فقال في إشفاق: أول أمس! - ولماذا أخفيت عني؟
فلاذ بالصمت لاعنا أخاه وحظه اللذين أورطاه في المسئولية بلا ذنب جناه، وتنهدت عند ذاك وقالت بأسى: الأمر لله؛ فإن شقائي بكما فاق ما ألاقي من زماني الأسود!
وكانت نفيسة تكره جو الشقاق بطبعها، فأرادت أن تلطف من حدته. ولا يعني هذا أنها كانت تشجع أخاها على رغبته، ولعلها كانت أشد غضبا من أمها، بل إنها عدت الأمر كله تدبيرا دنيئا لاختطاف شقيقها، ولكنها رغبت صادقة في تحامي نزاع لم يعد يجدي، فقالت مخاطبة أمها: لا تهيجي دمك؛ ما كان كان، فارحمونا من وجع الدماغ.
فانتهرتها أمها بحدة قائلة: اخرسي!
والتفتت إلى حسنين قائلة بازدراء: لعلك ملهوف على معرفة ما انتهى إليه مسعاك الذي دبرته بليل ...
وهزت رأسها في أسى ثم قالت: لك قلب تحسد عليه؛ فإنه يستطيع رغم فجيعتنا وتعاستنا أن يعشق، وأن يستهين بنا جميعا في سبيل سعادته، والحق أني ذهلت حين حدثني فريد أفندي عن آمالك الواسعة، وهيامك العجيب، ولكني حدثته بدوري عن كفاحنا وتعاستنا، حدثته عن أثاثنا الذي نبيعه قطعة قطعة لنحصل على الضروري من القوت، وعن شقاء أختك التي تمتهن الخياطة وتقطع النهار بين هذا البيت وذاك، ثم صارحته بأن أحدا من أبنائي لن يتزوج حتى ينهض بأسرته المنهارة.
وسكتت المرأة وعيناها لا تتحولان عن وجهه وهو خافض العينين تعلوه كآبة وقنوط، ثم استطردت قائلة بحزن: ومهما يكن من أمر فلا يسعني إلا أن أشكر لك عطفك وإنسانيتك!
وقامت المرأة وغادرت الحجرة لا تكاد ترى ما بين يديها من الغضب والحزن، وخلفت وراءها صمتا ثقيلا، وبلغ التأثر من نفيسة فتناست غضبها الدفين، واقتربت من حسنين وقالت متظاهرة بالمرح: نينة لم تقل كل شيء. وأؤكد لك أن ثمة ما يدعو حقا لحزنك، وما كان بوسعها إلا أن تبقي على صداقة فريد أفندي ومودته، ومن ذا يستطيع أن ينسى جميله ومروءته؟! قالت له أنها تعد موافقته على طلبك شرفا كبيرا، بيد أنها ذكرت له حالنا الذي يعرفه حق المعرفة، وسألته أن ينتظر حتى تنهض أسرتنا من عثرتها، مكتفيا بكلمتها على أن تعلن الخطبة في حينها إذ أنت رجل مسئول. وقالت له أيضا إنه يسعدها أن تختار بهية زوجا لابنها، فلا داعي للحزن على الإطلاق.
ونظرت الفتاة إلى وجه أخيها والإشراق يعاوده فدخلها غيظ مفاجئ، ولكنها أحسنت كتمانه وقالت بلهجة لم تخل من حدة: اعذر نينة؛ فهي مسكينة حزينة، ومما يعزيها ولا شك أن نشاركها همومها، أما إذا وجدت منا ... ما علينا، لا أحب أن أعود إلى هذا، وحسبي أن أقول لك إن الأمور ستسير كما تحب (ثم ضاحكة) لعنة الله عليك وعلى الحب معا!
26
अज्ञात पृष्ठ