وكيف نفسر بغير ذلك مشاعر ذلك الشريف في فتائه، حينما كان يصرح بأنه من القائلين بوحدة الوجود ساخرا من النصرانية؟ ولم ازدرى ذلك الأريستوقراطي الملحد فريق الأحرار الذين كانوا يهدفون إلى إقامة جمهورية معتدلة؟ فلما غدا وزيرا معتقدا صار يود أن يحكم مستعينا بهم، وإذا كان عدوا لله في ذلك الحين وجب عليه أن يكون خصما للملك وفق منطقه المصنوع إذن، وإذا كان اليوم عبدا لله وجب عليه أن يمجد النظام الملكي إذن، أفيمجده فعلا؟ لقد سئل عما يجب أن يتعلمه الأمير، فاسمع جوابه الخفي: «يجب أن يربى الأمير على الطريقة الفارسية في الحقيقة؛ أي أن يتعلم ركوب الخيل والقتال، وهو إذا ما أراد أن يعرف مهنته الخاصة - فضلا عن ذلك - وجب عليه أن يتعلم الوقوف طويل ساعات، وأن يتعلم كيف يخاطب كل أجنبي بكلام لين وأن يتعلم الكذب، وليس عليه أن ينطق بالحقائق المرة، فليدع أمرها إلى وزرائه، ولا يعرف ملكنا كيف يكذب، وهذا ما يبدو عليه عند محاولته ذلك.»
واسمع الآن كيف يتكلم عن الأسرة المالكة: «إذا ما ذهبت إلى الصيد مع الملك في ليتزلينجن كان ذلك في غابة خاصة بأسرتنا في غابر الأزمان، فقد اغتصب آل هوهنزلرن بورغاستال منا منذ ثلاثمائة سنة لصلاحها للصيد ولاشتمالها على ضعفي ما تحتويه من الغاب في الوقت الحاضر، وإذا عدوت ما فيها من صيد وجدتها ذات قيمة كبيرة أيضا، وهي تساوي ملايين من الدراهم في هذه الأيام، والحق أن آل هوهنزلرن انتزعوها منا بما اتخذوه من ضروب القهر وأعمال العنف وانتهاك الحق ومن زج للمالك في السجن المظلم وتغذيته بطعام كثير الملح مع عدم تقديم شيء ليشربه، وذلك عند رفضه التنزل عن أرضه، وما كان يعطى من تعويض فأقل من ربع قيمتها.» ومن ثم نرى طبيعة اعتقاد بسمارك بنعمة الله الذي جعل آل هوهنزلرن فوقه.
ونحن إذا ما أبصرنا حاقدا عرفناه جيدا، وهو ولوع بذكر ميفيستوفل كما يجب، وهو يحفظ فصولا طوالا من الجزء الأول من رواية فاوست فيتلوها عن ظهر القلب بما يثير العجب، وبسمارك هو الذي نطق بهذا الرأي الأدبي الرائع، «وإذا سألت عما كتب غوتة أعطيتك ثلاثة أرباعه، وأما الباقي - وهو سبعة مجلدات أو ثمانية مجلدات من أربعين مجلدا - فأود أن أقضي به وقتا في جزيرة قفر.» ثم يصف غوتة بأنه عامل مياوم
17
عند خياط فيقول: «طوبى لذلك الذي يخلو من الضغينة فيعتزل العالم! طوبى لذلك الذي له صديق حميم فيتمتع بالحياة! طوبى لذلك العامل المياوم عند خياط فيبدع تلك الأشعار! فكروا فيه بلا حقد إذن! واجعلوه في قلوبكم إذن!» وتتكلم ابنة كيزرلنغ بحماسة - وفي مناسبة أخرى - عن المأساة حيث يضع الإنسان نفسه في مكان البطل طائعا، فيقول لها بغلظة: «أتريدين أن تقتلي كما قتل نشال فالنشتاين في حانة حقيرة؟» ويتكلم كودل عن الخوف والرأفة فيجيب بسمارك عن ذلك بعنف قائلا: «أجل، إنني أبلغ من شدة الخوف والرأفة ما أستعد معه في دار التمثيل إلى الأخذ بخناق النذل.» ويتمسك كودل الإنساني ب «الفكرة الظافرة» في الرواية، فيتكلم بسمارك عن الإوز المشوي ويسأل: «أيأكل الناس في الولايات البلطية الإوز مع البطاطا أم مع التفاح؟ إني أفضل أكله مع البطاطا.»
والآن لا يستمع إلى الموسيقى إلا عند مطالعته أو عند عمله، فلما غدا مستشارا للإمبراطورية عاد لا يصغي إليها أبدا؛ لأنها تحول دون نومه جيدا.
وإذا ما تكلمنا عنه بوجه عام وجدنا تحول حاله الروحية إلى حال «التائه»، ويزيد اضطرابه الباطني مع زيادة نجحه وبلوغه من السلطان ما لم يكد يحلم به، والأمر كما لو كان ينتظر تحقيق رغائبه في التحرر من تلك الأحاسيس الفاوستية فأبصر تبدد أحلامه أكثر مما في البداءة، «ويشكو فاوست من وجود روحين في صدره، ويتنازع في صدري عدة أرواح، وتسير كما لو كانت في جمهورية، وأبلغكم معظم ما تقول، ولكن هنالك من المناطق ما لا أبيح لأحد أن يلمحها.» وينطق بهذه الكلمات عندما كان راكبا عربة مع اثنين من مساعديه اللذين لا يميل أحدهما إليه.
وتعبر هذه الكلمات عن تبرم أكثر مما عن عزلة، وإلا لكان قد كتم أمرها، ويكتب إلى أقرب الناس إليه وأعزهم عليه في أيام عيد قائلا بصراحة: «إن قلق الحياة أمر لا يطاق، وليست هذه حياة جديرة بشريف ريفي، أحن إلى أيام الهدوء في الوطن حيث كنت سيد وقتي وحيث كنت - كما يخيل إلي الآن - أكثر هناءة، وإن كنت أذكر تماما أن كلمة: «يلم الغم به ويعدو معه» أمر صحيح عندما كنت أركب كالب القديم»، وتتردد النغمة، نغمة الاستياء الواهن التي تعبر عن سجيته، بأوضح من ذلك، في كتاب يرسله إلى أخته بسبب عيدها الفضي، فقد جاء فيه:
يسرني أن أبادلك، مرة أخرى، بتأملات حول بطل الحياة، وسيمضي كبير وقت قبل زوال الوهم في أن الحياة تبدأ مرة ثانية من فورها، وأننا صائرون إلى ذلك البدء، ونحتاج إلى مثل تلك الصوى،
18
अज्ञात पृष्ठ