Biography of Abdul Malik bin Umar bin Abdul Aziz
سيرة عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز
अन्वेषक
أبي مصعب طلعت بن فؤاد الحلواني
प्रकाशक
الفاروق الحديثة للطباعة والنشر
संस्करण संख्या
الأولى
प्रकाशन वर्ष
١٤٢٤ هـ - ٢٠٠٣ م
शैलियों
سيرة عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز
2 / 475
مقدمة المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم، وبه ثقتي وعليه اعتمادي.
هذه نبذة من مناقب عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز.
الحمد لله الَّذِي أسعدَ من شاءَ من خليقتِهِ، ووفقهم للقيام بطاعَتِهِ، واستعملهم فيما يرضيه؛ مع صغرِ سنِّ أحدِهم وحداثتِه؛ ليتبينَ بذلك أن السعادةَ بيدِهِ، والتوفيقَ بإرداتِهِ.
أحمدُهُ عَلَى سوابِغ نعمهِ، وأسأله التوفيق لشكرِهِ، والإمدادَ بمعونته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن مُحَمَّدًا عبدُهُ ورسولُهُ وحبيبه وخليله، وأمينه عَلَى وحيه، وخيرتُهُ من بَريَّتِهِ، صلى الله عليه وعلى آلِهِ وصحابته والتابعين لمنهاجِهِ وسُنَّتِهِ، أما بعد.
فإنّ في سماع أخبار الأخيار ﴿مقوّيًا﴾ (١) للعزائِم ﴿ومعينًا﴾ (١) عَلَى اتباع تلك الآثار، وقال بعض العارفين: الحكايات جُندٌ من جنودِ الله، تقوى بها قلوبُ المريد. ثم تلا قوله ﷿ لرسوله ﷺ: ﴿وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (٢).
وقد رأيتُ أن أجمَع في هذا الجزء أخبار عبد الملك ابن أمير المؤمنين أبي حفص عمرَ بن عبد العزيز القرشي الأموي ﵄ لسبب اقتضى ذلك. لقد كان ﵀ مع حداثةِ سنِّهِ مجتهدًا في العبادَةِ، ومع قدرته عَلَى الدُّنْيَا وتمكنه منها راغبًا مؤثرًا للزهادة، فعسى اللهُ أن يجعلَ في سماع أخباره لأحدٍ من أبناء جنسه أسوةً لعل أحدًا كريمًا من أبناءِ الدُّنْيَا، تأخذُهُ بذلك حميةٌ عَلَى نفسهِ ونخوة، مع أنَّه لن يخلو سماعُ أخبارِ الصالحين
_________
(١) في "الأصل": مقوي، ومعين. والمثبت هو الصواب.
(٢) هود: ١٢٠.
2 / 477
من تحصيل رقةٍ للقلوب وإزالة للقسوة.
وأيضًا ففي ذكر مثل أخبارِ هذا السيدِ الجليلِ مع سنهِ توبيحٌ لمن جاوَزَ سنَّهُ وهو بطال، ولمن كانَ بعيدًا عن اسباب الدُّنْيَا وهو إليها ميال، والله -تعالى- المسئولُ أن يوفقنا وسائرَ إخواننا المؤمنن لما وفق له عبادَهُ الصالحين، وأن يعيننا عَلَى ما أعانهم عليه بمنّه وكرمِهِ آمين.
وقد قسَّمتُهُ أحَدَ عشرَ بابًا:
الباب الأول: في ذكر عبادتِهِ واجتهاده وتهجده وبكائه، وإخفائه لذلك.
الباب الثاني: في ذكر علمِهِ وفقهِه وفهمه.
الباب الثالث: في ذكر زهدِهِ في الدُّنْيَا وقناعتِه منها باليسير، وبُعْدِهِ عن الإسراف.
الباب الرابع: في ذكرِ حلمِهِ وكظمِهِ الغيْظَ.
الباب الخامس: في ذكرِ كلامِهِ في قصَرِ الأمَل والمبادَرَةِ قبل هجوم الموْتِ بالعمَل.
الباب السادس: في ذكرِ صلابتِهِ في الدينِ، وقوتِه في تنفيذِ الحق، واجتهادِهِ عَلَى الأمر بالمعروفِ والنهي عن المنكرِ، ومواعظِهِ لأبيه.
الباب السابع: في ذكرِ هوان نفسِهِ عليه في ذاتِ الله، ورضاه بكل ما ينالُه من الأذى في تنفيذِ أوامرِ الله.
الباب الثامن: في شدَّةِ حَذَرِه من الظلمِ وتنزُّهِهِ من ذلك.
الباب التاسع: في ذكرِ مرضِهِ ووفاتِهِ.
الباب العاشر: في ذكر سنّه ومقدارِ ﴿عمرِهِ﴾ (١).
الباب الحادي عشر: في ثناءِ العُلَمَاء عليه من أهلِ زمانِهِ ومدحهمْ لَهُ.
...
_________
(١) في "الأصل": علمه. والمثبت هو الصواب حيث ذكرها في أصل الباب العاشر: "عمره" ولم يتحدث عن علمه فيه.
2 / 478
الباب الأول
في ذكر عبادتِهِ واجتهادِهِ وتهجُّدِهِ وبكائِهِ وإخفائِهِ لذلك
روى الحافظ أبو نعيم ﴿في﴾ (١) كتاب "حلية الأولياء" بإسناده عن بعض مَشيخَةِ أهل الشام قال: كنا نرى أن عمَر بن عبد العزيز إِنَّمَا أدخَلَهُ في العبادةِ ما رأى من ابنِهِ عبد الملكِ ﵀.
وروى الإمام أبو عبيد القاسمُ بنُ سلامٍ في كتاب "فضائل القرآن" بإسناده عن عاصم بن أبي بكر بن عبد العزيز بن مروان وهو ابنُ أخي عمر بن عبد العزيز قال: وفدتُ إِلَى سليمانَ بن عبد الملك، ومعنا عمرُ بن عبد العزيز، فنزلتُ عَلَى ابنِهِ عبد الملك وهو عزب، فكنتُ معه في بيتٍ فصلينا العشاء، وأوى كل رجلٍ منا إِلَى فراشِهِ. ثم قام عبدُ الملك إِلَى المصباح فأطفأه، ثم قامَ يصلّي حتى ذهبَ بي النوم، فاستيقظتُ فإذا هو في هذه الآية: ﴿أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ﴾ (٢). الآية. فيبكي، ثم يرجع إليها، فَإِذَا فَرغَ منها فعل مثل ذلك، حتى قلتُ: سيقتُلُهُ البُكاءُ، فلما رأيت ذلك قلت: لا إله إلا الله والحمد لله كالمستيقظ من النَّوم لأقطعَ ذلك عليه، فلما (٣) سمعني سَكَتَ فلم أسمع له حسًّا -رحمه الله تعالى.
...
_________
(١) طمس بالأصل والسياق يقتضيها.
(٢) الشعراء: ٢٠٥ - ٢٠٧.
(٣) في "الأصل": فلم.
2 / 479
الباب ﴿الثاني﴾ (١)
في ذكر علمِهِ وفقهِهِ وفهمِهِ
روى ابن أبي خيثمة في تاريخه، عن سليمان بن يسار قال: ركبت أنا وعمر بن عبد العزيز ومعنا عبدُ الملك بن عمر بن عبد العزيز بدير مرّان وفيها الوليد بن عبد الملك فَقَالَ عبد الملك بن عمر: أرأيت المرأة تطلق ثم تحيض الثالثة؟ فقلت: قد حلَّت فَقَالَ عبدُ الملك: فأين ما يُذكر عن ابن عباس؟ فَقَالَ: ذرنا منك بحديث عن زيد بن ثابت ومعاوية بن أبي سفيان.
ومعنى هذه المسألة أن الأقراء الثلاثة التي تعتد بها المطلقة -إذا طلقت في أثناء طهر ثم حاضت حيضتين وطهرت طهرين ثم شرعت في الحيضة الثالثة- أنها تنقضي لمضي الأطهار الثلاثه عليها بذلك. وهو قول زيد بن ثابت وغيره من الصحابة. فعارضه عبد الملك بقول ابن عباس إِنَّ الأقراء هي الحيض فلا ﴿تنقضي﴾ (٢) عدتُها حتى تطهر من الحيضة الثالثة.
وأكثر علماء الحجاز ﴿عَلَى ما أفتى به﴾ (٢) سليمان بن يسار؛ فإن الأقراء هي الأطهار، وهو قول مالكٍ والشافعي. وأكثرُ علماء العراق عَلَى أن الأقراء هي الحيضُ، وهو قولُ أبي حنيفة، والمشهورُ عن الإمام أحمد. واختلفوا في انقضاء عدَّتها بانقطاع الدمِ من الحيضة الثالثة، أم لا تنقضي عدَّتُها حتى تغْتَسلَ، عَلَى قولين مشهورين لهم.
روى الدَّوْرَقي في كتاب "مناقب عمر بن عبد العزيز" بإسناده عن حفص ابن عمر: أن عمر بن عبد العزيز جمع الناس واستشارهم في رد مظالم الحجاج.
فكان كلما استشارَ رجلًا قال له: يا أميرَ المؤمنين، ذاكَ أمرٌ كانَ في غير سلطانِكَ ولا ولايتكَ. فكان كلما قال له رجل ذلك أقامه، حتى خلص بابنه
_________
(١) ليست بالأصل وترتيب الأبواب يشير إليها.
(٢) طمس بالأصل والمثبت أنسب للسياق.
2 / 480
عبد الملك، فَقَالَ له ابنه عبد الملك: يا أبَهْ، ما من رجل استطاعَ أن يردَّ مظالمَ الحجاج، إِن لم يردها أن يشركه فيها. فَقَالَ عمر: لولا أنك ابني، لقلت إنك أفقهُ الناس. وهذا الَّذِي قاله عبدُ الملك، ومدحه عليه أبوه، هو الصواب فإن الإمام إذا قدر عَلَى رد مظالمِ من قَبْلَهُ من الولاة وجب عليه هو ذلك بحسب الاستطاعة.
وعلماء السَّلف كانوا يقسمون العُلَمَاء ثلاثةَ أقسامٍ:
قسم يعرفون الله ويخشونه ويحبونه ويتوكلون عليه، وهم العُلَمَاء بالله.
وقسمٌ يعرفون أمرَ اللهِ ونهيه وحلاله وحرَامهُ، وهم العُلَمَاءُ بأمرِ الله.
وقسمٌ يجمعون بين الأمرين، وهم أشرفُ العُلَمَاء، حيث جَمعوا بين العِلْمِ باللهِ والعلم بامر الله.
وكان عمر بن عبد العزيز وابنُهُ عبدُ الملك من هذا القسم. وكذلك أكثرُ السَّلفِ ﵃ يجمعون بين العِلْمِ بالله الَّذِي يقتضي خشيتهُ ومحبتهُ والتبتُّلَ إِلَيْهِ، وبين العِلْم باللهِ الَّذِي يقتضي معرفة الحلالِ والحرامِ والفتاوى والأحكام. ومنهم من كان متوسعًا في كلا العلمين كالحسن البصري، وسفيان، وأحمد بن حنبل. ومنهم من كان نصيبهُ من أحدهما أوفرَ من نصيبه من الآخر.
وأما المتأخرون فقلَّ فيهم من جمع بين العلمين الَّذِي كان عليه علماءُ المسلمين، وسلك كلا الطريقين. والله الموفق للخير والمعينُ عليه بمنِّهِ وكرمِهِ.
***
2 / 481
الباب الثالث
في ذكرِ زُهدِهِ في الدُّنْيَا وقناعتِهِ باليسيرِ وبُعدِهِ من الإسراف
روى ابنُ المبارك في كتاب "الزهد" (١) له بإسناده عن ميمون بن مهران قال: قال لي عمر بن عبد العزيز: أما دخلت عَلَى عبد الملك -يعني ابنه. قال: فأتيت الباب فَإِذَا وصيف، فقلت: استأذن لي عليه فَقَالَ: ادخل؛ فإن عنده الناس، أو أمير هو؟ فدخلت عليه، فَقَالَ: من أنت؟ فعرف. ثم حضر طعامُهُ فأُتى بقَلية مدنية -وهي عظام اللحم- ثم أتي ﴿بثريدة﴾ (٢) قد ﴿ملئت خبزًا﴾ (٣) وشحمًا، ثم أتي بزبد وتمر، فقلت: لو ﴿كلمتَ أمير المؤمنين﴾ (٣) يخصُّكَ منه بخاصةٍ. فَقَالَ: إني ﴿لأرجو أنه﴾ (٣) يكون أوفى حظًّا عند الله من ذلك. إني في ألفين ﴿كان﴾ (٣) سليمان ألحقني فيهما، والله لو كان أبي في نفسه لما فعل، ولي غلة بالطائف إِنَّ سلمت لي أتاني غلَّة (٤) ألفُ درهم، فما أصنع بأكثر من ذلك. فقلت في نفسي: أنتَ لأبيك.
وقد رُويت هذه القصة من وجهٍ آخر، وأن ميمون بن مهران قال: دخلت عَلَى عبد الملك وبين يديه قليلٌ من طعامٍ فما منعني من الأكلِ معه إلا الأبق عليه.
وروى الدورقي بإسناده عن ميمون بن مهران قال: قال عمر بن عبد العزيز: ابني عبد الملك قد أُعجبتُ به، فما أدري أهو كذلك أم حبُّ الوالِد للولد؟ فأنا أَحَبُّ أن تأتيَهُ فتسبر ما عنده، فإن كان عَلَى ما ظننتُ أخبرتني فحمدتُ الله عليه، وإن كان غير ذلك أدَّبتهُ؛ فإنما هو ابنُ أخيك.
_________
(١) (ص٣١٠) رقم (٨٨٨).
(٢) في "الأصل": بثرة، والمثبت من "الزهد" لابن المبارك.
(٣) طمس بالأصل، والمثبت من "الزهد".
(٤) الغَلَّة: الدخل من كراء دار، وأجر غلام، وفائدة أرض. "ترتيب القاموس" (٣/ ٣٦٣).
2 / 482
قال ميمون بن مهران فانتهيتُ إِلَيْهِ فاستأذَنتُ فدخلتُ عليه، وإذا تحته مِسحٌ (١) خلق وشاذكونة خلقة ومرفقة (٢) قد ترفق بها، فوسَّع لي لأجلس معه، فجلست مقابله، فقلت: ما ها هنا أحبُّ إلي وإذا بين يديه مائدةٌ عليها ثلاثةُ أرغفةٍ وقصعة فيها خَل وزيتٌ. فقلت: هذا طعامُك في كل يوم؛ فَقَالَ: إِنَّ أمير المؤمنين صيَّر الدهر أثلاثًا: فيومٌ خبزٌ ولحم، ويومٌ لبن، ويومٌ خبزٌ وزيت. فبينا أنا كذلك إذ جاء غلام له فَقَالَ: قد فَرَّغناها. فأعرض عنه فعاود، فقلت: ما هذا الَّذِي فرغ؟ قال: الحمام. قلت: هل الحمامُ لك؟ قال: لا. قلت: فلأحد من إخوانك؟ قال: لا. قلت: فلأحدٍ من أهل بيتك؟ قال: لا. قلت: فلأمير المؤمنين؟ قال: لا. قلت: فبم استحللتَ أن تفرغَ حمامَ المسلمين فلَعلَّ إذا رجل يجيء من أقصى المدينةِ فيحالُ بينه وبين الحمام، أو تعطيه بقدر شغل حمامه؛ فهذه نفقةٌ باطلة، هذا أريد أن أُنهيَهُ (٣) إلي أمير المؤمنين. قال: أوتسترُ علي يا عم، واللهِ ما يسرني أنه وَجَدَ عليَّ ساعة من نهار، ثم أتاني عنه الرضا، ولا أنَّ ليَ الدُّنْيَا وما فيها، ولك عليَّ ألا أدخل الحمام إلا ليلًا ومع ضعفةِ الناسِ. قال: قلت له: افعل. فخرجت من عنده، فما رأيت أفضل من عمر بن عبد العزيز، ولا ابنًا أفضل من عبد الملك ﵄.
وقد رُويته هذه القصة من وجه آخر، وفيه: أن عبد الملك قال: لولا برد بلادنا ما دخلته -يعني: الحمام- ليلًا ولا نهارًا.
وأنه إِنَّمَا كان امتناعه من دخوله مع الناس، خشية أن يرى فيه منكرًا، ﴿فيؤدب﴾ (٤) فاعله، فربما خشي أن يجاوز حدَّ الأدب ﴿أو أن يُنسَبَ﴾ (٤) إِلَى شيء من الظلم في ذلك، وسيأتي ﴿ذكر﴾ (٤) ذلك فيما بعد -إِنَّ شاء الله تعالى.
_________
(١) المسح: الكساء من الشعر. "لسان العرب" (٢/ ٥٩٦).
(٢) المرفقة: المتكأ والمخدة.
(٣) أنهيه. أنهي الشيء أي أبلغه
(٤) طمس بالأصل، والسياق يقتضيها.
2 / 483
هذا مع أن طائفة من أعيان العُلَمَاء رأوا خلاء الحمام وزيادة صاحبِهِ كذلك لما في مثل ذلك من السلامةِ من رؤيةِ المنكراتِ مثل كشفه للعورة وغيرها.
وممن رأى ذلك عروة بن الزبير وأبو جعفر بن علي الباقر وسفيان الثوري ﵏.
وأما ميمون بن مهران فقد كرِه ذلك؛ وعلَّلَ بأنه قد يأتي الرجلُ الضعيفُ من مكان بعيدٍ فيُمتنعُ من دخوله حينئذ لإخلائه، وعلَّلهُ أيضًا في رواية أخرى بأن هذه نفقةُ كبر وسرَفٍ، ولكن هذا إذا كان المقصودُ بإخلائه مجرد التكبر والتعاظُمِ دونَ السلامةِ من رؤيةِ المنكراتِ، والله أعلم.
***
2 / 484
الباب الرابع
في ذكر حلمه وكظمِهِ الغَيْظَ
روى ابن أبي الدُّنْيَا في كتاب "العفو وذَم الغضب" من حديث يعقوب بن عبد الرحمن، عن أبيه قال: أمر عمر بن عبد العزيز غلامهُ بأمرٍ، فغضب عمر، فَقَالَ له عبد الملك: يا أبتاه، وما هذا الغضبُ والاختلاط؟! فَقَالَ عمر: إنك لتتحلم يا عبد الملك؟ فَقَالَ له عبدُ الملك: لا واللهِ ما هو التحلُّم، ولكنه الحِلْم.
قال: وقال عمر بن عبد العزيز: لولا أن أكونَ زُين لي من أمر عبد الملك، ما يزين في عين الوالد من ولده، لرأيتُ أنَّهُ أهلٌ للخلافة.
ومراد عبد الملك ﵀: أنَّ الحُلْمَ عنده صفةٌ لازمةٌ له، وهو مجبولٌ عليها، ولا يحتاجُ أن يتعاطاهُ، ويتكلَّفهُ تكلُّفًا من غير أن يكون عنده حقيقة.
وروى الدورَقي هذه القصة في كتابه. وعنده أن عبد الملك قال لأبيه: لا والذي أكرمك بما أكرمك به إِن ملأني غَضبٌ قط. والمعنى: ما ملأني الغضب قط.
وروى أبو نعيم في "الحلية" بإسنادهِ عن إسماعيل بن أبي الحكم قال: غضب عمر بن عبد العزيز يومًا فاشتد غَضبهُ وكان فيه حدَّةٌ، وعبد الملك بن عمر بن عبد العزيز حاضرٌ. فلما سكن غَضبُهُ قال: يا أمير المؤمنين، أنت في قدر نعمةِ الله عليك وموضعكَ الَّذِي وضَعَكَ الله به، وما ولاك من أمر عبادِهِ يبلغ بك الغضب ما أرى؟! قال: كيف قلت؟ قال: فأعادَ عليه كلامَه، فَقَالَ له عمر: أما تغضب يا عبد الملك؟ قال: ما تُغني سَعَةُ جوفي إِن لم أردَّ فيه الغَضبَ حتى لا يظهرَ منه شيءٌ أكرهُهُ. قال: وكان له بُطين -رحمه الله تعالى.
***
2 / 485
الباب الخامس
في ذكر كلامه في قِصَر الأمَل والمبادرةِ قبل هجومِ الموتِ بالعملِ
روى أبو بكر الآجري في كتاب "فضائل عمر بن عبد العزيز" لما دَفَن سليمان بن عبد الملك؛ خطب الناس ونزل ثم ذهب يتبوَّأ مقيلًا، فأتاه ابنُهُ عبدُ الملك فَقَالَ: يا أمير المؤمنين، من لك أن تعيشَ إِلَى الظهر قال: ادنُ مني أي بني، فدنا منه والتزمه وقبل بين عينيه، وقال: الحمد لله الَّذِي أخرج من صُلْبي من يعينُني عَلَى ديني. فخرج فلم يقلْ، وأمر مناديه أن ينادي: ألا من كانت له مَظْلمَةٌ فليرفعها.
وروى الحافظ أبو نعيم بإسناده عن إبراهيم بن أبي عبلة، قال: جلس عمر ابن عبد العزيز يومًا للناس، فلما انتصَفَ النهارُ ضجر وملَّ وكلَّ، فَقَالَ للناس: شأنكم حتى أنصرفَ إليكم. فدخل يستريح ساعة، فجاء ابنه عبد الملك فسأل عنه قالوا: دخل. فاستأذَنَ عليه، فأذن له. فلما دخل قال: يا أمير المؤمنين، ما أدخلك؟ قال: أردْتُ أن أستريحَ ساعة. قال: أو أمنْتَ الموتَ أن يأتيك، ورعيتك ينتظرونك، وأنت محتجب عنهم؟ فقامَ عمر من ساعتِهِ وخَرَجَ إِلَى الناس.
وقال ابن أبي الدُّنْيَا في كتاب "العزاء": حدثنا محمد بن الحسين، ثنا محمد بن يحيى بن إسماعيل، عن أبيه قال: مات ابن لعمر بن عبد العزيز، فجاء عمر فقعد عند رأسِهِ، وكشفَ الثوبَ عن وجههِ فجعلَ ينظرُ إِلَيْهِ ويستَدمعُ، فجاء عبد الملك ابنه فَقَالَ: أشَغَلَك يا أمير المؤمنين ما أقبل من الموتِ إليك؟ بل هوى في شغل عما حل لديك، فكأن قد لحقت به وساويته تحت التراب بوجهك. فبكى عمر ثم قال: رَحِمكَ اللهُ يا بني، فواللهِ إنَّك
2 / 486
لعظيمُ البركة -ما علمتك- عَلَى أبيك، نافعُ الموعظةِ لمن وعظت، وايمُ الله، إن كان الذي رأيت من جزعي عَلَى أخيك، ولكن لما علمتُ أنَّ ملك الموتِ دخل داري فراعني دخوله، فكان الَّذِي رأيتَ. ثم أمر بجهازِهِ.
***
2 / 487
الباب السادس
في ذكر صلابتِهِ في الدين وقوتِهِ في تنفيذ الحق واجتهادِهِ عَلَى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومواعظِهِ لأبيه في ذلك
روينا من حديث خير الجعفي، عن محمد بن أبان قال: جمع عمر بن عبد العزيز قُرآء أهل الشام وفيهم ابن أبي زكريا الخزاعي فَقَالَ: إِن قد جمعتكم لأمر، قد أهَمَّتني هذه المظالم التي في أيدي أهل بيتي، ما ترون فيها؟ قال: ما نرى وِزرها إلا عَلَى من غَصَبها. قال: فَقَالَ لعبد الملك ابنِهِ: ما ترى أي بني؟ قال: ما أرى من قَدَر عَلَى أن يردَّها فلم يردَّها والذي اغتصبها إلا سواء. فَقَالَ: صدقت أي بني. ثم قال: الحمدُ للهِ الَّذِي جَعَلَ لي وزيرًا من أهلي عبد الملك ابني.
وروى الحافظ أبو نعيم بإسنادِهِ إِلَى ميمون بن مهران قال: بعث إليّ عمر بن عبد العزيز وإلى مكحولٍ، وإلى أبي قلابة، فَقَالَ: ما ترون في هذه الأموال التي أُخذت من الناس ظُلمًا؟ فَقَالَ مكحول يومئذ قولًا ضعيفًا، فكرهَهُ فَقَالَ: أرى أن تستأنفَ. فنظر إليّ عمر كالمستغيثِ بي، فقلتُ: يا أمير المؤمنين، ابعثْ إلي عبد الملك فأحضره؛ فإنه ليس بدون من رأيت. فلما دخل عليه قال: يا عبد الملك، ما ترى في هذه الأموال التي قد أخذتْ من الناس ظلْمًا، وقد حضروا يطلبونها وقد عرفنا مواضعها؟ قال: أرى (أن تردَّها) (١) فإن لم تفعل كنت شريكًا لمن أخذها.
وروى يعقوب بن سفيان بإسناده عن جويرية بن أسماء، عن إسماعيل بن أبي حكيم قال: كنا عند عمر بن عبد العزيز حين تفرق الناس ودخل للقائلة
_________
(١) تكررت بالأصل.
2 / 488
فَإِذَا منادٍ ينادي: الصلاةُ جامعةٌ، ففزعنا فزعًا شديدًا مخافة أن يكون قد جاء فتقٌ من وجهِ من الوجوه أو حَدَث حَدَثٌ. قال جويرية: وإنما كان دعا مُزاحمًا -يعني مولاه- فَقَالَ: يا مزاحم، إِنَّ هؤلاء القوم -يعني بني عمِّه من الخلفاءِ (الذين) (١) كانوا قبلهُ -قد أعطونا عطايا، والله ما كان لهم أن يعطونا إياها، وما كان لنا أن نقبلها، وإن ذلك قد صار إليّ وليس علي فيه دون الله محاسب. قال له مزاحم: يا أمير المؤمنين، هل تدري كم ولدك؟ هم كذا وكذا. فذرفت عيناه، فجعل يستدمع ويقول: أكلُهم إِلَى الله ﷿ ثم انطلق مزاحمٌ من ساعتِهِ في وجهه ذلك، حتى استأذن عَلَى عبد الملك بن عمر فأذن له، وقد اضطجع للقائلة. فَقَالَ له عبد الملك: ما جاء بك يا مزاحم هذه الساعة؟ هل حَدَثَ من حَدَثٍ؟ قال: أشَدُّ الحدثِ عليك وعلى بني أبيكَ. قال: وما ذاك؟! قال: دعاني أمير المؤمنين، فذكر له ما قال عمر. فَقَالَ عبد الملك: فما قلت له؟ قال: قلت: يا أمير المؤمنين، هل تدري كم؟ هم كذا وكذا، قال: فما قال لك؟ قال: جعل يستدمع، ويقول: أكلهم إِلَى الله ﷿. فَقَالَ عبد الملك: بئس وزير الدين أنت يا مزاحم! ثم وثب وانطلق إِلَى باب عمر. فاستأذن عليه، فَقَالَ الآذن: إِنَّ أمير المؤمنين قد وضع رأسهُ للقائلة. فَقَالَ: استأذن لي، لا أمَّ لك. قال: فسمع عمر الكلام فَقَالَ: من هذا؟ قال: عبد الملك. قال: ائذن له، فدخل عليه وقد اضطجع للقائلة فَقَالَ: ما حاجتُك يا بني هذه الساعة؟ قال: حديثٌ حدثنيه مزاحم. قال: فأين وقع رأيك من ذلك؟ قال: وقع رأيي عَلَى إنفاذه. قال: فرفع عمر يديه وقال: الحمد لله الَّذِي جعل من ذُرِّيَّتي من يعينني عَلَى ديني، نعم يا بني، أُصلي الظُّهر، ثم أصعد المنبر فأردها علانيةً عَلَى رءوس الناس. قال عبد الملك: ومن لك بالظهرِ يا أميرَ المؤمنين؟ ومن لك إِنَّ بقيت إِلَى الظهر أن تسلم لك نيتك إِلَى الظهر؟ فَقَالَ عمر: قد تفرّق الناسُ ورجعوا للقائلة. فَقَالَ عبد الملك: تأمر مناديك ينادي:
_________
(١) تكررت بالأصل.
2 / 489
الصلاة جامعة فيجتمع الناس قال إسماعيل: فنادي المنادي: الصلاةُ جامعة، فخرجتُ فأتيتُ للمسجدِ، وجاء عمر وصعد المنبر، فحمد الله وأثني عليه ثم قال: أما بعد، فإن هؤلاء القوم قد كانوا أعطونا عطايا، والله ما كان لهم أن يعطوناها، وما كان لنا أن نقبلها منهم، وإن ذلك قد صار إليّ، ليس عليَّ فيه دون الله -تعالى- مُحاسبٌ، ألا وإني قد ردَدْتُّها وبدأت بنفسي وأهل بيتي، اقرأ يا مزاحم.
قال: وقد جيء ﴿بسفط قبل ذلك﴾ (١) أو قال: جونة فيها تلك الكتب - يعني: كتب الإقطاعات- قال: فقرأ مزاحم كتابًا منها، فلما فرغ من قراءتِهِ ناوله عمر وهو قاعد عَلَى المنبر، فقصه بالجلم -يعني: المقراض- فاستأنف مزاحم كتابًا آخر فجعل يقرأ فلما فرغ منه دفعه إِلَى عمر فقصه، ثم استأنف كتابًا آخر، فما زال كذلك حتى نودي لصلاة الظهر.
والمرادُ من هذه الحكاية أن عمر ﵁ رد الأراضي التي كانت في يده، مما أقطعه إياه بنو عمه الخلفاءُ قبله، فرد ذلك إِلَى بيتِ المال ولم يبق في يده شيء. وأن عبد الملك ابنه حثه عَلَى فعل ذلك وعلى المبادرة إِلَيْهِ، حين عزم عليه خشية أن تنفسخ عزيمته عن ذلك إِن أخره إِلَى صلاة الظهر أو يموت قبل فعله.
وروى الحافظ أبو نعيم بإسناد له أن عبد الملك دخل عَلَى أبيه فَقَالَ: يا أمير المؤمنين، ماذا تقول لربك إذا أتيته وقد تركت حقًّا لم تُحيِهِ وباطلًا لم تُمتهُ؟
وبإسناد له أن عبد الملك بن عمر دخل عَلَى أبيه فَقَالَ: يا أمير المؤمنين إِنَّ لي عليك حاجةً فأدخلني -وعنده مسلمَة بن عبد الملك- فَقَالَ عمر: أسِرٌّ دون عمك؟ فَقَالَ: نعم. فقام مسلمةُ فخرج وجلس عبد الملك بين يديه فَقَالَ: يا أمير المؤمنين، ماذا أنت قائل لربك غدًا إذا سألك فَقَالَ: رأيت بدعةً فلم تُمتها وسُنَّةً فلم تُحيها؛ فَقَالَ له: يا بني، أشيءٌ حمَّلكه
_________
(١) طمس بالأصل، واستدركناه من "المعرفة والتاريخ" للفسوي (١/ ٦١٧).
2 / 490
الرعية إلي أم رأي رأيته من قبل نفسك" قال لا والله. ولكن رأيٌ رأيته من قبل نفسي، وعرفتُ أنك مسئول، فما أنت قائلٌ؟
فَقَالَ له أبوه رحمك الله وجزاك عن والدك خيرًا، فوالله إني لأرجو أن تكون من الأعوان عَلَى الخير؛ يا بني، إِنَّ قومك قد شدوا هذا الأمر عقدةً عقدةً، وعُروةً عروةً، ومتى أريد مكابرتهم (١) عَلَى ما في أيدهم، لم آمَنْ أن يفتقوا علي فتقًا تكثر فيه الدماء، والله لزوال الدُّنْيَا أهون من أن يُهراق في نصبتي (١) محجمةٌ (٢) من دم، أوما ترى أن يأتي عَلَى أبيك يوم من أيام الدُّنْيَا، إلا وهو يميت فيه بدعة، ويحي فيه سنة، حتى يحكم الله بيننا وبين قومنا بالحقِ وهو خير الحاكمين.
وروى عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب "الزهد" بإسناده عن ابن شوذب قال: جاءت امرأةُ عبد الملك بن عمر إِلَيْهِ وقد تَرَجَّلت، ولبست إزارًا ورداءً ونعلين؛ فلما رآها قال: اعتدّي اعتدّي. وقوله اعتدّي كناية عن الطلاق.
وإنما طلَّقها لما رآها قد تشبهت بالرجال في اللباس، وقد لعن رسول الله ﷺ من تشبه من النساء بالرجالِ، كما لعن من تشبه من الرجال بالنساء.
...
_________
(١) أي: ببيعتي، أي: مدة حكمي.
(٢) محجمة: القارورة التي يجمع فيها دم الحجامة انظر "لسان العرب" مادة: (حجم).
2 / 491
الباب السابع
في ذكر هوان نفسه عليه في ذات الله ورضاه بكل ما يناله من الأذى في تنفيذ أوامر الله ﷿
روى الإمام أحمد في كتاب "الزهد"، بإسناده عن ميمون بن مهران: أن عبد الملك بن عمر قال لأبيه يومًا: يا أبهْ، ما منعك أن تمضي لما تريد من العدل؟ فوالله ما كنت أبالي لو غَلَت بي وبك القدور في ذلك.
وقال جويرية بن أسماء: قال عبد الملك بن عمر: يا أمير المؤمنين، ما منعك أن تنفذ رأيَكَ في هذا الأمر؛ فوالله ما كنت أبالي لو تغلي بي وبك القدور في نفاذ هذا الأمر.
وقال الربيع بن سبرة: قال عمر بن عبد العزيز يومًا: والله لوددتُ لو عدلتُ يومًا واحدًا، وأن الله توفى نفسي. فَقَالَ له ابنه عبد الملك: وأنا واللهِ لوددتُ لو عدلتُ فواقَ ناقة (١)، وأن الله توفى نفسي. فَقَالَ عمر: آلله الَّذِي لا إله إلا هو؟ فَقَالَ عبد الملك: الله الَّذِي لا إله إلا هو، ولو جاشت بي وبك القدور. فَقَالَ عمر: جزاك الله خيرًا.
وقال سليمانُ بن حبيب المحاربي: قال عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز: والله ما من أحد أعز علي من عمر، ولأن أكون سمعتُ بموتِهِ أَحَبُّ إلي من أن أكون كما رأيته.
قلت: العارفون بالله المحبون له يرضون بما تقتضيه مقاديرُهُ، وإن كانت شاقة عَلَى النفوس مؤلمة لها، ويتلذذون بذلك، ولا سيما إِن كان أذاهم في
_________
(١) فواق ناقة: ما بين الحلبتين من الوقت؛ لأنها تحلب ثم تترك سويعة يرضعها الفصيل لتدر ثم تحلب "اللسان" (١٠/ ٣١٦).
2 / 492
تنفيد أوامر الله والدعاء إِلَى طاعة الله وكان هذا مقام عمر بن عبد العزيز وابنه عبد الملك -رضي الله ﴿عنهما﴾ (١).
وكان عمر بن عبد العزيز قد رسخ في هذا المقام الرفيع حتى يقول: أصبحت وما لي سرور إلا في مواضع القَضاءِ والقدرِ.
وكان أبو تراب النخشبي وهو من أعيان مشايخ العارفين ينشد هذه الأبيات:
لا تُخْدَعَنَّ فللمحب دلائلُ ... ولدَيْهِ من تُحفِ الحبيبِ مسائلُ
منها تَنَعُّمُهُ بمُر بَلائِهِ ... وسرورُهُ في كلِّ ما هو فاعلُ
فالمنعُ (منه) (٢) عَطيَّةٌ والفَفْـ ... ـرُ إكرامٌ وبرٌّ عاجلُ
...
_________
(١) في "الأصل": عنه.
(٢) تكررت بالأصل.
2 / 493
الباب الثامن
في ذكر شدةِ حذرهِ من الظلمِ وتنزهه من ذلك
كان عبد الملك ﵀ يكره أن يُدخل نفسه في تأديب أهل الفساد، خشيةَ أن يتعدّى الحدودَ الشرعية، وهو غيرُ قاصدٍ لذلك، أو خشية أن يُنسبَ إِلَى الظلمِ وهو منه بريء.
فروى عبد الله بن بطة ابنُ الفقيه الزاهدِ المجاب الدعوةِ، وهو من أعيان علماء الحنابلة في كتاب "الحمّام" بإسناده عن ميمون بن مهران قال: أتيتُ عبدَ الملك بن عمر بن عبد العزيز، فاستأذنت عليه، فقعدت عنده ساعة، فأُعجبتُ به. فجاء الغلام فَقَالَ: فرغنا مما أمرتنا به. قال: قلتُ: وما ذاك؟ قال: الحمّام أمرتُهُ أن يُخليهُ لي. قلت: إني كنتُ قد أعجبتُ بك حتى سمعتُ هذه! قال: وما ذاك يا عماه؟ قال: أرأيت الحمّام ملكًا لك؟ قال: لا. قلت: فما الَّذِي يحملُكَ أن تصُدَّ عنه غايته وتعطّله عَلَى أهله؟! قال: إِن أعطَله عليه فأنا أعطيه غلة يومِهِ. قلت: هذه نفقةُ كبرٍ خلطها إسرافٌ، كأنك تريدُ بذلك الأُبَّهَة؛ فإنما أنتَ رجلٌ من المسلمين كأحدهم يجزئك أن تكون مثلهم! فَقَالَ: والذي عظَّم من حقك، ما يمنعني أن أدخلَ معهم إلا أن أرى قومًا رعاعًا بغير مآزر! فأكرَهُ أن أؤدبهم عَلَى الإزار، فيصفُونَ ذلك عَلَى سُلطاننا، خلَّصنا اللهُ منهم كفافًا. قال: قلتُ: تدخله ليلًا. قال: افعلُ، ولولا بردُ بلادنا ما دخلتُهُ ليلًا ولا نهارًا.
***
2 / 494
الباب التاسع
في ذكر مرضِهِ ووفاتِهِ ﵁
قال ابن أبي الدُّنْيَا: حدثنا علي بن مسلم قال: حدثنا سعيدُ بنُ عامر قال: قال عمر بن عبد العزيز لعبد الملكِ ابنه: ما شيءٌ كنت أَحَبّ أن أراه فيك إلا قد رأيته، إلا شيئًا واحدًا. قال: ما هو؟ قال: موتُكَ. قال: أراكهُ الله.
وروى الحافظ أبو نعيم بإسناده عن سليمان بن حبيب المحاربي أن عبد الملك ابن عمر أصابه الطاعون في خلافة أبيه فمات.
وروى ابن أبي الدُّنْيَا بإسناده عن مشيَخَةٍ من قريش قال: دخل عمر بن عبد العزيز عَلَى ابنه في وَجَعِهِ فَقَالَ: يا بني، كيف تجدُ؟ قال: أجدني في الحق. قال: يا بني، إِن تكن في ميزاني أحبُّ إلي من أن أكون في ميزانك. فَقَالَ ابنه: وأنا يا أبه لئن أكون ما تحبُّ، أحبّ إلي من أن يكون ما أُحِب.
وروى أيضًا بإسناده عن زياد بن حسان أنه شهد عمر بن عبد العزيز حين دفن ابنهَ عبدَ الملك. قال: فلما سوّى عليه قبرَهُ بالأرض، وجعلوا في قبرهِ خشبتين من زيتون، إحداهما عند رأسه والأخرى عند رجليه، ثم جعل قبره بينه وبين القبلة، ثم استوى قائمًا، وأحاطَ به الناسُ. فَقَالَ: رحمك الله يا بني، فلقد كنتَ برًّا بأبيكَ، وما زلتُ منذ وهبك الله لي مسرورًا، ولا والله ما كنتُ أشدَّ سرورًا ولا أرْجي لحظي من الله فيك، منذُ وضعتك في الموضع الَّذِي صيرك الله إِلَيْهِ، فرحمك الله وغفر ذنبَكَ وجَزاك بأحسنِ عملك وتجاوز عن مسيئه، ورحم كلَّ شافع يشفعُ لك بخير من شاهدٍ وغائب، رضينا بقضاء الله وسلَّمنا لأمره، والحمد لله رب العالمين. ثم انصرف -رحمه الله تعالى.
_________
(١) بياض بالأصل.
2 / 495