وكأنما ردا على تساؤلاتي وظنوني التي تنشأ وتدور بلا حماس، في ركن المنظر الأيمن، وفي برواز صغير مربع وكما يحدث في برامج التليفزيون وعلى شاشته، حدث بدأ يدور، غامضا كتمثيليات الكهنة في حجرات المعابد الخلفية كالتشخيص الصامت الذي يعيد به القسس العشاء الأخير وصلب المسيح رأيت ذلك الجمل مسحوبا، وساحبه صاحبه وعلى وقع متئد وكأنما كل خطوة حدث وتاريخ يمضيان، تم بلا مقدمات، بلا معركة، بلا فاعل أو طلقة أو سلاح، بلا شيء على الإطلاق يسقط الرجل ذو الجلباب الأبيض والعمامة، سقط الصاحب، سقط قتيلا فحول رأسه المطروح فوق الأرض ورغم ظلام المشهد كانت بركة دم، وأيضا لا انطلق الجمل هاربا، ولا جعجع، ولا ثار أو «ضرب بالقلة»، ظل واقفا وقد تدلى مقوده في الهواء ينظر، من عل، أيضا إلى أمام، نظرة مليئة بكل شيء إلى درجة اللاشيء، ثابتة مستمرة وكأنما كانت أبدا وستظل تكون.
ورغم تأكدي أني لا أحلم، وأن ما حدث رأيته، قلت: حلم يقظة، رؤيا، تخريف، أبدا لن تعود.
وفي الصباح، أي صباح، فلا زمن، كنت أستحم تحت الدش حولي ستارة تمنع تسرب الرذاذ، مستمتعا إلى أقصى حد بأني داخل الحمام الخالي، وداخل الستارة النيلونية المزركشة، مع نفسي تماما، وإذا بشيء يداعب الستارة النيلونية المزركشة، ثم يزيحها وتظهر الشفتان الضخمتان أو بالأحرى الثلاث شفاه، منفرجة ومفتوحة وكأنما تنوي ابتلاع كل شيء بينها تبدو الأسنان، كبيرة، مطبقة، محكمة وكأنما تخاف إذا فتحت أن تفلت شيئا، أي شيء.
ثم أصبح الرأس كله معي، داخل الستارة، تحت الدش، دهشت قليلا ولكني واصلت الاستحمام ورحت من خلال أسلاك الماء الرفيعة أتطلع مليا إلى العينين لعلي ألمح شيئا، لعلي أعرف لماذا أطل وماذا يريد، لعلي أدرك للحظة أنه يراني حتى، ولكن، أبدا، كان يطل، من عل وأيضا إلى أمام.
فتحت الجريدة أقرأها، ولم أدهش حين شعرت بحركة، ولا حين اهتزت السطور، ثم تباعدت، وبلا صوت تمزيق اخترق الرأس الجريدة وأصبحت لا أرى سوى شفاهه الثلاث، يشع منظرها، قريبة جدا من وجهي، فتحات أنفه الواسعة أراها، بكل شعرة داخلها والأسنان كبيرة منظمة منطبقة ليس بينها فرجة.
ركبت الأتوبيس، والازدحام واصل حد الاختناق ولا هم لكل منا إلا المحافظة على كيانه، وفجأة وجدت الرأس الصامت الصائم عن الحركة يطل، كان مشهده كفيلا بإثارة الذعر أو على الأقل التطلع، ولكن الغريب أن النادر من الركاب هو الذي انتبه، وحتى لم يطل انتباهه، إنما هي نظرة ألقاها كأنما تعود أن يلقيها ثم عاد إلى معركة المحافظة على ذاته، الأغلب الأعم لم يحفل حتى بمجرد الانتباه.
وفي المساء، داخل غرفة النوم المغلقة، ولا شيء هناك سوى الحب والرغبة، إذا بي أكتشف أن شيئا يتسلل بغلظة بيننا، بلا عنف، وبلا حياء وربما بلا وعي بما يدور، ولكنه أصبح في النهاية بيننا، ولم تحتمل هي، بكل عنف وغضب واستنكار أزاحته جانبا فانزاح، ولكنه، بتؤدة وبصبر وبإصرار عاد يتسلل بين صدرينا وبطريقة بدا معها أن لا فائدة من إزاحته.
ورغم أني لم أكن مندهشا، أو غاضبا بشدة، أو مستنكرا، إلا أن شعورا ما بدأت أحسه، شعورا لا أجد له وصفا فالقدماء ربما لم يعرفوه ولم يكتشفوا له اسما، لكنه أصبح موجودا وملحا، وهكذا أخبرت زملائي في المكتب وأصدقائي وواحد منهم فقط هو الذي أبى أن يصدق أما الباقون جميعا فقد ضحكوا وظلوا يشيرون حيالي ويضحكون وكأني، أخيرا، رويت نكتة قديمة، كان واضحا أنهم من زمن يعانون نفس الشعور، وأن رأس الجمل يظهر لهم في كل مكان وفي أي ساعة، ولكن السؤال، أهو نفس الرأس يظهر للجميع أم أن لكل منا رأس جمله الخاص؟ كما يقولون في الأساطير إن لكل منا أخته تحت الأرض أو فوقها أو ككتابه يوم القيامة الذي يعلق في عنقه؟
تشعبت المناقشات وامتدت، والغريب أن الجزء الأكبر منها كان في حضوره، وقد أطل علينا من الباب المؤدي لمكتب المدير، أطل بنفس طريقته، من فوق، أمامنا يحدق، صامت لا يتحرك، عيناه حافلتان بكل شيء إلى درجة اللاشيء، والمناقشات حامية صارخة أحيانا قد تئوب إلى هدوء، حين يتخذ أحدهم وضع العالم العارف، وبصوت خافت يتكلم ويحلل، بينما رأس الجمل يطل عليه من فوق، مناقشات كالزوابع الصغيرة أو الكبيرة لا تلبث أن تذوب في بحر ساكن تماما كأن سطحه من زجاج، بحر واسع لا حد له ولا شاطئ.
أنا شخصيا، رغم أنه يظهر لي في اليوم أكثر من مرة وفي آخر الأماكن توقعا أن أراه، أحيانا أكاد أشك في عقلي وفي حواسي وأرفض أن أصدق ما أرى، بل حتى ما يراه الآخرون معي، هناك خطأ ما لا بد، أثور وأرفض ما تشاء لي الثورة والرفض ولكنها نوبات، ليست سوى نوبات لا تلبث، بهدوء، أن تذوب، بنفس التؤدة التي يظهر بها رأس الجمل، كل ما يحدث أنه لدى كل نوبة، خاصة إذا أدت بي إلى غيظ أو انفعال تزداد بشدة مرات ظهوره، بحيث أراه كلما تلفت، أينما سرت، أينما ذهبت، من أمامي وورائي ويميني ويساري وأمامي، بل، وهذا هو المرعب أحيانا أراه داخلي أنا، موجودا بتحديقته الأمامية التي لا تطرف داخل ذاتي الخاصة تماما، وأسراري، بل أحيانا أراه في طفولتي يطل على أمي وهي تضعني أو ربما على أبي وهو يخلفني، أحيانا وأنا أرنو إلى المستقبل ومن خلال أكوام المشاريع والخطط، بأذنيه الصغيرتين الغريبتين تزيحان الأكوام جانبا ليظهر الرأس ويعلو ويبدأ يأخذ وضعه التقليدي.
अज्ञात पृष्ठ