وكان من أولئك الأسارى بعض أبناء السادة والقادة والأمراء في بلادهم، وكان لهم ثقافة ومهارات وفنون، فبرزوا في المجتمع العربي بفنونهم ومهاراتهم وثقافتهم، وذاع لهم جاه وصيت، واكتسبوا مالا وحظوة، ولكنهم لم يبلغوا في المجتمع العربي لعهد الدولة الأموية منزلة العربي الأصيل؛ إذ كانت تلك الدولة تؤمن بالعرق والنسب.
وكان بين السبايا من بنات الأمم المغلوبة ذوات ثقافة وفنون ومهارات كذلك، أو ذوات ملاحة ودلال وفتنة ، أو ذوات حسب ونسب ومجد؛ فأغرى كل أولئك - أو بعضه - رجالا من العرب باتخاذ زوجات منهن أو وصائف وحظايا ...
وكثرت الزوجات والحظايا من بنات الفرس والروم والترك والإسبان والصقالبة، وغيرهم في بيوت أمراء العرب، وفي بيوت السوقة كذلك، وولدن لهم بنين وبنات من ذوي النجابة والفطنة والعزم، أو من ذوات الحسن المطعم، وكان أولادهن هؤلاء من قومهم في منزلة وسطى بين منزلة العرب الخلص ومنزلة الموالي؛ إذ كانوا هجناء قد اختلط في أعراقهم دم عربي بدم غير عربي. •••
كذلك كان المجتمع العربي في السنين التي وقعت فيها حوادث هذه القصة، وتلك كانت سماته وملامحه العامة ...
وتبدأ القصة في مسجد «الرقة» - وهي بلد من بلاد الجزيرة على شاطيء الفرات - حيث جلس قاص من قصاص الدولة إلى سارية من سواري المسجد، يتحدث إلى أهل حلقته حديثا يشوقهم به إلى الجهاد، ويرغبهم فيه، ويحبب إليهم أن ينتظموا في صفوف الجيوش الغازية في الشرق أو في الغرب ...
وكان لمثل هذا القاص في عهد الدولة الأموية شأن وأثر، فهي قد ابتدعت هذه الوظيفة، واختارت لها طائفة من العارفين بالسير وأخبار المغازي والفتوح، تأجرهم على ما يقصون من قصص في مساجد الأمصار، بقدر ما يتركون من أثر في سامعيهم؛ ليسارعوا إلى التطوع في الجيوش الغازية، أو يكونوا حزبا للخليفة، فكان أولئك القصاص يقومون في وقتهم ذاك بمثل مهمة صحف الدعاية، ومكاتب الاستعلامات في هذه الأيام ...
ولعل الدولة الأموية بابتداعها لهذه الوظيفة، كانت أسبق الدول إلى الأخذ بهذا المذهب، الذي يهدف إلى توثيق صلة الحكومة بالجماهير، وكسب تأييدهم فيما تحاول من تدبير سياسي في الداخل أو في الخارج، وهو مذهب له اليوم في السياسات العامة شأن كبير، ولعلها - إلى ذلك - كانت أول دولة عرفت أثر القصص في النفوذ إلى نفوس الجماهير، فاستخدمت هؤلاء القصاص؛ لتنفذ بهم إليها، إذ كانت تشعر أنها بإزاء منافسة قوية على العرش، يحمل رايتها بنو هاشم، من آل أبي طالب وآل العباس، الأحباء إلى قلوب الجماهير لقرابتهم القريبة من النبي ...
على أن أحاديث هؤلاء القصاص في حلقاتهم تلك لم تكن قصصا بالمعنى الفني، الذي نفهمه في هذه الأيام من كلمة «قصص»، وإنما هي أخبار وروايات تتداعى لمناسباتها، وتتساوق لإحداث الانفعال والتحميس والسمو بالروح المعنوية للشعب، ولكنها برغم ذلك نوع من القصص على غير قاعدة من قواعد ذلك الفن ... •••
وتمضي القصة من حيث بدأت في حلقة ذلك القاص بمسجد الرقة، حتى تنتهي إلى غاية من غايات كل قصة، تتفاعل فيها نفوس البشر بالعواطف المتناقضة التي تنشئها في نفوس أبطالها ظروف المجتمع الذي يعيشون فيه ...
وقد عرفنا في بعض ما مضى من هذا التمهيد بعض ملامح هذا المجتمع، الذي وقعت فيه حوادث هذه القصة ...
अज्ञात पृष्ठ