ومن اختلاف الآراء وتشعب الجدل تتضح عشرات الحقائق، وتنبت في ذهن كل كاتب أو فنان ألف فكرة وفكرة، وينسى كامل الشناوي كل شيء إلا أنه يزاول أحب عمل إليه، يتحدث إلى أناس يحبهم ويتحدثون إليه أحب حديث، حديث الفن والسياسة والأدب.
ولكن الليل يمضي ويتسلل الجالسون واحدا وراء الآخر كالمذنبين تتبعهم سخرية كامل الشناوي وعجبه من قدرتهم الخارقة على النوم المبكر، إذ كيف يستطيعون النوم والدنيا مليئة بأجمل شيء فيها، بليلها؟!
ولكن جلسة المناقشات ما تكاد تنتهي حتى تبدأ جلسة الحلقة الضيقة من الأصدقاء، الموسيقى والأضواء الخافتة وصوت عبد الحليم وألمعية عبد الوهاب، والضحكات. ضحكات هو محدثها ولولاه ما كانت، ضحكات يعبر بها عن فرحه بالحياة ونشوته بالوجود مع أحباب، ضحكات وكأنما يدرأ بها عن نفسه وعن أحبابه وعن الناس جميعا كل ما تبقى عالقا بذهنه من شبح ذلك العدو المبين الذي طارده منذ الصباح.
ويظل الأستاذ كامل محاطا بالأصدقاء الأحباء حتى ينام. وينام وصخبهم وضجيجهم لا يقلقه، بل لولا ضجة أصدقائه ما نام وكأنها الموسيقى الحية التي لا بد منها لينام على وقعها كل مساء. يرشفونها أروع مذاقا من قهوة الصباح، بينما آلاف القلوب والعقول تقرؤه وتحبه وتحب الحياة وتتزود لخوض معركة النهار. يكون الأستاذ كامل يقرأ جرائد الصباح هو الآخر، ويكون أول ما يقرؤه فيها هو صفحة الوفيات. وكالعادة أيضا لا بد أن يكتشف أن أحد أصدقائه أو معارفه أو زملائه القدامى قد مات، ويبدأ شبح العدو ينتصب أمامه، فيتولاه الانزعاج، ويغادر الفراش على عجل. ويسرع ليقذف بنفسه في بحر الأصدقاء والناس والإنتاج، يريد أن يهرب من الموت فيخلق حياة، أروع حياة، تحببه وتحبب معه الأصدقاء والناس في الحياة. (26) قنطرة الذي كفر
ليلة الأمس أمضيتها مع رواية فريدة في أدبنا العربي كله. الرواية كتبها أستاذ له في كل فرع من فروع العلم والمعرفة باع، ولم أكن إلى اليوم أعتقد أن له في الكتابة، ليس هذا الباع الطويل فحسب، ولكن الباع الأصيل. لقد ذهلت وأنا أطالع صفحات الرواية القليلة (107ص) من القطع الصغير. قرأت الرواية كملازم خارجة من المطبعة في جلسة، واحترت قليلا، من يكون هذا الكاتب العملاق الذي كتب هذا العمل؟ فقد دق الباب، وفوجئت بساع يحمل لي حزمة الملازم، وأفتش في الملازم عن اسم للمؤلف فلا أجده. لا أجد إلا مقدمة صغيرة في صفحة واحدة مفادها أن الموضوع عاش مع الكاتب ثلاثين عاما، وأنه لولا نصيحة من الأستاذ محمد عودة ما كان قد أقدم على كتابته.
وحاولت الاتصال بعودة فإذا بعودة في كوبا مع مؤتمر التضامن، وإذا بي وليس أمامي إلا نص من مؤلف مجهول. قرأته فأصبت بالذهول كما قلت، فهذه الرواية القصيرة هي أروع ما كتب في رأيي عن ثورة 19 إذا نحينا جانبا عودة الروح لأستاذنا توفيق الحكيم، والجزء الخاص بالثورة في ثلاثية كاتبنا الكبير نجيب محفوظ. ولكن المشكلة في هذه الرواية الفريدة أنها لا تتحدث عن ثورة 19 متعمدة عامدة كما حدث في عودة الروح وثلاثية محفوظ. إن الحديث عنها يأتي هكذا تلقائيا من داخل نفوس أبطالها ولا يملى عليهم من خارجها، أو توضع الثورة عن عمد هندسي داخل الرواية. وأبطال الرواية أغرب، فهم سكان «ربع» من الأرباع القائمة في المنطقة المسماة «تحت الربع»، وهم بائع صعيدي سريح (كالشعراء في حيه)، وبنت تخدم في المنازل، وأمها العمياء، ورئيس كناسين في التنظيم، ونجار، وخريج دار علوم لا يجد عملا، وفي الوقت الذي تفور فيه البلاد بالثورة هو مشغول بتدبيج قصيدة لرئيس الوزراء الجديد، يمدحه فيها ويلعن الوفد كي يرسله في بعثة لدراسة الفلسفة في فرنسا. نفس هذا الانتهازي الوصولي ينتهي بأن يصبح من تنظيم الوفد السري، وينتهي كمكافح إرهابي يغتال الإنجليز بالمسدس. وقصة حب، أعظم وأروع ما قرأت من قصص الحب الشعبية بين «سيدة» ذات الثمانية عشر ربيعا، والتي تبدأ بأن تصب الماء ليتوضأ الشيخ عبد السلام قنطرة خريج دار العلوم وتتسبب في توهانه عن الصلاة وعن الله، وبين أحمد ابن النجار الذي مات بالشوطة وظلت سيدة في عقدة ذنبها من أنها «قرفت» منه، حتى انتحرت بثمانين قرصا من الأدوية المنومة حين افترسها نجيب باشا عاصم، نفس رئيس الوزراء الذي كان يدبج له الشيخ قنطرة قصيدته، والذي أرسله بالفعل حين نشرت الأهرام قصيدته في بعثة إلى فرنسا. عالم غريب رهيب عالم الربع هذا. وببراعة أصيلة، براعة - على ما أعتقد - مؤلف الرواية تلك التي تحدث التغييرات الخطيرة في الأدب في معظم الأحيان، يرسم الكاتب صورا غريبة وكأنما لعالم خاص مسحور، وكل هذا بلغة عامة لا تحس للحظة واحدة أنها عامية أو أنها غريبة لا على البيئة ولا على الصور الفنية. أدق وأروع ما يمكن أن يصل إليه قلم فنان.
حيرتني الرواية وقرأتها مرة أخرى غير مصدق، وأخيرا تذكرت أن الأستاذ أحمد طه كان قد حدثني في التليفون وأخبرني أنه سيرسل لي رواية للدكتور مصطفى مشرفة لأراها وأقرأها قبل أن تنشر، ومنذ بضع سنوات عرفت الدكتور مشرفة وهو شقيق عالمنا الكبير الذي فقدناه الدكتور علي مصطفى مشرفة، عرفته للأسف وقد أصابه نوع من الالتهاب المفصلي الذي جمد مفاصله كلها، حتى مفاصل فقرات رقبته، فأصبح لا يستطيع أن يتحرك أو يتحرك أي جزء من أجزاء جسده، وإنما هو ينام مستلقيا ليل نهار. فإذا عنت له بعض الخواطر أملاها على أحد الأصدقاء أو على زوجة مخلصة من أخلص الزوجات في العالم على ما أعتقد. فهي رغم شبابها قد وهبت نفسها تماما له ولمطالبه، عارفة مقدرة محبة للعبقرية الكامنة في هذا الجسد الذي أجبره المرض على الرقاد. إني أعرف الدكتور مصطفى مشرفة وأعرف أنه من عائلة مشرفة إحدى العائلات الأرستقراطية في دمياط، فكيف يمكن أن يتأتى للدكتور مصطفى أن يكتب عن شعبنا، عن أقل الدرجات في شعبنا، بكل هذا الصدق والروعة والجمال؟ إن هذا لمما يناقض تماما ما ورد في ميثاق المثقفين من أن أصل الأديب ينضح على إنتاجه، باعتبار معظم الكتاب والفنانين من الطبقة الوسطى. وها هو يكتب عن الشعب، عن أقل الدرجات في شعبنا الكادح بما لا يستطيع أن يفعله عامل أو فلاح، حتى لو أوتي ثقافة جوركي وتولستوي.
أما قنطرة الذي كفر فهو لم يكفر أو شيئا من هذا القبيل، وإنما هناك وصلة نابعة من درب الجماميز كان اسمها «قنطرة كفاريللي» وهو اسم عالم صاحب الحملة الفرنسية - على ما أعتقد - فقلبها الناس إلى قنطرة اللي كفر، ثم إلى قنطرة الذي كفر. وحيث إن أحد أبطال الرواية اسمه الشيخ عبد السلام قنطرة فقد جاء الاسم من هنا، وجاء ليضيف بعدا سحيقا إلى الرجل باعتباره قنطرة فعلا، وقنطرة الذي كفر بالثورة ليعود يؤمن بها.
إن هذه الرواية على ما أعتقد ستكون حدث عام 1966 الأدبي، رغم أن كل عتبي على كاتبها أنه تعسف في إنهائها، ربما لإحساسه أن قارئه لن يتابعه، ولو عرف أن القراء كانوا على استعداد لمتابعته لمئات الصفحات لما وضع لها هذه النهاية الحادة التي جارت على مصير بعض أبطالها، ولكنها ستبقى رغم هذا عملا فريدا لن يتكرر في أدبنا أبدا. (27) نجيب محفوظ ومجاعة النقد
لأني أسهر دائما إلى ساعة متأخرة من الليل، أو في الحقيقة إلى ساعة مبكرة من اليوم التالي، فإني لا أستيقظ مبكرا أبدا، وإنما تأتي يقظتي من التليفون، ذلك الجهاز الذي تتدفق من خلاله الحياة رغما عنك فتجذبك إلى دوامتها حتى من أحلى نومة. ولقد سعدت حقيقة؛ فالمتحدث في ذلك الصباح كان الصديق الكبير الأستاذ نجيب محفوظ، الذي بعد ثوان من المحادثة كانت تجلجل ضحكاته فتكاد سماعة التليفون تشاركنا، من فرط الإغراء، في القهقهات. والظاهر أنها كانت ممتعة حقيقة، فقد استمرت المحادثة ما يقرب من الساعة والنصف، وكان أهم موضوع «جاد» أثاره كاتبنا الكبير عن النقد، وحزن نجيب محفوظ لرؤيته كبار النقاد وقد انصرفوا تقريبا عن مزاولة واجبهم الأسمى، وتركوا المجال لبعض الصبية الذين فهموا أن عظمة النقد تقاس بمقدار ما ينعيه الناقد من فنون، وبرز هذا واضحا من خلال «تقييمهم» للموسم الأدبي الماضي، فتخصص بعضهم في نعي القصة القصيرة، بينما راح الآخر ينعى الشعر الجديد، ولولا بقية باقية من الحياء لنعوا الرواية هي الأخرى والمسرحية.
अज्ञात पृष्ठ