बिना उम्मा कारबिय्या
منهاج مفصل لدروس في العوامل التاريخية في بناء الأمة العربية على ما هي عليه اليوم
शैलियों
وكان السلطان عبد الحميد ملء الأسماع في زمانه؛ لأنه عمل على أن يملأ الأسماع؛ فهو أول السلاطين العثمانيين فهما واستخداما لما نسميه «البروبجنده»، كما كان إسماعيل أول الخديويين إدراكا واستغلالا لها. وقد خلق للرجلين عصرهما أدوات البروبجنده الجديدة، كما شحذ للاستعمال أدواتها القديمة. فأما مثال القديم الذي شحذ فمنظومات النظامين ومنبريات المتصدين للإرشاد وتنبؤات المنجمين، وأما مثال الجديد فالتوجيه الصحفي يتولاه «الصحفيون»: طائفة جديدة في مجتمعنا من نوع جديد من أصحاب الأقلام.
ونلحق بكلامنا هذا عن عمل عبد الحميد على «خلق» بيئة الرأي «الصالح» إشارة موجزة إلى أداتين أخريين اشتهر بهما عصره أيما شهرة: هما «الرقابة على الطبع والنشر» والجاسوسية. فأما الرقابة فقد بلغت حد الهوس وحد السخف؛ فمن أمثلة ذلك حظر استعمال لفظ «دينامو» فقد يذكر بالديناميت، والديناميت مما يستخدم في الاغتيال السياسي، وقد جمع الصحفي المعروف سليم سركيس طائفة صالحة من تصرفات الرقباء تحت عنوان: «غرائب المكتوبجي». وأما الجاسوسية فكانت هي أيضا من المبكيات المضحكات.
على أن أدوات هذا العصر للدعوة أو لخلق جو الرأي المناسب كانت قليلة المفعول إذا قيست بما بلغه زماننا؛ فجاسوسية عبد الحميد هي جاسوسية القيصرية الروسية المعاصرة له شبكات مهلهلة، وأين هما من الجستابو والأجبو وما إليهما؟! وأين نظامو عبد الحميد وعرافوه من «دعاة» اليوم الذين لا يبشرون بالدعوة فحسب، بل هم «ينظفون» الأدمغة القديمة ويحرصون على ألا يتسرب إلى الجديدة إلا مادة مقررة محضرة. وفن التربية الآن هو تركيب دماغ تستطيع أن تطمئن إلى أنه لا يقبل إلا المادة المقررة المحضرة حتى إذا تركته وحده. وأين عبد الحميد وقياصرة الروس من هذا؟
وعبد الحميد بما حاول أن يوجد وبما حاول أن يمنع شكل حركات عصره أكبر تشكيل، وهذا على الوجه الآتي: أصبحت في عهده قضية «الحكم المطلق» القضية الأساسية، وقل التفكير السياسي المنظم المثمر في قضية القوميات وفي حلها حلا يتفق مع المحافظة على وحدة الدولة. وعلى هذا فكان الكلام في الإصلاح في مختلف نواحيه يجري على أساس لاقومي، إلا أننا نلحظ في نفس الوقت أن الحركة الدستورية عند الأتراك بالذات أخذت تتشكل بشكل قومي تركي، وهذا اتجاه سيكون له ما بعده، وسنحاول أن نشرحه على نحو واف فيما بعد.
وقد يكفي أن نقول في شأنه الآن إن مما قواه إذ ذاك أن من طوائف الدولة أو مللها من كان يحلم بالانفصال عنها مستقلا أو مندمجا في دول أجنبية، ومنها من كان يرجو أن يبقى كما هو يعيش تحت سيادة السلطان محتميا بدولة أوروبية يستظل بظل سفرائها وقناصلها، ويعيش على هامش جاليتها يشارك في حياتها بالقدر الذي يتمكن وخصوصا في علاقاتها الاقتصادية بالولايات العثمانية. وكان مما قواه أيضا أن مسلمي الدولة عموما تمسكوا ببقاء الدولة وودوا لو استطاعت حكومتها أن ترفع أسباب سوء الحكم وأن تحقق لهم من أدوات التقدم ما تستطيع.
وأخيرا يجب ألا ننسى أن الدولة بأجهزتها الإدارية والقضائية ... إلخ كانت شيئا معقدا حقا، يتعثر فعلا، ولكنه يسير أو يتحرك، ينسى الناس ذلك ولكن الكثير تحقق قبل الحرب العالمية الأولى، فكانت هناك جيوش عثمانية لم يستهن بها أحد إلا جنت عليه استهانته، وكانت هناك عودة من البداوة للحضارة في مناطق فسيحة في فلسطين والأردن وسورية والجزيرة، وكانت هناك طرق تعبد وسكك حديدية تمد - ومن أشهرها السكة الحديدية الحجازية من دمشق للمدينة المنورة - ومن مشروعات السكك الحديدية الكبرى مشروع سكة حديد بغداد - وله تاريخ حافل - ولم تنته المفاوضات الدولية الخاصة به إلا قبيل نشوب الحرب العالمية الأولى فتعطل، والخط الآن حقيقة قائمة، ولكنه ليس شريان المواصلات بين القسطنطينية والبصرة في دولة عثمانية عظمى.
وكانت هناك ثغور هيئت بالأرصفة والمخازن وحواجز الأمواج ... إلخ. وكانت هناك طوائف من رجال الأعمال والإدارة والقانون والآداب والتعليم والطب ... إلخ استأنفوا جميعا العمل في أوطانهم المحلية بعد تفكك الدولة في الحرب العالمية الأولى في الظروف التي عرفها عالم بعد الحرب.
ويحسن بنا الآن - بعد هذه الصورة العامة - أن نستعرض سير الحوادث في هذه الحقبة الحافلة من 1876 إلى 1909.
عرفنا الظروف التي تولى فيها عبد الحميد، عرفنا أن الدستوريين تمكنوا من خلع عبد العزيز وتولية مراد الخامس، ثم خلعوا هذا حينما تبينوا ضعف عقله وولوا عبد الحميد أخاه، واستجاب عبد الحميد للإصلاح الدستوري؛ فأصدر قانونا أساسيا بنظام الحكم النيابي، وابتدأت الحياة الدستورية دورتها الأولى القصيرة.
لم يلبث عبد الحميد طويلا حتى عطل النظام الدستوري، منتهزا فرصة الأزمة البلقانية التي ابتدأت بالفتنة في إقليم الهرسك وانتشارها بين البلغار وقمع الجند الغير النظامي لها قمعا شديدا، وقامت الحرب بين الروسيا والدولة العثمانية. انتصر الروس وإن كانت للجيوش العثمانية مواقف رائعة. وأملى الروس على الدولة معاهدة سان إستفانو للصلح، وهي معاهدة تقوم على تصفية أمر الحكم العثماني في البلقان (تقريبا) وتنص - فيما تنص عليه - على خلق دولة بلغارية كبيرة، ولكن الدولة الأوروبية الكبرى استطاعت أن تنقض ما تم وأن تنقل الموضوع برمته إلى مؤتمر دولي عقد في مدينة برلين، وفيه تمت التسوية المعروفة بمعاهدة برلين في 1878.
अज्ञात पृष्ठ