وضحت في عينيها دهشة تنبئ بالحقيقة التي لا يجهلها، وهي أنه لم يطلب منها ذلك ولا مرة واحدة، وغمغمت والدهشة لم تفارقها : طاقم أسنان!
وحقيقة أخرى لا يجهلها أيضا، وهي أن الأيام قصرت علاقتهما على الزمالة والصداقة منذ بضع سنين، فكيف يمكن لهذا الوضع أن يتغير فجأة؟ وكانت تجلس على نفس الكنبة على بعد ذراع منه، وفيما بين أوقات الاستماع إلى الراديو تتلو آية الكرسي بصوت خافت، وبعض الصور القصار التي تقيم بها صلواتها الخمس. ولفه إحساس بالغربة، ولكن قلقه الطارئ العجيب كان أقوى من الغربة؛ فقال: قلت ذلك مائة مرة! وما لك تهملين نفسك إلى هذه الدرجة؟!
فأوقفت التلاوة لتقول له: أمرك عجيب.
يا له من موقف! لعنة الله على المرض، وعلى الجنون! لكنك تسب الجنون بلسانك فقط. هذا واضح. يا لها من مهزلة! ومد ذراعه على مسند الكنبة إلى ما وراء ظهرها، ثم ربت على قفاها ضاحكا؛ فهزت رأسها متمتمة: أمرك عجيب.
فهمس بعد جهد غير يسير: كأيام زمان!
فانكمشت المرأة، تزحزحت حتى طرف الكنبة، وهي تغمغم: يا عيب الشوم!
ولما رآها مقوسة على خجلها أدرك مدى سخفه. وواصل اكتشافاته في الوزارة والطريق والقهوة حتى احترقت عيناه. وارتدت الأعوام الماضية بحرارتها الاستوائية. وهام على وجهه في مظان الهوى في الحدائق وحفلات السينما الصباحية، وراح يقول لنفسه: ما أعجب هذا! .. وما أبهجه! وشعر بأنه مطارد وأنه يوشك أن يضبط متلبسا، وأنه لا يستطيع أن ينسى عمرا كاملا من الوقار والاستقامة وحسن السمعة. ولكنه لم يتوقف، بل ولم يعد يقنع بالمغامرات النظرية، وذكر أبناءه وأحفاده. وتوهم أي فضيحة كان يرعش أطرافه ويثلجها. وهل يمكن أن تعالج الأمور بالصبر؟ وما جدوى الصبر وهو من صلب فلاح تزوج في الحلقة السابعة! وما جدواه وهو يشم أريج الحب في كل مكان! وما عسى أن يفعل؟ وبعد تردد ثقيل فاتح أحد أقرانه في القهوة بمتاعبه، ولكن ماذا كانت النتيجة؟ ضحك الرجل وقال: الظاهر أنك بحكم العمر انقلبت للإيمان بالخرافات.
فقال بحدة: ولكن ما أخبرتك به حقيقة لا شك فيها!
فرفع الرجل يديه بالدعاء قائلا: اللهم بارك في عقل فؤاد أبو كبير!
كلا، لا فائدة ترجى من هؤلاء الفانين! وعاد يتساءل عما عسى أن يفعل؟ ست آمنة. وثب الاسم من الظلمات كالشهاب. ست آمنة جارته القديمة بروض الفرج قبل أن ينتقل بأسرته إلى المسكن الحالي بالسيدة. وهي صاحبة الشقة التحتانية، أرملة، وقد حاولت كثيرا أن تصادق زوجته، ولكن فوزية لم تستخف ظلها. ولعلها في الأربعين أو فوق ذلك بقليل، ولا تخلو من وسامة، أما تأنقها المبالغ فيه فيقطع بحبها الحياة! وفي عهد الجوار سنحت بينهما وقائع، ولكنه حسمها باستقامته؛ فوئدت ولم يعلم بها أحد. كانت تحييه عند خروجه إذا تصادف وجودها في النافذة وما أكثر المصادفات. وأكثر من مرة وهو راجع كان يراها من خلال الباب المفتوح، وهي تخطر في قميص بيتي! ورغم ارتياحه الباطني الذي كان باعثه الزهو لا الرغبة؛ فإنه لم يشجعها قط، زاهدا ومشفقا في الوقت نفسه من فضيحة تهز مكانته المرموقة في أسرته وفي العمارة. ومرة تعرضت له أمام شقتها فحيته، ثم قالت: تسمح دقيقة واحدة يا فؤاد أفندي؟
अज्ञात पृष्ठ