وقالت الأم حسما للجدل: افعل ما تشاء يا حسين، ولا اعتراض لنا.
فابتسم إليها في صفاء وقال: لم أعن مما قلت حرفا واحدا، ولكني أردت أن يعرف حسنين أني أحسن فهمه، ولست ألومه أيضا على تفكيره؛ فله عذره، ينبغي أن يضحي أحدنا ويرضى بالتوظف الآن، وهذا هو واجبي أنا؛ أنا أخوه الأكبر، وأنا صاحب البكالوريا. إني أدرك الحال على حقيقتها، وأعلم أنه من القسوة الشريرة أن أفكر في تكملة تعليمي، فلأرض بحظي، ولندع الله جميعا أن يوفقنا إلى ما نريد.
وقرأ الارتياح في أعينهم جميعا، رغم ما تنطق به ألسنتهم من عبارات الأسف، فداخله شعور طيب بالسرور والارتياح على حزنه وأسفه؛ «أسرتنا كادت تنسى معاني الارتياح والطمأنينة، ها أنا أعيد إلى نفوسها بعض هذه المعاني، علام آسف! مدرس أو كاتب سيان، لو كنا نقتصد في أحلامنا، أو كنا نستلهم الواقع في خلق هذه الأحلام، لما ذقنا طعم الأسف أو الخيبة.»
45
وقالت الأم: لدينا أحمد بك يسري، صديق المرحوم والدكم، وهو يستطيع أن يوظفك في غمضة عين.
وتفكرت الأم مليا ثم واصلت حديثها قائلة: لن أستطيع الذهاب إليه بنفسي؛ لأن معطفي لم يعد لائقا للظهور أمام الناس المحترمين، فامض إليه أنت، وخذ معك أخاك تتشجع به، وما عليكما إلا أن تقولا للبواب إنكما ابنا المرحوم كامل أفندي علي.
وذهب الشقيقان عصرا إلى شارع طاهر، وقصدا بيت البك وطلبا مقابلته كما أوصتهما أمهما، فغاب البواب دقائق ثم جاء ليدعوهما إلى حجرة الاستقبال. ودخلا يسيران في ممشى الحديقة الوسط وهما ينظران إلى شتى الأزهار التي كست الأرض بألوان بهيجة بدهشة، ثم صعدا إلى السلاملك، ثم إلى بهو الاستقبال الكبير، واتخذا مجلسهما بارتباك على كثب من الباب بالموضع الذي اختارته أمهما قبل ذلك بعامين، وجري بصرهما سريعا على البساط الغزير الذي يغطي أرض الحجرة الواسعة، والمقاعد الكثيرة الأنيقة، والطنافس والوسائد، والستائر التي تنهض على الجدران كالعمالقة، والنجفة المتدلية في هالة لألاءة من سقف عال انتشرت بجوانبه المصابيح الكهربائية. وأشار حسنين إلى النجفة وقال بسذاجة: مثل نجفة سيدنا الحسين!
وكان حسين يفكر في أمور أخرى فقال: نعم، دعنا من النجفة، ما عسى أن نقول؟ .. ينبغي أن تساعدنا بلسانك!
فقال حسنين هازئا: أتظن أنك ستحادث شيطانا؟ .. تكلم بشجاعة، وسأتكلم أنا أيضا، ملعون أبوه!
وندت عنه اللعنة - لا لحنق - ولكن ليشجع أخاه، وليتشجع هو نفسه، وألقى نظرة ذاهلة على ما يحيط به من آي الثراء ثم تساءل بصوت منخفض: هل يثير موت رجل كأحمد بك حزنا في نفوس ورثته؟
अज्ञात पृष्ठ