فذلك أمر الولد الذي بدد أبواه أحلامه، فيعود إلى منزلهما حيث يلم بها الغم، ويستحوذ حزن شديد على الأم؛ لما كان من تأخر ثراء الأسرة، وتجمع قواها لتعد عملا لولدها مرة أخرى، وتنال له وظيفة في إدارة بوتسدام بعد أن سرحه أرنيم من إكس لا شابل ساخرا لما كان من إبداء البارون الشاب «نشاطا مضنيا، ولما كان من إتيانه جهودا لاغية في صلاته العصرية بإكس لا شابل»، ويلوح التقرير الرسمي عنه أقل لطفا، فمن هذا التقرير عرف في بوتسدام أن الفندقي الذي كان البارون الشاب أوتو يتناول عنده وجباته
9
يطالبه هو وغيره بمئات التاليرات وأنه لم يتوار عن إكس لا شابل إلا بسبب ديونه.
وعن ذلك يجيب المتهم بسمارك متكبرا حين يقول: «ليس من مقاصدي أن أعرض حسابا عن شئوني الشخصية على إدارة إكس لا شابل الملكية، وسأقدم شكوى حول قحة التدخل هذه في حقوقي الخاصة.» ويخاطب الأب في أمر تلك الديون فيغضب، ويرفض في نهاية الأمر أن يستمر على المراسلة في هذا الموضوع، فكان هذا آية على الاستقلال الذي يتمتع به أولئك السادة تجاه سلطان حكومة يستخفون بها مستعلين، ويرجعون إليها وفق منافعهم مستمدين، ويقبل بسمارك في إدارة بوتسدام مع ذلك، وذلك بفضل ما حبي به من حماية، وبفضل ما أعطي من عهد خطي بأن يقوم بوظيفته نشيطا غيورا.
وما كان تصرف أوتو الشاب في بوتسدام أحسن مما في إكس؛ فما رآه من صغر رقعة المديرية ومن هزال البطانة وحذلقة الرؤساء والتدقيق في ساعات الحضور، فقد أسفر بعد ثلاثة أشهر عن تواريه بلا إذن، وما يحدق بأملاك أبيه من دمار فيلوح قريبا، وتمرض أمه في الحقيقة، ولا ينظر أحد إلى ذلك بعين الجد ما حصرت عنايتها في نفسها، وفي نفسها فقط، ويعجز أبوه الشائب من فوره عن إدارة ما يملك، ويقول الأب بإجارة العقار، وتقول الأم بصنع السكر، وفي برلين يرى الطبيب أنها مصابة بالسرطان، وفي برلين تبقى للمداواة، ويكون ابنها بجانبها في الغالب، وتموت بعد مدة، ويحقد عليها لحملها إياه على تلاوة كتب في التصوف بصوت عال عند وسادتها.
ويا ليته يعفى من الخدمة العسكرية! ويبلغ الثالثة والعشرين من سنيه فيقول في كتاب إلى أبيه: «لقد حبط ما سعيت إليه في برلين أخيرا لإعفائي، ويجعلونني آمل ترك الخدمة بعد قليل زمن بسبب ما في عضلات ذراعي اليمنى من ضعف نتيجة لضربة سيف، وأزعم أن مما يؤلمني مد ذراعي إلى الأمام، ولكن هذا ليس علة خطيرة مع الأسف، وليس الأمر في أن أدخل قبل الميعاد بأسبوعين أو ثلاثة أشهر، فلا بد من ختام التدريب استعدادا للاشتراك في العرض؛ ولذلك فإنني سأؤخر وقت ابتدائي بالخدمة إلى شهر مارس مثلا؛ أي إلى أقصى ما يمكن من المدة، ومن ثم تبصر ما كان يساور بسمارك الفتى المفتول الساعدين من فتور حول الجندية، ومن ثم تبصر تظاهره بما لم يكن فيه بالحقيقة من ضعف عضلي طمعا في تركها، والعامل في ذلك هو عدم احتمال هذا الأستاذ في الفروسية والمسايفة والرماية لكل إكراه، فأقام بذلك دليلا جديدا على إقدامه الذاتي وبأسه الشخصي، وليس زهوه بالذي ينثني، وهو لم يعتم أن تصادم هو والضباط حينما وجب عليه أن يكون من جنود الحرس، «فما أنا بالذي يطيق السير تحت إمرة ضابط».»
وفي تلك الأثناء تسير الأمور في البيت من سيئ إلى ما هو أسوأ منه؛ فربة المنزل مريضة مدللة، والولدان في الخدمة العسكرية، ولا ينتجان شيئا ويحتاجان إلى نقود، ولا يقدر الأب على إجابتهما إلى طلبهما فيستدينان بفائدة 12 في المائة، ويؤدي كل ذلك إلى أزمة، وفي تلك الأثناء يعن خاطر، ومن أين؟ ومن يقدر على بيانه؟ أمن الأم المحتضرة، أم من الأب المضطرب، أم من أرشد الأخوين الذي ما فتئ يداوم على دروسه، أم من ذلك البطال الذي لا يميل إلى أي عمل كان؟ ومهما يكن الأمر فإنهم أبصروا من خلال ورطتهم أن يذهب الأولاد إلى الريف لإنقاذ الأسرة من الإفلاس، ومما لا مراء فيه أن سير بسمارك الموجب لليأس قد عجل الأزمة، وبسمارك هذا قد ذهب إلى أمه وأخبرها بأنه لا مناص له من عمل شيء.
ويكتب الأب إلى ابنه الأكبر قوله: «إن أوتو بلغ من كرهه لوظيفته في الحكومة ما يحفزه إلى النفور من الحياة، ولو كرس معظم سنيه للوظيفة لأصبح رئيسا مع ألفي تالير راتبا على ما يحتمل، ولكن لا شيء يرجى من الطالع، وقد التمس من أمه أن تجد له عملا يقوم به، وهو يرى أن نعود إلى صنع السكر وأن نرسله إلى مغدبرغ ليتعلمه ثم أن نعهد إليه في إدارة المصنع بكنيبهوف، وإن مما يزعجني كثيرا أن أجده تعسا إلى الغاية، وقد رأيت في كنيبهوف درجة اكتراثك للزراعة، وأبصر ما ينتظرنا من البوار إذا ما بقيت في برلين، فتراني قد عزمت على نقل كنيبهوف إليكما واكتفائي بدخل شونهاوزن.» وريثما يحدث ذلك وجب على الأخوين أن يجاوزا الامتحان.
ولا يعسر ذلك القرار على الأب اللين البالغ سبعين سنة من عمره، وتعود موافقة الأم عليه إلى دنو وقت البوار، وإلى انحلال صحتها على ما يحتمل، ويقترب أجل الأم، ونودع هذه المرأة الطموح التي توفيت بعد بضعة أشهر من تاريخ ذلك القرار، وقد كان عمرها خمسين سنة، وكانت أسيفة مصابة في جميع آمالها بأولادها فتفكر في أبيها غير مبصرة تحقيق هذه الأماني بعد ثلاثين عاما بما يقضي بالعجب.
بسمارك في سنة 1826.
अज्ञात पृष्ठ