68
وتواصلت الأيام حتى أوشك العام الدراسي على الختام. وفي ثلثه الأخير علم أن وزارة الحربية قررت تخريج دفعة الشاب، مكتفية بعام دراسي واحد؛ على أن يتم الخريجون تدريبهم في الفرق التي يلحقون بها؛ وذلك لتواجه زيادة عدد الجيش بعد إقرار المعاهدة. وضوعف العمل للطلبة، ولكنهم أقبلوا عليه مستبشرين متحمسين، والواقع أنها كانت حقيقة أقرب ما تكون إلى الخيال؛ فلم يكن ثمة واحد منهم يصدق أنه سيكون ضابطا بعد عام دراسي واحد، وكان آخر هؤلاء جميعا حسنين نفسه. ثم انتهى العام وتخرج الشاب! واستخف الطرب الأم وكانت أشبه بملاح تائه تمزق شراعه، ونفد طعامه، إذ تكشف الضباب لعينيه فجأة عن مرفأ آمن، ولهج لسانها بحمد الله وجعلت تقول في حرارة وإيمان عميق: «أنت وحدك يا ربي الذي أخذت بيدي، ومن كان يرى حالنا بالأمس، ونحن نتخبط في ظلمات اليأس، ويرانا اليوم وكل شيء من حولنا يدعو للأمل يقر من صميم قلبه بعدلك ورحمتك.» وغبطت نفسها على سعادتها لأول مرة في حياتها، وأخذت محنتها الطويلة تتراءى لعينيها الذابلتين في هالة من الفخار والسرور، وكأنها لم تكن سوى عبوسة مصطنعة على جبين الأقدار الرحيمة، فابتلت عيناها بدموع الفرح والشكر. وكانت تقتصد من نقود حسين ونفيسة ما تعده لسداد مصروفات السنة التالية، فأخذه حسنين ليهيئ به ملابس الضابط الكاملة، وشغل بذلك طول المهلة التي تمنح للخريجين قبل توزيعهم على الفرق المختلفة، ولما كان ترتيبه بين الأوائل فقد ألحق بسلاح الفرسان بالقاهرة، وتهيأ للأسرة من حسن التوفيق ما لم تكن تحلم به، وارتدى حسنين بدلة الضابط فتحقق حلمه القديم، وجعلت أمه تنظر إليه بعينين أذهلهما الفرح، حتى شذت عن المألوف من صمتها ورزانتها؛ فهذا هو الابن المحبوب، زهرة حياتها وأملها المنشود. وقد قال لها مرة: إذا حان موعد الاحتفال بالمحمل فسيتاح لك ولنفيسة فرصة باهرة لتشاهداني على صهوة جوادي على رأس فرقة الفرسان!
فلم تتمالك أن قالت له: هذا إذا ابتعت لي معطفا يليق بالظهور في الطريق الغاص بالمتفرجين!
فضحك الشاب قائلا: صبرك حتى أقبض مرتبي!
كانت أياما سعيدة صفت لهم فيها الدنيا وطابت، بيد أن الشاب كان يفكر في أمور كثيرة، وكان يروم أن يقيم سعادته المتاحة على أسس ثابتة لا يتطرق إليها الفساد، فانتهز فرصة انفراده بأمه مرة - كانت نفيسة في الخارج - وقال لها بصوت ينم عن الاهتمام الشديد: أماه، يجب أن تنقطع نفيسة عن عملها المزري في الحال؛ لأنه لا يجوز لأخت الضابط أن تكون خياطة.
فابتسمت الأم وقالت في بساطة: سترحب بهذا بمجامع قلبها يا بني.
كان ينتظر هذا القول بلا ريب، بيد أنه لم يمح من نفسه ما يعتلج بها من مثار الفكر، فاستطرد متنهدا في كآبة: ليتنا نستطيع أن نمحو الماضي من صفحة الوجود! .. أخاف أن يعيرنا قوم بما كان. وأنت أعلم بنفوس الناس، وأكره ما أكره أن يترامى شيء من هذا إلى أحد من زملائي فأفقد كرامتي بين أقراني .
فسرى إليها بعض همه، ولكنها ربتت على كتفه مبتسمة وقالت باستهانة: كنا فقراء، وأكثر الناس فقراء، ولا عيب في هذا.
فهز رأسه معترضا وقال في أسى: كلام يقال، ولكنه لن يغني عنا شيئا وأنت أخبر بالنفوس! - لا أحب لك يا بني أن تنغص عليك صفوك بأمثال هذه التخيلات!
فاستدرك قائلا وكأنه لم يسمع قولها: هذه العطفة الحقيرة تعرفنا على حقيقتنا؛ فلهذا لا أطيق البقاء فيها.
अज्ञात पृष्ठ