اتجهت عيناها لحظات إلى العاشقين في الطرف الآخر للحديقة. ناضجة تماما، وهو من حسن الحظ يفضل ناضجات نصف العمر. - وعندما قابلتك بعد خمسة عشر عاما من الاختفاء، وجدتك مطلقة وحزينة لحرمانك من ابنك، فتذكرت بقوة غير متوقعة أنني بلغت الأربعين دون زواج، وقلت لنفسي: لعل هذا اللقاء قد تم ليصحح أكثر من خطأ.
وترامت نشرة أخبار الثامنة والنصف من مقهى بالسوق وراء محل بيجل، فاقتحمت مجلسهما الهادئ المعبق بالياسمين. وتساءل حامد: هل الحرب حقا وشيكة الوقوع؟
فقالت باستهانة: هكذا يقولون منذ أن تولى هتلر الحكم. - صدقت، المهم أن نتزوج في أقرب وقت ممكن.
عكست عيناها نظرتين متعاقبتين، الأولى مشرقة والأخرى غامضة دارتها بابتسامة، فقال: لا شك أنك فكرت في ابنك. - أنت تقرؤني جيدا، ولكني على الحالين لن أراه إلا نادرا. - يمكن الاتفاق على ذلك مع زوجك. - لن يذعن، إنها العداوة العمياء.
طالعها بنظرة إنكار فاستطردت: أكثر أعوام المعاشرة احترقت بنار العداوة. واستمرت بفضل تعلقي بابني، حتى أدركني اليأس. - سينسى الرجل العداوة مع الزمن. - ليس هو بالرجل الذي ينسى. - أمر مؤسف حقا. - المهم أن تفكر طويلا قبل ... - فكرت طويلا ثم اخترتك عن اقتناع وحب.
قالت برضى: الواقع أني أشعر بغربة شديدة في بيت أختي، بالرغم من أن حالتي المالية لا بأس بها. - إني أدرك ذلك يا عزيزتي، لكن أتسمعين؟ هل حقا ستقع الحرب؟
ابتسمت ابتسامة دارت بها ضيقها بقطع تيار الحديث الأول، وقالت: لم تعد الأقوال تنطلي علي. - الحالة أحرج مما تظنين. - أهي تزعجك لهذا الحد؟ - إيطاليا رابضة في ليبيا.
رنت إليه بنظرة هادئة، فاستطرد: وهي رابضة أيضا في الحبشة، أتدركين معنى ذلك؟ - ولكن الإنجليز ... - الإنجليز، إما أنهم ضعفاء كما يؤكد موسوليني، وإما أنهم أقوياء كما يدعون. وفي الحالين سنتعرض لأهوال الغزو. - أنت منزعج كما لو أن الحرب ستعلن عليك أنت! بالله خبرني لماذا ترى أن يتم الأمر في أقرب وقت ممكن؟ - آه .. نعم يجب أن يتم الزواج في أقرب فرصة؛ لأنني عرضة للنقل إلى الخارج في أول حركة قادمة. - عندك فكرة عن المكان المحتمل أن تنقل إليه؟ - فرنسا، تصوري أن يمضي شهر العسل في باريس! - يا له من خيال! ولو أن ابني سيبقى في كفر الشيخ. - سوف ترينه يوما وهو رجل كامل، أما إذا قامت الحرب ... - لن يتم النقل، هذا كل ما هنالك. - لن يمكن التكهن بشيء. - سنبقى هنا غالبا وليس في هذا ما يضير. - آه، يا عزيزتي! هل تدركين معنى ضرب بلد كبلدنا بقنابل الطيارات؟ - لماذا يضربوننا؟ لسنا أعداء لأحد. - سوف يتداعى كل قائم للخراب. - لا أصدق هذا. - لماذا؟ - قلبي مطمئن في صدري. - ما أجمل أن يطمئن إنسان في هذه الظروف!
ضحكت في رقة بالغة، وسألته: هل عرفتني في رأس البر من النظرة الأولى؟ - طبعا. - إذن لم أتغير كثيرا؟ - أنت أجمل مما كنت إن يكن ذلك ممكنا. - لا تبالغ، ألم تترك سن المبالغات؟ - الحب لا يعترف بالزمن. - أنا لم أسافر إلى الخارج من قبل. - باريس عروس الدنيا، صدقيني. - فرنسيتي ليست على ما أود، ربما التحقت بمعهد مناسب. - أما إذا قامت الحرب ونحن في باريس؟ - الحرب أيضا! - لتقم الآن إذا كانت تنوي ذلك. - في باريس يمكن أن نرحل إلى بلد محايد كسويسرا. - كل شيء يتوقف على ما يصيب وطننا هنا. - أنا مطمئنة كما قلت لك، ولكن لماذا تقوم الحروب؟ - العداوات، الألمان يستعدون لهذا اليوم منذ أكثر من عشرين سنة. - عشرون سنة! إذن كيف يمكن أن تنسى عداوة؟
وهو يضحك: الناس لا ينسون العداوات، ولكن من حسن الحظ أنهم يتزوجون رغم ذلك!
अज्ञात पृष्ठ