باعتباري مولدة نصفي أوروبي ونصفي صيني، وأنا في الحقيقة لا أعتبر نفسي كاتبة، أنا طبيبة أطفال، أقيم الآن في اتحاد الملايو، وأعتبر هناك واحدة من الجالية الصينية الغنية.
خذ كلامي إذن على اعتبار أني «برجوازية» صينية وكاتبة رومانسية، كما قال عني وفد الصين الشعبية في مؤتمر الكتاب الأفريقي الآسيوي، الذي لم يسمح لي بحضوره إلا بصفة مراقبة، وزيادة في الاحتياط اعتبرت نفسي ولا أزال أعتبرها مجرد سائحة. واسمح لي أن أحتج على الأسئلة التي دأب شبانكم الصحفيون على توجيهها إلي، ما رأيك في سارتر وساجان ومورافيا؟ فلقد دأبت على إجابتهم أني لم أقرأ لهؤلاء ولن أقرأ لهم، فأنتم هنا تهتمون بأوروبا أكثر من اللازم، وتتابعون أخبارها وكأنكم جزء منها. أتعرف ماذا صدمني في القاهرة؟ أوروبيتها الزائدة عن الحد، لم أكن أتوقع هذا أبدا! إنك من القاهرة لا تحس بأفريقيا أو بآسيا، البيوت والأثاث والمأكل والملابس وطريقة الحديث كلها أوروبية. فقط بعد تأمل دام بضعة أيام اكتشفت أنكم من الداخل مختلفون، لا تزال أعماقكم سليمة، وحينئذ عرفت أن الاتجاه إلى أوروبا اتجاه من السطح ليس إلا. إن الحضارة الأوروبية ليست سوى أسلوب واحد من أساليب كثيرة للتحضر والحياة، وأن نترك أسلوبنا الأصيل ونتبنى أساليب الغير تبنيا أعمى شيء يضرنا ويمسخنا. لن نكون أنفسنا إلا إذا حاولنا بجهد ومشقة أن نكون أنفسنا. أنا لم أقرأ لسارتر وساجان ومورافيا، وليس مهما أبدا أن أقرأ لهم. أكثر أهمية أن أقرأ لكتاب من كوريا والجزائر ومصر. ولست أقرأ لهؤلاء فقط كنوع من التحيز الآسيوي الأفريقي، ولكن أيضا لأتعلم أساليب جديدة رائعة أصيلة في التعبير الفني، فمشكلتنا الكبرى أننا غير واثقين بأنفسنا، لا نجد العظمة إلا في كل ما هو أوروبي، وإذا نظرنا إلى أنفسنا لم ننظر بأعيننا نحن، وإنما استعرنا مناظير أوروبية نرى بها بعضنا البعض. إن حضارتنا عريقة جديدة تضرب بجذورها في بطون التاريخ، ومن واجبنا أن نؤمن أن حاضرنا لا يقل عراقة عن ماضينا، وأن تخلفنا في التكنيك وفقرنا لا يعني أن أرواحنا هي الأخرى وأحاسيسنا وطرقنا في التعبير متخلفة، بعضنا يعتقد أن «العالمية» لا يمكن الوصول إليها إلا بالتتلمذ على حضارة أوروبا واستيعابها جيدا ثم سبقها بعد هذا، وفي رأيي أننا نفعل خيرا من هذا لو كففنا عن دراسة أوروبا والتفتنا إلى أنفسنا نحن، إلى مشاكلنا نحن وقضايانا. وأرجوك ألا تحدثني وكأني مواطنة عالمية، حدثني باعتباري مواطنة في اتحاد الملايو الواقع في جنوب شرقي آسيا، والذي يعاني من مشاكل وقضايا سببها وراعيها الاستعمار الأوروبي. إن مشكلتنا الرئيسية نحن المثقفين في آسيا وأفريقيا أن معظم عقولنا ليست سوى نسخ بالكربون لعدة كتب أوروبية إلى درجة أن بعضهم يعتبر الجهل بالثقافة الأوروبية جريمة كبرى، في حين أن الجريمة الأكبر أن نكون جاهلين بثقافتنا نحن وأنفسنا، لندع أوروبا ومشاكلها تنتظر قليلا، ونشغل أنفسنا بأمورنا ومشاكلنا، الجريمة الكبرى أن يكون المواطنون في آسيا وأفريقيا يعرفون أدق وأحدث أخبار مارلين مونرو، وتفصيل ما حدث في افتتاح مسرحية ساجان الأخيرة، بينما هم لا يعرفون شيئا عن الدكتور أجوستيفو نيتو. أتعرف من هو نيتو هذا؟ إنه قائد الجبهة الوطنية التي تحارب الاستعمار البرتغالي في معركة أنجولا التي لا نسمع عنها سوى أقل القليل، هذه هي مأساتنا. وخذني مثلا، لقد جئت إلى القاهرة أحمل معي مشكلة حادة ملتهبة هي مشكلة الساعة في آسيا بجنوبها وغربها وشمالها وشرقها، مشكلة التعايش السلمي الذي ينادي به الاتحاد السوفييتي. أتوافق عليه؟ أترى أنه من الممكن أن تتعايش دولة عمال وفلاحين مع دولة تعادي العمال والفلاحين؟ هل بالإمكان أن يتعايش الاستغلال مع الاشتراكية، أم لا بد أن يستمر الكفاح ولا يهمنا شيء حتى تتحرر كل المستعمرات وحتى تتحقق الاشتراكية؟
أرجوك، هذا مجرد رأيي الخاص باعتباري «برجوازية» و«سائحة» وليس لي أي اعتبار آخر، هكذا قرر مؤتمركم. هذا رأي الصين الشعبية أيضا. هذا صحيح، وأنا لا أخفي تعلقي بالصين الشعبية وبسياستها رغم كل شيء ، رغم كل ما تقوله أنت من أن الوفد الصيني أصر على عدم الاعتراف بي كعضوة في المؤتمر باعتباري برجوازية رومانسية. أنا برجوازية رومانسية ولكني لا أومن بنداء التعايش السلمي بين الظلمة والظالمين، بين إيريان والاستعمار الهولندي وأنجولا والاستعمار البرتغالي والصين الشعبية وشيانج كاي شيك. اشرب قهوتك قبل أن تبرد وقل لي رأيك، أريد أن أعرف رأيك فقد جئت هنا لأعرف آراءكم وأفهمها وأتعلم منكم. اليوم بالذات ذهبت لمقابلة شيخ الأزهر لأني أريد أن أدرس الدين الإسلامي العظيم وأعرف جوهره ومبادئه، فهم عندنا في جنوب شرقي آسيا يستعملونه كسلاح ضد الوطنية والاشتراكية، مع أن دراستي العامة له أقنعتني أن مبادئه تبشر بالعكس وتقف تماما مع حرية الشعوب وحقها في الحياة الكريمة، ولم أعجب حين عرفت أن الرجعية العربية المتعاونة مع الاستعمار في بلادكم تستعمل دينكم العظيم بنفس الطريقة وكأنها خطة استعمارية واحدة، ألم أقل لك إن الاستعمار يرانا كوحدة، ككل، ويستعمل لمحاربتنا نفس الأسلحة، ونحن نترك قضايانا الأساسية ونتعبد في أوروبا ونتنسم أخبارها ونحلم؟ (22) قصة بطلها توفيق الحكيم
أمس كنت أقلب في كتبي، إذا بي أعثر على كتاب «مسرح المجتمع» لتوفيق الحكيم. والكتاب ضخم ومجلد بغلاف فاخر وكان ثمنه أكثر من جنيه، ومع هذا فقد تلقيته كهدية من الأستاذ توفيق الحكيم. فتحت الصفحة التي كتب فيها الإهداء وقرأت كلماته وكدت أضحك.
فالأستاذ «توفيق الحكيم» ليس حريصا فقط على نقوده وكتبه، ولكنه حريص أيضا على كلماته، فهو يهدي كتبه إلى قلة قليلة جدا، وينتقي كلمات الإهداء بعناية شديدة وكأن أحدا سيحاسبه عليها. وهذا الحرص في رأيي أحد خصائص توفيق الحكيم التي لا أملك ولا يملك أحد إلا أن يحبها. وأنا أحب توفيق الحكيم، أحبه كإنسان وكفنان، وأحب ما يكتبه، حتى هذا الذي لا يعجبني أحبه وأحس أنه شيء لا بد منه، أحس أنه الظلال الغامقة التي لا بد منها لكي تتكامل لوحة توفيق الحكيم الرائعة.
بل حدث مرة أني من كثرة حبي له وإعجابي به فكرت أن أؤلف عنه قصة. ليست قصة تصور مكانته الأدبية، أو تجسده حيا كامل القسمات، ولكنها قصة حب. قصة من القصص التي يحلو لنا أن نؤلفها عن الناس كتعبير غير مباشر عن حبنا لهم.
وحدث فعلا أني كتبت القصة، كتبتها لنفسي بلا أية نية لنشرها أو حتى قراءتها لأحد. ولكني ذات يوم وأنا جالس مع الأستاذ توفيق في ركن هادئ من أركان المجلس الأعلى لرعاية الفنون حكيتها له، وضحك لها كثيرا، وقال: يعني بقى ما لقيتش إلا أنا تعملني البطل.
قال هذا وسكت، ثم ضحك وأردف: إنما تعرف بيني وبينك ما حدش ينفع لها إلا أنا. الناس متصوراني كده وأنا كده فعلا.
وقلت له: أعتقد أنها لا تصلح للنشر.
فقال: أبدا ... ولازمته إيه؟ إنما يعني برضه ... يعني وماله؟ ما تنشرها. اكمن بطلها أنا؟ هو لازم البطل يعني يكون عويس ولا محروس. ما احنا برضه ننفع أبطال، مش كده ولا إيه؟! لا ... إذا كنت عايز انشرها.
अज्ञात पृष्ठ