ملاح
والله ما طلبوا الوقوف ببابه
حتى دعوا وأتاهم المفتاح
لا يطربون لغير ذكر حبيبهم
أبدا فكل زمانهم أفراح
حضروا وقد غابت شواهد ذاتهم
فتهتكوا لما رأوه وصاحوا
أفناهم عنهم وقد كشفت لهم
حجب البقا فتلاشت الأرواح
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم
إن التشبه بالكرام فلاح
قطب الدين الشيرازي «قطب الدين الشيرازي» هو محمود بن مصلح الشيرازي، إمام عصره في المعقولات، وكان في غاية الذكاء، وله تصانيف مشهورة، وهو من طبقة العلماء المعدودين، ومن الكرام المطبوعين على الفضل، إلا أنه كان متهاونا بالدين، محبا للخمر، وكان من سوء حظه الجلوس في مجتمعات المساكر وحلقات المساخر، ومع ذلك كان محبوبا عند الأمراء، معظما عند الملوك، وكل منهم يعطف عليه، ويجزل له العطاء، ويجد فيه النديم المسامر. وكان له بين أصحابه وعارفي فضله منزلة سامية. ولم يكن فيه ما يشين غير انحرافه عن مبدأ العظماء ومكانة العلماء.
وكان على هذه الصفات معروفا بين معارفه بتعيس الحظ، وبعضهم يدعونه ببائس الحياة.
وله من التصانيف والمؤلفات بدائع شتى تنبهر منها العقول. وله في وصف الحياة:
الحياة على حالتها وما فيها من علل وآلام، وقيود وأغلال، وسراء وضراء؛ تبدو لنا زاهية جميلة.
الحياة على كثرة همومها وما نقاسيه من أمراضها الوبيلة نهيم فيها عشقا، ولا نطيق الرحيل منها؛ لأننا نجد في الموت عقائد ما عرفناها بعد.
الحياة على علاتها جميلة فاتنة تسحر العقول، وتلعب بالألباب، وهي كالهالة بين متناقضات من الأحزان والأشجان، وكوارث الزمن وشقاء العمر والآلام الثقيلة، ولكنا وسط هذه الآلام تقودنا الآمال العذبة فنتعلل بها؛ وحينئذ يظهر لنا الكون باسما ضاحكا، والحياة خضراء ناضرة، والطيور تغرد بألحانها الشجية، والمياه تضطرب بين أمواج متراكمة، والنسيم يهب عليلا بليلا، كأنه ترديد أنفاس الطبيعة الخلابة. توفي رحمه الله سنة «710 هجرية».
أبو الحسن علي بن صاعد الصدفي
هو العالم الفلكي المشهور المعروف ب «ابن يونس المصري»، صاحب الزيج الحاكمي المعروف ب «زيج ابن يونس»، وقد وضعه في أربعة مجلدات كبار. وكان ابن يونس المذكور أبله مغفلا، بائس الحظ في الدنيا. وكان غريب الشكل؛ يجعل عمامته على طرطور عجيب الوضع، وكان إذا لبس العباءة في فصل الشتاء يجعلها فوق الطرطور. وكان طويل القامة جدا، إذا مشى نظر الناس إليه باستغراب، وإذا ركب على دابة ضحك الناس عليه لطول ساقيه؛ إذ يكادا أن يكونا مرتفعين عن الأرض قليلا. وكان سيئ الحال رث الثياب، وله مع هذه الهيئة منزلة عظيمة، بل هو أعلم الناس بحرفة التنجيم، وأمهرهم في علم الفلك، ولا جدال في ذلك، وعلى نبوغه لا يشاركه فيها أحد.
وكان متفننا في علوم شتى. «ومن أخباره» أنه دخل يوما على الحاكم بأمر الله الفاطمي، صاحب مصر في ذلك العصر، والحاكم على ما هو مشهور عنه كان ظالما غشوما مستبدا كثير الأضاليل والزندقة. فلما دخل مجلسه وضع مداسه في يده وقبل الأرض بين يديه، وجلس والمداس إلى جانبه، والحاكم بأمر الله ينظر إليه باستغراب. ولما أراد الانصراف من حضرة الخليفة قبل الأرض ولبس مداسه، فضحك عليه الحاكم ضحكا شديدا وأسماه «المنجم الخليع»؛ فالتصق عليه هذا الاسم وعرف به.
عاش طول عمره وهو يكافح الأهوال ويعاني المصاعب، مع سوء حاله وضيق ذات يده، وما زال في اجتهاد مستمر حتى انتهى من زيجه المعروف، والناس غير مصدقين ما هو عليه من قوة العلم. وقد كذبوا من تعرض بذكره، فعاش موصوما بالجنون واختبال العقل. على أنه كثيرا ما تنبأ بحصول حوادث بمصر، وأخبر عنها قبل حصولها، وصدق فيها فعلا؛ فكان من الناس من صدق، ومنهم من كذب.
ومكث فقيرا معدما لا يمتلك شيئا ، ولما حانت وفاته أوصى بعض من يثق بهم بإظهار زيجه المعروف. ولما انتهت حياته ظهر فضله وعرف الناس قوة إدراكه، وحينئذ شهد له العلماء، واعترفوا بنبوغه وتفوقه.
وكانت وفاته «سنة 391 هجرية».
حسين بن محمد الإربلي
الشاعر الضرير، تلميذ أفضل الدين الخلنجي، كان شاعرا بصيرا بالعربية، بل أستاذا في العقليات كلها، إلا أنه كان فيلسوفا رافضيا تاركا للصلاة. «ومن بؤسه» أنه كان رث الثياب زرئ الشكل، عظيم الهيئة ضخم الجسم، يصدر منه ما يحس بفساد العقيدة والانحلال. ابتلاه الله بالعمى وبطلوعات وقروح في جسمه، وكان من شدة فاقته لا يجد ثمن ما يغتسل به؛ حتى أصبح قذر الجسد والثياب، لا يتوقى النجاسة.
ومن طباعه المذمومة فيه أنه كان يهين السادات، ويطعن في الأكابر إذا حضر مجلسهم، وكانوا يكرهونه كرها شديدا، ومع كل ذلك كانوا بالرغم عنهم يعظمونه ويبجلونه إكراما لعلمه. وكان رحمه الله مهيبا محترما، وهو من أبلغ علماء عصره، ومن الخطباء المعدودين. توفي «سنة 660 هجرية».
محمد بن هانئ الأندلسي
هو أبو الحسن محمد بن هانئ الأزدي الأندلسي، الشاعر المشهور، «من ولد يزيد بن حاتم بن قبيصة بن الملهب بن أبي صفرة»، كان شاعرا مجيدا. ولد بإشبيلية «سنة 330 هجرية»، واتصل بصاحب إشبيلية وحظي عنده، ثم ارتحل إلى عدوة وهي «مدينة الزاب»، وامتدح والييها جعفر ويحيى ابنا علي، وكانا بالمسيلة؛ فبالغا في إكرامه. ونما خبره إلى المعز لدين الله الفاطمي فطلبه منهما، فلما وصل إليه مدحه بغرر القصائد فبالغ في الإنعام عليه بعطايا جزيلة يندر أن يهبها ملك إلى شاعر مثله. امتدح جوهر الصقلي قائده وغيره من أعيان الدولة. ولم يكن في المغاربة أشعر منه، وكان عندهم كالمتنبي عندنا بالشرق، وكانا في عصر واحد. ولم يكن فيلسوفا، ولكن له آراء أشبه بالفلسفة. ورحل إلى بلاد البربر ببلاد إفريقية، ولقي بها جوهر الصقلي قائد جيوش المعز، فمدحه ووصله. ومن بؤسه أنه كان متهما بالخلاعة والمجون وشرب الخمر والإدمان على السكر، وزعموا أنه كان متهما بمذهب الفلاسفة، وذلك كان علة بؤسه. وسبب وفاته أنه نزل على شخص من برقة فأضافه، وأقام عنده في مجلس حافل، وسكروا وأسكروه معهم، فلما انتشوا عربدوا عليه فقتلوه. وكانت وفاته في شهر رجب «سنة 365 هجرية»، وله من العمر 35 سنة. ولما بلغ المعز لدين الله الفاطمي خبر وفاته وهو بمصر حزن عليه حزنا شديدا وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، كنا نرجو أن نفاخر به شعراء الشرق فلم يقدر لنا.
ولابن هانئ ديوان شعر كله غرر ودرر قرط بهذين البيتين:
إن تكن فارسا فكن كعلي
أو تكن شاعرا فكن كابن هاني
كل من يدعي بما ليس فيه
كذبته شواهد الامتحان
ومن محاسن شعره:
فتكات طرفك أم سيوف أبيك
وكئوس خمر أم مراشف فيك
منعوك من سنة الكرى وسروا فلو
عثروا بطيف طارق ظنوك
ودعوك نشوى ما سقوك مدامة
لما تمايل عطفك اتهموك
حسبوا التكحل في جفونك حلية
تالله ما بأكفهم كحلوك
ولوى مقبلك اللثام وما دروا
أن قد لثمت به وقبل فوك
ابن عفيف الدين التلمساني
هو سليمان بن محمد بن عبد الله، الأديب البارع والألمعي الأريب، شاعر عصره وفريد دهره. كان رحمة الله عليه حسن العشرة كريم الأخلاق، ذا وجاهة واعتبار، يجالس الأمراء، ويباحث العلماء. واشتهر بين أهل دمشق بنظم الشعر، واعتبروه من نوابغ شعراء الشام؛ فكانوا لا يرون عليه تفضيل شاعر، ولا ينظرون له شعرا إلا عظموه كالمشاعر.
وسبب بؤسه؛ أنه اتهم في آخر أيامه بالخمر والفسق والقيادة؛ فهجره عارفوه، وتخلى عنه والده؛ فعاش ما بقي من عمره بائسا يائسا غير مرضي عنه. ومات غما سنة «688 هجرية». وله ديوان شعر نفيس. ومن محاسن شعره:
لما رأت عشاقها قد أحدقوا
من حسنها بحدائق الأحداق
شغلت سواد عيونهم في شعرها
وتوشحت ببياضهن الباقي
وله أيضا:
لا تخف ما فعلت بك الأشواق
واشرح هواك فكلنا عشاق
فعسى يعينك من شكوت له الهوى
في حمله فالعاشقون رفاق
قد يخفى الحب لولا دمعك ال
جاري ولولا قلبك الخفاق
لا تجزعن فلست أول مغرم
فتكت به الوجنات والأحداق
واصبر على هجر الحبيب فربما
عاد الوصال وللهوى أخلاق
كم ليلة أسهرت أحداقي بها
ملقى وللأفكار بي إحداق
يا رب قد بعد الذين أحبهم
عني وقد ألف الرفاق فراق
واسود حظي عندهم لما سرى
فيه بنار صبابتي إحراق
عرب رأيت أصح ميثاق لهم
أن لا يصح لديهم ميثاق
وعلى النياق وفي الأكلة معرض
فيه نفار دائم وتفاق
ما ناء إلا حاربت أردافه
خصرا عليه من العيون نطاق
ترنو العيون إليه في إطراقه
فإذا رنا فلكلها إطراف
وله أيضا:
مذ رأته الشمس في الحمل
لم تكد تبدو من الخجل
غصن بان مثمر قمرا
يخجل الأغصان بالميل
ورد خديه يضرجه
خجل من نرجس المقل
وسوى ذا أن مبسمه
جامع للخمر والعسل
من مجيري من لواحظه
إنني منها على وجل
كلما سلت صوارمها
قال قلبي قد دنا أجلي
وله أيضا:
بتثني قوامك الممشوق
وبأنوار وجهك المشوق
وبمعنى في الحسن مبتكر فيك
وقلب كقلبي المسروق
جد بوصل أو زورة أو بوعد
أو كلام أو وقفة في الطريق
أو بإرسالك السلام مع الريح
وإلا فبالخيال الطروق
وله أيضا في صباه:
أسير ولو أن الصباح مواكب
وأسري ولو أن الظلام قتام
وأغشى بيوت الحي لا مترقبا
وأطرق ليلي والوشاة نيام
إذا لم تكن للصب إقدام صبوة
تحل تلاف النفس وهو حرام
فليس له بين المحبين رحلة
ولا بين هاتيك الخيام مقام
لابن العفيف في النبي عليه الصلاة والسلام:
أرض الأحبة من سفح ومن كثب
سقاك منهمر الأنواء من كثب
ولا عدت أهلك النائين من نفس الص
با تحية عاني القلب مكتئب
قوم هم العرب المحمي جارهم
فلا رعى الله إلا أوجه العرب
أعز عندي من سمعي ومن بصري
ومن فؤادي ومن أهلي ومن نسبي
لهم علي حقوق مذ عرفتهم
كأنني بين أم منهم وأب
إن كان أحسن ما في الشعر أكذبه
فحسن شعري فيهم غير ذي كذب
حياك يا تربة الهادي الشفيع حيا
بمنطق الرعد باد من فم السحب
يا ساكني طيبة الفيحاء هل زمن
يدني المحب لنيل القصد والأرب؟
ضممت أعظم من يدعى بأعظم من
يسعى إليه أخو صدق فلم يخب
وحزت أفصح من يهدي وأوضح من
يبدي وأرجح من يعزى إلى نسب
تحدو النياق كرام نحو تربته
فتملأ البر من نحب ومن نجب
يسعون نحو هضاب طاب موردها
كأنما العذب مشتق من العذب
أرض مع الله عين الشمس تحرسها
فإن تغب حرستها أعين الشهب
يا خير ساع بباع لا يرد ويا
أجل داع مطاع طاهر الحسب
ما كان يرضى لك الرحمن منزلة
يا أشرف الخلق إلا أشرف الرتب
لي من ذنوبي ذنب وافر فعسى
شفاعة منك تنجيني من اللهب
جعلت حبك لي ذخرا ومعتمدا
فكان لي ناظرا من ناظر النوب
إليك وجهت آمالي فلا حجبت
عن باب جودك إن الموت في الحجب
وقد دعوتك أرجو منك مكرمة
حاشاك حاشاك أن تدعى فلم تجب
ابن العفيف التلمساني يمدح الأمير ناصر الدين الحرني:
صبا وهزته أيدي شوقه طربا
وجد من بعد ما كان الهوى لعبا
لا تعتبوه فما أبقى الغرام له
من سمعه ما به يصغي لمن عتبا
ولا ثناه وأمر الحب في يده
عذل فكيف وأمر الحب قد غلبا
يهوى بروق الحمى لكن يخالفها
فكلما ابتسمت في جوها انتحبا
يا قلب حتام تهوى من سلاك ويا
جفني كم تبكيان الجيرة الغيبا؟!
أعيذ قلبا ثوى حب الأمير به
من أن يرى بسوى حبيه ملتهبا
لا تنظر العين منه السيف منصلتا
إن فارق الغمد حل الهام فاحتجبا
لو أقسم المدلج الساري على قمر
باسم الأمير دعاه قط ما غربا
ولو وضعت اسمه يوما على ذكر
طاحت رءوس الأعادي وهو ما ضربا
ولو تلوت على ميت مناقبه
رد الإله له الروح التي سلبا
ولو مزجت بماء المزن ما اكتسبت
من لطف شيمته ما غص من شربا
من المكارم أبناء الأكارم آ
باء الأكارم لا زورا ولا كذبا
تسعى لنيل العلا من معشر وهم
تسعى المعالي إلى أبوابهم أدبا
يعلمون الورى آدابهم ولهم
بيض إذا غضبوا لا تعرف الأدبا
لو لقبوا بالغصون السمر صدهم
جعل الرءوس لها يوم الوغى كثبا
المنجدين أخا والموجدين سخا
والماجدين أبا والواجدين إبا
لما انتسبت إلى أبوابه كبرت
بي همة صغرت في عيني الرتبا
لو رمت أسحب أذيالي على فلك
لمد لي سبب من جوده سببا
ابن حزم
هو «أبو محمد الظاهري» الإمام العلامة، والبحر الفهامة، إمام وقته، ووحيد عصره، منبع العلوم والمعارف، واللطائف والطرائف، وصاحب المعقول والمنقول، حجة العلماء الحافظ المجتهد. كان رحمه الله من النوابغ الأعلام، وفحل من فحول الكلام، المشهود لهم بلا جدال. ولشدة نبوغه وذكاء عقله، وتفوقه على من عداه بالعلم والأدب، كان كثير الوقوع في العلماء؛ فاتفق عدد عظيم من معاصريه على بغضه وتضليله، وشنعوا عليه، وخطلوا في ذمه حتى نفروا قلوب الناس منه، وقاطعوه ومانعوه، وما اكتفوا بذلك حتى وشوا به إلى الخليفة؛ فأقصاه من البلاد، وأصدر أمره إلى الولاة بطرده من إمارتهم، وأن يحذروا العامة عن الدنو منه؛ فخرج رحمه الله من دياره شريدا طريدا، ولما انتهى إلى بادية فلاة توفي بها سنة «456 هجرية»، ووجدوا تحت رأسه جعبة وضع فيها مؤلفاته، ولما قرئت بمعرفة لجان تأسست لدرسها تاهوا في بحر علمه، وقدروا له حق قدره. وكانت مؤلفاته سببا في رفع ذكره مادامت الأرض وامتدت القرون إلى يوم العرض.
وكان رحمه الله على حالة لا تسر حبيب، حتى إن البؤس قد اعترضه طول أيام حياته رحمه الله. ا.ه.
أبو الحسن التهامي
أبو الحسن علي بن محمد التهامي، كان عالما أديبا وشاعرا مجيدا، تشبه بعادة الشعراء أمثاله؛ فطاف البلاد متوسلا بشعره مستجديا بقصائده، فمر بالعراق وفارس والشام وسائر الأقطار الشرقية، حتى انتهى إلى مصر مستخفيا ومعه كتب كثيرة من حسان بن مفرج بن دغفل البدوي، وهو متوجه إلى «بني قرة»؛ وهي بلدة بصعيدي مصر بمديرية أسيوط، فظفروا به فقال: أنا من بني تميم. فلما انكشف حاله عرف أنه التهامي الشاعر المشهور؛ فاعتقل في خزانة البنود وهو سجن بالقاهرة، وذلك في اليوم السادس والعشرين من شهر ربيع الآخر سنة «416 هجرية»، ثم قتل سرا في سجنه في اليوم التاسع من شهر جماد الأول سنة «416 هجرية».
ومن محاسن شعره:
سأنفق ريعان الشبيبة آنفا
على طلب العلياء أو طلب الأجر
أليس من الخسران أن لياليا
تمر بلا نفع وتحسب من عمري
أبان لنا من دره يوم ودعا
عقودا وألفاظا وثغرا وأدمعا
وأبدى لنا من دله وجبينه
ومنطقه ملهى ومرأى ومسمعا
فقلت أوجه لاح من تحت برقع
أم البرق بالغيم الرقيق تبرقعا؟
وله أيضا:
عبسن من شعر في الرأس مبتسم
ما نفر البيض مثل البيض في اللمم
ظنت شبيبته تبقى وما علمت
أن الشبيبة مرقاة إلى الهرم
ما شاب عزمي ولا حزمي ولا خلقي
ولا وفائي ولا ديني ولا كرمي
وإنما اعتاض رأسي غير صبغته
والشيب في الرأس دون الشيب في اللمم
بالنفس قائلة في يوم رحلتنا
هواك عندي فسر إن شئت أو أقم
فبحت وجدا فلامتني فقلت لها
لا تعذليه فلم يلؤم ولم يهم
لما صفا قلبه شفت سرائره
والشيء في كل صاف غير مكتتم
بعض التفرق أدنى للقاء وكم
لاءمت شملا بشمل غير ملتئم!
كيف المقام بأرض لا يخاف بها
ولا يرجى شبا رمحي ولا قلمي؟!
فقبلتني توديعا فقلت لها
كفى فليس ارتشاف الخمر من شيمي
لو لم يكن ريقها خمرا لما انتظمت
بلؤلؤ من حباب الثغر منتظم
ولو تيقنت غير الراح من فمها
ما كنت ممن يصد اللثم باللثم
وزاد ريقتها بردا تحدرها
على حصى برد من ثغرها شبم
إني لأطرق طرفي عن محاسنها
تكرما وأكف الكف عن أمم
ولا أهم ولي نفس تنازعني
أستغفر الله إلا ساعة الحلم
وله أيضا:
أعاصي الهوى في حال نومي ويقظتي
فسيان عندي وصلها والتجنب
لحى الله قلبي ما له الدهر عاكفا
عليها ومن شأن القلوب التقلب
ولم أنسها تصفر من غربة النوى
كما اصفر وجه الشمس ساعة تغرب
علي بن سليمان النحوي
هو علي بن سليمان بن محمد الشهير بالنحوي، كان من مشاهير القرن الثالث والرابع، بل هو من العلماء المعدودين، والنوابغ الأعلام، وإن شئت مزيدا فهو إمام اللغة والأدب في عصره، والنابغ المجتهد الفهامة، الذي اعترف الجميع بذكائه، وانبهر الطلاب من سرعة جوابه، وهو وإن كان من البؤساء الذين أخنى عليهم الدهر، إلا أنه كان في مجلس علمه تحتفل به الأمراء، وتتقرب إليه الوزراء. وعلى وجاهته وسمو مكانته كان يخفي تحت مظهره الخلاب، ونباهته الفائقة، حالته من البؤس التي كان يتألم في الباطن منها، وكانت عزة نفسه وشهامة قلبه تأبى عليه أن يبوح بما هو فيه من سوء الحال لأحد. وكان من أكرم أصدقائه عليه «أبو علي بن مقلة» الكاتب المعروف، الذي يضرب المثل بحسن خطه، والذي يقول فيه الشاعر:
فصاحة حسان وخط ابن مقلة
وحكمة لقمان وعلم ابن أدهم
إذا اجتمعت في المرء والمرء مفلس
ونودي عليه لا يباع بدرهم
وكان دائما يتلازمان وبينهما عهود صداقة توطدها صلة العلم، وأبو علي بن مقلة يبره ويراعيه، ويحفظ حقوق محبته غائبا أو حاضرا، وهذان الصديقان كانا على أتم وفاق وأطيب عشرة، ولا يكتم أحدهما عند الآخر سرا يختلج في صدره، ويبوحان لبعضهما بالمكتوم من أمرهما.
ففي ذات يوم حضر ابن مقلة لزيارة صديقه ابن سليمان، فدخل عليه وهو مستقبل القبلة يصلي، ثم جلس في ناحية من أركان الغرفة وابن سليمان لا يشعر به؛ لأنه كان غائبا بشواهد ذاته، حيث تجول روحانيته في سرمدانية الحق، فسمعه يناجي الحضرة العلية بقوله: إلهي وسيدي ومولاي، إني ولك الحمد على ما أنعمت أصبحت في حالة من الضنك كاد أن ينخلع لها صدري؛ لأني أدافع البؤس وأكافح الضيق، وفي نفسي من آمال الثقة بك جيش من الاطمئنان يزحف متمردا على هذا الشقاء الذي أكرهه وأمقته. اللهم أنت تعلم سوء حالي، وتعلم أني أقابل الناس وهم من طبقة الأغنياء؛ فتدفعني النفس الأمارة بالسوء أن أطلب منهم فضل نوالهم أستعين به على وقتي، ولكني أعود فأخجل لأني لا أعرف ما في نفوسهم. وكم من مرة جلست مترددا وفي قلبي غصة من ألم الحياة ومتاعبها، وحول عنقي سلاسل من مشاكل الوجود! وكلما أصبر النفس وأمنيها أجدها شاردة في فلاة هذه الحياة العميقة؛ وحينئذ تظهر الطبيعة أمامي تفيض برونقها، ثم تتلألأ ببهاء أنوارها الساطعة؛ فتنقشع العباسة عن وجهي، ويتهلل قلبي بشرا وسرورا، وتلوح الحياة أمامي جنة أفراح ومسرات، وما هي غير لحظة حتى تنقلب هذه الظواهر الخلابة.
اللهم أسبغ علي نعمتك، واسترني بسترك الجميل، وإلا فألهمني الصبر واجعلني قانعا باليسير من الرزق، وبتلك الحالة التي أصبحت فيها؛ لأني لا أستطيع الاكتفاء في حياتي بهذا العيش التافه الذي لو استمر على ما أنا عليه عراني السقم، وصرت من سوء التغذية وعدمها وهما وخيالا.
اللهم إن كان في الأجل امتداد، وفي الحياة بقية، فمتعني بطاعتك في مسرات الوجود حتى أبتهج بها، واجعل الأيام تمر سرعى وتنطوي على عمل؛ حتى أفوز بالهناء المقيم، وأحظى بالنظر إلى وجهك الكريم في جنات النعيم.
فاستاء ابن مقلة من هذه الحال التي يعاني بؤسها صديقه العالم الفاضل الفيلسوف المجتهد، الأديب الأريب الذي يضن الدهر بمثله، ولا تتمخض الأيام بمن هم على شاكلته، وانسكبت عبراته تتقاطر حتى صار يشهق بالزفير تبعا لعواطفه الرقيقة.
ولاحت من على ابن سليمان نظرة على أثر ما سمع من تصعد الزفرات، فأبصر صديقه ابن مقلة في شدة الحزن، وهو يكاد أن ينفطر كمدا عليه، فقال له: مهلا يا صديقي، فكهذا نصيب العلماء.
فقال ابن مقلة: ونصيب العظماء أيضا.
وبعد أن مكثا ساعة باح فيها ابن سليمان بما يبطن من همومه ونكبات دهره، فقال له ابن مقلة: إني سأجتهد في الوساطة لك عند بعض الأمراء فيلحقك في مرتزق من خيرات المحسنين.
فكرهت نفس ابن سليمان هذا الرجل الشريف النبيل أن يكون هكذا حاله، وهو الرجل العاقل المؤتمر بأوامر الله والمنتهي بنواهيه، أن يقبل على نفسه هذه الوساطة الشائنة، وهو ذلك الرجل العالم الوقور الذي يعترف بالحق، ويؤدي الواجب عليه، ويعرف ما يعترض الإنسان من خير أو شر، وله من عظمة نفسه العالية الأبية ما يجعله يترفع عن مثل هذه الدنايا. لم يكن أبدا من أولئك الذين يطلبون رزقهم من غير الخالق جل شأنه، ولا هو ممن يطلبون الرفعة على مزالق السقوط، لم يكن أبدا يطلب رزقه في عظمة مسلوبة، ثم ينحدر في بؤرة السفالة والمعروف.
فنظر إلى ابن مقلة وقال: إذا كانت الأرزاق تأتي من هذا الباب؛ فدعني أغلقه، ومن أدراك؟ فربما تلحظنا عناية الله عز وجل؛ فتكتب لنا السلامة وتهدينا إلى الطريق المستقيم.
وهنا أبت عزة نفس ابن سليمان أن يجعل صديقه عرضة لطلب الإحسان باسمه، وأبت صداقة ابن مقلة إلا أن يسعى في خير صاحبه فيتوسط له في مرتزق يتعيش منه. ولما ودعه وانصرف من حضرته قصد في الحال منزل الوزير «أبو الحسن علي بن عيسى»، وليشرح له حالة صديقه علي بن سليمان، وما هو فيه من الفاقة والفقر وشدة الضيق، ويطلب منه أن يساعده فيقرر له مرتزقا يتعيش منه في جملة من يرتزق من البؤساء والفقراء المحتاجين.
فلما وصل ابن مقلة إلى الوزير أبي الحسن بن عيسى، وعرض عليه مساعدة ابن سليمان برق وأرعد، واشتد به الغضب؛ فصرخ في ابن مقلة وأهانه إهانة شديدة، وانتهره وشنع به من غير ما سبب يوجب ذلك.
ولقد كان ما حصل لابن مقلة من الإهانة أمام مجلس حافل من الوجوه والأعيان، وطبقة أخرى من جماعة المتقاضين وغيرهم؛ فشق على ابن مقلة ذلك، ولم يستطع أن يعمل عملا مع هذا الوزير الفظ الأخلاق السيئ التربية، غير أن توجه إلى بيته وهو يكاد أن يتميز من شدة الغيظ، اعتراه الخجل من جراء هذا الحادث الذي أحزنه وقلل من مقامه واعتباره، وكتم الأمر تماما عن علي بن سليمان، وعزم على أن لا يفاتحه بما حصل؛ خوفا على رقة إحساسه وشعوره العالي.
وبعد أيام وقف علي بن سليمان على صورة الحال، فاغتم غما شديدا على ما حل بصاحبه من الإهانة التي وجهت إليه بسببه، فأكبر فيه هذه المروءة وهي من صفات الرجل الكريم، ومقت للوزير سفالته إذ كانت من خصال الرجل اللئيم.
واشتدت به الأحزان فاضطربت أعصابه، واعترته آلام نفسانية لا يعلم أحد عن كيفية أسبابها ، وظهرت عوارض اليأس عليه.
وكانت نفسيته في حالة شديدة ظهرت مرتبكة بالتأثير، فكان كلما تصور المعركة العنيفة التي قامت بين الوزير وصديقه ابن مقلة؛ تجلت له عظمة الرجل الغيور، صاحب النفس العطوفة، الرجل الحكيم الداعي للمسامحة والتساهل، لأسباب قهرية لولاها لكانت نفس ابن مقلة نشطت من عقال الخمول، وتصدرت للدفاع عن كرامتها، وما كان علي بن سليمان ممن يستهينون بكرامة النفس، فإن ما حصل من الوزير أبي الحسن علي بن عيسى جرحه في كبريائه، وصدع عزة نفسه؛ فانتفض ممتقع اللون، وشعر بحمى عنيفة، فأراد أن ينتهي من حياته على أي وجه أو شكل؛ فأتى بشيء من السلجم وأكله نيا فقبض على قلبه فانتحر، ومات على الإثر.
فكان هذا الخبر شديد الوقع على ابن مقلة؛ فحزن عليه حزنا شديدا.
وكانت وفاته سنة «715 هجرية».
التلعفري
هو الإمام الأوحد، والعلامة المفرد، الشيخ شهاب الدين محمد بن يوسف بن مسعود بن بركة الشيباني التلعفري الشاعر المشهور، ولد بالموصل سنة «593 هجرية»، واشتغل بالأدب حتى ضرب به المثل في لطافة الغزل، ورصانة الشعر، ورشاقة المعاني، وكانت تميل به نفسه إلى الخلاعة، ثم ابتلاه الله بالقمار فأفسد عليه عيشه، وكان كلما أعطاه الملك الأشرف شيئا يقامر به فطرده من خدمته وأقصاه إلى حلب، فلما وصلها مدح صاحبها العزيز فأحسن إليه وقرر له رسوما، فسلك معه مسلك الملك الأشرف، فنادى في حلب أن من قامر مع الشهاب قطعنا يده؛ فامتنع الناس من اللعب معه، فضاقت به الحال فترك الخدمة، وجاء إلى دمشق ولم يزل يستجدي بها ويقامر حتى صار لا يملك درهما، وصار من شدة الفاقة في حالة يرثى لها، ثم نادم في أواخر أيامه أمير حماة، ومات بعدها بقليل سنة «685 هجرية» وله من العمر اثنان وثمانون سنة، وله ديوان شعر جيد. ومما حكاه الشيخ تقي الدين بن حجة الحموي، قال: اتفق أن الشيخ نور الدين علي بن سعيد الأندلسي لما نزل بمصر اجتمع بالوزير بهاء الدين أبو الفضل زهير، وسأله أن يرشده إلى ما يجعله رقيق الغزل ، فقال له: طالع ديوان الحاجري والتلعفري، وأكثر المطالعة فيهما، وراجعني بعد ذلك، فغاب عنه مدة وهو يشتغل بمطالعة الديوانين إلى أن حفظ غالبهما، ثم اجتمع به بعد ذلك وتذاكرا الغراميات، فأنشده بهاء الدين زهير «يا بان وادي الأجرع»، فرد عليه نور الدين «سقيت غيث الأدمع». فقال له: حسن، لكن الأقرب إلى الطريق الغرامي «هل ملت من طرب معي». ومن محاسن شعر التلعفري:
هذا العذول عليكم ما لي وله
أنا قد رضيت بذا الغرام وذا الوله
شرط المحبة أن كل متيم
صب يطيع هوى ويعصي عذله
ابن الراوندي
هو الإمام الأجل، العالم العامل، الفاضل المجتهد، حسن بن محمد بن علي الراوندي، ولد ببغداد سنة «890 هجرية»، فحفظ القرآن وله من العمر سبع سنين، ولما بلغ الثانية عشر جود القرآن بالسبع قراءات، وتبحر في العلم، وكان رخيم الصوت حسن الغناء، يكاد صوته أن يكون ملائكيا يستهوي القلوب سماعه، ووهبه الله جمال الخلق والخلق؛ فكان صبيح الوجه حسن التقاطيع، وقد رزقه الله التقوى؛ فنشأ على الورع والزهد وكثير العبادة، يتهجد طول ليله ولا ينام إلا غرارا. وشاع ذكره في جميع الممالك الإسلامية، فطاف مدن العراق فصادف من إعجاب الناس وحفاوتهم به ما جعله مكبا على العلم بجملته، وعظمته الأمراء واحتفلت به الملوك، ولما بلغ العشرين من عمره كمله الله بالعلم ومحاسن الجمال الفتان؛ فكانت تعشقه النساء، وتهيم بحبه الغادات الحسان، وتتمنى كل غانية من الغانيات، والبارزات في الحسن المشهود لهن بالجمال ورقة الغناء؛ أن تكون له أمة تتمتع بهيئته الوسيمة، وطلعته النادرة المثال. وبالجملة فقد أصبح ابن الراوندي لا ينادم إلا الملوك، ولا يسامر غير الأمراء.
ففي ذات يوم دعاه الأمير بهاء الدين بن حشاد صاحب الوائلية، وكان بنو حشاد سادات هذه الجزيرة، ولهم من الإقطاعات والعزب والحدائق والغيطان والقصور الشماء ما جعلهم يفاخرون الملوك، ويتعاظمون على من عداهم. «قيل» إن جيش ابن حشاد كان لا يقل في زمن السلم عن عشرين ألفا، وكان في زمن الحرب لا يعلم عدده إلا الله.
وكان الأمير بهاء الدين قد بلغه خبر ابن الراوندي، ووقف على صيته البعيد وما وهبه الله من جمال الصوت والخلق، فأراد أن يراه ويسمع صوته، ويولم وليمة يجمع فيها جميع الأمراء وأعيان البلاد المجاورة له، ويجعل الأفراح في مدينته شهرا كاملا؛ فأرسل رئيس حرسه إلى ابن الراوندي بكتاب رقيق الحاشية، يدعوه فيه بتشريف الوايلية، وأعد له هودجا، وما يلزم لراحته. ولما وصل إليه رسول الأمير أسرع في الذهاب إليه وهو مبتهج طروب، ولما دخل الوايلية قابله الناس بالترحاب والتهليل، ودقت له الطبول، وخرج الأمير ابن حشاد لمقابلته، ولما وقعت عينه عليه أخذه بالأحضان وهنأه بالسلامة، وشكره على إجابة طلبه، وبعد أن استراح ثلاثة أيام من وعثاء السفر؛ دعا الأمير الناس للاحتفال، ونصب له مجلسا عاليا يشرف فيه على هذه الجموع المتزاحمة.
أخذ ابن الراوندي مجلسه بين بطانته، وكانوا أربعة شبان على شاكلته، يضرب بهم المثل، وكانوا يرددون صوته بما تستدعيه صناعة الغناء التي ابتكرها لهم هذا الأستاذ، وما كاد يفتتح الحفلة بتلاوة ما تيسر من القرآن حتى هاج الجمع وماج، وبعد ذلك أخذ في غناء قصيدة غرامية قام لها الحاضرون وقعدوا. اندهش الأمير ابن حشاد مما سمع، واستهواه جمال هذا الصوت الحنون الرنان، وترجيع المواقف بنغمة شهية فيها بحة احتلام لذيذة، يتوهمها السامع أنها موصلة بنياط قلبه، واشتد الطرب بالأمير فالتفت إلى من بمجلسه من أصدقائه وندمائه وقال: لو أقسمت أني سمعت صوت الملائكة ما حنثت في يميني. وما زال يغنيهم؛ تارة بالإنشاد، وطورا بالتواشيح، حتى سلب عقولهم. وانتهت تلك الحفلة بعد الفجر حيث تفرقت هذه الجموع للصلاة، وانتشروا بعد ذلك لمزاولة أشغالهم، وكان لا هم للناس إلا الإعجاب بما سمعوه من جمال صوت ابن الراوندي.
واقترب منه الأمير ابن حشاد، فأخذه بين أحضانه وهو مغتبط طروب، وقد أحبه أحسن حب، وما زال به حتى أوصله إلى الغرفة التي خصصها له لينام فيها، وكانت فاخرة الرياش حسنة الترتيب، فيها سرير عليه فرش وثير مما ينام عليه الملوك، وجعل له خادما خصصه له ، ثم ودعه وانصرف لينام.
وما كاد يرتدي بملابس نومه ويستلقي على سريره حتى سمع نقرا ضعيفا على باب غرفته، ثم دخلت فتاة حسناء ما وقعت عين إنسان على أجمل منها، فحيته بإشارة من يدها، وقالت: أظنك لا تعرفني طبعا، وتجهل سبب حضوري إليك، وأنا ربة خدر لم أتعرف برجل قبلك.
فنظر إليها نظرة حياء ووقار وقال: إن صدق ظني فأنت من بيت حشاد الرفيع العماد، الأثيل في المجد والسؤدد. فنظرت إليه نظرة طويلة تطفح حنوا وغراما وقالت: لقد صدقت، فأنا شقيقة الأمير حشاد، ولقد حضرت إليك لأشرح عواطف حبي، وأقول لك إني سمعت نغمة صوتك التي استهوتني بالوجد الشديد، ورأيت جمال صورتك الذي استمال عواطفي نحوك، ولما تحققت من دعة نفسك وكرم أخلاقك أحببتك حبا خالصا شريفا وملكتك قلبي.
فاضطربت أعصاب ابن الراوندي، وثبت في مكانه جامدا، وأرخى للفكر سدوله؛ فهام في مهامه التفكير. ثم رفع إليها رأسه، وقال: هذه طربة من شجون الحب، وبدعة من هواجس الغرام. أظنك تسرعت كثيرا ولم تفهمي أن بيني وبينك فوارق هائلة لا أستطيع أن أزحزحها؛ أنت من ذوات الصون والعفاف، شقيقة ملك وسلطان، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن أكون من ضمن خدمه.
فبكت الأميرة وقالت: أنت يا ابن الراوندي فتى جمله الله بالمحاسن النادرة التي تروق في عين النساء، وإني فتاة لا أمتلك أمر نفسي، ولكني حضرت إليك ألتمس في حبك الهناء، راجية منك أن تقاسمني واجب الحب ولو حالت دونه الحياة.
فبكى ابن الراوندي بكاء مرا ونظر إلى الفتاة، وقال: إنك يا سيدتي حسناء ولا جدال في ذلك، وإني منذ هذه اللحظة التي رأيتك فيها شعرت بتأثير الحب، أحببتك يا ذات الشباب الغض والجمال الباهر، وإني في غد سأسكب عبرات الأمل الزاهر، وأستعذب هذه الحياة المباركة.
فقالت: تأكد يا حبيبي بأننا من أصحاب الآمال العظيمة الهائلة، والقلوب الكبيرة الذابلة.
فقال: نعم، ولكن مع الأسف إن هذه النفوس العالية خاوية خالية.
وبعد ذلك تعاهدا على الوفاء في الحب.
واستمر ابن الراوندي والأميرة حسنات يتقابلان سرا مدة شهر كامل، كانا في خلاله لا يستطيع أحدهما البعد عن الآخر، وزاده الحب نباهة؛ فكان يغني بالحب حتى لا يستطيع من يسمعه إلا أن يصيح عاليا من قلب مندمل.
وانتهت الضيافة، وقرر الأمير ابن حشاد أن يعلن بفض هذه الحفلات.
ومن سوء حظ ابن الراوندي وحبيبته الأميرة حسنات أنهما اجتمعا معا في ذات الليلة التي شكر فيها الأمير حشاد على تلبية دعوته جميع من حضروا حفلات أنسه بسماع ابن الراوندي، الذي شنف الأسماع برخيم صوته، وقال وإن الليلة الآتية هي خاتمة هذه الحفلات.
وفي وقت الفجر تقريبا حضرت الأميرة كعادتها، وأخذت تتحدث مع ابن الراوندي بحديث العشاق.
وبينما هما كذلك وإذا بالأمير قد وقف أمامهما وقال: سلام على العشاق في كل مكان، وسلام عليكما يا من جهلتما أن بين المضاجع يختلف المؤتلفون، ويعتنق المتباعدون، أما أنتما فمحبان باعدت بينهما الأيام، وحكمت عليهما بالفراق.
فوجم العاشقان وجوما رهيبا، واعتراهما خوف شديد، فوقفا مضطربان، وقد زادهما الحياء حسنا وجمالا.
وشعر الأمير بأن أعصابه تضطرب، وقد وهنت عزيمته، فوقف باهت اللون يترنح من شدة الغيظ، وظهرت على محياه ثورة الحزن واليأس.
أما الأميرة فقد ضعضعها الوجل، واستولى عليها الحياء، ومادت بها قدماها فهوت ساقطة إلى الأرض.
فاحتملها الأمير إلى غرفة ثانية، وكتم غيظه، وعاد بعد ذلك إلى ابن الراوندي وقال: لا تحزن ولا ترتبك، وتأكد بأني قد وهبت لك حسنات.
وما زال به حتى طابت نفسه، وذهبا معا إلى غرفة الفتاة، وما زال بها حتى أفاقت، فأمنها على نفسها بحجة أنه قد وهبها له.
فرح العاشقان فرحا شديدا، وإكراما لذلك قال الأمير: وبما أني قد أمرت بجمع شملكما فيجب أن نجلس جميعا نستقبل هذا الصباح الجديد، وهيا نصطبح فأشرب نخب هنائكما كاسات المدام.
وجيء بالخمر فصب كأسه وصب لكل من شقيقته وابن الراوندي كأسه، وبسرعة مدهشة وضع لهما في الكاسات سما زعافا.
ودارت الكاسات خمرا صافيا بين الثلاثة، وعلى أثر ذلك شعرت الأميرة بدوار شديد، وعادت في الحال إلى غرفتها.
أما ابن الراوندي فقد شعر بأحشائه تكاد أن تتمزق، فأفرده الأمير في غرفة خاصة وهو موقن أن سيموت عما قليل، وأدرك ابن الراوندي ما حل به من الأمير، فجاء في ذات ليلة حينما أمكنته الفرصة فهرب، وأخذ يسير طول الليل وهو في حالة من المرض والتعب لا يمكن معها أن يواصل سفره في البيداء، فمكث في ضيافة رجل مدة ثلاثة أشهر، أصبح في خلالها عظما باليا في جلد، وفي حالة يرثى لها.
وما زالت تتناوشه الأسقام وتعترضه الأشجان، حتى تغير شكله، وصار من يراه لا يظن أنه هو، وقد تغير هندامه؛ فانقلبت سحنته وضاعت محاسنه الجسمانية، وفقد نغمة صوته الشجي، واستحال بعد ذلك إلى شكل مخيف بشع من تأثير السم الذي فتك به.
وصار صوته خشنا مريعا لا يخرج من حنجرته إلا بصعوبة، وكان وقتئذ يبلغ من العمر نحوا من ثلاثين سنة، فعاد إلى بغداد وهو موقن أنه فقد فضيلة الصوت، وأن حياته صارت كالعدم؛ فانكب على العلم بجملته، فكان من العلماء الراسخين في العلم. ولما لم يجد من يعوله تزوج بامرأة من قومه فقيرة مثله؛ فرزقه الله بكثير من الأولاد على سوء حاله. «قيل» إنه اشترى يوما جانبا من الدقيق، ووضعه في طرف ردائه وشده بخيط وحمله على كتفه، وبينما هو سائر في الطريق خطر بباله سوء الحال الذي هو فيه، وضيق ذات يده، وتراكم المحن والشدائد عليه؛ فرفع طرفه إلى السماء وقال: «يا رب حل مشكلي» وأكثر من الدعاء بذلك، وبينما هو يدعو عثر في حجر فارتج جسمه، ومن شدة الرجة انقطع الخيط المربوط به الدقيق، وتبعثر الدقيق على الأرض واختلط بالتراب، فلما أبصر ذلك قال: الحمد لله قد انحل المشكل، وسيموت العيال جوعا!
ومن تلك الساعة اختبل عقله ومات بعد عدة أسابيع، وكانت وفاته سنة «985 هجرية»، وله من العمر «95 سنة».
الفقيه نجم الدين بن عمارة
هو الأديب الأريب، العالم العلامة، الفقيه نجم الدين بن عمارة بن الحسن الخزرجي البوريني النعماني، كان عالما من أئمة الفقهاء ، شافعي المذهب، من أهل السنة، ومن الشعراء المجيدين. قدم إلى مصر في عهد الدولة الفاطمية، وصاحبها يومئذ الظافر بأمر الله إسماعيل بن الحافظ.
1
وكان وزيره الصالح بن زريك، فأكرم مثواه وصار عنده في أكرم محل وأعز جانب، واتحد نجم الدين مع الخليفة على ما كان بينهما من الاختلاف في العقيدة، ودولة الفواطم على ما هو مشهور عنهم أنهم بعد أن انقسم المسلمون على إثر تولية الإمام علي كرم الله وجهه الخلافة إلى قسمين؛ قسم يشايع لعلي والآخر مع بني أمية، وقد استفحلت العداوة بين الفريقين، وخاصة بعد قتل علي، وموت ابنه الحسن، واغتيال الحسين، فسمي أتباع علي بالشيعة، وأخذوا يعملون سرا وجهرا على القضاء على الدولة الأموية واسترجاع الخلافة منهم. واستمروا كذلك في جهادهم إلى عصر الدولة العباسية؛ حيث ذهب أحد دعاة الشيعة إلى بلاد البر «شمالي إفريقية» داعيا لعبيد الله بن محمد، المنتسب إلى السيدة فاطمة بنت رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وطرد الأمير الحاكم بتلك البلاد التابع للدولة العباسية. وهذه آخر وسيلة عولوا عليها؛ لأنهم لما عجزوا عن الاستحواذ على الخلافة من طريق السياسة، عادوا إلى الدين، فقالوا إن الإمامة ركن من الدين، إذ لا يصح أن يترك المسلمون بلا إمام. وقال أحدهم يجب أن يكون الإمام من ذرية الرسول
صلى الله عليه وسلم ، وهم أولاد فاطمة. وبالفعل أعلنوا أن الخليفة الحقيقي للمسلمين هو عبيد الله المذكور، وأنه المهدي المنتظر، وكان ذلك سنة «296ه» الموافق لسنة «908م». وحضر عبيد الله في العام التالي إلى بلاد المغرب، وحكمها أربعة وعشرين عاما، كان الأمر فيها كله بيده، وأخضع قبائل البربر ودانت له جزيرة صقلية، فكان بذلك مؤسسا للدولة الفاطمية. وكان أكبر أمانيه فتح مصر؛ فأرسل إليها ولي عهده في جيش جرار فلم يفلح.
ولما مات خلفه ابنه القائم بأمر الله سنة «322ه»، الموافقة لسنة «934م»، فأرسل جيشا إلى مصر فهزمه الإخشيد، ولم يحاول خلفه المنصور إسماعيل الاستيلاء عليها. ثم تولى الخليفة الرابع «المعز لدين الله الفاطمي» سنة «431ه»، الموافقة لسنة «953م»، فكانت أيام مبدأ عصر جديد في تاريخ الدولة الفاطمية؛ فبدأ بتوطيد الأمور في بلاده، حتى دانت له جميع رؤساء القبائل العربية، وخضعت له مراكش بأكملها.
ثم صرف همه لفتح مصر، وكانت وقتئذ في اضطراب شديد عقب وفاة كافور الإخشيد، ولم يكن في وسع الخليفة العباسي ببغداد مساعدتها لاشتغاله بصد الغارات عن الدولة، واغتنم المعز هذه الفرصة؛ فسير قائده جوهر الصقلي في مائة ألف مقاتل، وأعدهم بأفخر العدد وزودهم بالمال الكثير؛ فاستولى على مصر بعد مناوشات ضعيفة سنة «358ه»، الموافقة لسنة «996م»، ومن ذاك العهد ابتدأت دولة الفاطميين بمصر.
ثم خضعت بلاد النوبة للفاطميين، ودانت لهم مكة والمدينة، واعترف لهم أمراء بني حمدان (حكام أعالي الشام) بالسيادة على حلب، واستولى أحد قواد جوهر على دمشق عنوة، ونشر فيها عقيدة الشيعة كرها.
ثم قدم المعز إلى مصر في موكب حافل سنة «362ه»، الموافقة لسنة «973م»، ومعه بنوه وإخوته وعشيرته وجثث أسلافه، وكان عصره أزهى عصور مصر وأزهرها. «حضارة الفاطميين»: وكانت دولة الفواطم من أعظم دول الإسلام ملكا، وأرقاها حضارة وأدبا، وأنبلها ترفا وتمتعا، وتقدمت في عصرها الصنائع على جميع أنواعها، ولهذه الدولة أهمية عظمى في تاريخ مصر؛ إذ كان لها تأثير في صيغ البلاد، لا تزال بقيتها إلى اليوم؛ فهم الذين أحدثوا في مصر كثيرا من المواسم والأعياد والحفلات الوطنية، مثل: موسم «أول السنة الهجرية»، ويوم عاشوراء، ومولد النبي، ومولد الحسين، وفتح الخليج، وقافلة الحج (المحمل) ... إلخ.
وبعد أن مكث الفقيه نجم الدين بن عمارة في رحاب الخليفة الظافر مدة طويلة، رحل إلى اليمن في مهمة ثم عاد إلى مصر، وكانت الحروب الصليبية قائمة على قدم وساق، فأقام بالرغم عن هذه القلاقل في أمن وطمأنينة، ملحوظا بعناية هؤلاء الخلفاء الفاطميين، إلى أن زالت هذه الدولة من سوء حظه على يد السلطان صلاح الدين بن أيوب، فأصبح في حالة من البؤس يرثى لها.
ولما اشتدت به محنته رثى من كانوا سبب عزه من الفواطم بين القصرين بقصيدته التي أولها:
رميت يا دهر كف المجد بالشلل
ورعته بعد حسن الحلي بالعطل
ومنها:
قدمت مصر فأولتني خلائفها
من المكارم ما أربى على الأمل
قوم عرفت بهم كسب الألوف ومن
تمامها أنها جاءت ولم أسل
يا لائمي في هوى أبناء فاطمة
لك الملامة إن قصرت في عذلي
بالله زر ساحة القصرين وابك معي
عليهما لا على صفين والجمل
وقال منوها عن الحروب الصليبية:
ماذا ترى كانت الإفرنج فاعلة
بنسل آل أمير المؤمنين علي
وهي طويلة في غاية الحسن، نطق بها بغاية من وجدانه، وأملاها عليه يقينه بنية خالصة وعقيدة ثابتة، فلما بلغت السلطان صلاح الدين الأيوبي؛ تغير عليه وطرده من مصر منفيا، فمكث مدة سنوات في حالة من البؤس يرثى لها، حتى مات غما سنة «570 هجرية».
محمد أفندي المرزوقي
هو محمد بن أحمد بن علي بن صلاح الدين المرزوقي، ولد بالإسكندرية سنة 1844 ميلادية، فرباه والده الشيخ صلاح الدين المرزوقي تربية عالية، فتعلم علومه الابتدائية في المدرسة الأولية بالإسكندرية، ثم تلقى علومه العالية على مدرسين، عهد به والده إليهم، فتعلم اللغة الفرنسية، حتى صار كأنه من أبنائها. وفي سنة 1864م حضر والده إلى مصر، وتشرف بمقابلة سمو الخديوي إسماعيل باشا ومعه ابنه محمد، ولما وقعت عليه أنظار الجناب العالي قال له: من هذا الغلام الذي معك يا مرزوقي؟
فأجابه: هذا نجل عبد سموكم يا ولي النعم.
وارتجل محمد المرزوقي بين يدي سموه قصيدته النونية التي مطلعها:
فخر الملوك وصاحب الإيوان
أفديك من ملك رفيع الشان
ذكرتنا عهدا تقادم وانقضى
بزمان ذاك العالم الروحاني
حقب مضت وتناسخت بجلالها
وجلال عصرك ساد في الأكوان
قل للملوك ومن أتوك لينظروا
همم الملوك وحكمة الديان
عني خذوا عهد الفراعنة الألى
دامت مفاخرهم على الحدثان
ومنها يخاطب مصر:
طوباك يا مهد الفخار فقد حما
ك مليك مصر وفاتح السودان
الشهم إسماعيل فياض الندى
جم المواهب باذل الإحسان
المانح الخيرات للبؤساء وال
محتاج فهو صنيعة الرحمن
لا يلهجون بغيره من سيد
في العالمين ولابسي التيجان
ومنها:
والنيل تاه ففاض فوق جسوره
من عطفك السامي على الأوطان
إن المواهب سيدي مقبولة
لا زلت باب الفضل والعرفان
فسر الجناب العالي من نباهته، وأنعم على والده برتبة البكوية، وطلب من محمد المرزوقي أن يقدم طلبا إلى المدرسة الحربية؛ ليكون ضابطا في الجيش المصري.
وفعلا تقدم الطلب، وصار قبول محمد أفندي المرزوقي تلميذا بالمدرسة الحربية، بعد أن أدى الامتحان فنجح نجاحا باهرا، وبعد مدة الدراسة وتعليم الحركات العسكرية؛ تخرج في المدرسة برتبة الملازم ثاني، فألحقه الجناب العالي بين الحرس الخديوي، فترقى إلى رتبة اليوزباشي، ولما توسم فيه مولاه النباهة والنشاط؛ سر منه سرورا لا مزيد عليه، وكثيرا ما كان يشمله بعطفه وينعم عليه دون إخوانه الضباط، حتى باتوا جميعا يحسدونه على هذه الغبطة، وأوغرت قلوبهم عليه، حتى صاروا يتمنون له غلطة يغلطها، أو إساءة يسبكونها في قالب وشاية يلفقوها ضده. وكان الجناب الخديوي مع ما هو مشهور عنه من مكارم الأخلاق كثيرا ما يسمع بعض الوشايات، ولو كانت فيمن هو أعز الناس عنده، ولم يكن من أحد في السراي ولا من جلساء الخديوي من يعطف على المرزوقي، أو يميل إليه.
اتفق بعض الضباط على تلفيق وشاية ينفرون بها قلب الجناب العالي عن عبده المخلص المتفاني في خدمته، ووجدوا من الخديوي أذنا صاغية، وقد صادق على ذلك بعض من كان حاضرا من قرناء السوء، فصدرت إرادته السنية بنقله من الحرس الخديوي إلى الأورطة السابعة. وكان محمد أفندي المرزوقي شعر بهذا الانقلاب، ووجد حالة مولاه قد تغيرت حتى ما عاد يلتفت إليه.
كره الدنيا وما عليها، كره حياته وتمنى لو تصادفه منيته، ولكنه رغم ما حصل له من الاضطهاد، انتقل إلى الأورطة التي اندمج بين ضباطها، وهناك وجد من سوء المعاملة والتحامل الشديد، ما جعله في حالة من اليأس لا مزيد عليها. انزوى في خيمته المخصصة له لا يزور ولا يزار، تذكر وهو في وحدته ما قام به من الأعمال الخالدة، وهو الذي ترجم قانون التعليمات والتشكيلات من اللغة الفرنساوية، وضاهاه على قانون التعليمات التركية، وكان ماهرا في اللغتين، فأخذ على عاتقه إخراج كتاب التعليمات العسكرية، ولما عرضه على نظارة الحربية أقرته اللجنة الاستشارية، وصدر المرسوم العالي بإعطائه خمسمائة جنيها مصريا مكافأة له. تذكر أنه الشاب الوحيد الذي يجيد ثلاث لغات ويقرأ بها ويكتب جيدا، وهي؛ اللغة الفرنساوية، اللغة التركية، اللغة العربية. وعلاوة على ذلك فقد كان أعلم الضباط بجميع الفنون العسكرية؛ البيادة، والسواري، والبحرية.
وتصادف أن الأورطة السابعة نقلت إلى الإسكندرية؛ فانتقل معها، وهناك شعر بالمضايقة الشديدة، حتى كاد قومندان الأورطة أن يحجر على حريته بناء على التوصيات التي وردت إليه، وتصادف أن محمد أفندي المرزوقي تعرف في الإسكندرية ببعض من الإخوان الذين لا دأب لهم إلا الإدمان على الخمر، والاندماج حول موائد القمار، فوجد في ذلك راحة يتسلى بها؛ فأخذ يسكر ويقامر، تارة يربح وأخرى يخسر، حتى فقد كل ماله، وفي هذه الفترة توفي والده، وكان من تجار البورصة، وعاكسته الحظوظ فخسر كل ثروته، ولما لم يحتمل هذه المصيبة أثر عليه الحزن فمات.
وما كاد يسمع بموت والده حتى اشتدت عليه المصيبة، وحزن حزنا شديدا، حتى صار في ذهول من شدة اليأس، ولاحظ قومندانه عليه ذلك فأرسل في طلبه، فلما مثل بين يديه أخذ في تعنيفه وصار يوبخه توبيخا صارما. ما كان محمد أفندي المرزوقي يسمع هذه الإهانة حتى تأكد بل علم أن الرجل يقصد النكاية به؛ فاشتد به الغيظ، وانفجرت في صدره مرارة الكتمان، فأخذ يرد على ضابطه الأعلى هذه الإهانة حرفا بحرف، وطال الخلاف بينهما بحالة أخرجت المرزوقي عن حده؛ فأمسك بأحد المقاعد وضرب بها الضابط القومندان على رأسه فشجه، وتعينت لجنة مكونة من المجلس العسكري العالي لمحاكمته.
ولقد كان جميع رؤساء محمد أفندي المرزوقي ومرءوسيه وزملائه يغارون منه غيرة شديدة، والغيرة كما لا يخفى إذا وصلت إلى قلب رئيس تعميه وتطغيه، وتجعله طائشا مخبولا، وربما تحوله عن جادة الاعتدال إلى معاملة مرءوسه معاملة قاسية لا تخلو من الفظاظة والظلم.
وفي تلك الأثناء كانت الحالة السياسية في مصر قد تغيرت بتنازل الخديوي إسماعيل باشا عن عرش مصر لابنه توفيق باشا سنة 1879 ميلادية، وبذلك استطاع خصومه النكاية به فحكم عليه المجلس بالعزل وبالسجن خمسة أعوام، فكانت هذه أعظم مصيبة زلزلت كيانه، ومكث في السجن مدة ثلاث سنوات إلى سنة 1882م، حيث كانت الثورة العرابية فأخرجوه من سجنه بعد أن كسرت السجون وفر المسجونون، فكان في حالة شديدة من البؤس، يمر بين الناس ببذلته الملكية المرقعة في هيئة محزنة يرثى لها، واضطر أخيرا إلى التسول، وفي يوم 13 نوفمبر سنة 1888م وجد ميتا في أحد الشوارع وعمره 44 سنة.
صادق بك العفيفي
هو صادق بن حسن بن قويدر بن ممتاز العفيفي، ولد بالقسطنطينية 1796 ميلادية، وفي سنة 1800م حضر به والده ممتاز بك العفيفي إلى القطر المصري وعمره أربع سنوات، ولما حظي بمقابلة والي مصر محمد علي باشا الكبير عينه سنجقا بجهة الفيوم، فمكث في هذه الجهة ثلاث سنوات، ومعه عدد لا يقل عن الأربعمائة جندي من المماليك الأتراك. وفي سنة «1811م» جمع محمد علي باشا جيشا مؤلفا من 4000 جندي، بقيادة ابنه طوسون باشا لغزو بلاد العرب وإخضاع الوهابيين، فأقام احتفالا في القلعة تذكارا لذلك اليوم المشهود، دعا فيه رؤساء المماليك وفرسانهم، وكان عدد من حضر منهم يقرب من الخمسمائة، وكان الغرض الحقيقي من دعوتهم التخلص منهم ومن شرورهم ودسائسهم، فأسر محمد علي بذلك إلى «حسن باشا» و«صالح فوج» الأرناءوطيين فقط، وفي صبيحة هذا اليوم أسر به إلى حارس الباب، ولما جاءت الساعة المعلومة أغلق الباب وأبيد كل من في القلعة من المماليك. وفي أثناء حدوث هذه الحوادث في القاهرة أصدر محمد علي باشا الأوامر المشددة إلى المديريين والمحافظين من الوطنيين في المديريات والمحافظات وبنادر القطر المصري، بقتل كل من يعثر عليهم من المماليك. •••
وما كاد ممتاز بك العفيفي يقف على هذا الخبر المدهش حتى انزعجت نفسه أيما انزعاج، وارتبك ارتباكا شديدا، ولكنه كان قوي البأس صعب المراس، ما كاد يستسلم للأفكار طويلا حتى عنت له فكرة، فأمر بجمع من معه من الجنود الأربعمائة، ووقف بينهم خطيبا فقال: تعلمون أيها الأبناء أننا أصبحنا في خطر شديد، وها هو محمد علي باشا قد قام منذ أيام بمذبحة دموية هائلة، قطع فيها دابر المماليك، بل قضى على البقية الباقية منهم، وصدرت أوامره بعد ذلك إلى جميع مديريات القطر المصري بقتل من يجدونه من الأتراك، وبما أننا في أول الأمر، ولم يكن من سمع بهذا الخبر غيري؛ فيجب أن نتأهب للرحيل منذ هذه الساعة، وأستحضر لكم مراكب وذهبيات تحملون فيها متاعكم وما ملكته أيديكم من مال وطعام، وإياكم أن تتركوا سلاحكم وذخيرتكم؛ إنها خير حافظ لكم وبها تعرفون كيف تقاتلون عدوكم.
وفي مدة وجيزة كانت عساكر الأربعمائة قد احتلوا جميع المراكب الراسية في البحر اليوسفي بإقليم الفيوم، وشحنوها بخيراتهم وأموالهم، وأخذوا حريمهم وأطفالهم، وساروا في النهير «بحر يوسف»، حتى انتهوا إلى النيل جهة ديروط، ومن هناك استقاموا في النيل يغالبون التيار بمراكبهم، وقد فردوا لها القلوع حتى وصلوا إلى أسوان، ومن هناك واصلوا سيرهم في النيل حتى انتهوا إلى مدينة دنقلة.
وكانوا على آخر مجهود من التعب، وقد أثرت في صحتهم أهوال السفر ومشقات الانتقال في حرارة الشمس المحرقة والتجديف، إلى غير ذلك.
وكان هناك في مدينة «دنقلة» قد سبقهم عدد عظيم من مهاجري المماليك، واتخذوا بلاد النوبة مسكنا لهم.
وعسكر ممتاز بك العفيفي بقافلته هناك، وأخيرا دلوه على قرية مهجورة قد رحل سكانها، فأعجبه مناخ هذه الجهة فاتخذها مسكنا له ولأتباعه، وابتنى فيها قصرا فخما يشرف على النيل، أقام فيه مع جنوده الذين كانوا في بيوت صغيرة متقاربة من بعضها.
واتسعت إدارة ممتاز بك العفيفي فصار يشار إليه بالبنان، وأصبح بفضل استيلائه على كنوز الذهب الغشيم من أغنى الأغنياء، وكان وقتئذ عمر ابنه صادق إحدى عشرة سنة، فأرسله إلى فرنسا ليتلقى العلوم والمعارف، فمكث في باريس إلى سنة 1822م؛ فنبغ نبوغا هائلا، وأرسل إلى والده آلة بخارية (وابور طحين)، وعرف كيفية تركيبه وإدارته، فكانت أول آلة دخلت السودان.
وعاد صادق بك العفيفي يحمل شهاداته العالية، وقد قرت به عين والده.
وتصادف أنه من سوء طالع صادق بك العفيفي أنه بعد أن تثقف عقله بالعلوم والمعارف، وصار من أفاضل عصره وأمهر علماء وقته؛ اغتالت المنية والده، فحزن عليه حزنا شديدا، إلا أنه وجد أن الحزن لا يفيد؛ فانصرف إلى أشغاله وإدارة أملاكه الواسعة، فسافر إلى باريس ليستحضر المسيو فورينة ديلانوا؛ ليبحثا معا على مناجم الذهب، ومتى تحصل على ثروة عظيمة يغادر بلاد السودان إلى فرنسا، حيث هناك يعيش خلي البال، ويطلق لنفسه العنان في تلك الحرية المتناهية. وما كاد يعود من فرنسا حتى وجد الجيوش المصرية قد دخلت السودان قهرا، بعد أن أعملوا السيف في جميع المماليك الذين استوطنوا هذه البلاد.
2
ولما نظر إلى ما حل بقومه وأبناء جنسه من الممالك، وما كان من محمد علي باشا الذي جعل فتح السودان ذريعة إلى إعدامهم جميعا، والقضاء على هذه البقية منهم، بما يجعل إراقة هذه الدماء وسيلة إلى تثبيت عرشه بمصر، اعتقل محمد العفيفي رمحه، وتقلد سيفه، وتدرع بآلة حربه، ووقف أمام جماعة أبناء المماليك الذين هاجروا مثله إلى بلاد النوبة، واتخذوا السودان موطنا لهم خوفا من محمد علي باشا، الذي كان من أخطر الناس عليهم، هربوا من وجهه فكان خلفهم بالمرصاد يتعقبهم في كل مكان.
وقف صادق العفيفي وقفة القائد الباسل يحرض جنود على وجوب القتال، مستمدا حكمته من قول الأستاذ المتنبي:
وإذا لم يكن من الموت بد
فمن العجز أن تموت جبانا
وما كاد يلتقي بجنود الجيش المصري حتى دارت بينهما الحرب بكل شدتها، وثبت هؤلاء الأتراك أمام هذا الجيش الفاتح، فمثلوا في هذا الموقف، موقف أسلافهم بمصر حينما غزاها نابليون إمبراطور فرنسا.
سالت الدماء أنهارا، وسدوا شوارع دنقلة بالمتاريس والخنادق، ورغما عن طلقات المدافع المهلكة التي على أثرها كانت تزهق الأرواح، وتندثر الأجسام. تجلد هؤلاء الشجعان، ووقفوا يلاقون الموت بثغور باسمة ضاحكة مستبشرة، ثم صاروا بعد ذلك يستهدفون الموت الواحد بعد الآخر حتى هلك معظمهم، ولقد أعجب سمو الأمير إسماعيل باشا بشجاعة هؤلاء الشبان وقال: لو كان في جيش أبي من هم على بسالة هؤلاء الفرسان؛ لكانت الدنيا جميعا ملكا لنا.
ولما وجد أن فرسان الطوبجية كانت تقاسي متاعب جمة في رد جماح المماليك؛ أصدر أوامره بضرب النار بشدة، فكانت مذبحة هائلة ما شهد مثلها تاريخ هذه البلاد.
اندحر المماليك وتمزق شملهم شر ممزق، واستولت الجيوش المصرية على دنقلة، وقتل من قتل، ووقع في الأسر عدد عظيم من الجرحى.
أما من بقي حيا فقد لاذ بالفرار، متجولا في حدود السودان.
أما صادق بك العفيفي فترك أمواله وأملاكه، وسار في قفار الأرض شريدا طريدا خائفا من القتل.
اعتراه البؤس وهو ذلك العالم العامل المجتهد، الذي تجول في جميع ممالك أوروبا، وأحسن التكلم بلغات كثيرة، اعتراه البؤس وهو الأديب المهذب، تاركا خلفه ما دونته يده من العلوم والفنون التي جادت بها قريحته.
وأخيرا عثر عليه الجيش المصري وهو على آخر رمق فقضوا عليه، فكانت وفاته «سنة 1825م» وعمره 29 سنة.
अज्ञात पृष्ठ