12
ولكن هذا النحول في القد، وتلك الزرقة في العينين، وذاك الشحوب في الخد، وذلك النبر في الحديث، كل أولئك ينم نميمة فاضحة عن أرومة تلك الصبية؛
13
فتتهامس حولها بعض الشفاه، وتنقبض عنها بعض النفوس.
ويفد النعمان إلى الرقة زائرا ذات مرة - كبعض عادته - بعد غيبة طويلة، فتلقاه زوجه طيبة النفس راضية ، قد افتر ثغرها عن ابتسامة، تعبر عن مدى شوقها إليه وسرورها بمقدمه، ولكنه يرى وجنتيها قد ازدادتا شحوبا، وعينيها قد بدتا أكثر زرقة وعمقا، ويرى على تينك الشفتين الرقيقتين كلمات تختلج يجاذبها الحياء منه والحفاظ على مودته أن تلفظها، ويسألها النعمان عما بها فلا تجيب، ولكنها ما تكاد تسمع صوته الحاني حتى تستحيل تلك الاختلاجة دموعا تنحدر على الوجنتين الشاحبتين، ويدنو منها النعمان، فيمسح على شعرها بيده، ويعيد سؤاله متلطفا، فتجيبه: ليس يخفى علي يا نعمان - ولا يطيب لي أن أنكر - أنني جاريتك. - بل زوجتي وأم ولدي يا سبيكة. - نعم، أم ولدك التي أكرمتها بنسبك فسميتها زوجا. - بل أنت أكرمتيني يا سبيكة بديا بما أسبغت علي من حنانك وعطفك، ثم أكرمتيني ثانية حين ولدت لي عتيبة هذا الذي أرجو أن يكون قرة عين لي ولك، وما زلت تكرمينني بما تحفظين من غيبي وتحدبين على أهلي وترعين ولدي راضية صابرة على مر الفراق وشظف العيش. - ولكن أمك لا ترضى يا نعمان. - أمي؟! - وزوج أخيك أيضا، وولدك عتيبة! - ماذا؟ ... قد علمت من علم الناس أن الحماة والسلفة لا ترضيان أبدا عن الكنة ... ولكن ما شأن ولدنا عتيبة؟! - إنه مثلهما ينكر على أمه أنها ليست عربية. - ومن أنبأه؟ - لم ينبئه أحد! - فماذا قال إذن؟ - جاءني ذات يوم يسألني: إلى أي عرب اللاذقية تنتسبين يا أم؟ - فكيف كان جوابك؟ - قلت له: إن أباك يعرف، ولم أزد، فقد خنقتني العبرة، ففررت من بين يديه إلى خلوتي. - أفهذا ما تقولين إنه ينكره عليك؟ - نعم! - لقد أسأت الفهم يا سبيكة. - بل قل: يا سبية! - أوه! - لست أريد مساءتك يا نعمان. - ولم يرد عتيبة مساءتك. - ففيم كان سؤاله ذاك عن نسبي؟ - تلك عادة عربية: أن يفخر الأبناء بما يمتون من نسب الآباء والأمهات. - وكيف كنت تراني أجيب؟
قال النعمان ضاحكا، وقد مال عليها حتى خالطتها أنفاسه: قولي له: إنك في أعلى بيت من بني الأصفر.
14
ونفرت سبيكة مبتعدة، وعضت على شفتها، ثم أرسلت عينيها وقالت، وقد سترت وجهها بكفيها وبدنها يختلج كله: وكذلك أنت يا نعمان ما تزال تقولها!
قال وقد زحف إليها حتى لاصقها ثانية: فماذا كنت تريدين أن أقول إذن؟ - لا شيء! - ولكن كل مسئول لا بد أن يجيب.
قالت وقد شرعت عينيها وبرق فيهما بريق عجيب: قل إنك ولدتني ولادة ثانية ثم اتخذتني زوجا! - وإذن فأنا أبوك وزوجك؟ - نعم. - ولكنك أنت ولدتيني كذلك ثم ولدت لي! - إذن فأنا أمك وزوجك؟ - نعم! - وأمك؟ - إن لكل رجل أمين وأبوين. - ولكل امرأة ...! - فمن أمك الثانية إذن؟ - أمك! - ولكنك تكرهينها يا سبيكة فيما أرى! - بل هي تكرهني. - وهل تكره الأم ابنتها؟ - نعم، حين تكون كنة لها، فتغلبها على أمومة ولدها. - فهل أيقنت إذن أنك قد غلبتيها على أمومتي؟ ... - أيقنت.
अज्ञात पृष्ठ