ثم أتوه بغدائه: جدي مشوي كأنه عكة سمن، ودجاجتان هنديتان كأنهما رألا النعام، وعس يغيب فيه الرأس، قد امتلأ حريرة كأنها قراضة الذهب، ثم صف بين يديه ثمانون قدرا مختلفة الألوان ...
15
واعتدل سليمان في مجلسة، وأقبل على الجدي المشوي فأتى عليه، ومال على الدجاجتين يأخذ برجل واحدة بعد واحدة، فيلقي عظامها نقية، ثم جعل يقلع الحريرة بيده، ويشرب ويتجشأ كأنما يصيح في جب، فلما فرغ من ذلك مال على القدور الثمانين يكشف عن أغطيتها قدرا بعد قدر، فيأكل من كل منها لقمة أو لقمتين أو ثلاثا ... ثم مسح يديه واستلقى ...
قال له مسلمة: أمتعك الله يا أمير المؤمنين، وأمتع بك! ... - ويك يا مسلمة، فهل عندك من جديد؟ - نعم، فإن هذه الروم على ما ترى من الضعف، واحتلاف الأمر، وهوان المنزلة، ولم يبق ثغر من ثغورهم مما يلي بلادنا إلا وطئه جند العرب وجاسوا خلاله، ولا حصن من حصونهم إلا شعثناه، حتى تطامن من شموخ، واستبيح بعد منعة؛ وإني أرى الأوان قد آن يا أمير المؤمنين للضربة التي تدك حصونهم وأسوارهم، وتبيح أرضهم وحريمهم، وتعلي كلمة الله في تلك الأرض الكافرة. - وعتادك وجندك؟ - على الأهبة يا أمير المؤمنين، عشرون ومائة ألف في البر، ومثلها في البحر. - وسفن الغزو؟ - ثمانمائة وألف سفينة تطاود الموج ولا تنطاد فوقها السحب! - والنار الرومية يا مسلمة؟ - لن تنال منا منالا يا أمير المؤمنين ، أو توهن لنا عزيمة. - وتلك الأسوار المملسة لا يقف عليها الذر، الشامخة قد ركبتها السحب؟ - سيفتحون لنا الأبواب طائعين حين يضر بهم الحصار، فلا تكون أسوارهم هذه إلا سجنا لهم لا يملكون منصرفا عنه. - ولكن الحصار لا يضر بهم من قريب يا مسلمة، وعندهم من الزاد والأقوات، ومما تمدهم به أمم النصرانية في الأرض الكبيرة، وما يعاونهم به البلغار من غلات بلادهم؛ ما يطول معه الأمد! - سنصابرهم حتى ينفد المذخور، وينكل الصبور، ويتسلل الجبان، ويسأم الأعوان، وينقطع المدد. - وشتاؤهم الذي يجمد الأطراف، ويوجب الكن؟ - سنبني حول الأسوار بيوتا كبيوتهم، ومصانع خيرا من مصانعهم، ونتخذها دار إقامة حتى يفتح الله علينا، وتسقط في أيدينا مدينة قسطنطين. - وطعام الجيش وزاده، والطريق إليكم طويل، والبر موحش والبحر هائج؟ - سيكون لنا هناك زرع وضرع ومرعى وماشية. - أراك يا مسلمة تحاول عظيما من الأمر! - كل عظيم يا أمير المؤمنين، فأنت أعظم منه! - الله يا ابن عبد الملك، إنك لتنكر قدرك، ولولا أن سبق إلي عهد أمير المؤمنين عبد الملك لكنت أحق بها وأهلها.
16 - ولكن الدولة عربية يا أبا أيوب. - وأنت مسلمة بن عبد الملك. - بل أنا ابن ورد.
17 - فهل ترى ولد عبد الله بن عمر قد نقص من قدره شيئا أن أمه من بنات سابور؟
18 - قد سمعتهم يمزحون فيقولون: إنه أحق بعرش كسرى. - فأنت إذن أحق بعرش قيصر!
19 - ها أنت ذا قد قلتها يا أبا أيوب. - والله لولا أني لا أملك أن أخلع نفسي، وأنضو قميصا قد قمصنيه خليفة رسول الله
20
لرضيت - طيب النفس - أن تجلس مجلسي على عرش عبد الملك، وإنك لأعظم في نفسي مهابة، وأدنى إلى قلبي منزلة من ولدي أيوب. - أمتعك الله به يا أمير المؤمنين، حتى تبايع له بالعهد من بعدك، إن أيوب ابن أمير المؤمنين لريحانة هذا البيت، وإني لأرجو أن يكون له شأن في غده. - طاب فألك يا أبا سعيد! - وطاب عهدك! إنك بأيوب لميمون الكنية؛ فكأني بك أردت أن يكون أبو أيوب الأنصاري أول من يبلغ أسوار القسطنطينية من العرب، وأن يكون أبو أيوب الأموي
अज्ञात पृष्ठ