وفي العام القادم يقول: «وما الذي يجعلني أتمسك بمنصبي إن لم يكن إخلاصي له؟ ولا يحف بالمنصب كبير لذة، وفي الأيام الأولى كنت أقوم بالواجب طائعا مولعا آملا، ولما يحقق معظم أماني، وقد كنت حسن الصحة، والآن أراني مريضا، وقد كنت شابا، والآن أراني شائبا، وما الذي يمسكني هنا؟ وهل تظنون أنني أحب الوقوف هنا كالبوم بين الغربان التي تأتي دوما لتلطم هذا الطير المسكين وتطعنه بمناقيرها من غير أن يتمكن من الدفاع عن نفسه تجاه الشتائم والإهانات التي توجه إليه؟ وإذا ما تفضل العاهل فأذن لي في الانصراف سررت بتوديعكم إلى الأبد أيها السادة!»
وهكذا يبدي بسمارك حنقه وحقده بكلامه المتدفق كالشلال، وبسمارك هو الذي يدع سامعيه في بعض الأحيان ينتحبون بفعل نظرته الساخطة وانتحاله وضع المعتدى عليه، وذلك من غير أن يبحث مقدما عما تنطوي عليه جمله الطويلة من تأثير ونجيع،
1
فإذا ما أتم كلامه أمسك محفظته وذهب فلا يرى المجلس غير ظهر هذا العملاق والقبة الصفراء لبزته الزرقاء، ويجاوز العتبة ويتوارى، ويزيد احترام سامعيه له مع حقدهم عليه، ويزيد ازدراؤه في الوقت نفسه لأعدائه.
ويغير لهجته أحيانا على طريقته، وهنالك ترن كلماته كإنذار نبي أو تعبر عن زهد تهكمي، ومن ذلك قوله للريشتاغ: «لا أنكر أن مما كان يؤلمني إيلاما دائما في السنين العشرين الأخيرة هو القياس بين التاريخ الألماني والقصص التوتوني،
2
فربيع الأمم لا يدوم غير أعوام قليلة بعد الانتصار العظيم، ثم يأتي ما أدعوه لوكي، أي عدو ألمانية التقليدي ونزاع الأحزاب الذي يغذيه الاختلاف القبلي ونضال العصبيات حول العرش الشرعي والعامل الدستوري، فيتسرب ذلك في حياتنا العامة، ويضل لوكي - وهو الروح الحزبي - هودور فينزل ضربة قاتلة على وطنه، ولوكي هو الذي أتهمه أمام الله والتاريخ إذا ما قضي على عمل أمتنا العظيم الذي تم فيما بين سنة 1866 وسنة 1870، وفي أيام شبابنا كنت ترى صولة قومية تختلف عن ذلك إلى الغاية وكنت تبصر إدراكا للحياة السياسية أروع مما لدى معاصرينا الذين جاوزوا سنة 1847 وسنة 1848 موسومين بالطابع الحزبي فلم يقدروا على محوه من جلودهم، فإذا متنا جميعا رأيتم ماذا يقع في ألمانية!»
وفي انتخابات سنة 1881 ينال الاشتراكيون الديمقراطيون مقاعد على الرغم من القانون اللااشتراكي، وفي زمن الوزير بوتكامر جعلت كبريات المدن خاضعة للأحكام العسكرية، وفي ليبسيغ يحكم على زعماء الاشتراكيين بالسجن مع الأشغال الشاقة لنشرهم صحفا ممنوعة، وينجز الوعد بوضع اشتراع عن العمل مع ذلك، ويعقب قانون تعويض العمال الذي كان فاتحة لسلسة من القوانين الحامية للعمل، فوصفه أحد أنصار الحكومة بانبرجر بالوهمي، قانون التأمين ضد المرض، ثم قانون التقاعد عن عجز أو شيبة لسنة 1888. وتعد هذه خطا نحو الاشتراكية الحكومية التي رسم بسمارك خطوطها قبل محادثته لاسال بزمن طويل.
وليست فكرة وضع قوانين لحماية العمال بروح نظام اشتراكي حكومي من مبتكرات بسمارك؛ فقد سبقه إليها نابليون الثالث وغيره، وإنما كان بسمارك أول من نادى بها في الإمبراطورية الألمانية، وبسمارك هو القائل: «حل الوقت الذي نحقق فيه ما في رغائب الاشتراكيين من أقسام معقولة مقبولة في نظام الدولة الحالي.» وبسمارك نطق بهذه الكلمة سنة 1871 في حديث مع وزير التجارة، وتمضي عشر سنين على ذلك فيقول المستشار لبوش متنبئا: «يجب على الدولة أن تتبنى الأمر لسهولة جمعها المال الضروري، ولا ينبغي للدولة أن تمد العمال بهذا المال كصدقة، بل تأدية لحق العمال في عون الدولة عندما لا يقدرون - عن حسن نية - على العمل. ولم يحصر أمر منح الرواتب فيمن يصبح عاجزا عن العمل من الموظفين وجنود الجيش دون جنود العمل؟ سيعمل بهذه الفكرة في غضون الزمن، ومن المحتمل أن تنهار سياستنا ذات مرة، ولكن الاشتراكية ستشق طريقها مع ذلك، وسيكون الحكم قبضة من يعتنقون هذه الأفكار.»
وهكذا يبصر بسمارك المستقبل عند هدوئه الفلسفي، ولكن بسمارك إذا ما كشف عن حوافزه ظهر أنها لم تعد حد قديم خططه وحساباته التي تبدو قاسية حينما يبرزها كأسس «لنصرانيته العملية»، «ومن يعلم أنه ينال راتبا في مشيبه يكن راضيا سهل الطاعة، فانظروا إلى الفرق بين خادم عادي وخادم في المستشارية أو البلاط تجدوا هذا أكثر لطفا وإطاعة من ذلك لما يعتمد عليه من راتب تقاعد، وليس من الغلاء في شيء أن ينال المحرومون طيب العيش راتب تقاعد مهما كثر فيصبحوا راضين، وهذا توظيف رابح حتى لنا، ما دمنا نجتنب به نشوب ثورة تبتلع مالا أكثر من ذلك بدرجات»، وبسمارك بعد تلك القحة قال من فوق المنبر مجددا «حتى إن أفقر الناس له كرامة الإنسان ...»
अज्ञात पृष्ठ