دوي الصوت، انتفضت، لم تفهم، في آخر لمحة أدركت أنه صوته، لا بد صوته، ما هذا العرق، آلة جديدة؟ تعبير طبي؟ بدأت تفهم، [السستر] بجواره تختار شاشا مطبقا بعناية من مجموعات الشاش بجوارها، دون أن يحرك وجهه أو يستدير، تتخلع هي، وبكل دقة وحرص حتى لا تلمس بأصابعها جبهته تجفف عرقه، عيناه لا تريان أو تشعران بما تفعله، كأنه لأول مرة يغرق، في البيت لم تره أبدا يعرق، دائما هو مستريح جدا، مثقل الجفون تماما، لا يتحرك من مكان لآخر إلا بدافع حياة أو موت، كيف تطيع هذه المرأة بجواره أمرا يصدر بهذه الطريقة الحادة الباترة، كالسبة، وحتى من غير «من فضلك»؟ لو كانت هي أصدر لها أمرا بهذه اللهجة لصفعته، إنه إهانة وليس أمرا، الغريب هو صوته، رفيع كما تعرفه، لا يرن كصوت الرجال، ولكن فيه أشياء أبدا لم تكن فيه. - امسك كويس، إذا فلتت ح أحط المشرط في عينك.
قال هذا وصوب عينيه أمامه مباشرة إلى حيث المساعد، عينان رأتهما بزاوية ولكن حتى نظرته من الجانب تبدو مختلفة، مائة في المائة ليست نظرته، هذه تملكها شخصية طاغية آسرة، لا تملك إلا طاعتها، نظرة كأنها لرسول مؤمن برسالته إلى حد الجنون والبطش مليئة بالثقة وكأنها تصدر عن فيض من امتلاء النفس بالثقة. إن لها شهرا وأكثر لم تر عينيه، ولم تحس أن له نظرة، نظراته دائما كقطة أليفة تتبعها، توجهها حيث تشاء، من خلال عينيها يرى، عيناه حين تواجهها دائما ما تكون البادئة بالانسحاب وقصر الشر، نظرة تشفق على ما تحفل به من مسكنة دائمة، وكأنه الطفل يذنب باستمرار، وباستمرار يطلب الغفران.
لا بد أنه يمثل أمامها، يريد إغاظتها، هنا مملكته وعبيده، وهنا لا بأس من مزاولة سلطان مؤقت أمامها، ولكن كيف عرف أنها أصبحت بالحجرة ومذ دخلت لم يرفع عينه عن مكان العملية ولا همس في أذنه أحد أو أخبره.
لا هو، ولا الموجودون جميعا، لا أحد شعر أو يشعر بها، هم في ملكوت آخر، هم قد امتصهم شيء مذهل محير ألهاهم حتى عن أنفسهم وعن الزمان والمكان، وأيضا عن الآخرين، ما هذا الذي يدور؟ هي لا ترى شيئا، لا ترى إلا أصابعه وهي غادية رائحة من الجرح إلى الآلات إلى الجرح، لا شيء هناك سوى أصابع تتحرك في قفازها المطاطي، أصابع طويلة نحيفة مركبة في يد ملساء صغيرة تعرفها أيضا، ما هذا المعجز فيها الذي يمتص وعي هؤلاء الناس وانتباههم، كما لو كان أعظم عازف كمان في العالم يعزف والأنفاس معلقة بأنامله. - لا، قلنا إبرة أرفع.
وطار ملقط مركبة فيه إبرة فوق الرءوس، وسقط على الأرض غير بعيد عنها، دق قلبها في عنف، من الشخطة قبل أن يدق من السقطة.
ماذا حدث له؟ لم تره هكذا أبدا، إن شخطه مرعب، على الأقل يرعبها أنها لا تخاف من الرجال إلا شخطاتهم فقد عاشت طول عمرها مدللة ملفوفة بورق سيلوفان، يتناولونها بحرص، وبحرص بالغ يربونها ويعلمونها، ويعاملونها، وما عليها إلا أن ترغب وليس أمامهم سوى إجابة الرغبة. لم يقل لها أحد في حياتها لا، لم يشخط فيها أحد، حتى هو، كانت الرقة تذوب من صوته إذا تحدث إليها، لماذا يشخط الآن هذا الشخط المرعب، الشخط الذي يجعلها تحس بالذعر، وبأنه رجل آخر، غريب، تهابه، تحس أمامه أنها فعلا امرأة، ضعيفة، خائفة، ما هذا الاهتمام الصارم المركز على وجهه لم تشهده حتى وهي تناقش معه أخطر ما دار في حياتهما أو يدور؟ وما هذا الاهتمام العظيم الذي يبديه الآخرون بأصابعه، أصابعه الدقيقة ويده الصغيرة التي تشبه الفأر، لا يمكن أبدا أن تكون هذه أصابعه، إنها يد وأصابع مختلفة تماما، هذه كائنات رفيعة طويلة أخرى بالغة الحذق والنشاط تلتف على بعضها البعض، تستدير، تنحني، تلتقط، تلضم، تخيط، تمسك، تجفف، تتفرق، تتجمع، تتحسس، تتداخل، تندس، الآلات في قبضتها تتحول كائنات حية، وكأن أصابعه تتشكل على هيئة آلات، لا يمكن أن تكون هي نفس الأصابع التي ما رأتها إلا مرتخية، أو مغطية فمه المتثائب، أو حتى إذا نشطت فإنما تنشط لتعبث، في أحيان نادرة، بشعرها هي، وكأنما تؤدي واجبا مدرسيا، أو لتضغط على أذنها وكأنما لتقرصها حيث لا تدري ماذا غير هذا بوسعها أن تعمل، بالتأكيد ليست هي أبدا الأصابع التي تعرفها ويثير مرآها بعض اشمئزازها، هذه أصابع تتعلق بها الأنفاس ولا بد أنها تقوم بأخطر عمل، فالصمت المخيم ليس صمت مؤامرة أو ضجر، إنه صمت الترقب الأعظم وكأن في الحجرة تدور مغامرة كبرى، الخطأ الصغير فيها قد يكلف حياة، من المحتم أن الصمت المقدس هذا يخيم على معجزة تحدث، وهو الذي يقوم أمامهم وأمامها بالمعجزة، هو «بتاعها»، أهو «بتاعها» لا يزال؟ هذه النظرة المحددة الثاقبة التي تنفذ في أعماق مساعديه ومن حوله من الرجال، فتهز أعماقهم، هذا العرق الغريب الذي يبدو لفرط نظافته معقما طاهرا، هذا الوجه الذي لم يستطع حتى القناع الشامل أن يخفي الشخصية الطاغية التي تملكه، هذه الملامح التي يسيطر عليها تماما، المحددة متى وكيف تتحرك، هذا «هو» لم تره أبدا، «هو» آخر لا يمت إليها، هو مخيف، مرعب، ذكر، رجل يمثل ما لم تحس به كرجل وهو في قمة مزاولته للرجولة معها، أمامه وعن عمد تضع الآخر في مواجهته، بشعر صدره، بيديه الكبيرتين بذقنه الغزيرة بقامته، غير معقول هذا أبدا غير معقول، إنه يتضاءل، إنه يصبح أقل شبابا وأهمية، كل ما فيه من مزايا وخصال تذوب وتتلاشى كفقاعات من صابون أمام هذه الإرادة الحديدية التي لا تقهر والتي تنبعث منه هو وتأمر الحياة في أعماق الطفل المريض أن تستيقظ، أن تنشط، أن تبدأ وتستمر وتظل حية مستمرة. كادت تبكي، لم يتضاءل الآخر وحده، هي نفسها بدأت بكل رغباتها وغيظها، بكل أحلامها وضيقها، بكل دلالها وأنوثتها، تتضاءل، تتضاءل، وهو يكبر ويكبر وتحيطه هالة مقدسة لا تجرؤ على خدشها حتى بالنظر، هالة الرجل وهو يعمل، هالة لم ترها أبدا، وما كان مقدرا أن تراها، لولا الحجة، والمضحك أنها حجة لخداعه، الدموع تجمعت فعلا في عينيها، إن كل ما تتمناه الآن أن يحادثها هذا الرجل المقدس وأن يعترف أمام الناس أنها له زوجته، وأنه لمروع أن يعترف بها فعلا كحبيبته، غفرانك وعفوك، لو تسمح لي بتقبيل يديك الصغيرتين وكل أصبع من أصابعك، لو تسمح لي بتقبيل أقدامك، يا إلهي وأنت الإله الآن، انحنت فعلا ونظرت أسفل المنضدة، تريد أن ترى قدميه، تريد أن ترى كل شيء فيه من جديد، عرفتهما، رغم «البوت» والرقبة الطويلة فهذه العزيزة أقدامه، اعتدلت، أحست بالقناع مبتلا حول أنفها وفمها، كانت الدموع تتكون بسرعة وتنهمر، وكان بصرها مضببا، ولم تعد ترى، وكأنها في حلم من ضباب، رأت الباب وأسرعت كأنما تنقذ نفسها، وعند الباب وقفت، ومن خلال فتحته الزجاجية راحت تجفف دموعها وتكمل النظر، يا لصوته وهو حتى يأتيها غير آمر، وهو يشرح لزملائه ما يفعله، كل كلمة منه تستثيرها وكأنها لمسة حبيب راغب، حتى سكوته مثير وهائل، في حنجرته زئير رجال، في حنجرته أسد هي أمامه غزالة لا حول لها، والحجرة غابة، ولو بحاجبه، بمجرد حاجبه، أشار، لطاوعته في الحال، هنا وأمام الملأ. •••
انتهت العملية، وبدأت إجراءات حمل الطفل، أزاح قناعه إلى أسفل وخلع قفازيه، كذلك فعل مساعدوه وزملاؤه وهم يحضرون إليه يصافحونه ويهنئونه، وجهه حافل بالابتسامة لا حدود لسحرها، ثم من أين جاء هذا الاكتفاء، هذه السعادة كلها؟ كيف طفرت من ملامحه؟ سعادة أكثر بكثير من أية ليلة حب قضياها معا، حتى وهما في شعر العسل!
وأحسست، فجأة، أن قلبها بدأ يغوص.
أكبر الكبائر1
لا يخيفنكم الاسم، فالقصة نفسها تميت من الضحك، ولو أن محمد حسين حين يرويها لا يضحك أبدا، ولا يرى فيها ما يبعث حتى على الابتسام، بالعكس يتهدج صوته كثيرا حتى يكاد يبكي وفي أحيان يسأل السامع، إن كان السامع من العارفين أو المتنورين، سؤال المستغيث، إن كان ما فعله وما يزال يفعله حراما، وهل ممكن أن يدخل النار بسببه؟! وحقيقة كان محمد يفاجأ حين يجد السامعين يضحكون، ويغرقون في الضحك، ولا يكفون إلى الآن عنه. محمد من هؤلاء الفلاحين الذين يطلق عليهم نساء القرية «الجدعان»، لا من الجدعنة ولكن من حداثة السن، والعزوبية، وخلو البال.
अज्ञात पृष्ठ