43
وإذا أردت عبارة تلخص لك لباب المجهود الفلسفي الذي بذله «رسل» بقية حياته الفلسفية بعد هذا الموقف الذي اتخذه بادئ أمره، فقل إنه محاولة أن يبتر «بنصل أوكام»
44
كل الزوائد التي ظنها في بداية الأمر «أوليات» تعطى، فتقبل بغير تحليل، ثم تبين له أنها «تركيبات» مستنتجة، وليست هي بالمعطيات الأولية، ولذلك وجب حذفها من قائمة المعرفة المباشرة اليقينية إلى قائمة المعرفة بالوصف، هكذا فعل حين حلل المعاني الكلية إلى عناصرها الأولية، وحين حلل العدد (وقد أسلفنا تحليله للعدد في الفصل السابق)، وحين حلل الذات، وحين حلل الأشياء المادية، بحيث انتهى إلى موقفه الأخير الذي رد فيه الكون كله إلى «هيولى محايدة» لا هي بالعقل ولا هي بالمادة ... لكن هذا الإجمال في القول لا غناء فيه، وسبيلنا في الفصول التالية أن نفصل هذا الإجمال.
لسنا نخطئ إذا قلنا إن مهمة الفلسفة عند «رسل» هي تحليل القضايا - وبخاصة قضايا العلوم - تحليلا يرد موضوعاتها إلى الأوليات البسيطة التي منها تتألف، فإذا كانت القضية تتحدث عن «س»، ثم أمكن تحليل «س» إلى عناصر أبسط هي «أ، ب، ج» وجب حذف «س»؛ حتى لا تتعدد الكائنات التي نفترض وجودها كمقومات للعالم، وهكذا نظل نحذف ما لا تستدعيه الضرورة إلى أن ننتهي إلى الحد الأدنى من المقومات التي لا بد من افتراضها لنفسر بها العالم ... وهذا هو ما اصطلح على تسميته ب «نصل أوكام» الذي أصبحت تتميز به فلسفة «رسل».
ولقد سمي هذا «النصل» بنصل «أوكام» نسبة إلى «وليم الأوكامي» الذي عاش في النصف الأول من القرن الرابع عشر، وعرف في تاريخ الفلسفة بمبدئه المشهور الذي شاع في صورة النص الآتي: «لا يجوز لنا أن نكثر من الكائنات بغير ضرورة تدعو إلى ذلك» غير أن النص الذي ورد في كتاباته مختلف عن هذه العبارة التي شاعت عنه، وإن تكن خلاصة الرأي في النصين واحدة، والنص المذكور في كتاباته هو: «إنه من الخطل أن نصطنع عددا أكثر فيما يمكن أن نستغني فيه بعدد أقل.» ومعنى ذلك أنه مهما يكن نوع العلم، الذي أنت مشتغل به، فإن وجدت أن تعليلك للظواهر التي هي موضوع بحثك لا يستلزم منك الزعم بوجود كائن ما، فليس من الصواب أن نفترض وجود ذلك الكائن، ويقول «رسل» وهو في معرض الحديث عن «نصل أوكام»: «إنني وجدت هذا المبدأ مفيدا أكبر الفائدة في التحليل المنطقي.»
45
وتطبيقا لهذا المبدأ الهام حذف «رسل» ما حذف من الكائنات التي افترض وجودها الفلاسفة بغير موجب، بل التي افترض وجودها «رسل» نفسه في بدء حياته الفلسفية، ومن هذه الكائنات المحذوفة مسميات الألفاظ الكلية، ولشرح ذلك أقول:
هنالك أفراد من الناس، زيد وعمرو وخالد، لكل فرد منهم اسمه الخاص كما ترى، فلو صادفنا اسم من هذه الأسماء، وأردنا أن نعرف مدلوله في عالم الواقع أشرنا إلى الشخص المسمى بذلك الاسم، لكن إلى جانب أسماء الأعلام هذه توجد ألوف من أسماء كلية مثل إنسان وشجرة ومنزل وكتاب، ماذا تعني كلمة «إنسان» مثلا؟ أو بعبارة أخرى: ما المسمى الذي تشير إليه هذه الكلمة؟ هبني زعمت لك أني قابلت «إنسانا» في الطريق، فستفهم عني ما أريد، دون أن يكون في مستطاعك أن تعلم أي فرد من أفراد الناس قابلت في الطريق؛ لأن كلمة «إنسان» تنطبق على هذا وهذا وذلك من أفراد الناس، وإذن فهي كلمة بغير مدلول متعين، هي اسم بغير مسمى معلوم في عالم الأشخاص، ولهذا وجد الفلاسفة المثاليون أنفسهم مضطرين إلى افتراض وجود كائن عقلي يضاف إلى الأفراد المشخصة، هو الذي نقصد إليه، ونسميه حين نستخدم كلمة «إنسان»، وهكذا قل في «شجرة» و«منزل» و«كتاب» وألوف الأسماء الكلية الأخرى، وبهذا نخلق لأنفسنا عالما بأسره إلى جوار عالمنا هذا الذي يحيط بنا ونعيش فيه، عالم الأفراد الجزئية.
أقول إن الفلاسفة المثاليين قد اضطروا إلى هذا الفرض، على أساس أن لكل كلمة من كلمات اللغة مدلولها، وإلا لكانت لغوا باطلا، وما دامت هذه الكلمات الكلية مفهومة المعنى حين ترد في الحديث ، فلا بد أن يكون لها مدلولاتها، ثم ما دمنا لا نجد هذه المدلولات في عالم الجزئيات، فلا بد لنا من افتراض عالم فكري يحتوي على مدلولات تلك الكلمات الكلية.
अज्ञात पृष्ठ