فقالت بهدوء: أجرك !
وأتم ارتداء ثيابه في هدوء متظاهرا بعدم الاكتراث، ضابطا عواطفه؛ حتي لا ينم وجهه عن فرحه، ثم تناول النقود ودسها في جيبه، وسألته وهي ترمقه بنظرة عميقة: ترافق؟
فقال مستعينا بالكذب: لي رفيقة!
فتساءلت في اهتمام بدا في لمعة عينيها: في هذا الدرب؟ - في الآخر. -إفرنجية؟ -بنت عرب!
وساد السكون دقيقة، ثم سألته: ألا تزال لك فيها رغبة؟
فلم يشأ أن يجيب بلا أو نعم، قانعا بابتسامة ذات معنى؛ فسألته ضاحكة: أين تقطن؟ - شبرا. - ما أبعدها عن مكان عملك! هل ثمة ما يضطرك إلى المبيت هناك؟ - كلا ... - مسكني قريب في عطفة جندب بكلوت بك، تعرفها؟ - سوف أعرفها من الآن فصاعدا.
41
كانت الشمس تميل إلى الغروب؛ حين غادرت نفيسة بيت إحدى زبائنها بشارع الوليد، وكان يلوح في وجهها الضيق، وهي حال لا تفارقها إذا خلت إلى نفسها، ولكن زادها تعاسة أنها لا تجني من عملها إلا مبالغ زهيدة تبتلعها حاجة أسرتها الشديدة، فلا تكاد تبقي لها على شيء، وكانت إلى هذا تبدو في مظهر جديد ينم عن تغير ذي بال، فتزينت في فستان برتقالي مزخرف بأزهار البنفسج أعلن عن جسمها الطويل النحيل، وأخذت زينتها في غير تحفظ. وسارت وشارع الوليد حتى انتهت إلى شارع شبرا، وانعطفت مع الطوار وهي ترمي ببصرها إلى الجراج عن بعد، فدبت في قلبها يقظة وحيوية، وأعادها منظر الجراج - وصاحبه محمد الفل - إلى ذكريات صراع عنيف نشب في نفسها في غير ما رحمة ولا هوادة طوال الأسابيع الماضية، وجعلت تقدم رجلا وتؤخر أخرى، حتى توقفت عن السير تماما، وعقل الخوف قدميها، ومع أنها كانت قد انتهت من ترددها المعذب إلى نهاية، إلا أن الخوف ركبها وهي تخطو الخطوات الأخيرة؛ «ألا يحسن بي أن أستزيد من التفكير؟ كلا، كلا، لن أجني من التفكير إلا وجع الدماغ. سيعترض سبيلي كما يفعل كل مساء، لا أستطيع أن أنكر أنني ابتسمت لدعاباته، فماذا بعد هذا، فات أوان التراجع. وهو لا يخفي دواعيه ولا مقاصده، ولست أجهلها، إني أدرك كل شيء، أدرك لماذا يدعوني إلى سيارته، لا يحاول خداعي كما فعل غيره؛ فالأمر واضح، فهل أقدم على هذا؟ لماذا يتعلق بي؟ لست جميلة، وهيهات أن يغير هذا الزواق من الحقيقة شيئا! ولكن الدمامة نفسها سلعة لا بأس بها في سوق الخلاعة، وعشاق اللذة - أو بعضهم - لا يرعوون عن مطلب! هذه هي الحقيقة، الزواج أمره مختلف، أما اللذة فلا اختلاف عليها. هل أدع نفسي تهوي! ولماذا أمنعها؟ لن أخسر جديدا، ليس ثمة ما أخاف عليه، ولكن ألا يحسن أن أمد لنفسي حبل التفكير؟» وعاودتها ذكريات اليأس الذي أمرت غصصه ريقها، وكيف لم يعد ثمة أمل على الإطلاق، على أن الأمر لم يكن مجرد يأس فحسب؛ فهناك هذه الرغبة المشبوبة التي تشتعل في دمها، ولا حيلة لها فيها، وكلما استنامت إلى قبضة اليأس شكتها في الأعماق كشوكة مستعرة، هذه الرغبة وحدها تأبى عليها أن تعتزل الحياة وتتواري، حتى كرهتها فيما تكره من حياتها. بيد أنها لم تعترف بها أمام شعورها، وأنكرتها، وقالت لنفسها إنها ترضى «الهوان» في سبيل النقود التي تمس حاجة أسرتها إليها. ولم تكن في هذا كاذبة؛ فإنه حق لا شك فيه، ولكنها صارحت نفسها بحقيقة وتجاهلت الأخرى، وسرها - إن كان ثمة سرور - أن تبدو لعينيها شهيدة، وضحية لليأس والفقر، وبرز الفتى عند ذاك من الجراج، ووقف يحدث بعض العمال فخفق قلبها، ولم تتحول عنه عيناها، وأدركت بغريزتها أنها لن تتراجع، فسلمت - على البعد - وهو موليها ظهره، سلمت تسليما نهائيا، وانتهى في تلك اللحظة الصراع العنيف المحزن الذي نشب في قلبها منذ أسابيع، وزفرت في يأس وحرارة وغادرت موقفها، واقتربت منه في خطوات وئيدة متجاهلة إياه، حتى أحست به يعترض سبيلها قليلا بجرأته المألوفة: الصخر نفسه يلين يا ست، هاك السيارة عند منعطف الطريق تنتظرك منذ أجيال.
ثم سار إلى جانبها متشجعا بابتسامتها وهو يقول: كفاك تدللا، لو كان لي صبر أيوب لنفد.
ما ألذ الغزل ولو كذب، حال مخزية ولكنها ترد إليها اعتبارها وكرامتها كأنثى مهيضة الجناح؛ «ليته يدري من أنا ، ومن كان أبي!» ثم سمعته يقول بلهجة تنم عن وعيد: هاك السيارة فإذا لم تصعدي إليها رفعتك بذراعي أمام الرائح والغادي.
अज्ञात पृष्ठ