إننا لا نفهم الدافع الذي حمل على اعتبار من هم في خدمة القناصل والتجار الأوروبيين غير خاضعين لمحاكم سلطتهم، ما لم نعرف أولا هذه البلاد معرفة دقيقة. كان ينبغي تجريد هذه السلطة من كل حق في ملاحقة من تعودت أن تعاملهم بقسوة بربرية. وهذه الأمور كان يمكن تغييرها لو عدلت الدول عن الامتيازات المكتسبة بقوة المعاهدات والعرف، وأعلنت وجوب تمتع تركيا بالحقوق التي تتمتع بها بقية الشعوب في البلدان الأخرى. ولكن هذا يؤدي إلى تقوض التجارة الأوروبية في سوريا؛ فهي لا يسعها الاستغناء عن العمال المسيحيين - أبناء البلاد - كما أنها لا تجني منهم نفعا مجديا إذا لم ينعموا بالعصمة القديمة نفسها. وهكذا يصح قول المثل: السلطة تصيب التاجر إذا ما ضربت السمسار.
الفصل الثاني عشر
عادات المسيحيين أيضا - إنها تختلف قليلا عن عادات المسلمين - ملابس النساء - اتباع العادات الشرقية - أوهام - تقتير - حيل أثناء الأكل - غنى عام - الولع بالبناء - الأعراس. ***
يدهش الأجنبي الذي يزور سوريا أشد الدهشة عندما يلاحظ أن المسيحيين (الرجال منهم) لا يختلفون عن الأتراك إلا بملابسهم الأشد سوادا من ملابس أولئك؛ ذلك بأن النساء عند كلا الجانبين يرتدين ثيابا لا أثر للتأنق فيها أو الهندام. إن جسدهن يلفه نوع من الملاءة ووجههن يغطيه منديل، عملا بالآية:
يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين (سورة الأحزاب: آية 59).
ثم إن الكشف عن قدم جميلة محرم على نساء الشرق، فعليهن أن ينتعلن جزمات عريضة أو بوابيج مستديرة الشكل. وهذا ما يضطرهن إلى الاستعانة بخرق عتيقة يلففنها حول القدم ليستطعن بها سد فم اللستيك (خف بدون نعل) وإحكام البوابيج (سندال) في أقدامهن.
ويلاحظ أن النساء يتجهزن بما هن في حاجة إليه دون أن يلجأن إلى الإسكافي ليأخذ القياسات المختصة بأرجلهن. وأظن أن الاتساعات المختلفة التي تفرضها مراحل العمر - في أطواره المتعددة - غير موجودة أيضا؛ إنها بعد أن تنمو نموا كاملا، تخضع للقياس عينه، سواء أكانت سمينة أم رقيقة، طويلة أم قصيرة. إن الدين الإسلامي يعفيهن - كما نرى - من سجن أحذية الإسكافي.
أما المسيحيون، فيبدو أنهم اقتبسوا عاداتهم عن كتبنا المقدسة أيضا، وهي العادات التي ترجع عندنا وعند المسلمين إلى أصل عبراني: حجر النساء، فصلهن عن الرجال في المعابد، إجبارهن على البقاء محجبات.
أصبحت هذه العادات فرضا على جميع النساء اللواتي يسكن هذا البلد، حتى إن الإفرنسيات اللواتي ولدن في سوريا - وكن مجبرات على التقيد بهذا العرف - اضطررن إلى اتباعه، ولكن ضمن نطاق محدود، وفي علاقاتهن مع أبناء هذه البلاد الذين يعدون كل مخالفة لعاداتهم خزيا وعارا؛ فكل من يظهر أمامهم بغير المظهر الذي أوجبته عاداتهم يرتكب جريمة بخروجه على قواعد الآداب واللياقة.
أفلا نشمئز نحن في أوروبا ممن يخرج على دائرة تقاليدنا؟ إننا نترك هذا الأثر نفسه في نفوس المسلمين، بل أشد منه كثيرا؛ لأن الشريعة الدينية هي التي نظمت كل شيء عندهم، فكل أذاة تلحق بأحد أحكامها تصبح جرما فظيعا ومدنسا لقدسياتها.
अज्ञात पृष्ठ