يقول رسل في مقدمة كتابه «تحليل العقل» ما يأتي: «هذا الكتاب نتيجة محاولة أردت بها أن أوفق بين اتجاهين مختلفين؛ أحدهما اتجاه في علم النفس، والآخر في علم الطبيعة؛ إذ أراني عاطفا على الاتجاهين معا، ولو أنهما عند النظرة الأولى قد يبدوان متعارضين، فمن جهة يميل كثير من علماء النفس - وبخاصة أتباع المدرسة السلوكية - نحو موقف هو في جوهره مادي، على الأقل في منهجه إن لم يكن كذلك في أصوله الميتافيزيقية؛ فهم يجعلون علم النفس مرتكزا على علم وظائف الأعضاء وعلى الملاحظة الخارجية، وهم يميلون إلى النظر إلى المادة على أنها شيء أكثر صلابة وأبعد عن الشك من العقل، لكن علماء الطبيعة في الوقت نفسه - وخصوصا أينشتين وغيره من أنصار نظرية النسبية - ماضون شيئا فشيئا في جعل «المادة» أقل مادية مما كانت، وعالمهم يتألف من «حوادث» منها نشتق «المادة» بطريقة التركيب المنطقي ...
والنظرة التي توفق - فيما يبدو لي - بين الاتجاه المادي في علم النفس وبين الاتجاه اللامادي في علم الطبيعة هي النظرة التي أخذ بها وليم جيمس وأصحاب الواقعية الجديدة من الأمريكيين، وهي نظرة مؤداها أن «هيولى» العالم لا هي بالعقلية ولا بالمادية، بل هي «هيولى محايدة» منها يتكون العقل والمادة كلاهما، وقد حاولت في هذا الكتاب أن أتوسع في هذه النظرة في شيء من التفصيل بالنسبة إلى الظواهر التي هي موضوع البحث في علم النفس.»
51
ولئن كان هذا الوصف برنامجا لكتابه «تحليل العقل»، فهو كذلك صورة مختصرة لرأي «رسل» في الإنسان؛ لأنه في رأيه هذا يمزج بين النظرتين؛ النظرة التي تجعل من الإنسان سلوكا صرفا يخضع للملاحظة الخارجية، والنظرة التي تجعل بعض جوانب الإنسان أحداثا نفسية يدركها صاحبها بالملاحظة الباطنية دون أن تظهر إلى المشاهد الخارجي في صورة سلوكية، فالإنسان تتناوله بالبحث طائفة من علوم، فيتناوله التاريخ الطبيعي باعتباره حيوانا كسائر الحيوان له موضعه من سلسلة التطور، ويتناوله علم وظائف الأعضاء باعتباره جسدا يرد على البيئة المحيطة به ردودا تحفظ له الحياة، ويتناوله علم الاجتماع باعتباره عضوا في جماعات مختلفة كالأسرة والأمة، ويتناوله علم النفس باعتباره فردا يسلك ضروبا معينة من السلوك، وفي مستطاعه أن يتجه بانتباهه إلى باطن نفسه؛ ليدرك ما يدور في نفسه، ولا ريب في أن هذه الملاحظة الباطنية التي يقوم بها الإنسان إزاء نفسه هي التي أوحت إلى الناس بالرأي التقليدي الذي يفرق بين العقل والجسم، فالجسم هو جانبنا الذي يستطيع أن يشهده الآخرون، والعقل هو جانبنا الخاص الذي لا يستطيع إدراكه إلا صاحبه.
وقد جرى العرف بين الكثرة الغالبة من الفلاسفة بأن «المعرفة» شيء باطني ينظر إليه من الداخل، فنلاحظه في أنفسنا بأنفسنا، وليس هو بالظاهرة البادية التي يستطيع مشاهدتها الآخرون، وقد شاء لنا حسن الحظ أن يكون الناس في حيواتهم اليومية أكثر موضوعية وأقرب إلى الواضع من هؤلاء الفلاسفة، فتراهم ينظرون إلى «المعرفة» نظرتهم إلى الشيء الذي يمكن أن يشاهد ويختبر، ومن ثم كانت الامتحانات مثلا، وكان اهتمامنا بالطرائق التي يرد بها الناس على العوامل المختلفة في بيئاتهم، فهذه الردود التي ترد بها على بيئتك هي نصيبك من «المعرفة».
فإذا أردنا تحليل «المعرفة» البشرية، كان حتما علينا أن نحلل ما يحدث حين يرد الإنسان على بيئته في موقف معين، ولنضرب لذلك مثالا: هبك تشاهد سباقا، فصحت في اللحظة المناسبة قائلا: «بدأ السباق»، فإن هذه الصيحة منك هي رد على حوادث بيئتك، فما الذي حدث حتى انتهى بك الأمر إلى هذه الصيحة؟ حدثت حادثات تقع في أربع مراحل: (1)
انتقلت موجات ضوئية من مصدر خارجي إلى عينيك. (2)
واهتزت الأعصاب بين العينين والمخ. (3)
وحدثت حوادث في المخ. (4)
وانتقلت اهتزازات من المخ إلى حلقك ولسانك، فكانت منك تلك الصيحة ...
अज्ञात पृष्ठ