فمد له القادم يده في حركة تشي بشعوره بقدر ذاته، وقال: صباح الخير.
وجلسا إلى مائدة متقابلين، واجتاحت نفس حسن موجة كرم عاتية فنادى النادل وطلب للأستاذ علي صبري قهوة، ثم قال الأستاذ للنادل قبل أن يذهب: ونارجيلة.
وغاص قلب حسن في صدره أن يلزم بدفع ثمن النارجيلة أيضا، فيضيع عليه ما ربح باللعب والحظ واليد والعين. ولكنه سرعان ما تناسى قلقه ليفرغ إلى استطلاع وجه الأستاذ. وكان علي صبري في منتصف عقده الثالث، متوسط القامة نحيل العود، صغير القسمات، أما شعره فأشبه ما يكون بشعر حسن، إلى سوالف تزحف حتى منتصف خده، وكان مظهره بوجه عام يدل على سوء الحال، ولكنه يغطيه بنفخة كاذبة وغرور غير محدود. قال حسن بأسف وهو يستطلع وجهه: لم نسمع صوتك من زمان!
وكان أذاع مرات من المحطات الأهلية، وبدا وكأن الحظ يبتسم له ، فلما ألغيت المحطات الأهلية وأنشئت محطة الإذاعة الرسمية حيل بينه وبين إحياء الحفلات، وضاعت مساعيه وراء هذا الأمل هباء. وكان حسن أحد أفراد تخته المعطل، وطبيعي أن العمل لم يكن يدر عليه أكثر من قروش في الحفلة، ولكنه كان يحبه ويؤثره على العمل الجدي الذي لم يصادف فيه توفيقا على مشقته و«حقارته!» وقال الأستاذ: سأبدأ نشاطا جديدا عما قريب.
فخفق قلب حسن وقال برجاء: نحن رجالك، وفي الخدمة دائما.
فهز الأستاذ رأسه في رضا؛ لأنه لم يكن يشعر بالعزة إلا إذا خاطبه أحد أفراد تخته المتسكعين، خصوصا حسن، ذلك الشرس الجبار، الذي ينقلب بين يديه وديعا متملقا، ثم قال: طبعا. إنك تردد ترديدا حسنا، وصوتك لا بأس به.
فانطلقت أسارير حسن في بشر وقال: ولقد حفظت كثيرا من الطقاطيق. - مثل ماذا؟! - اللي حبك، ظالمني ليه، لما انكويت بالنار.
فهز الأستاذ منكبيه استهانة وقال: إن محك الفن الدور والليالي. ماذا يسمع الآن في الراديو؟ لا شيء. هذا زعيق فارغ وليس بغناء، ولو كانت المحطة تراعي وجه الفن وحده لكنت المذيع الأول بعد أم كلثوم وعبد الوهاب. وعبد الوهاب نفسه يخاف كثيرا أن تخونه حنجرته فتراه يتحامى النفس الطويل، ويشطره أجزاء قصيرة متواريا وراء ما يسميه بالتجديد، ثم يغطي ضعفه بضجيج الآلات. إليك كيف غنى «يا ليل» في الحفلة الأخيرة.
وتنحنح ثم راح يغني يا ليل مقلدا عبد الوهاب. وجاء النادل بالنارجيلة والقهوة وهو يغني فتناول الخرطوم دون أن يمسك عن الغناء حتى انتهى، وحينذاك هتف رفاق حسن «الله .. الله»، فأخذ نفسا من النارجيلة دون أن يلتفت إليهم، ثم قال لحسن همسا: هذا إعجاب بالصوت لا بالفن. اسمع هذه الليالي في نفس واحد كما كان ينبغي أن تغنى.
وأنشد بصوت ملأ القهوة الصغيرة حتى رفع صاحب القهوة رأسه عن صندوق الماركات، وأسارير وجهه تراوح بين الابتسام والاعتراض. وانتهى الأستاذ علي صبري، وعاد إلى النارجيلة وفي نيته أن يشكر في هذه المرة للرفاق استحسانهم إذا أبدوه، ولكن ساد الصمت فلم يسمع إلا قرقرة الماء في قنينة النارجيلة، وقطب الأستاذ وقال في ثقة: هذه أصول الفن.
अज्ञात पृष्ठ