[مقدمة الكتاب]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ــ
[البناية]
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) ش: ابتدأ الكتاب بالبسملة أولا، ثم ثنى بالحمدلة اقتداء بالكتاب العزيز المستفتح هكذا، وعملا بقوله ﵊: «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بذكر الله وبسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع.» رواه الحافظ عبد القادر الرهاوي في أربعينه: وفي رواية أبي داود والنسائي: «كل كلام لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم» وفي رواية ابن ماجه: «كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه بالحمد لله فهو أقطع» ورواه أبو عوانة وابن حبان في صحيحيهما.
وقال ابن الصلاح: ورجاله رجال الصحيح سوى مرة بن عبد الرحمن فإنه ممن تفرد به مسلم بالتخريج له. قال: وهو حديث حسن، بل صحيح.
ومعنى: " أقطع ": قليل البركة، وكذلك: " أجذم " بالجيم من جذم بكسر الذال المعجمة يجذم بفتحها.
فإن قلت: إن بين النصين تعارضا ظاهرا، والابتداء بأحدهما مفوت الابتداء بالآخر.
قلت: يمكن الجمع بأن يقدم أحدهما على الآخر، فيقع الابتداء بالمقدم حقيقة وبالآخر بالإضافة إلى ما سواه، فعمل بالكتاب الوارد بتقديم التسمية والإجماع المنعقد عليه، فلذلك ترك العاطف لئلا يشعر بالتبعية فيخل بالتسوية.
فإن قلت: في قولك: " اقتداء بالكتاب العزيز المستفتح هكذا " نظر من وجهين: أحدهما:
1 / 105
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[البناية]
أنه إنما يتجه الابتداء بالحمد لو لم يكتب في الأول البسملة، وكيف لا، وحال المسلم ينافي قصدا ترك البسملة؟. والآخر: أن الكتاب العزيز لم يستفتح بالحمدلة؛ لأن الترتيب فيه إما بالنظر إلى النزول على النبي ﷺ أو بالنظر إلى الترتيب العثماني، فإن كان الأول فلا ثم أنه لم يستفتح بالحمد بل بسورة العلق والمدثر على الاختلاف، وإن كان الثاني فهو استفتح بالبسملة قطعا.
قلت: المراد من القول: " اقتداء بالكتاب العزيز المستفتح هكذا " بالنظر إلى ما تقرر عليه استفتاح الكتاب، فكان مطابقا لترتيبه في الابتداء بالبسملة والثني بالحمدلة.
" والباء " في بسم الله للاستعانة، وهي الداخلة عل آلة الفعل، نحو: كتبت بالقلم، ونجرت بالقدوم؛ لأن الفعل لا يتأتى على الوجه الأكمل إلا بها، لأن المؤمن لما اعتقد أن فعله لا يصير معتدا به حسب الشرع، ولا موافقا في السنة حتى يذكر الله وإلا لكان فعلا كأي فعل، لذلك جعل متقولا بسم لله كما يفعل الكاتب بالقلم، ويجوز أن يتعلق باقرأ تعلق الدهن بالإنبات في قَوْله تَعَالَى: ﴿تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ﴾ [المؤمنون: ٢٠] على معنى نتبرك باسم الله وأقرأ. وكذلك قول الداعي للعرس: بالرفاء والبنين. وهذا الوجه أقرب وأحسن. وعرفت أن الفعل الذي تعلق به الباء على الاسم محذوف، حذف لدلالة الحال عليه، والمعنى: بسم الله أقرأ، أقرأ: أتلو لأن الذي يتلوه مقروء، كما أن المسافر إذا حل أو ارتحل قال: بسم الله والبركات، كأن المعنى: بسم الله أحل وبسم الله أرتحل متبركا به. وكل فاعل يبدأ فيه باسم الله كان مضمرا بما جعل التسمية مبتدأ له.
واعلم أن الظرف أعني " باسم " في الوجه الأول على الإلغاء، وفي الوجه الثاني على الاستقرار ومحله منصوب على الحال، والعامل هو الفعل المحذوف، وإذا قدرنا: ابتدائي بسم الله كان محلها الرفع، والباء على هذا متعلقة بالخبر المحذوف هو نائب عنه كأنه قيل: ابتدائي ثابت أو مستقر بسم الله ونحو ذلك.
فإن قلت: لم لا يتعلق بابتدائي؟.
قلت: لا يجوز ذلك؛ لأنه مصدر، فلو تعلقت به لدخلت في صفاته، وبقي المبتدأ بلا خبر، وذلك أن المصدر إذا كان بمعنى: " أن فعل " و" أن يفعل " احتاج إلى صلة. ونقل بعضهم عن البصريين أن تقديره: أول ما ابتدأته به بسم الله، ولا يجوز أن يتعلق الباء في هذا الوجه بأبدأ؛ لأنه في صلة ما، وما تعلق بالموصول لا يجوز أن يكون خبرا، فتكون الباء متعلقة بمحذوف وهو خبره. وعن الكسائي أن الباء زائدة؛ لأن الباء لا تعلق بشيء، وموضع " الله " وقع تقديره وأول ما أبدأ به: اسم الله. وزيادة الباء في خبر المبتدأ عزيزة جدا لا تكاد توجد إلا ما حكي عن الأخفش: الباء في قَوْله تَعَالَى: ﴿جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا﴾ [يونس: ٢٧] م: (يونس: آية ٢٧)، والتقدير: مثلها، بدليل
1 / 106
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[البناية]
قَوْله تَعَالَى في موضع آخر: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ [الشورى: ٤٠] (الشورى: آية ٤٠)، والصواب أن الباء هاهنا متعلقة بمحذوف، والتقدير: سيئة " جزاء سيئة واقع بمثلها. ويجوز أن يتعلق بجزاء والخبر محذوف التقدير: وجزاء..... " بمثلها واقع أو حاصل، وما نقل عنه ضعيف عند المحققين.
واعلم أن الأولى أن يقدر المحذوف متأخرا قصدا إلى اختصاص الابتداء بسم الله؛ وذلك لأن العرب كانوا يبدءون بأسماء آلهتهم، فيقولون: بسم اللات، بسم العزى. وذلك أولى للموحد، كما في قَوْله تَعَالَى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ [الفاتحة: ٥] حيث صرح بتقديم الاسم إرادة الاختصاص. وهذا بخلاف: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ [العلق: ١] (العلق: آية ١)، فإن هناك تقديم الفعل أوقع؛ لأنها أول سورة نزلت، فكان الأمر بالقراءة أهم.
وللباء أحد عشر معنى:
الإلصاق: نحو: مررت بزيد. أي التصق مروري بمكان يقرب منه زيد. وقد يقال: إن هذه الباء مكملة بالفعل، ومنه: حلفت بالله، ويقال: معنى الإلصاق لا يفارقها في كل الأحوال.
والتعدية: وتسمى باء الفعل أيضا: نحو: ذهب بزيد.
والاستعانة: وقد مر.
والسبب نحو: ﴿إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ﴾ [البقرة: ٥٤] م: (البقرة: آية ٥٤)، ﴿فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ﴾ [العنكبوت: ٤٠] م: (العنكبوت: آية ٤٠) .
والمصاحبة: نحو: ﴿اهْبِطْ بِسَلَامٍ﴾ [هود: ٤٨] (سورة هود: آية ٤٨) أي: معه.
والظرفية: نحو: ﴿نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ﴾ [القمر: ٣٤] (سورة القمر: آية ٣٤) .
والبدل: كقول الحماسي:
لي بهم قوما إذا ركبوا
والمقابلة: وهي الداخلة على الأعراض: كاشتريته بألف.
والمجاورة: ك " عن "، فقيل: تختص بالسؤال نحو: ﴿فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا﴾ [الفرقان: ٥٩] (الفرقان: آية ٥٩) . وقيل: لا تختص به.
والاستعلاء: نحو: ﴿مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ﴾ [آل عمران: ٧٥] (آل عمران: آية ٧٥) .
والتبعيض: أثبته الأصمعي والفارسي وابن مالك، قيل: والكوفيون جعلوا منه: ﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ﴾ [الإنسان: ٦] (الإنسان: آية ٦)، ومنه: ﴿وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ﴾ [المائدة: ٦] (سورة المائدة: آية ٦) .
والقسم: وهي أصل أحرفه.
1 / 107
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[البناية]
والغاية: نحو: ﴿وَقَدْ أَحْسَنَ بِي﴾ [يوسف: ١٠٠] (سورة يوسف: آية ١٠٠)، أي إلي.
والتوكيد: وهي الزائدة، فتكون في الفاعل: ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾ [النساء: ٧٩] (النساء: آية ٧٩)، وتكون في المفعول نحو: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [البقرة: ١٩٥] (البقرة: آية ١٩٥)، وتكون في المبتدأ، نحو: " بحسبك درهم "، و" خرجت فإذا بزيد " ونحو ذلك.
وقد قيل: إن الباء في ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ﴾ [النساء: ٧٩] ليست لغوا، ويجوز أن يكون الفعل مقدرا بعد كفى، ويكون ﴿بِاللَّهِ﴾ [النساء: ٧٩] صفة له قائمة مقامه، ويجوز أن يكون الفاعل مضمر العين المنصوب بعده، أعنى: شهيدا. كما تقول: نعم رجلا زيدا، أو زيد رجلا، قال هذا القائل: ولو كانت الباء زائدة هناك لكان القياس أن يلحق الفعل عليها علامة التأنيث في قَوْله تَعَالَى: ﴿كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾ [الإسراء: ١٤] (الإسراء: آية ١٤)؛ لأنه للنفس، وهو ما يغلب عليه التأنيث.
وقال بعضهم: إن الباء تكون للتجريد، نحو: " لقيت بزيد بحرا ". وإنما سمي تجريدا؛ لأنك إذا قلت: زيدا بحرا، كأنك لقيت زيدا وهو جواد فجردته.
فإن قلت: الحرف مبني، وحق البناء السكون.
قلت: لا ينافي الابتداء بها.
فإن قلت: حق الحرف الواحد الفتح لخفته، نحو واو العطف وفائه، وسين الاستقبال، وغيرها.
قلت: لأنهم شبهوا حركتها بحركة معمولها فكسروها.
فإن قلت: الكاف حرف، وهي مع ذلك مفتوحة.
قلت: الكاف يدل على معنيين: معنى الاسم، ومعنى الحرف، فبالأولى أن يحرك بأخف الحركات.
وحكي عن أبي علي بن عيسى أن الباء إنما حركته ليتوصل إلى النطق بها، ولو فتحت أو ضمت لجاز أيضا، وبعض العرب يفتح هذه الباء، وهي لغة قليلة.
ولفظ الاسم أحد الأسماء لعشرة التي بنوا أوائلها على السكون، فإذا نطقوا بها مبتدئين زادوا همزة؛ لئلا يقع الابتداء بالسكن. وهو من الأسماء المحذوفة الأعجاز، كيد ودم.
وأصله: يسمو، واشتقاقه من السمو عند البصريين. قال الكوفيون: من وسم يسم، وقال
1 / 108
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[البناية]
البصريون: لو كان كذلك لقالوا في تصغيره: وسيم، وفي جمعه: أوسام، فلما قالوا: سمي وأسماء دل على أن أصله: سمو. ويقال: اسم وسم بالكسر فيهما، واسم وسم بالضم فيهما.
وقال المبرد: سمعت العرب تقول: اسمه، وسمه، وباسمه، وسماه.
وإنما سقطت همزة " اسم " في " الله "؛ لأنها همزة وصل، كما في: ابن وابنة، ونحوهما وسقطت في الخط أيضا لكثرة الاستعمال.
ولفظة: " الله " اسم علم على الباري ﷻ. والمختار أنه ليس بمشتق، وهو قول الخليل وسيبويه وأكثر الأصوليين والفقهاء. وذلك لأنه لو كان مشتقا لكان معناه معنى كليا لا يمنع نفس تصور مفهومه من وقوع الشركة، وحينئذ لا يكون قولنا: " إلا الله " موجبا للتوحيد المحض. وحيث أجمع الفقهاء على أن هذا موحد محض علمنا أنه اسم علم موضوع لتلك الذات المعينة، وليست من الألفاظ المشتقة كما ذهب إليه سيبويه وآخرون، ثم اختلفوا في اشتقاقه: فقيل: من أله يأله بفتح العين فيهما إلاهة بالكسر أي عبادة.
والإله على وزن فعال بمعنى مفعول، أي مألوه أي معبود. ثم لما كان اسما لعظيم ليس كمثله شيء أرادوا تفخيمه بالتعريف الذي هو " أل "؛ لأنهم أفردوه لهذا الاسم دون غيره، فقالوا: الإله، واستثقلوا الهمزة في كلمة يكثر استعمالهم فيها فحذفوها ثم ادغموا اللام في اللام، فصار " الله " كما نزل به القرآن.
وقيل: من أله يأله بالكسر في الماضي والفتح في الحاضر ألها بفتح الفاء والعين أي سكنا، إنما سمي الله إلها لسكون الخلق إليه في جميع حوائجهم.
وقيل: من أله: أي تحير، إنما سمي به لتحير الخلق في عظمته.
وقيل: من تأله: أي تضرع يتأله تألها، إنما سمي به لتضرع الخلق إليه.
وقيل: من لاه يلوه: أي احتجب عن إدراك الأبصار، وإحاطة الأفكار. قال الشاعر:
لاه ربي عن الخلائق طرا ... خالق الخلق لا يُرى ويرانا
فإن قلت: لم قرن لفظة الاسم بلفظة الله دون سائر أسمائه؟.
قلت: لأنه اسم الذات المستجمع لجميع الصفات العلى والأسماء الحسنى، فلذلك جعل إمام سائر الأسماء، وخصت به كلمة الإخلاص، ووقعت به الشهادة فصار شعائر الإيمان. وهو اسم ممنوع لم يسم به أحد، وقد قبض الله عنه الألسن، فلم يدع به شيء سواه. وقد كان يتعاطاه المشركون اسما لبعض أصنامهم فصرفه به الله إلى اللات صيانة لحق هذا الاسم وذبا عنه، وكذلك
1 / 109
الحمد لله
ــ
[البناية]
الجواب في " الحمد لله " فافهم.
الرحمن: فعلان من رحم، كغضبان من غضب.
والرحيم: فعيل منه. وفي " رحمان " من المبالغة ما ليس في الرحيم، فلذلك قالوا: رحمان الدنيا والآخرة، ورحيم الدنيا. والزيادة في البناء زيادة في المعنى. واتصاف الله تعالى بالرحمة، ومعناها العطف والحنو، مجاز عن إنعامه على عباده. وذكر الرحيم بعد الرحمن من قبيل التعميم والرديف، وذلك لأنه لما قال: الرحمن، تناول جلائل النعم، ودقائقها، ثم أردفه بالرحيم ليتناول ما دق منها وما لطف، وهما مجروران بالوصفية، وهما من الصفات المادحة بمجرد الثناء والتعظيم.
وقد اختلف في صرف رحمن ومنعه، فمن شرط في المنع انتفاء فعلانه منعه، ومن شرط وجود فعلى صرفه على ما عرفت في موضعه.
م: (الحمد لله) ش: الحمد لله هو الثناء على الجميل الاختياري نعمة كانت أو غيرها، باللسان وحده. يقال: " حمدته على إنعامه وعلى شجاعته. والشكر هو الثناء على النعمة وحدها باللسان وغيره من الجوارح، قال الشاعر:
أفادتكم النعماء مني ثلاثة ... يدي ولساني والضمير المحجبا
فبينهما عموم. والمدح هو الثناء على الجميل اختياريا أولا باللسان وحده، فيقال: حمدت الله وشكرته، ولا يقال: مدحت، فهو أعم من وجه. وقيل: الحمد: هو الثناء باللسان على قصد التعظيم سواء تعلق بالنعمة أو بغيرها. والشكر: فعل ينبئ عن تعظيم المنعم لكونه منعما سواء كان باللسان أو بالجنان أو بالأركان.
فمورد الحمد لا يكون إلا باللسان، ومتعلقه يكون النعمة أو غيرها، ومتعلق الشكر لا يكون إلا النعمة ومورده يكون اللسان وغيره، فالحمد أعم من الشكر باعتبار المتعلق، وأخص باعتبار المورد، والشكر بالعكس.
وقال الزمخشري: الحمد والمدح أخوان، فالحمد على النعمة وغيرها، والشكر على نعمة خاصة بالقلب واللسان والجوارح، والحمد باللسان وحده، وهو إحدى شعب الشكر والحمد نقيضه الذم، والشكر نقيضه الكفران.
قلت: معنى قوله: أخوان: أي مشتركان في المعنى الأصلي، وهو الثناء لاشتراكهما في الحروف الأصول، غير أن كلا منهما يدل على معنى يختص هو به على حسب الاختلاف في
1 / 110
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[البناية]
اللفظ، وذلك من وجوه:
الأول: أن المدح قد يحصل للحي وغيره، فإن من رأى لؤلؤة في غايتها يمدحها ولا يحمدها، فبينت أن المدح أعم من الحمد.
الثاني: أن الحمد يكون قبل الإحسان وبعده، والمدح لا يكون إلا بعده.
والثالث: أن المدح قد يكون منهيا عنه، قال ﵇: «احثوا التراب في وجوه المداحين»، والحمد مطلق.
والرابع: المدح عبارة عن القول الدال على كونه مختصا بنوع من أنواع الفضائل. والحمد هو القول الدال على كونه مختصا بفضيلة معينة، وهي فضيلة الإنعام والإحسان.
ثم اعلم أن معنى الحمد والشكر الحقيقي في العرف أن الحمد ليس عبارة عن قول القائل: الحمد لله، بل هو فعل يشعر عن تعظيم المنعم بسبب كونه منعما مطلقا، بمعنى أعم من أن يكون منعما للحامد أو لغيره. وذلك أن الفعل إما فعل القلب، أعني الاعتقاد باتصافه بصفات الكمال، أو فعل اللسان، أعني ذكر ما يدل عليه من القرائن والأمارات التي تدل على أن المحمود يتصف بالصفات الكاملة، أو فعل الجوارح، وهو الإتيان بأفعال دالة على اتصافه بصفات الكمال والجمال، وأن الشكر ليس قول القائل: الشكر لله، بل صرفه جميع ما أنعم الله عليه من السمع والبصر وغيرهما إلى ما خلق وأعطاه لأجله، كصرفه النظر إلى مطالعة مصنوعاته يتوصل منها إلى المصدر صانعها، والسمع إلى تلقي ما ينبئ عن مرضاته والاجتناب عن منهياته.
ثم اعلم أن الألف واللام موضوعة إما للعهد الخارجي أو الذهني، وإما لاستغراق الجنس، وإما لتعريف الطبيعة. لكن العهد هو الأصل، ثم الاستغراق، ثم تعريف الطبيعة؛ لأن اللفظ الذي يدخل عليه اللام دال على الماهية بدون اللام. فحمل اللام على الفائدة الجديدة أولى من حمله على تعريف الطبيعة، والفائدة الجديدة هذه إما تعريف العهد أو استغراق الجنس وتعريف العهد أولى من الاستغراق؛ لأنه إنما ذكر بعض أفراد الجنس خارجا وذهنا، فحمل اللام على ذلك البعض المذكور أولى من حمله على جميع الأفراد؛ لأن البعض متيقن، والكل محتمل. وبين هذا اختلفوا إذا دخلت على المفرد أو الجمع: فقالت عامة أهل الأصول والعربية: تفيد الاستغراق فيهما جميعا إلا إذا كان معهودا.
1 / 111
الذي
ــ
[البناية]
وعن أبي علي الفارسي أنه لمطلق الجنس فيهما، لا للاستغراق، وهذا أحد قولي أبي هاشم المعتزلي، وقوله الآخر: أنه في المفرد لمطلق الجنس، وفي الجمع لمطلق الجمع لا للاستغراق إلا بدليل آخر. فإذا كان كذلك فقيل: الألف واللام في الحمد للجنس، أي حقيقة الحمد كما في " أرسلها العراك " ومعناه الإشارة إلى ما يعرفه كل واحد من أن الحمد ما هو، والعراك ما هو من بين أجناس الأفعال.
وقيل: لاستغراق الجنس. أي: الحمد كله لله تعالى. وقالت المعتزلة: للعهد؛ لأنهم يرون أن خلق أفعال العباد مضاف إليهم، فيكون تقديره: المحامد التي تتعلق بالأعيان دون الأعراض لله تعالى.
والأصح أن هذه مسألة ابتدائية للخلاف في معنى الكلام لا بنائه، على الخلاف في خلق الأفعال، فإنهم قالوا: الحمد ما يعرفه كل واحد منهم بحسب الإثم. واللام عندهم المطلق الجنس.
فإن قلت: فعلى هذا قول من يقول: إن اللام لاستغراق الجنس يكون جميع المحامد التي تتعلق بالأعيان والأعراض لله تعالى، فيكون الله تعالى هو المستحق لجميع المحامد لا غير، فكيف يصح قولهم: حمدت فلانا على شجاعته.
قلت: هو في الحقيقة، راجع إلى الله تعالى؛ لأن حمد المخلوق على صفة أو فعل حمد للخالق في الحقيقة. ثم الحمد مرفوع بالابتداء، وخبره قوله: " لله "، وأصله النصب؛ لأن أصله: نحمد الحمد لله، فلما حذف " نحمد " عدل عن النصب إلى الرفع، ليدل على ثبات المعنى؛ لأنه حينئذ يصير الكلام جملة إسمية، وهي راسخة القدم بخلاف الفعلية الدالة على التجدد والحدوث، وأيضا في الفعلية يكون الحمد مقيدا بقائله وليس الأمر كذلك، بل الله محمود قبل حمد الحامدين وقبل شكر الشاكرين، سواء حمده عبيده أو لم يحمدوه، فهو محمود من الأزل إلى الأبد بحمده القديم وكلامه القديم.
م: (الذي) ش: هو صفة، اسم موصول مع صلته في محل الخبر؛ لأنه صفة الله تعالى.
واختلفوا فيما يعمل في الصفة: فذهب جماعة، منهم سيبويه والمزاني وابن كيسان والزجاج، إلى أن العامل فيها هو العامل في الموصوف. وذهب الأخفش إلى أن العامل في الصفة كونها صفة، وأن الوصف يجري على ما قبله وليس معه لفظ عمل فيه، وإنما يعمل فيه كونه وصفا، فذلك هو الذي يرفعه وينصبه ويجره، كما أن المبتدأ اسم رفعه الابتداء، والابتداء معنى عمل فيه ليس لفظا، فكذلك هذا.
1 / 112
أعلى معالم العلم وأعلامه
ــ
[البناية]
فإن قلت: لم بني الذي على السكون؟
قلت: لأنه يشبه الحرف من حيث إنه لا يستقل بنفسه.
فإن قلت: لم أعرب في حال التثنية؟
قلت: بالتثنية يزول الشبه، إذ لا مثنى في الحروف فيعود إلى أصل استحقاقه في الإعراب. ومنهم من يشدد ياءه ويخفضونه أيضا من غير وجه، لاستطالتهم إياه مع صلته، فقالوا: " الذر " بحذف الياء، ثم " الذ " بحذف الحركة، ثم حذفوه رأسا واجتروا عنه باللام، وذلك في نحو: الضارب إياه زيدا، واسم الفاعل هاهنا في معنى الفعل ومعناه الذي ضرب إياه.
م: (أعلى) ش: مأخوذ من الإعلاء، وثلاثيه: علا يعلو. يقول: علا في المكان يعلو علوا، وعلي بالكسر، في الشرف، يعلى علاء بالفتح، ويقال أيضا: علا بالفتح علاء.
م: (معالم العلم) ش: كلام إضافي، مفعول أعلى. والجملة صلة الموصول. وهو جمع معلم بفتح الميم وهو موضع العلم، والمعنى رفع مواضع درك العلوم، وأراد بها أصول الشرع، لكونها مدرك العلم الشرعي، وقيل: أراد بها العلماء على معنى أنهم مواضع أخذ العلوم. وأما إعلاء الله إياهم فظاهر، قال الله تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ [المجادلة: ١١] (المجادلة: الآية ١١)، حيث خصهم بالذكر ثانيا بعد دخولهم في قوله: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [المجادلة: ١١] إظهارا لزيادة درجاتهم عنده.
م: (وأعلامه) ش: عطف على المعالم، وهو جمع علم بفتحتين وهو الجبل، وأراد به العلماء تشبيها لهم بالجبال، لكونها أوتاد الأرض. وجه الاستعارة أن الجبال تمنع الأرض من التحرك والتمايل، فكذلك العلماء بين ظهراني الأمة، بل ينزلون منهم منزلتها، لكونهم يمنعون عن الميل إلى الزيغ والعناد، ويعني قيام أمورهم وانتظام أقوالهم على منهاج العدل في الشرع يكون منهم، ويقال: المراد من الأعلام: إثبات الأحكام الشرعية وشروطها. فعلى هذا يكون جمع علم، يعني ما يعلم به الشيء، وإعلاء الله إياها ظاهر حيث جعلها في حق العباد، وشرفها على غيرها. ومن جملة محاسن هذا التركيب أنه مشتمل على ما يلحق الجناس، وهو شيئان:
أحدهما: أن يجمع اللفظين الاشتقاق، نحو قوله: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ﴾ [الروم: ٤٣] (الروم: الآية ٤٣) فإن أقم والقيم يرجعان في الاشتقاق إلى القيام.
والثاني: أن يجمعهما ما يشبه الاشتقاق وليس به، نحو قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ﴾ [الشعراء: ١٦٨] (الشعراء: الآية ١٦٨) فإن " قال " و" القالين " يشبه أن يكونا راجعين في الاشتقاق إلى أصل واحد، وليس كذلك.
1 / 113
وأظهر شعائر الشرع وأحكامه
ــ
[البناية]
فقوله أعلى مع غيره من قبيل الثاني، والثلاثة الأخر من قبيل الأول، فإن المعالم والمعلم والأعلام كلها ترجع إلى أصل واحد. والعلم في اللغة بمعنى المعرفة نقيض الجهل، من علمت الشيء أعلمه علما: عرفته. وفي الاصطلاح ما ذكره الشيخ أبو منصور الماتريدي ﵀: العلم في اللغة صفة يتجلى بها المذكور لمن قامت به هي. ويقال: العلم إدراك النفس بمعنى الشيء، إذ كل من وجد له إدراك المعنى وجد له العلم من حيث إنه وجد له من ذلك الإدراك، وكل من عدم له ذلك الإدراك عدم له العلم من هذه الحيثية.
قلت: حاصل هذا أنه ليس للعلم ماهية سوى إدراك النفس لمعنى الشيء. وقد قالت طائفة، منهم الغزالي والدارمي، بعدم جواز تعريفه؛ لأن غير العلم يعرف به، فلو عرف بغيره يلزم الدور. ويمنع ذلك بأن جهة توقف غير العلم عليه من حيث إنه إدراك له، وتوقفه على غيره لا من جهة أن ذلك الغير إدراك له، بل من جهة أنه صفة مميزة له عما سواه.
م: (وأظهر) ش: عطف على " أعلى " من الإظهار، وهو من ظهر الشيء ظهورا بالفتح بينا.
م: (شعائر الشرع وأحكامه) ش: الشعائر مفعول أظهر. وهو جمع شعارة، وقال الأصمعي: جمع شعيرة، وإليه مال السراج، والأولى هو الأول؛ لأن الشعيرة واحدة الشعير الذي هو من الحبوب؛ والشعيرة أيضا: البدنة تهدى. والشعارة كل ما جعل علما لطاعة الله تعالى. قال الجوهري: الشعائر: أفعال الحج، وكل ما جعل علما لطاعة الله ﷿. ويقال: المراد بها: ما كان أداؤه على سبيل الاشتهار، كأداء الصلاة بالجماعة، وصلاة الجمعية والعيدين، والأذان، وغير ذلك مما كان فيه اشتهار.
وقوله: " الشرع " يحتمل معاني:
أحدهما: أن يكون بمعنى المشروع فيتناول الأسباب والأحكام الشرعية.
والثاني: أن يكون بمعنى الشارع، ويكون من قبيل إقامة المظهر موضع المضمر.
الثالث: أن يكون بمعنى الشريعة، يقال: شرع محمد ﷺ، كما يقال: " شريعة ".
فإن قلت: ما هذه الإضافة في " شعائر الشرع "؟.
قلت: البيان، من قولهم: خاتم فضة، وثوب خز.
فإن قلت: كيف يكون من هذا القبيل؛ لأن الثوب هو عين الخز، والخاتم هو عين الفضة، وليست الشعائر هي عين الشرع؟.
قلت: الشرع بمعنى المشروع، والشعائر على التفسير الذي ذكرنا، من عين المشروع.
1 / 114
وبعث رسلا وأنبياء
ــ
[البناية]
فإن قلت: أليست هذه الإضافة إضافة الشيء إلى نفسه.
قلت: لا؛ لتغاير اللفظين، ولأن " الشعائر " قبل الإضافة يحتمل أن يكون الشعائر غير المشروع، كالثوب والخاتم قبل الإضافة، فبالإضافة نقطع الاحتمال. وفيه من صفة البديع السجع، وهو: تواطؤ الفاصلتين في النثر على حرف واحد، وهما الكلمتان اللتان هما عجز القرينتين، والفاصلة في النثر كالقافية في النظم.
فإن قلت: أي سجع هو من الأقسام؟
قلت: سجع متواز وهو: أن لا تختلف الفاصلتان في الوزن، ولكن لا يكون جميع ما في القرينة ولا أكثره بمثل ما يقابله من الأخرى نحو: ﴿فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ﴾ [الغاشية: ١٣] ﴿وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ﴾ [الغاشية: ١٤] (الغاشية: الآية ١٣، ١٤) لاختلاف سرر وأكواب في الوزن والقافية.
م: (وبعث) ش: جملة حال من الفعل والفاعل، وهو الضمير المستتر فيه الذي يرجع إلى " الله "، وهو عطف على قوله: " وأظهر ". يقال: بعث يبعث بعثا، وبعثه يعني أرسله فانبعث وبعث الناقة: أي ساقها. وبعثه من منامه أي أهبه. وبعث الموتى: نشرهم ليوم القيامة. وانبعث في البيران: أي يشرع.
م: (رسلا) ش: مفعول بعث، وهو جمع رسول من أرسلت فلانا في رسالته، وهو مرسل ورسول. فالمرسل اسم مفعول، والرسول صفة مشبهة. وقد يجيء الرسول بمعنى الرسالة.
قال الأشعر الجعفي:
ألا أبلغ أبا عمر رسولا ... بأني عن فتاحتكم غني
أي رسالة. وصيغة فعول يستوي فيها الواحد والجمع، والمذكر والمؤنث مثل عدو وصديق، قال الله تعلى: ﴿إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الشعراء: ١٦] (سورة الشعراء: الآية ١٦) ولم يقل رسلا؛ لأن فعولا وفعيلا تستوي فيها هذه الأشياء.
م: (وأنبياء) ش: عطف على رسلا، وهو جمع نبي: فعيل بمعنى فاعل من النبأ، وهو الخبر. إلا أن أهل مكة - يشرفها الله تعالى - يهمزون هذه الحروف، ولا يهمزون في غيرها، وكذلك في أنبياء. وينبغي أن يقال: أنبئاء بالهمزتين، لكن الهمزة لما أبدلت وألزمت الإبدال جمع على ما هو الأصل؛ لأنه حرف علة، كعيد وأعياد. ويجمع النبي أيضا على نبآء بضم النون، قال العباس بن مرداس السلمي:
يا خاتم النبآء إنك مرسل ... بالخير، كل هدى السبيل هداكا
1 / 115
- صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -
ــ
[البناية]
ثم الفرق بين الرسول والنبي: أن الرسول: من بعث لتبليغ الوحي ومعه كتاب، والنبي: من بعث لتبليغ الوحي مطلقا، سواء كان بكتاب أو بلا كتاب، كيوشع ﵇، فكان النبي أعم من الرسول: كذا قال الشيخ قوام الدين الأترازي في " شرحه "، وهو قد تبع في ذلك صاحب " النهاية " حيث قال: الرسول: هو النبي الذي معه كتاب، كموسى ﵇، والنبي: هو الذي ينبئ عن الله وإن لم يكن معه كتاب كيوشع ﵇، ومن هنا قال النبي ﵇: «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل»، ولم يقل: " كرسل بني إسرائيل "، وتعبهما الشيخ أكمل الدين ﵀ وفرق بينهما هكذا.
ثم قال: وهو الظاهر. كل هذا لا يخلو عن مناقشة، وذلك لأنه يلزم على تفسيرهم أن يخرج جماعة من الرسل عن كونهم رسلا، كآدم ونوح وسليمان، ونحوهم - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -، فإنهم رسل بلا خلاف، ولم ينزل عليهم كتاب كما نزل على موسى.
والصحيح هنا أن الرسول من نزل عليه الكتاب، أو أتى إليه ملك، والنبي من يوقفه الله تعالى على الأحكام، أو تبع رسولا آخر، ولهذا قال ﵇: «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل»، والعجب من الشيخ أكمل الدين مع ادعائه التحقيق في مصنفاته كيف رضي بالتفسير المذكور، ثم قال: وهو الظاهر؟! ومع هذا فهو ليس بظاهر على ما لا يخفى.
م: (- صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -) ش: هذه الجملة إخبار في الصورة، ولكنها إنشائية في المعنى؛ لأن المعنى: الله صل عليهم صلواتك. وهو جمع صلاة، وهي في اللغة: الدعاء.
قال الأعشى:
تغايلها الرياح في دنها ... وصل على دنها وارسم
وهو اسم وضع موضع المصدر، يقال: صليت صلاة، ولا يقال: تصلية. ومعناها من الله: الرحمة، ومن الملائكة: الاستغفار، ومن المؤمنين: الدعاء. ومعناها الشرعي في حق النبي ﷺ: اللهم عظمه في الدنيا بإعلاء كلمته، وإحياء شريعته، وفي الآخرة برفع درجته، وتشفيعه في أمته، هكذا سمعت من الأساتذة الكبار. وأما في حق غيره من الأنبياء فمعناها ما ذكرنا، من الله: الرحمة، إلى آخره.
قوله: " أجمعين ": جمع " أجمع "، وهو من ألفاظ التوكيد المعنوي وهي: النفس، والعين،
1 / 116
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[البناية]
وكلاهما، وكلتاهما، وكل، وأجمع، وأكتع، وأبتع، وأبصع. ولا يؤكد بكل وأجمع إلا شيء ذو أجزاء يصح افتراقها حسا، نحو: زيد وعمر وبكر وغيرهم، أو حكما، نحو: اشتريت العبد كله أجمع، فإن العبد، وإن لم يكن له أجزاء يصح افتراقها حسا لكن له أجزاء يصح افتراقها حكما؛ لأنه يجوز أن يكون المشترى منه ربعه، أو ثلثه، أو نصفه، أو ثلثيه.
واعترض على المصنف ﵀ بأنه ترك ذكر محمد ﷺ، مع كونه الأصل المحتاج إلى ذكره؛ لأنهم ذكروا أنه مما لا بد منه في أوائل المصنفات. الابتداء بالبسملة، ثم بالحمدلة، ثم بالصلاة على النبي ﷺ بصريح اسمه، والمصنف خالف المصنفين أصحاب التصانيف والرسائل.
وأجاب عنه الشيخ أكمل الدين بأن المراد بالرسل والأنبياء محمد ﷺ، لكن جمعه تعظيما له وإجلالا لقدره. قال الشيخ قوام الدين: كان ينبغي أن يصلي على محمد ﷺ قصدا بذكر اسمه وصفاته؛ لأن الله تعالى قد رفع ذكره، قال تعالى: ﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾ [الشرح: ٤] (سورة الشرح: آية ٤) والغالب أنه سها، ولكل جواد كبوة، ولكل عالم هفوة.
قلت: كل منهما أبعد. أما الأول فلأن لفظة " أجمعين " ترد عليه؛ لأنه أكده بها، فالتأكيد يقطع احتمال المجاز، وإطلاق الجمع وإرادة الواحد مجاز. ونصره بعضهم بأن قوله: " أجمعين " باعتبار صورة اللفظ، ورد عليه بأن أجمعين لفظ معنوي ينافي أن يخص قوله: " رسلا وأنبياء " بطائفة معينة منهم.
وأما الثاني: فإنه نسبه إلى السهو، وهو ليس بجواب، بل الجواب هاهنا بوجهين:
أحدهما: أن المصنف ﵀ قصد من ذلك المبالغة، والبلاغة في ذلك لما فيه من ذكره ﵇ مرتين؛ لأنه دخل أولا في قوله " رسلا "؛ لأنه من جملة المرسلين بل سيدهم وأشرفهم، وأفضلهم ثم دخل ثانيا في قوله: " وأنبياء "؛ لأن كل مرسل نبي فيكون ذكره مرتين، وإن كان ضمنا، أبلغ من ذكره مرة واحدة صريحا، والتضمين أبلغ من التصريح؛ لأن الاعتماد في الصريح على اللفظ، والدلالة منه، وفي التضمين على الفعل، والدلالة من جهة، وبين الدليلين والدلالتين فرق كبير.
والثاني: ما سنح في خاطري من الأنوار الإلهية في الجواب القاطع الذي ليس وراءه شيء، وهو أن المصنف إنما لم يصرح باسم النبي ﷺ في الصلاة عليه بل أضمره ليكون ذلك من باب الإضمار والإبهام، وهو طريق من طرق البلاغة؛ لأن فيه إشارة إلى علو شأنه، وارتفاع قدره، وتفخيم فضله على ما لا يخفى على أحد، لما فيه من الشهادة على أنه المشهور الذي لا يشتبه، والمبين الذي لا يلتبس، كما أضمره الله تعالى في قوله: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ [البقرة: ٢٥٣]
1 / 117
إلى سبل الحق هادين
ــ
[البناية]
(البقرة: الآية ٢٥٣)، حيث صرح أولا بما على موسى ﵇ بقوله: ﴿مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ﴾ [البقرة: ٢٥٣] (البقرة: الآية ٢٥٣) ولا شك في اشتهار موسى ﵇ بالكلام، ثم صرح باسم عيسى بقوله تعالى: ﴿وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ﴾ [البقرة: ٢٥٣] (البقرة: الآية ٢٥٣)، وذكر النبي ﷺ بينهم بطريق الإبهام والإضمار بقوله: ﴿وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾ [البقرة: ٢٥٣] (البقرة: الآية ٢٥٣) إشارة إلى ما ذكرنا. وعليه قول الحطيئة لجرير: من أشعر الناس؟ فقال: زهير والنابغة، ثم قال: لو شئت لذكرت الثالث. أراد به نفسه، ولو قال: لذكرت نفسي، أو قال: زهير والنابغة وأنا لم يقع كلامه مؤذنا بتعظيمه بل كان فيه نوع نقص على ما لا يخفى.
م: (إلى سبل الحق) ش: تعلق بقوله " هادين "، وإنما أخره لإقامة السجع. والسبل بضمتين جمع سبيل، وهو الطريق، يذكر ويؤنث، قال تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي﴾ [يوسف: ١٠٨] (يوسف: الآية ١٠٨) فأنث، وقال: ﴿وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا﴾ [الأعراف: ١٤٦] (الأعراف: الآية ١٤٦) فذكر، ويصح في الجمع تسكين الباء أيضا، والحق خلاف الباطل.
قلت: الحق مستعمل في معان:
أحدها: النزول، يقال: حق يحق، إذا نزل.
والثاني: الوجوب، يقال: حق عليه: إذا وجب.
والثالث: الصدق والصواب، يقال: قوله حق: أي صدق وصواب.
" ومعناه في الاصطلاح: الحق ما غلب حجة وأظهر التمويه في غيره "
م: (هادين) ش: نصب على أنه صفة لقوله: " رسلا وأنبياء " ويقال: نصب على الحال من رسلا وليس بصحيح؛ لأن الحال من النكرة لا يصح إلا بتقديم ذي الحال على الحال. وقد علم أن حق الحال أن يكون نكرة، وحق ذي الحال أن يكون معرفة، للفرق بينهما وبين الصفة والموصوف، فقيل: لأن الحال هو الخبر في الحقيقة، والخبر حقه التنكير.
قلت: هما يتفقان في هذا، ولكنهما يفترقان من وجوه، الأول: أن الحال ما يحتمل الأوصاف فيميز بأحد الأوصاف، والتمييز ما يحتمل الأجناس فيميز بأحد الأجناس. الثاني: أن الحال لا ينقسم إلى ما يقع عن المفرد والجملة والتمييز إلى ذلك، ففي الجملة نحو: طاب زيد نفسا، فالإبهام في النسبة، وعن المعرف نحو: عندي دامور خلافا الإبهام في دامور. والثالث: أن " نفسا " ليس هو " زيد " في المثال المذكور، وإنما هي شيء منه، وراكبا في قولك: جاءني زيد راكبا هو زيد كله. والرابع: التقدير في المثال المذكور، وإنما هي شيء منه، وراكبا في قولك: وطابت نفسه فالفعل للنفس وليس لزيد، وفي جاءني زيد راكبا الفعل لزيد وراكبا تبع له.
1 / 118
وأخلفهم علماء إلى سننهم بينهم داعين
ــ
[البناية]
وقوله: " هادين ": من الهداية، وهي الدلالة الموصلة إلى البغية. وأصله أن يتعدى باللام أو بإلى، كقوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ [الإسراء: ٩] (الإسراء: الآية ٩)، ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الشورى: ٥٢] (الشورى: الآية ٥٢)، فجار مجرى، وقَوْله تَعَالَى: ﴿وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا﴾ [الأعراف: ١٥٥] (الأعراف: الآية ١٥٥)، وقال الجوهري: يقال: هداه الله للذين هدى. وقَوْله تَعَالَى: ﴿أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ﴾ [السجدة: ٢٦] (السجدة: الآية ٢٦) . قال أبو عمرو بن العلاء: أو لم يبين لهم. وهديت الطريق، والبيت هداية: أي عرفته، هذه لغة أهل الحجاز، وغيرهم يقول: هديته إلى الطريق وإلى الدار، حكاها الأخفش، وهدى واهتدى بمعنى.
وقال الكاكي في شرحه: هداه إلى الطريق: إذا أعلمه أن الطريق في ناحية كذا، وهداه إلى الطريق: إذا ذهب به إلى رأس الطريق: أي أذهبه إلى المقصد، وذلك لا يتحقق إلا من الله تعالى، وهداه إلى الطريق: أعلمه أن الطريق في ناحية كذا، وهي وظيفة الرسول ﵇، وهداه إلى الطريق: ذهب به وأوصله إلى رأس الطريق. واعترض عليه الشيخ قوام الدين ﵀ بأن هذا الفرق غير صحيح، لعدمه في سائر قوانين اللغة.
قلت: هذا اعتراض صادر من غير تأمل، وذلك لأن الفرق المذكور إنما هو لسبب الاستعمال، والفارق ما ادعى أن ذلك بحسب اللغة وإن ادعى ذلك فلا يمنع؛ لأن الذي ذكره هو حاصل المعنى اللغوي.
م: (وأخلفهم علماء) ش: عطف على قوله: " وبعث رسلا "، وهي جملة من الفعل والفاعل، وهو الضمير المستتر فيه الذي يرجع إلى الله تعالى. و" أخلف " مفعولان: أحدهما: الضمير، أعني: هم، والآخر هو قوله " علماء ". والمعنى: جعل العلماء خلفاء الأنبياء ﵈ وورثتهم.
وقال الشيخ قوام الدين الأترازي ﵀: وأخلفهم علماء: من قولهم: خلفت الثوب: أصلحته وجعلت موضع الخلفان خلفانا، وهذا التفسير غير مرضي بل التفسير الصحيح ما ذكرناه؛ لأن مراده بيان أن العلماء خلفاء عن الأنبياء في بيان الشرائع، فحينئذ لا يفسر قوله: وأخلفهم إلا من قولهم: أخلف زيد عمرا: إذا جعله خليفة؛ لا من الثوب: إذا أصلحته. يقال: خلف فلان فلانا: إذا كان خليفة وخلفه في قومه خلافة، ومنه قَوْله تَعَالَى: ﴿وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي﴾ [الأعراف: ١٤٢] (الأعراف: آية ١٤٢) . وأخلفه غيره: إذا جعله خليفة له، وكذلك استخلفه.
م: (إلى سننهم بينهم داعين) ش: الجار والمجرور متعلق ب " داعين ". والسنن بفتح السين
1 / 119
يسلكون
ــ
[البناية]
والنون: مفرد بمعنى الطريقة. يقال: استقام فلان على سنن واحد. ويقال: امض على سنتك أي على وجهك، وتنح عن سنن الجبل: أي عن وجهه. وقوله: " سننهم " بضم السين وفتح النون جمع سنة وهي الطريقة المسلوكة المرضية. وقال الجوهري: السنة: السيرة.
قال الهذلي يخاطب أبا ذؤيب:
فلا تجزعن من سنة أنت سيرتها ... وأول راض سنة من يسرها
وبين السنن والسنن تجنيس محرف، وهو من جملة محاسن الكلام. وقال الشيخ قوام الدين: فلو قال بضم السين في الموضعين ليكون تجنيسا تاما لكان أحسن، إلا أن الرواية بالمفتوح خاصة؛ لأن المضموم في معناه قليل الاستعمال.
قلت: الذي ذكره أولى وأبلغ؛ لأن اختلاف الحركات تحصل زيادة رونق في الكلام، وأنواع التجنيس كلها من محاسن الكلام ولم يرجح منها شيء على غيره. والتجنيس التام: أن يتفق اللفظان في أنواع الحروف وهيئاتها نحو الحركات والسكنات، وفي ترتيبها مع تقديم بعض الحروف على بعض وتأخيره عنه. وإن اختلفا في هيئة الحروف فقط سمي التجنيس محرفا.
قوله: " داعين " جمع داع: من دعوت فلانا: إذا صحبته واستدعيته. ويستعمل باللام وعلى وإلى، نحو: دعوت الله له، ودعوته عليه، ودعوته إلى الطعام، وهو من هذا القبيل، وقوله: " داعين وهادين " من الصفات المادحة.
فإن قلت: أليس يجوز أن يكون من الصفات الكاشفة؟
قلت: لا؛ لأنه في الصفات الكاشفة يكون الموصوف فيه نوع غموض فيكون الوصف حينئذ كاشفا لذلك الغموض، بخلاف الصفة المادحة، وهذه الصفة ليس في موصوفها ذلك على مالا يخفى، كما في " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " وبينهما تجنيس متواتر.
م: (يسلكون) ش: تحتمل أمورا ثلاثة:
الأول: أن تكون صفة لهم.
الثاني: أن تكون حالا عنهم.
فإن قلت: النكرة لا يقع عنها الحال.
قلت: النكرة الموصوفة كالمعرفة يقع عنها الحال متأخرة، وهاهنا قد اتصف العلماء بقوله: داعين.
1 / 120
فيما لم يؤثر عنهم مسلك الاجتهاد
ــ
[البناية]
الثالث: أن تكون بيانا، كأن قائلا يقول: كيف دعوتهم إلى سنن سننهم؟ فقال: يسلكون.
م: (فيما لم يؤثر عنهم) ش: فإن قلت: ما موضع هذه الجملة في الأحوال الثلاثة؟.
قلت: أما الأول فالنصب؛ لأن الموصوف منصوب على المفعولية، وأما في الثاني فالنصب على الحالية، وأما في الثالث فلا محل لها من الإعراب، اللهم إلا إذا قدرنا مبتدأ محذوفا نحو: هم يسلكون، فحينئذ يكون موضع " يسلكون " من الإعراب رفعا على الخبرية، وقد علم أن الجملة لا تكتسب شيئا من الإعراب إلا إذا وقعت موقع المفرد، فحينئذ إعرابه محلا.
ويسلكون: من سلك الشيء في الشيء فانسلك، أي أدخله فيه فدخل، ومصدره: سلك بفتح اللام. وأما السلك بكسر السين وسكون اللام فهو الخيط. والمعنى هاهنا: يدخلون فيما لم يؤثر عنهم أي عن الأنبياء ﵈، وهو على صيغة المجهول أي فيما لم يرو عنهم. وأصله من أثرت الحديث أثرته أثرا: إذا ذكرته عن غيرك، ومنه: " حديث مأثور ": أي مسند ينقله خلف عن سلف. قال الأعشى:
إن الذي فيه تماريتما ... بين للسامع والآثر
والأصل فيه الهمزة، وقد تلين للتخفيف.
وكلمة " ما ": موصولة، و" لم يؤثر " صلتها.
م: (مسلك الاجتهاد) ش: كلام إضافي منصوب على المفعولية: أي: طريق الاجتهاد. وهو اسم مكان من سلك. والاجتهاد: بذل الوسع والمجهود. وكذلك الجاهد، وأصله من الجهد وهو الطاقة، وكذلك بضم الجيم. ويقال: الجهد بالضم: المشقة. والاجتهاد، عند الفقهاء: استفراغ الفقيه وسعه لتحصيل الظن بحكم شرعي.
وقيل الاجتهاد: بذل المجهود لنيل المقصود، وفيه إشارة إلى أنهم لا يخرجون عن المأثور عن الأنبياء ﵈ ويتبعونهم فيه، ولا يعدلون إلى الاجتهاد إلا فيما لم يرد عنهم، فحينئذ يأخذون في ذلك طريق الاجتهاد، وهو أيضا في نفس الأمر علم بالأثر كما في «قضية معاذ ﵁ أنه قال: لما بعثني النبي ﷺ إلى اليمن قال: " كيف تقضي إن عرض قضاء؟ "، قال: قلت: أقضي بما في كتاب الله ﷿، قال: " فإن لم يكن في كتاب الله؟ "، قال: قلت: بما قضى به رسول الله ﷺ، قال: فإن لم يكن قضى به الرسول؟ "، قال: قلت: أجتهد رأيي ولا آلو، قال: فضرب صدري وقال: " الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله» أخرجه البيهقي
1 / 121
مسترشدين منه في ذلك، وهو ولي الرشاد وخص أوائل المستنبطين بالتوفيق
ــ
[البناية]
وغيره.
م: (مسترشدين منه في ذلك) ش: نصب على الحال من الضمير الذي في " يسلكون ": أي حال كونهم طالبين الرشد منه، أي من الله ﷿، وذلك إشارة إلى قوله: " بما لم يؤثر عنهم ". والرشد: خلاف الغي، يقال: رشد بالفتح يرشد بالضم رشدا بضم الراء وسكون الشين، ورشد بالكسر رشدا بالضم يرشد بالفتح رشدا بفتحتين لغة فيه. والإرشاد إفعال منه، يقال أرشده إرشادا إذا دله على الخير.
م: (وهو ولي الرشاد) ش: أي: الله تعالى هو المرشد والإرشاد بيده، وهو وليه. والولي: بمعنى الصاحب، وأصله: ولي على وزن فعيل، من ولي الرجل الأمر يليه ولاية: إذا تقلده. والولي: القرب والدنو. وهذه الجملة الاسمية في محل النصب على الحال، وقد علم أنها إذا وقعت حالا لا بد فيها من الواو إلا ما ندر، نحو: كلمته فيه إلى في.
م: (وخص أوائل المستنبطين بالتوفيق) ش: خص جملة من الفعل والفاعل وهو الضمير المستتر فيه الذي يرجع إلى " الله " عطف على قوله: " أعلى معالم العلم " من خصه بالشيء خصوصا وخصوصية، وخصصه واختصه بكذا، أي خصه به.
فالأوائل جمع " أول "، وهو نقيض الآخر، وأصله: أوأل على وزن أفعل مهموز الأوسط، قلبت الهمزة واوا وأدغمت الواو في الواو. وقال بعضهم: أصله: ووأل على وزن فوعل، قلبت الواو الأولى همزة، وإنما لم يجمع على واول لاستثقالهم اجتماع الواوين بينهما ألف الجمع.
قول: (المستنبطين): من الاستنباط وهو الاستخراج، وأصله من نبط الماء ينبط وينبط نبوطا. وانبط العقار: بلغ الماء. وعند الأصوليين: الاستنباط: استخراج الوصف فيه. وقال الشيخ قوام الدين وغيره: المراد من " أوائل المستنبطين ": هو أبو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي، وصاحباه أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري، ومحمد بن الحسن الأنصاري الشيباني ﵏، فإنهم الذين مهدوا قواعد المسائل حتى قيل: إن ما وضعه أصحابنا من المسائل الفقهية هو ألف ألف ومائة ألف وسبعون ونيف مسألة.
وقال الخطيب موفق بن أحمد المكي في مناقب أبي حنيفة عن مالك بن أنس - رضي الله
1 / 122
حتى وضعوا مسائل من كل جلي ودقيق. غير أن الحوادث متعاقبة الوقوع
ــ
[البناية]
عنه - وقد قيل له: كم قال أبو حنيفة في الإسلام؟ قال: ستين ألفا، يعني مسائله.
ثم قال الخطيب: ذكر الثقة أن أبا حنيفة قال في السنة ثلاثة وثمانين ألفا وثمانية وثلاثين أصلا في العبادات، وخمسة وأربعين أصلا في المعاملات. وقال غيره: إن أبا حنيفة وضع ثلاثمائة أصل، كل أصل يخرج منه عشرة من الفروع. وذهب قوام الدين وغيره من قوله: " أوائل المستنبطين " إلى أن المراد منه أبو حنيفة وصاحباه؛ نظرا إلى أن هذا الكتاب في بيان مذهب أبي حنيفة، فلذلك خصصه به، ولكن لا يلزم من ذلك التخصيص بل الظاهر منه فقهاء الصحابة والتابعين أو سائر المجتهدين من الفقهاء المتقدمين؛ لعموم الكلام.
قوله: " بالتوفيق ": يتعلق بقوله " خص "، وهو حسن عناية الله لعبده. وقال بعض أهل الكلام: التوفيق: خلق الله قدرة الطاعة، والخذلان: خلق قدرة المعصية.
م: (حتى وضعوا مسائل من كل جلي ودقيق) ش: حتى: للغاية بمعنى إلى، والمسائل: جمع مسألة، وهو موضع السؤال، كذا قال بعضهم، وليس كذلك، بل المسألة مصدر، قال الصاغاني: بمسألة الشيء ومسألة من الشيء: سؤالا ومسألة.
قوله: " من كل جلي " كلمة " من " للبيان، وموضعها النصب على الوصفية، تقديره مسائل جلية ودقيقة. والجلي: الظاهر، وهو نقيض الخفي، وأراد به المسائل القياسية لظهور إدراكها. وقال صاحب " النهاية ": نظيرها إذا وقعت البعرة في البئر، فيه قياس واستحسان. فالقياس: أن تفسد الماء لوقوع النجاسة في الماء القليل، هذا دليل ظاهر دركه. والاستحسان: أن لا يفسد؛ لأن آبار الفلوات ليس لها رؤوس حاجزة، والمواشي تبعر حولها، وتلقيها الريح فيها، فجعل القليل عند الضرورة عفوا، ولا ضرورة في الكثير، وهذا دليل خفي دركه.
قلت: تخصيص الجلي بالمسائل القياسية فيه نظر؛ لأنه قد تكون مسألة قياسية في غاية الدقة، ومسألة استحسانية في غاية الجلاء والظهور.
قوله: " ودقيقة ": من دق الشيء يدق دقة: أي صار دقيقا، وهو خلاف الظاهر. والدقاق بالضم والدق بالكسر مثل الدقيق.
م: (غير أن الحوادث متعاقبة الوقوع) ش: هذا استثناء من قوله " حتى وضعوا " ويضاف إلى قوله " غير ". وهو اسم ملازم للإضافة في المعنى، ويجوز أن يكون صفة للنكرة، نحو قَوْله تَعَالَى: ﴿نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ﴾ [فاطر: ٣٧] (فاطر: الآية ٣٧)، أو لمعرفة قريبة منها، نحو: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾ [الفاتحة: ٧] (الفاتحة: الآية ٧) .
1 / 123
والنوازل يضيق عنها نطاق الموضوع
ــ
[البناية]
والثاني: أن يكون استثناء يعرب بإعراب الاسم الثاني إلا في ذلك الكلام، تقول: جاءني القوم غير زيد بالنصب، وما جاءني من رجل غير زيد، بالنصب والرفع، وهو هاهنا من هذا القبيل.
(والحوادث) جمع حادثة، وأراد بها المسائل الواقعة بين الناس.
وقوله: (متعاقبة الوقوع): كلام إضافي مرفوع؛ لأنه خبر أن.
واعلم أن هذا الاستثناء جواب عن سؤال مقدر، تقديره أن يقال: إذا كان أوائل المستنبطين وضعوا مسائل من كل جلي ودقيق، فأي حاجة تدعو إلى الاستنباط والتصنيف بعدهم؟ فأجاب بقوله: " غير أن الحوادث " إلى آخره، تقديره أنه قال: نعم، وإن كان الأمر كذلك لكن الحوادث متعاقبة: أي يقع شيء منها عقيب شيء، فلا تنقطع. والنوازل تنزل ساعة فساعة، فلا يستوعب جمعها نطاق مصنوعات الأوائل؛ فاحتيج إلى وضع آخر على حسب حادثة تحدث ونازلة تنزل. فحاصل الكلام هذا إشارة إلى وجه شروعه في تصنيف هذا الكتاب، والكلام مع أنه قد جرى منه وعد في مبدأ البداية فلا يجوز خلفه في الديانة.
م: (والنوازل يضيق عنها نطاق الموضوع)
ش: " النوازل ": بالنصب، عطف على قوله " أن الحوادث "، تقديره: وأن النوازل، وهو جمع نازلة، وهي الأمور الواقعة بين الناس.
قوله: " يضيق ": فعل، وقوله: " نطاق الموضوع " كلام إضافي فاعله. والنطاق بكسر النون هو المنطقة. وقول الجوهري: النطاق: شقة تلبسها المرأة وتشد وسطها، ثم ترسل الأعلى على الأسفل إلى الركبة، والأسفل يجر على الأرض، وليس لها حجزة ولا نيفق ولا ساقان، والجمع نطق.
وكان يقال لأسماء ﵂ ذات النطاقين. وأراد بالموضوع ما وضعه الأوائل من التي يستنبطها. والألف واللام فيه بدل من المضاف إليه، تقديره: نطاق موضوع الأوائل من المستنبطين.
وبين قوله " الوقوع " و" الموضوع " سجع مطرف، وفي قوله: " نطاق الموضوع " استعارة تخييلية؛ لأن الموضوع لا نطاق له وإنما استعير النطاق للأجوبة المنقولة عن السلف في الفتاوى.
وفي قوله: " يضيق عنها " استعارة مرشحة، وأراد بضيق النطاق عدم كفاية موضوعهم لجميع الحوادث.
1 / 124